العاتي يتابع في "الظاهرة الحسينية" تضاريس الشعر العربي
د. نضير الخزرجي
تشكل "الظاهرة" كمفهوم، قاعدة عامة شائعة وملموسة، لها ممارسات على مستوى المجموع بحيث لا يمكن تجاهلها، وليست هي من نوع الطارئ أو الإستثنائي، ولها تأثيرها على المحيط، وعلى مستوى المصداق فهي جارية في كل حقل من حقول الحياة، كأن تكون الظاهرة اجتماعية أو اقتصادية أو جوية أو بحرية أو مرضية أو كونية، وما شابه ذلك، فالشيء الثابت والقطعي من كل ظاهرة هو عموميتها وانطلاقها خارج الحدود الجغرافية، فضلا عن محسوسيتها وتأثيرها الدائم، بحسب يصدق فيها القول بأنها ظاهرة للعيان للقريب والبعيد في كل عصر ومصر.
وقد أحسن الأديب العراقي الدكتور إبراهيم العاتي عندما أطلق على آخر نتاجاته الأدبية في مجال الأدب الحسيني اسم "الظاهرة الحسينية في الشعر العربي"، حيث وجد صاحب ديوان (تأملات في كتاب البحر) أنَّ المثل العليا التي ناضل من أجلها الإمام الحسين(ع) بما فيه صلاح الناس كل الناس، ظاهرة في الشعر العربي القديم والوسيط والحديث على لسان الشاعر الناظم باللغة العربية غير مقتصرة على الموالي لأهل البيت(ع)، بل تعدّاه إلى غير المسلم، وغير منحصرة بالعراق الأرض التي استشهد فيها الإمام الحسين(ع) عام 61هـ، ولذلك استحق النظم الحسيني على لسان المسلم وغير المسلم، العراقي وغير العراقي، أن يكون ظاهرة أدبية لم تسبقها ظاهرة في مجال الآداب العالمية، فما من أدب منثور أو منظوم لشعوب الكرة الأرضية إلا والقضية الحسينية حاضرة فيه، ومن يطّلع على كتابه الصادر حديثا عن دار الأمير للثقافة والعلوم ببيروت في 192 صفحة من القطع الوزيري يلاحظ هذه الظاهرة، بل ومن يطِّلع على باب الأدب المنظوم من دائرة المعارف الحسينية للمحقق الفقيه الدكتور محمد صادق الكرباسي، يؤمن إيماناً راسخاً أن الإمام الحسين(ع) دخل في ضمير كل أمة ومجتمع على وجه الأرض قديمها وحاضرها، فعدد الأجزاء المطبوعة من الموسوعة الحسينية المتعلقة بالنظم الحسيني العربي فقط منذ القرن الأول الهجري حتى نهاية القرن الثالث عشر الهجري بلغ 21 مجلداً لشعراء من أقطار الأرض، وأضعافها من المجلدات المخطوطة لشعراء القرنين الرابع عشر والخامس عشر وهي في طور التدقيق والتحقيق، ناهيك عن الشعر الحسيني باللغات الأخرى وبخاصة الفارسية والأردوية والپشتوية والتركية والانكليزية التي صدر منها حتى الآن أكثر من عشر أجزاء، ولهذا لم يحد العاتي عن الحقيقة فيما اتخذه من عنوان لدراسته الأدبية.
والمؤلف هو الأستاذ الجامعي وعميد الدراسات العليا صاحب المؤلفات الفلسفية والأدبية، رصد بأسلوب أكاديمي علمي (الظاهرة الحسينية في الشعر العربي) من خلال مفاصل أدبية زمانية ثلاثة أطلق عليها: "الشعر الحسيني في الأدب العربي القديم"، "ثورة الحسين(ع) في الشعر الإحيائي"، و"ثورة الحسين(ع) في الشعر العربي الحديث"، وتوسع في العنوان الثالث إلى متابعة الظاهرة الحسينية في شعر "الجواهري وثورة العشرين"، و"الحسين(ع) في فضاء الشعر المعاصر"، و"شعراء الحداثة والثورة الحسينية"، كما توغل في فصل مستقل ضمن المرحلة الحديثة في بيان موقع "الحسين(ع) وكربلاء في شعر نزار قباني"، ولما كان للنهضة الحسينية حضورها الأدبي في المسرح الشعري، فإنَّ العاتي أفرد في الفصل الخامس عنواناً مستقلاً عن "ثورة الحسين(ع) في المسرح الشعري العربي" ولعلّ النموذج البارز هو "عبد الرحمن الشرقاوي ومسرحية ثار الله" المحظورة حتى اليوم من تمثيلها على مسارح مصر للصراحة التي تملَّكها الشرقاوي في وضع النقاط على الحروف عبر تشخيص الظالم وشخوصه وممارساته المنافية للخلق الإسلامي والعرف الإنساني وتخطيه حدود العدوانية بالضد من أهل البيت(ع) إلى أبعد مدياتها.
ولاحظ العاتي أنَّ الظاهرة لم تقتصر على الشعراء الموالين لأهل البيت، وليست هي خاصة بشعراء العراق الذي تشرف بمرقد الإمام الحسين(ع)، بل إنَّ الحدود الجغرافية والمذهبية والعرقية والدينية مع الظاهرة الحسينية معدومة، وعليه فإنَّ: (شعراء الحسين كانوا من مختلف المذاهب الإسلامية بل ومن أديان أخرى، لأنَّ مأساة كربلاء تلامس ضمير كل إنسان منصف)، والضمير الإنساني الذي قد يصيبه الصدأ بحاجة إلى صقله بين فترة وأخرى، والنهضة الحسينية لها جدواها في هذا المقام، وقد وجد العاتي: (إن دراسة الشعر الحسيني تكشف عن كنوز من القيم الخُلُقية السامية التي تحتاج إليها شعوبنا لإصلاح أمورها، والاعتبار مما جرى لرموزها وقادتها المصلحين).
من هنا تمتاز خصائص الشعر الحسيني كما قرأها العاتي بالموضوعية أولاً: (فواقعة الطف تتجلى فيها كل خصائص الموضوع الشعري المفعم بالأحاسيس والأفكار والصور الملهمة)، وتمتاز بالذاتية ثانيا: (فأياً كان الموضوع الذي يتناوله الشاعر فإنه لابد أن يضفي عليه من ذاته وروحه الشيء الكثير بحيث يظهر العمل الفني وكأنه شيء جديد فيه شبه من الموضوع الأصلي)، وتمتاز بالإيمان بالمبادئ والقيم العليا ثالثا: (ولذا نجد أنَّ كافة شعراء الطف يستخلصون من مأساة كربلاء موقف أبي الشهداء وأنصاره مبادئ الإسلام الأصيلة والقيم الخلقية السامية، كالبطولة والفروسية والحرية والتضحية والفداء والعزة والإباء وغيرها).
وانطلق المؤلف من باب "الشعر الحسيني في الأدب العربي القديم" في السياحة الأدبية النظمية، دراسة وتحليلاً، نحو فضاءات الشعراء: الكُمَيت بن زيد الأسدي (60- 126هـ)، السيد الحِمْيَري إسماعيل بن محمد (105- 173هـ)، الإمام الشافعي محمد بن إدريس (150- 204هـ)، أبو تمام الطائي حبيب بن أوس (190- 232هـ)، ديك الجن الحمصي عبد السلام بن رغبان (161- 235هـ)، دِعْبِل بن علي الخزاعي (148- 246هـ)، عبد الله بن المعتز العباسي (247- 296هـ)، أبو فراس الحمداني الحارث بن سعيد التغلبي الوائلي (320- 357هـ)، الصاحب بن عباد إسماعيل بن عباد بن العباس (326- 385هـ)، الشريف الرضي محمد بن الحسين (359- 406هـ)، وأخيراً أبو العلاء المعري أحمد بن عبد الله التنوخي (363- 449هـ)، ويقرر العاتي عند تناوله لشعر المعري: (إنَّ الشهيد يُفنى جسداً لكن قضيته تكتسب صفة الخلود وتطبع الزمن بطابعها المضرج بالدماء)، وهذه الحقيقة يؤكدها شعراء الظاهرة الحسينية على مر الأزمان، لأن كلمات الشاعر الحسيني كما يؤمن العاتي: (تنطق أو توحي بايقاعات الزمان المتطاول، هذا الدم القاني الذي يضيء الطريق للبشرية مع انبلاج كل فجر فيصبغ الأفق الواسع بحمرة الشفق، ويبقى مستمراً ليعرض ظلامته على الباري جلَّت قدرته يوم الحساب).
وجَّه المؤلف في الفصل الثاني الذي بحث فيه "ثورة الحسين(ع) في الشعر الإحيائي" وهي فترة الشعراء المجددين: (الذين عملوا منذ القرن التاسع عشر على إحياء التقاليد الفنية والقيم الجمالية للشعر العربي في عصوره الزاهرة، وخصوصاً الشعر في العصر العباسي والأندلسي، متجاوزين بذلك فترة الخمول والرتابة والانحطاط التي مرَّ بها الأدب العربي بوجه عام إبان العصر المملوكي والعثماني)، وجَّهَ نظرنا من خلال النقد والتحليل إلى أنَّ شعر المرحلة الإحيائية: (ينتهي إلى جملة من المعاني والقيم المحورية يمكن تركيزها في قضيتين أو قيمتين أساسيتين، هما البطولة والمأساة) إلى جانب الخيال المبدع كقيمة ثالثة، والمأساة المتفائلة كقيمة رابعة، وخرج من خلاصة البحث والنقد والتحليل بنتائج ثلاث على غاية من الأهمية: (فشعر الرثاء الحسيني يدخل في صنف المأساة المتفائلة، إذ لم يستغرقه الحزن إلى درجة تشغله عن استخلاص المعاني العظيمة والمواقف البطولية والاعتصام بالعقيدة الإسلامية الخالصة من كل شائبة، مما يبعث الأمل في نفوس المخلصين بحتمية انتصار الحق وسيادة العدل في النهاية) هذا أولا، وثانيا: (توازنت عناصر البطولة والمأساة في ثورة الحسين(ع) مما أكسبها صفة الخلود ومنحها بعداً إنسانياً شاملاً، وأبقى معينها متدفقاً عبر السنين)، وثالثا: (لم يأخذ-الشعر- حقّه من الدراسة والتحليل وأنه لو نشر على نطاق واسع وقورن بنظيره من الشعر الإحيائي العربي الحديث لتضاءلت أمامه قمم أدبية كثيرة أجهد النقاد والباحثون أنفسهم في ترسيخ زعامتها الأدبية لتصبح من قبيل المسلمات)، وهو رأي يصيب كبد الحقيقة، فالظاهرة الحسينية لم تأخذ حجمها الطبيعي في ساحة الأدب، وهو قصور يقع جزء منه على حملة الأدب الحسيني ودعاته، فعلى سبيل المثال، فإنَّ الخطيب الحسيني الذي يطلُّ على الجمهور العريض من خلال القنوات الفضائية لازال منذ عقود طويلة يردد القصائد والأبيات نفسها التي كنّا نسمعها ونحن صغار السن وصارت من المحفوظات، فلم يقم بتجديد نفسه شعراً حفظاً وإنشاداً، حتى ليخال للمستمع أنَّ النظمَ الحسينيَّ فقيرٌ وهو محدود بما يردده خطباء المنبر الحسيني كل عام، وهو ظلم يُمارس على الأدب الحسيني من حيث نشعر أو لا نشعر.
ولا يخفى أن الشاعر محمد مهدي الجواهري (1900- 1997م) العراقي النجفي المولد، فاق أقرانه الشعراء الناطقين بالعربية داخل العراق وخارجه، وهو شاعر غير مقلٍّ، بيد أنَّ رائعته الحسينية (آمنت بالحسين) التي نظمها وهو في العقد الخامس من عمره وألقاها في كربلاء المقدسة عام 1947م أخذت شهرتها في الآفاق وكاد الناس يظنون أنها يتيمة الحسينيات من شعره، لكن العاتي يهدينا الى قصيدة ثانية للجواهري بعنوان (روعة التاريخ .. عاشوراء) نظمها وهو في العقد الأربعين من عمره سبقت المشهورة.
ولمكانة الشاعر وقوة نظمه الحسيني بدأ الفصل الثالث به ضمن عنوان "ثورة الحسين(ع) في الشعر العربي الحديث"، فيما تناول المؤلف بعد الجواهري "الحسين(ع) في فضاء الشعر المعاصر"، معرجاً على "شعراء الحداثة والثورة الحسينية" بدءاً بالشاعر العراقي بدر شاكر السياب (1926- 1964م)، وانتهاءً بالشاعر الفلسطيني أحمد خضر دحبور المولود بحيفا عام 1948م، مروراً بالشاعر السوري أدونيس علي أحمد سعيد المولود بمدينة جبلة سنة 1930م، والشاعر البحريني قاسم حداد المولود سنة 1948م، والشاعر مظفر عبد المجيد النواب المولود في بغداد عام 1934م، حيث تابع المؤلف في هذا الفصل "فلسطين وكربلاء .. جدل الثورة والمأساة"، وهنا: (يلتحم الشاعر بالرمز الحسيني ويجعله مفتاحاً لفهم مجريات الواقع الفلسطيني والعربي المعاصر).
وتلمَّسَ العاتي في الفصل الرابع "الحسين(ع) وكربلاء في شعر نزار قباني"، نتاجات الشاعر السوري (1923- 1998م) المشهور لدى جيل الشباب بغزلياته ووجع الحب دون أن يلتفتوا كثيراً إلى تفجُّعاته الكربلائية، الأمر الذي حدا بالمؤلف إلى متابعة الشعر الحسيني لدى القباني وتحريك مباضع النقد والتحليل في تفعيلاته عبر عناوين رئيسة هي: "الرمز الحسيني في شعر نزار قباني"، "أحزان كربلاء والقهر السياسي"، "جراح الحسين ونكسة حزيران (يونيه) 1967م"، "حرب أيلول ووفاة عبد الناصر: أيامنا كلها كربلاء"، "في رثاء عميد الأدب العربي: إنني في حمى الحسين"، "شهيد كربلاء وفدائي فلسطين"، وأخيرا "نزار قباني والجنوب المقاوم: يا لابساً عباءة الحسين وشمس كربلاء"، ويقرر العاتي في نهاية المطاف إنَّ: (نزار قباني من ألمع الشعراء العرب الذين وظفوا الجوانب المضيئة من تراثنا العربي والإسلامي للخروج من دوامة الهزيمة، وإعادة الثقة بالنفس بعد أن أصيبت الشعوب العربية بالإحباط واليأس، وقد تجلى ذلك في أبهى صوره بعودته الدائمة إلى رمز البطولة والإباء والشمم الذي جسّده الإمام الحسين بن علي(ع) في وقفته البطولية يوم كربلاء، والذي كان ملهماً للثوار قديماً وحديثاً).
ويستقلُّ العاتي بالفصل الخامس للحديث عن "ثورة الحسين(ع) في المسرح العربي"، ومن مشاهير هذا الأدب الرفيع الأديب المصري عبد الرحمن الشرقاوي (1920- 1987م)، وتحت عنوان "عبد الرحمن الشرقاوي ومسرحية ثأر الله"، يحلل المسرحية الشعرية في العناوين الفرعية التالية: (شرف الكلمة)، (الإصلاح هو الغاية .. الإمام الثائر)، (الغدر والخديعة)، (إمام العدل الاجتماعي)، (درس في الإيثار)، (الحصار الظالم)، (إنتصار الحسين)، (الحسين شهيداً)، وخلاصة ما استوحاه العاتي من مسرحية الشرقاوي أنه: (رغم تلك المآسي تبقى لوحة البطولة هي الساطعة في يوم كربلاء ... إنها تزري باليأس وتبعث على التفاؤل بأنَّ رسالة الشهيد هي المنتصرة في النهاية).
وحتى يقف القارئ على معالم الظاهرة الحسينية متنقلاً من بحر لآخر ومن قافية لأخرى اختار المؤلف في نهاية الكتاب "منتخبات من روائع الشعر الحسيني" للشعراء: سليمان بن قتة التيمي (126هـ)، أحمد بن محمد بن الحسن الصنوبري (365هـ)، الناشي الصغير علي بن عبد الله البغدادي (365هـ)، الحسين بن الحجاج (391هـ)، الشريف المرتضى علي بن الحسين (436هـ)، سبط ابن التعاويذي محمد بن عبيد الله البغدادي (584هـ)، ابن سناء الملك هبة الله بن جعفر المصري السعدي (608هـ)، البوصيري محمد بن سعيد الصنهاجي (694هـ)، كاظم الأزري (1211هـ)، عبد الباقي العمري الموصلي (1279هـ)، حيدر الحلي (1304هـ)، محمد حسن أبو المحاسن (1344هـ)، محمد الحسين كاشف الغطاء (1373هـ)، حسين علي الأعظمي (1375هـ)، عبد القادر رشيد القادري (1382هـ)، محمد علي اليعقوبي (1385هـ)، وأخيراً قصيدة بعنوان "سِفْر البطولة" من نظم العاتي ختم بها خاتمة كتابه، ويكون بذلك عبر (المنتخبات) قد نشّط الذائقة الأدبية للقارئ وفعَّلها، وهو الأديب والشاعر والكاتب والمؤلف والباحث في الفلسفة، ولمدينة النجف الأشرف التي ولد بها العاتي في أسرة علمية أدبية سنة 1949م أن تفخر بابنها، فهو علم من أعلام الأدب والفكر والفلسفة، وتشهد بذلك مؤلفاته الراقية: (الزمان في الفكر الإسلامي)، (تصورات العالم في الفكر الإسلامي)، (الإنسان في فلسفة الفارابي)، (آفاق التجديد الإسلامي)، (الرؤية السياسية للإمام علي بن أبي طالب)، (أحمد الصافي النجفي غربة الروح ووهج الإبداع)، و(إشكالية المنهج في دراسة الفلسفة الإسلامية).
والمؤلف هو الأستاذ الجامعي وعميد الدراسات العليا صاحب المؤلفات الفلسفية والأدبية، رصد بأسلوب أكاديمي علمي (الظاهرة الحسينية في الشعر العربي) من خلال مفاصل أدبية زمانية ثلاثة أطلق عليها: "الشعر الحسيني في الأدب العربي القديم"، "ثورة الحسين(ع) في الشعر الإحيائي"، و"ثورة الحسين(ع) في الشعر العربي الحديث"، وتوسع في العنوان الثالث إلى متابعة الظاهرة الحسينية في شعر "الجواهري وثورة العشرين"، و"الحسين(ع) في فضاء الشعر المعاصر"، و"شعراء الحداثة والثورة الحسينية"، كما توغل في فصل مستقل ضمن المرحلة الحديثة في بيان موقع "الحسين(ع) وكربلاء في شعر نزار قباني"، ولما كان للنهضة الحسينية حضورها الأدبي في المسرح الشعري، فإنَّ العاتي أفرد في الفصل الخامس عنواناً مستقلاً عن "ثورة الحسين(ع) في المسرح الشعري العربي" ولعلّ النموذج البارز هو "عبد الرحمن الشرقاوي ومسرحية ثار الله" المحظورة حتى اليوم من تمثيلها على مسارح مصر للصراحة التي تملَّكها الشرقاوي في وضع النقاط على الحروف عبر تشخيص الظالم وشخوصه وممارساته المنافية للخلق الإسلامي والعرف الإنساني وتخطيه حدود العدوانية بالضد من أهل البيت(ع) إلى أبعد مدياتها.
ولاحظ العاتي أنَّ الظاهرة لم تقتصر على الشعراء الموالين لأهل البيت، وليست هي خاصة بشعراء العراق الذي تشرف بمرقد الإمام الحسين(ع)، بل إنَّ الحدود الجغرافية والمذهبية والعرقية والدينية مع الظاهرة الحسينية معدومة، وعليه فإنَّ: (شعراء الحسين كانوا من مختلف المذاهب الإسلامية بل ومن أديان أخرى، لأنَّ مأساة كربلاء تلامس ضمير كل إنسان منصف)، والضمير الإنساني الذي قد يصيبه الصدأ بحاجة إلى صقله بين فترة وأخرى، والنهضة الحسينية لها جدواها في هذا المقام، وقد وجد العاتي: (إن دراسة الشعر الحسيني تكشف عن كنوز من القيم الخُلُقية السامية التي تحتاج إليها شعوبنا لإصلاح أمورها، والاعتبار مما جرى لرموزها وقادتها المصلحين).
من هنا تمتاز خصائص الشعر الحسيني كما قرأها العاتي بالموضوعية أولاً: (فواقعة الطف تتجلى فيها كل خصائص الموضوع الشعري المفعم بالأحاسيس والأفكار والصور الملهمة)، وتمتاز بالذاتية ثانيا: (فأياً كان الموضوع الذي يتناوله الشاعر فإنه لابد أن يضفي عليه من ذاته وروحه الشيء الكثير بحيث يظهر العمل الفني وكأنه شيء جديد فيه شبه من الموضوع الأصلي)، وتمتاز بالإيمان بالمبادئ والقيم العليا ثالثا: (ولذا نجد أنَّ كافة شعراء الطف يستخلصون من مأساة كربلاء موقف أبي الشهداء وأنصاره مبادئ الإسلام الأصيلة والقيم الخلقية السامية، كالبطولة والفروسية والحرية والتضحية والفداء والعزة والإباء وغيرها).
وانطلق المؤلف من باب "الشعر الحسيني في الأدب العربي القديم" في السياحة الأدبية النظمية، دراسة وتحليلاً، نحو فضاءات الشعراء: الكُمَيت بن زيد الأسدي (60- 126هـ)، السيد الحِمْيَري إسماعيل بن محمد (105- 173هـ)، الإمام الشافعي محمد بن إدريس (150- 204هـ)، أبو تمام الطائي حبيب بن أوس (190- 232هـ)، ديك الجن الحمصي عبد السلام بن رغبان (161- 235هـ)، دِعْبِل بن علي الخزاعي (148- 246هـ)، عبد الله بن المعتز العباسي (247- 296هـ)، أبو فراس الحمداني الحارث بن سعيد التغلبي الوائلي (320- 357هـ)، الصاحب بن عباد إسماعيل بن عباد بن العباس (326- 385هـ)، الشريف الرضي محمد بن الحسين (359- 406هـ)، وأخيراً أبو العلاء المعري أحمد بن عبد الله التنوخي (363- 449هـ)، ويقرر العاتي عند تناوله لشعر المعري: (إنَّ الشهيد يُفنى جسداً لكن قضيته تكتسب صفة الخلود وتطبع الزمن بطابعها المضرج بالدماء)، وهذه الحقيقة يؤكدها شعراء الظاهرة الحسينية على مر الأزمان، لأن كلمات الشاعر الحسيني كما يؤمن العاتي: (تنطق أو توحي بايقاعات الزمان المتطاول، هذا الدم القاني الذي يضيء الطريق للبشرية مع انبلاج كل فجر فيصبغ الأفق الواسع بحمرة الشفق، ويبقى مستمراً ليعرض ظلامته على الباري جلَّت قدرته يوم الحساب).
وجَّه المؤلف في الفصل الثاني الذي بحث فيه "ثورة الحسين(ع) في الشعر الإحيائي" وهي فترة الشعراء المجددين: (الذين عملوا منذ القرن التاسع عشر على إحياء التقاليد الفنية والقيم الجمالية للشعر العربي في عصوره الزاهرة، وخصوصاً الشعر في العصر العباسي والأندلسي، متجاوزين بذلك فترة الخمول والرتابة والانحطاط التي مرَّ بها الأدب العربي بوجه عام إبان العصر المملوكي والعثماني)، وجَّهَ نظرنا من خلال النقد والتحليل إلى أنَّ شعر المرحلة الإحيائية: (ينتهي إلى جملة من المعاني والقيم المحورية يمكن تركيزها في قضيتين أو قيمتين أساسيتين، هما البطولة والمأساة) إلى جانب الخيال المبدع كقيمة ثالثة، والمأساة المتفائلة كقيمة رابعة، وخرج من خلاصة البحث والنقد والتحليل بنتائج ثلاث على غاية من الأهمية: (فشعر الرثاء الحسيني يدخل في صنف المأساة المتفائلة، إذ لم يستغرقه الحزن إلى درجة تشغله عن استخلاص المعاني العظيمة والمواقف البطولية والاعتصام بالعقيدة الإسلامية الخالصة من كل شائبة، مما يبعث الأمل في نفوس المخلصين بحتمية انتصار الحق وسيادة العدل في النهاية) هذا أولا، وثانيا: (توازنت عناصر البطولة والمأساة في ثورة الحسين(ع) مما أكسبها صفة الخلود ومنحها بعداً إنسانياً شاملاً، وأبقى معينها متدفقاً عبر السنين)، وثالثا: (لم يأخذ-الشعر- حقّه من الدراسة والتحليل وأنه لو نشر على نطاق واسع وقورن بنظيره من الشعر الإحيائي العربي الحديث لتضاءلت أمامه قمم أدبية كثيرة أجهد النقاد والباحثون أنفسهم في ترسيخ زعامتها الأدبية لتصبح من قبيل المسلمات)، وهو رأي يصيب كبد الحقيقة، فالظاهرة الحسينية لم تأخذ حجمها الطبيعي في ساحة الأدب، وهو قصور يقع جزء منه على حملة الأدب الحسيني ودعاته، فعلى سبيل المثال، فإنَّ الخطيب الحسيني الذي يطلُّ على الجمهور العريض من خلال القنوات الفضائية لازال منذ عقود طويلة يردد القصائد والأبيات نفسها التي كنّا نسمعها ونحن صغار السن وصارت من المحفوظات، فلم يقم بتجديد نفسه شعراً حفظاً وإنشاداً، حتى ليخال للمستمع أنَّ النظمَ الحسينيَّ فقيرٌ وهو محدود بما يردده خطباء المنبر الحسيني كل عام، وهو ظلم يُمارس على الأدب الحسيني من حيث نشعر أو لا نشعر.
ولا يخفى أن الشاعر محمد مهدي الجواهري (1900- 1997م) العراقي النجفي المولد، فاق أقرانه الشعراء الناطقين بالعربية داخل العراق وخارجه، وهو شاعر غير مقلٍّ، بيد أنَّ رائعته الحسينية (آمنت بالحسين) التي نظمها وهو في العقد الخامس من عمره وألقاها في كربلاء المقدسة عام 1947م أخذت شهرتها في الآفاق وكاد الناس يظنون أنها يتيمة الحسينيات من شعره، لكن العاتي يهدينا الى قصيدة ثانية للجواهري بعنوان (روعة التاريخ .. عاشوراء) نظمها وهو في العقد الأربعين من عمره سبقت المشهورة.
ولمكانة الشاعر وقوة نظمه الحسيني بدأ الفصل الثالث به ضمن عنوان "ثورة الحسين(ع) في الشعر العربي الحديث"، فيما تناول المؤلف بعد الجواهري "الحسين(ع) في فضاء الشعر المعاصر"، معرجاً على "شعراء الحداثة والثورة الحسينية" بدءاً بالشاعر العراقي بدر شاكر السياب (1926- 1964م)، وانتهاءً بالشاعر الفلسطيني أحمد خضر دحبور المولود بحيفا عام 1948م، مروراً بالشاعر السوري أدونيس علي أحمد سعيد المولود بمدينة جبلة سنة 1930م، والشاعر البحريني قاسم حداد المولود سنة 1948م، والشاعر مظفر عبد المجيد النواب المولود في بغداد عام 1934م، حيث تابع المؤلف في هذا الفصل "فلسطين وكربلاء .. جدل الثورة والمأساة"، وهنا: (يلتحم الشاعر بالرمز الحسيني ويجعله مفتاحاً لفهم مجريات الواقع الفلسطيني والعربي المعاصر).
وتلمَّسَ العاتي في الفصل الرابع "الحسين(ع) وكربلاء في شعر نزار قباني"، نتاجات الشاعر السوري (1923- 1998م) المشهور لدى جيل الشباب بغزلياته ووجع الحب دون أن يلتفتوا كثيراً إلى تفجُّعاته الكربلائية، الأمر الذي حدا بالمؤلف إلى متابعة الشعر الحسيني لدى القباني وتحريك مباضع النقد والتحليل في تفعيلاته عبر عناوين رئيسة هي: "الرمز الحسيني في شعر نزار قباني"، "أحزان كربلاء والقهر السياسي"، "جراح الحسين ونكسة حزيران (يونيه) 1967م"، "حرب أيلول ووفاة عبد الناصر: أيامنا كلها كربلاء"، "في رثاء عميد الأدب العربي: إنني في حمى الحسين"، "شهيد كربلاء وفدائي فلسطين"، وأخيرا "نزار قباني والجنوب المقاوم: يا لابساً عباءة الحسين وشمس كربلاء"، ويقرر العاتي في نهاية المطاف إنَّ: (نزار قباني من ألمع الشعراء العرب الذين وظفوا الجوانب المضيئة من تراثنا العربي والإسلامي للخروج من دوامة الهزيمة، وإعادة الثقة بالنفس بعد أن أصيبت الشعوب العربية بالإحباط واليأس، وقد تجلى ذلك في أبهى صوره بعودته الدائمة إلى رمز البطولة والإباء والشمم الذي جسّده الإمام الحسين بن علي(ع) في وقفته البطولية يوم كربلاء، والذي كان ملهماً للثوار قديماً وحديثاً).
ويستقلُّ العاتي بالفصل الخامس للحديث عن "ثورة الحسين(ع) في المسرح العربي"، ومن مشاهير هذا الأدب الرفيع الأديب المصري عبد الرحمن الشرقاوي (1920- 1987م)، وتحت عنوان "عبد الرحمن الشرقاوي ومسرحية ثأر الله"، يحلل المسرحية الشعرية في العناوين الفرعية التالية: (شرف الكلمة)، (الإصلاح هو الغاية .. الإمام الثائر)، (الغدر والخديعة)، (إمام العدل الاجتماعي)، (درس في الإيثار)، (الحصار الظالم)، (إنتصار الحسين)، (الحسين شهيداً)، وخلاصة ما استوحاه العاتي من مسرحية الشرقاوي أنه: (رغم تلك المآسي تبقى لوحة البطولة هي الساطعة في يوم كربلاء ... إنها تزري باليأس وتبعث على التفاؤل بأنَّ رسالة الشهيد هي المنتصرة في النهاية).
وحتى يقف القارئ على معالم الظاهرة الحسينية متنقلاً من بحر لآخر ومن قافية لأخرى اختار المؤلف في نهاية الكتاب "منتخبات من روائع الشعر الحسيني" للشعراء: سليمان بن قتة التيمي (126هـ)، أحمد بن محمد بن الحسن الصنوبري (365هـ)، الناشي الصغير علي بن عبد الله البغدادي (365هـ)، الحسين بن الحجاج (391هـ)، الشريف المرتضى علي بن الحسين (436هـ)، سبط ابن التعاويذي محمد بن عبيد الله البغدادي (584هـ)، ابن سناء الملك هبة الله بن جعفر المصري السعدي (608هـ)، البوصيري محمد بن سعيد الصنهاجي (694هـ)، كاظم الأزري (1211هـ)، عبد الباقي العمري الموصلي (1279هـ)، حيدر الحلي (1304هـ)، محمد حسن أبو المحاسن (1344هـ)، محمد الحسين كاشف الغطاء (1373هـ)، حسين علي الأعظمي (1375هـ)، عبد القادر رشيد القادري (1382هـ)، محمد علي اليعقوبي (1385هـ)، وأخيراً قصيدة بعنوان "سِفْر البطولة" من نظم العاتي ختم بها خاتمة كتابه، ويكون بذلك عبر (المنتخبات) قد نشّط الذائقة الأدبية للقارئ وفعَّلها، وهو الأديب والشاعر والكاتب والمؤلف والباحث في الفلسفة، ولمدينة النجف الأشرف التي ولد بها العاتي في أسرة علمية أدبية سنة 1949م أن تفخر بابنها، فهو علم من أعلام الأدب والفكر والفلسفة، وتشهد بذلك مؤلفاته الراقية: (الزمان في الفكر الإسلامي)، (تصورات العالم في الفكر الإسلامي)، (الإنسان في فلسفة الفارابي)، (آفاق التجديد الإسلامي)، (الرؤية السياسية للإمام علي بن أبي طالب)، (أحمد الصافي النجفي غربة الروح ووهج الإبداع)، و(إشكالية المنهج في دراسة الفلسفة الإسلامية).
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |