الإمام الصادق (ع) مؤسس الجامعة الإسلامية الكبرى عند المسلمين
تتلمذ له أئمة المذاهب الفقهية
تتلمذ له أئمة المذاهب الفقهية
د. إبراهيم العاتي *
جاء الإسلام وهو يحمل في ثناياه نهضة علمية نقلت الفكر الإنساني من التفكير الأسطوري إلى التفكير العقلاني العلمي المنظم. ولو أحصينا المصطلحات الدالة على العلم والعقل والفكر والتدبر والنظر والنفس وغيرها مما ورد في القرآن الكريم لرأيناها من الكثرة بمكان، مما يدل على مدى اهتمام الإسلام بإرساء قيم العلم والمعرفة في المجتمعات لأنها المدخل الضروري لمعرفة الله معرفة صحيحة، ونبذ عبادة الأوثان، وتهذيب النفس وحثها على مكارم الأخلاق، واستغلال ما سخره الله لنا في الطبيعة لخدمة الإنسان وتحقيق السعادة له. قال تعالى: ((يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)).
وقال نبينا المصطفى (ص): ((طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة))، وقال (ص): ((أنا مدينة العلم وعلي بابها))، فكان أهل بيت النبي (ص) حملة علم لا ينفد معينه، وإذ انشغل غيرهم بالسلطة والنفوذ السياسي، ومنعوا تدوين السنة النبوية، فإن أهل البيت (ع) ظلوا أوفياء للحقيقة العلمية وتنوير الناس بها، حتى وهم في قلب السلطة، وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يهتف بالناس: سلوني قبل أن تفقدوني!.. ويسمع وهو في الكوفة لحناً في لغة الناس بسبب اختلاط الأجناس، فينادي صاحبه أبا الأسود الدؤلي طالبا منه أن يكتب: الكلام كله ثلاثةأشياء: إسم وفعل وحرف، والكلمة تنقسم الى معرفة ونكرة، ووجوه الإعراب تنقسم الى الرفع والنصب والجر والجزم، فوضع الأساس لعلم النحو (1).
وقد واصلت العترة الطاهرة رسالتها العلمية على الرغم من الضغوط السياسية الغاشمة التي مارسها الأمويون والعباسيون، والتي أرادت أن تحول بين علوم آل محمد (ص) وبين الوصول للمسلمين، فخابت مساعيهم لأنهم (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره)، وكانت الفرصة السانحة للإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) ليبدأ انطلاقة علمية كبيرة في اواخر حكم بني أمية وبداية دولة بني العباس حينما خف الضغط السياسي بعض الشيء، مما أتاح لطلبة العلم ورواد المعرفة أن يتقاطروا على مجلسه وهو في المدينة المنورة أو في الكوفة لينهلوا العلم من نبعه الصافي ومعينه الثر. وكانت مجالس الإمام الصادق (ع) مدرسة شاملة لعلوم القرآن والحديث والفقه والعقائد والمناظرة والفلسفة، بل وحتى العلوم الطبيعية والتجريبية كما سيتضح.
مع المشبهة:
لقد كانت الجبهة الفكرية والعلمية التي يحارب فيها الإمام الصادق (ع) لا تقل ضراوة عن الجبهة السياسية، بل لعلها أخطر لأنها تمس صميم العقيدة وتحاول تشويهه. فحينما انتشر التجسيم والتشبيه على يد بعض علماء الحديث الذين كانوا ينظرون للنصوص نظرة جامدة وظاهرية دون محاولة لفهمها وتأويلها وقعوا في ما وقع فيه اليهود حينما جسموا إلههم (يهْوه) وصوروه في مكان وزمان محدد. وهكذا ذهب اصحاب الفهم الظاهري إلى آيات القرآن الكريم التي تشير إلى اليد والعين والعرش والكرسي وغيرها، فزعموا أن لله فعلاً يداً وعيناً كما هو الحال عند البشر، ويجلس على كرسي، ثم أسهبوا في وصفه! .. لكن الإمام الصادق (ع) راح يفسر للناس الآيات المتشابهة التي وردت فيها مثل تلك الألفاظ بما يعزز مبدأ التنزيه ويبعد التشبيه، لأننا محكومون بالآية الكريمة (( ليس كمثله شيء)). يقول الإمام وهو يفسر الآية الكريمة: (( والسماوات مطويات بيمينه)) .. اليمين هي اليد، واليد هي القدرة والقوة، أي مطويات بقوته وقدرته (2).
وعلى هذا المنهج التنزيهي المبرأ من التشبيه والتجسيم سار الشيعة الإمامية حتى يومنا هذا. أما المعتزلة فهم الذين تأثروا بالشيعة في موضوعي التوحيد والتنزيه والعدل وليس العكس كما ذهب أحمد أمين وعدد من المستشرقين، لأن الشيعة أسبق بكثير في النشأة التاريخية من المعتزلة.
الموقف من الجبرية:
وحينما حاولت السلطات المستبدة في عصره نشر الأفكار التي تخدمها سياسياً كالجبر والإرجاء، وذلك لتبرير تسلطهم على الناس، لأن الجبر يسلب الإنسان الفعل والقدرة والاختيار في الخير والشر وينسبها إلى الله تعالى، وقد استغل الأمويون هذه الفكرة حينما نسبوا تمكنهم من الحكم وسلطانهم الظالم إلى تقدير من الله وعلى الناس الطاعة، وحاشا لله أن يعين ظالماً على ظلمه ((وما ربك بظلام للعبيد)). وقد أدى ذلك إلى نشوء تيار يعارض فكرة الجبر وهو تيار الاعتزال على يد واصل بن عطاء وتطور فيما بعد ليقول بالاختيار المطلق وأن الإنسان خالق أفعاله، فجاء الإمام الصادق ليصحح الأمر انطلاقاً من وسطية الإسلام قائلاً: (لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين)، أي لا جبرية مطلقة تسلب الإنسان حريته واختياره حينما وهبه الله العقل الذي يميز به الحق من الباطل والخير من الشر، ولا حرية مطلقة تخرج الفعل الإنساني من دائرة القدرة والمشيئة الإلهية. وكان ذلك مثاراً لدراسات سيقوم بها علماء العقائد أو علماء الكلام فيما بعد.
الموقف من المشككين:
وحينما اختلط المسلمون بالشعوب المفتوحة اطلعوا على ثقافات تصطدم بالعقيدة الإسلامية، وساعدت حركة الترجمة للتراث الحضاري للأمم الأخرى على تسرب بعض الجوانب الوثنية المشككة التي أغوت بعض الأشخاص ممن سموا بالزنادقة الذين انتقدوا الأديان وأنكروا النبوات وشكوا في الله عزوجل، ومثلوا خطراً داهماً هدد الدين الحنيف لو لم يتصدَّ لهم الإمام الصادق (ع) بحججه الدامغة وبراهينه الساطعة التي تفصح عنها مناظراته مع اقطابهم، فيفند منطقهم الأجوف وجدلهم السفسطائي، بل وينبه الشكاك أنهم في بداية الطريق إلى المعرفة علهم يأتون إلى جادة الصواب، حيث يقول وهو يناظر أحد هؤلاء: (( .. أخبرني هل رقيت إلى الجهات كلها وبلغت منتهاها؟ فهل رقيت إلى السماء التي ترى أو انحدرت إلى الأرض السفلى فجلت في أقطارها ... فما يدريك لعل الذي أنكره قلبك هو بعض ما لم تدركه حواسك ولم يحط به علمك .. أما إذا خرجت من الإنكار إلى منزلة الشك فإني أرجو أن تخرج إلى المعرفة))(3).
ونلاحظ هنا أن الإمام يجادل الرجل بأن يرتفع من الإدراك المادي إلى حيث يفكر، وأنه يرفع المفكر إلى حيث يستيقن. فيطالب الشاك بمزيد من التجربة المحسوبة الملموسة، ليصل من الشك إلى المعرفة. وهذه مراحل العلم الذي يصل إليه الناس بوسائل مأمونة ومجربة. وهذا المنهج الواقعي القائم على النزاهة الفكرية والحرية العقلية هو الآن منهج عالمي يدين به الجميع للقرآن وأصول الفكر الإسلامي (4).
ليس هذا فحسب، بل سعى الإمام الصادق (ع) إلى محاورة بعض أرباب الفرق الشيعية التي حادت عن الطريق الصحيح وردهم إلى جادة الصواب، كما حصل مع شاعر أهل البيت السيد الحميري، الذي كان كيسانياً يعتقد بإمامة محمد بن الحنفية وأنه لم يمت بل هو حي يرزق في جبل رضوى، فناظره الإمام أيام الحج وأثبت له بالحجج والبراهين عدم صحة ما يذهب إليه، فاقتنع ورجع عن مقالته تلك قائلاً:
وقد واصلت العترة الطاهرة رسالتها العلمية على الرغم من الضغوط السياسية الغاشمة التي مارسها الأمويون والعباسيون، والتي أرادت أن تحول بين علوم آل محمد (ص) وبين الوصول للمسلمين، فخابت مساعيهم لأنهم (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره)، وكانت الفرصة السانحة للإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) ليبدأ انطلاقة علمية كبيرة في اواخر حكم بني أمية وبداية دولة بني العباس حينما خف الضغط السياسي بعض الشيء، مما أتاح لطلبة العلم ورواد المعرفة أن يتقاطروا على مجلسه وهو في المدينة المنورة أو في الكوفة لينهلوا العلم من نبعه الصافي ومعينه الثر. وكانت مجالس الإمام الصادق (ع) مدرسة شاملة لعلوم القرآن والحديث والفقه والعقائد والمناظرة والفلسفة، بل وحتى العلوم الطبيعية والتجريبية كما سيتضح.
مع المشبهة:
لقد كانت الجبهة الفكرية والعلمية التي يحارب فيها الإمام الصادق (ع) لا تقل ضراوة عن الجبهة السياسية، بل لعلها أخطر لأنها تمس صميم العقيدة وتحاول تشويهه. فحينما انتشر التجسيم والتشبيه على يد بعض علماء الحديث الذين كانوا ينظرون للنصوص نظرة جامدة وظاهرية دون محاولة لفهمها وتأويلها وقعوا في ما وقع فيه اليهود حينما جسموا إلههم (يهْوه) وصوروه في مكان وزمان محدد. وهكذا ذهب اصحاب الفهم الظاهري إلى آيات القرآن الكريم التي تشير إلى اليد والعين والعرش والكرسي وغيرها، فزعموا أن لله فعلاً يداً وعيناً كما هو الحال عند البشر، ويجلس على كرسي، ثم أسهبوا في وصفه! .. لكن الإمام الصادق (ع) راح يفسر للناس الآيات المتشابهة التي وردت فيها مثل تلك الألفاظ بما يعزز مبدأ التنزيه ويبعد التشبيه، لأننا محكومون بالآية الكريمة (( ليس كمثله شيء)). يقول الإمام وهو يفسر الآية الكريمة: (( والسماوات مطويات بيمينه)) .. اليمين هي اليد، واليد هي القدرة والقوة، أي مطويات بقوته وقدرته (2).
وعلى هذا المنهج التنزيهي المبرأ من التشبيه والتجسيم سار الشيعة الإمامية حتى يومنا هذا. أما المعتزلة فهم الذين تأثروا بالشيعة في موضوعي التوحيد والتنزيه والعدل وليس العكس كما ذهب أحمد أمين وعدد من المستشرقين، لأن الشيعة أسبق بكثير في النشأة التاريخية من المعتزلة.
الموقف من الجبرية:
وحينما حاولت السلطات المستبدة في عصره نشر الأفكار التي تخدمها سياسياً كالجبر والإرجاء، وذلك لتبرير تسلطهم على الناس، لأن الجبر يسلب الإنسان الفعل والقدرة والاختيار في الخير والشر وينسبها إلى الله تعالى، وقد استغل الأمويون هذه الفكرة حينما نسبوا تمكنهم من الحكم وسلطانهم الظالم إلى تقدير من الله وعلى الناس الطاعة، وحاشا لله أن يعين ظالماً على ظلمه ((وما ربك بظلام للعبيد)). وقد أدى ذلك إلى نشوء تيار يعارض فكرة الجبر وهو تيار الاعتزال على يد واصل بن عطاء وتطور فيما بعد ليقول بالاختيار المطلق وأن الإنسان خالق أفعاله، فجاء الإمام الصادق ليصحح الأمر انطلاقاً من وسطية الإسلام قائلاً: (لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين)، أي لا جبرية مطلقة تسلب الإنسان حريته واختياره حينما وهبه الله العقل الذي يميز به الحق من الباطل والخير من الشر، ولا حرية مطلقة تخرج الفعل الإنساني من دائرة القدرة والمشيئة الإلهية. وكان ذلك مثاراً لدراسات سيقوم بها علماء العقائد أو علماء الكلام فيما بعد.
الموقف من المشككين:
وحينما اختلط المسلمون بالشعوب المفتوحة اطلعوا على ثقافات تصطدم بالعقيدة الإسلامية، وساعدت حركة الترجمة للتراث الحضاري للأمم الأخرى على تسرب بعض الجوانب الوثنية المشككة التي أغوت بعض الأشخاص ممن سموا بالزنادقة الذين انتقدوا الأديان وأنكروا النبوات وشكوا في الله عزوجل، ومثلوا خطراً داهماً هدد الدين الحنيف لو لم يتصدَّ لهم الإمام الصادق (ع) بحججه الدامغة وبراهينه الساطعة التي تفصح عنها مناظراته مع اقطابهم، فيفند منطقهم الأجوف وجدلهم السفسطائي، بل وينبه الشكاك أنهم في بداية الطريق إلى المعرفة علهم يأتون إلى جادة الصواب، حيث يقول وهو يناظر أحد هؤلاء: (( .. أخبرني هل رقيت إلى الجهات كلها وبلغت منتهاها؟ فهل رقيت إلى السماء التي ترى أو انحدرت إلى الأرض السفلى فجلت في أقطارها ... فما يدريك لعل الذي أنكره قلبك هو بعض ما لم تدركه حواسك ولم يحط به علمك .. أما إذا خرجت من الإنكار إلى منزلة الشك فإني أرجو أن تخرج إلى المعرفة))(3).
ونلاحظ هنا أن الإمام يجادل الرجل بأن يرتفع من الإدراك المادي إلى حيث يفكر، وأنه يرفع المفكر إلى حيث يستيقن. فيطالب الشاك بمزيد من التجربة المحسوبة الملموسة، ليصل من الشك إلى المعرفة. وهذه مراحل العلم الذي يصل إليه الناس بوسائل مأمونة ومجربة. وهذا المنهج الواقعي القائم على النزاهة الفكرية والحرية العقلية هو الآن منهج عالمي يدين به الجميع للقرآن وأصول الفكر الإسلامي (4).
ليس هذا فحسب، بل سعى الإمام الصادق (ع) إلى محاورة بعض أرباب الفرق الشيعية التي حادت عن الطريق الصحيح وردهم إلى جادة الصواب، كما حصل مع شاعر أهل البيت السيد الحميري، الذي كان كيسانياً يعتقد بإمامة محمد بن الحنفية وأنه لم يمت بل هو حي يرزق في جبل رضوى، فناظره الإمام أيام الحج وأثبت له بالحجج والبراهين عدم صحة ما يذهب إليه، فاقتنع ورجع عن مقالته تلك قائلاً:
تجعفرت باسم الله والله أكبر وأيقنت أن الله يعفو ويغفرُ
ويثبت مهما شاء ربي بأمره ويمحو ويقضي في الأمور ويقدرُ
ويثبت مهما شاء ربي بأمره ويمحو ويقضي في الأمور ويقدرُ
جامعة الاسلام الكبرى:
لقد أنشأ الإمام الصادق(ع) جامعة إسلامية كبرى تتلمذ فيها علماء المذاهب الإسلامية بوجه عام كأبي حنيفة النعمان ومالك بن أنس وابن شهاب الزهري وسفيان الثوري وغيرهم، وعلماء الشيعة بوجه خاص كزرارة بن أعين وحمران بن أعين وهشام بن الحكم ومؤمن الطاق وغيرهم. وكانت أقوال أبي حنيفة ومالك بن أنس عن أستاذهما الإمام الصادق (ع) تشير إلى أنه كان المثل الأعلى في المعرفة والطاعة.(5).
فقد اشتهر عن أبي حنيفة قوله: (لولا السنتان لهلك النعمان) في إشارة إلى السنتين اللتين قضاهما وهو يأخذ العلم عن الإمام الصادق (ع)، كما يذكر الآلوسي في (التحفة الإثنا عشرية). ويقول الإمام مالك: (ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً)، كما ورد في كتاب (الإمام الصادق والمذاهب الأربعة) نقلاً عن ابن تيمية في كتاب (التوسل والوسيلة)!( 6).
ويأتي بعدهما بقرون أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت 548هـ) فيقول عن الإمام الصادق (ع): (وهو ذو علم غزير في الدين، وأدب كامل في الحكمة، وزهد بالغ في الدنيا، وورع تام عن الشهوات .... ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط، ومن تعلّى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط) (7).
ويجمل الكاتب المصري المعاصر المستشار عبد الحليم الجندي مكانة الامام الصادق (ع) بالنسبة لأئمة المذاهب الأربعة فيقول: (فلقد تتلمذ ابو حنيفة ومالك للإمام الصادق، وتأثرا كثيراً به، سواء في الفقه او في الطريقة، ومالك شيخ الشافعي، والشافعي يدلي الى ابناء النبي –ص- بأسباب من العلم والدم، وقد تتلمذ له أحمد بن حنبل سنوات عشرة. فهؤلاء أئمة أهل السنة الأربعة، تلاميذ مباشرون أو غير مباشرين للإمام الصادق) (8). أفلا يكون ذلك مدعاة لأتباع هؤلاءالأئمة بالاقتداء بأئمتهم واحترام بعضهم بعضاً لاسفك دمائهم كما يحصل اليوم؟!
أستاذ العلوم التجريبية:
ولم تقتصر العلوم التي نهض الإمام الصادق (ع) بتعليمها لأصحابه والمترددين على مجالسه على التفسير والحديث والفقه والعقائد والحكمة، بل تجاوزتها إلى علوم الطبيعة والطب والكيمياء.. وحسبنا هنا أن نشير إلى تلميذه جابر بن حيان الكوفي الكيميائي المسلم الذي بلغ شهرة عالمية، واعتبره مؤرخو العلم في الغرب واضع أسس الكيمياء والمنهج التجريبي في العصر الوسيط، هذا المنهج الذي شكل الحجر الأساس للنهضة العلمية لأوروبا والغرب في العصور الحديثة. وقد بلغت رسائل جابر آلاف الصفحات حقق ونشر الكثير منها المستشرق الألماني (بول كراوس) بعنوان (رسائل جابر بن حيان). وكان جابر يذكر فيها أن ما تعلمه في هذا العلم إنما هو من أستاذه وإمامه جعفر الصادق. وأهم مبدأ علمي وضعه هو مبدأ الميزان الذي يعني به إرجاع كل ظواهر الوجود والطبيعة إلى قوانين الكم والعدد، وهو ما اعتمدته العلوم الحديثة في تفسير وتحليل الظواهر الطبيعية والتجريبية(9).
فما أحرى بالمسلمين اليوم أن يتعلموا من هذه المدرسة العلمية الرائدة انفتاح الافق، ورحابة الصدر، ونبذ التعصب، وتوخي الحقيقة، وتحكيم العقل، والبعد عن الهوى، بدلاً من المشهد الدموي السائد هذه الايام والذي يناقض قيم الإسلام نصاً وروحأ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلقد أنشأ الإمام الصادق(ع) جامعة إسلامية كبرى تتلمذ فيها علماء المذاهب الإسلامية بوجه عام كأبي حنيفة النعمان ومالك بن أنس وابن شهاب الزهري وسفيان الثوري وغيرهم، وعلماء الشيعة بوجه خاص كزرارة بن أعين وحمران بن أعين وهشام بن الحكم ومؤمن الطاق وغيرهم. وكانت أقوال أبي حنيفة ومالك بن أنس عن أستاذهما الإمام الصادق (ع) تشير إلى أنه كان المثل الأعلى في المعرفة والطاعة.(5).
فقد اشتهر عن أبي حنيفة قوله: (لولا السنتان لهلك النعمان) في إشارة إلى السنتين اللتين قضاهما وهو يأخذ العلم عن الإمام الصادق (ع)، كما يذكر الآلوسي في (التحفة الإثنا عشرية). ويقول الإمام مالك: (ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً)، كما ورد في كتاب (الإمام الصادق والمذاهب الأربعة) نقلاً عن ابن تيمية في كتاب (التوسل والوسيلة)!( 6).
ويأتي بعدهما بقرون أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت 548هـ) فيقول عن الإمام الصادق (ع): (وهو ذو علم غزير في الدين، وأدب كامل في الحكمة، وزهد بالغ في الدنيا، وورع تام عن الشهوات .... ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط، ومن تعلّى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط) (7).
ويجمل الكاتب المصري المعاصر المستشار عبد الحليم الجندي مكانة الامام الصادق (ع) بالنسبة لأئمة المذاهب الأربعة فيقول: (فلقد تتلمذ ابو حنيفة ومالك للإمام الصادق، وتأثرا كثيراً به، سواء في الفقه او في الطريقة، ومالك شيخ الشافعي، والشافعي يدلي الى ابناء النبي –ص- بأسباب من العلم والدم، وقد تتلمذ له أحمد بن حنبل سنوات عشرة. فهؤلاء أئمة أهل السنة الأربعة، تلاميذ مباشرون أو غير مباشرين للإمام الصادق) (8). أفلا يكون ذلك مدعاة لأتباع هؤلاءالأئمة بالاقتداء بأئمتهم واحترام بعضهم بعضاً لاسفك دمائهم كما يحصل اليوم؟!
أستاذ العلوم التجريبية:
ولم تقتصر العلوم التي نهض الإمام الصادق (ع) بتعليمها لأصحابه والمترددين على مجالسه على التفسير والحديث والفقه والعقائد والحكمة، بل تجاوزتها إلى علوم الطبيعة والطب والكيمياء.. وحسبنا هنا أن نشير إلى تلميذه جابر بن حيان الكوفي الكيميائي المسلم الذي بلغ شهرة عالمية، واعتبره مؤرخو العلم في الغرب واضع أسس الكيمياء والمنهج التجريبي في العصر الوسيط، هذا المنهج الذي شكل الحجر الأساس للنهضة العلمية لأوروبا والغرب في العصور الحديثة. وقد بلغت رسائل جابر آلاف الصفحات حقق ونشر الكثير منها المستشرق الألماني (بول كراوس) بعنوان (رسائل جابر بن حيان). وكان جابر يذكر فيها أن ما تعلمه في هذا العلم إنما هو من أستاذه وإمامه جعفر الصادق. وأهم مبدأ علمي وضعه هو مبدأ الميزان الذي يعني به إرجاع كل ظواهر الوجود والطبيعة إلى قوانين الكم والعدد، وهو ما اعتمدته العلوم الحديثة في تفسير وتحليل الظواهر الطبيعية والتجريبية(9).
فما أحرى بالمسلمين اليوم أن يتعلموا من هذه المدرسة العلمية الرائدة انفتاح الافق، ورحابة الصدر، ونبذ التعصب، وتوخي الحقيقة، وتحكيم العقل، والبعد عن الهوى، بدلاً من المشهد الدموي السائد هذه الايام والذي يناقض قيم الإسلام نصاً وروحأ.
هوامش
1- ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج1، ص20، تحقيق:محمد ابو الفضل ابراهيم، دار احياء التراث العربي، بيروت.
2- هاشم معروف الحسني: سيرة الأئمة الإثني عشر، جـ2، ص 288.
3- المستشار عبد الحليم الجندي: الامام جعفر الصادق، ص286، المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية، القاهرة، 1977.
4- المصدر نفسه: ص286-287.
5- د. عبد الهادي الفضلي: تاريخ التشريع الاسلامي، ص118، الجامعة العالمية للعلوم الاسلامية، لندن، 1992.
6- المصدر السابق، ص12.
7- الشهرستاني: الملل والنحل، جـ1، ص 166، مؤسسة الحلبي، القاهرة، 1968.
8- الجندي: المصدر السابق، ص3.
9- د. محمد يحيى الهاشمي: الإمام الصادق ملهم الكيمياء، ص130، دار الاضواء،بيروت، لبنان، 1986.
د. إبراهيم العاتي عميد الدراسات العليا الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية (لندن)
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |