أنور عبد الملك الذي عرفته
برحيل المفكر الكبير الدكتور أنور عبد الملك، طويت صفحة ناصعة وثرية من صفحات النهضة في العالمين العربي والإسلامي، والتي ابتدأت في عصر محمد علي منذ قرنين، ولم يقدر لها أن تستقر على حال حتى يومنا هذا.
كان اسم هذا المفكر يتردد في أوساط المثقفين العرب منذ الستينيات، بعد أن تعرفوا على دراسته المهمة (مصر مجتمع عسكري)، التي حللت بشكل نقدي دور الجيش في المجتمع المصري، والذي استنسخ في العديد من البلدان العربية، فكان مشكلة عربية لا مصرية فقط.
وأذكر أن أول من لفت نظري له أحد الأدباء المقربين من الشاعر أحمد الصافي النجفي (ت 1977) الذي كنا نتحلق حوله في مقهى الهافانا بدمشق، مطلع دراستي الجامعية الأولى عام 1970. وكنت ونخبة ممن يترددون على الصافي رحمه الله- مسكونين بهاجس الصراع الحضاري وفلسفته، وكيف يمكن للأمم الأخرى أن تطيح بالهيمنة الحضارية الغربية التي امتدت لعدة قرون، فكان كتاب الفيلسوف الألماني أوزوالد شبنغلر (سقوط الغرب) هو الكتاب الأثير بالنسبة لنا، لأنه حلل الحضارة الغربية تحليلاً دقيقاً، وميّز بين طورين من أطوارها هما: الحضارة والمدنية، الأولى تعبر عن الجانب الروحي والمعنوي والمثل السائدة في مجتمع ما، أما الثانية فهي تستعمل للتعبير عن الجوانب المادية والعملية في ذلك المجتمع، وقد رأى شبنغلر أن الحضارة الغربية تمر منذ أمد غير قليل بمرحلة المدنية، وهي المرحلة التي تدخل فيها الحضارة مرحلة الشتاء الذي يسبق النهاية، أو مرحلة الهرم أو الشيخوخة التي تسبق الموت، حسب نظرية ابن خلدون في أعمار الدول.
ولما كان عبد الملك مهتما أيضاً بالبعد الحضاري الكامن وراء الصراعات الدائرة في العالم، وبخاصة بين الشرق والغرب، وتشيع عنده فكرة الدوائر الحضارية التي تختلف عن نظائرها عند شبنغلر، فهي عند الأخير مغلقة على نفسها، بينما هي عند عبد الملك مرنة ومفتوحة، تؤثر وتتأثر، فقد شكل ذلك عاملاً إضافيا لاهتمامي به ومعرفة المزيد من أفكاره.
وحينما قامت حرب تشرين (أكتوبر) ضد الكيان الصهيوني كان عبد الملك متفائلاً جداً، لأن العرب قد سجلوا حينها أول نصر سيغير من السياسات الاستراتيجية في المنطقة التي كانت سائدة بعد هزيمة حزيران (يونيه) 1967، قبل أن يفاجئ أنور السادات العالم بتنازلاته الكارثية للكيان الصهيوني التي توجت بمعاهدة كامب ديفيد، التي سلم فيها مقاليد الأمور لأميركا وربيبتها إسرائيل على أساس أن 99 ' من أوراق اللعبة هي بيد أمريكا، كما كان يردد!!
وتشاء الظروف أن أنتقل إلى مصر لإكمال دراستي العليا في القاهرة، وأن أسكن في نفس العمارة التي كان يسكنها الأستاذ أنور، حينما كان يتردد عليها من باريس بعض الأشهر من السنة، فكانت تلك فرصة سانحة للتعرف شخصياً على هذا المفكر، وهكذا كان. أذكر انني حينما زرته في شقته بمصر الجديدة لأول مرة عام 1980 كان صوت أم كلثوم يصدح من جهاز التسجيل بهمزية أحمد شوقي في مدح النبي محمد (ص) ومطلعها (ولد الهدى فالكائنات ضياء)، ولم يكن ذلك مستغرباً من عبد الملك الذي عرف كيف يوفق بين مسيحيته الأرثذوكسية وبين إيمانه بالإسلام كرمز للهوية الحضارية للأمة العربية عبر القرون، وهو ما توحي به مؤلفاته وأبحاثه العديدة في هذا الخصوص. وقد توثقت علاقتي به حتى أنه طلب مني الاشتراك في المشروع الذي كان يشرف عليه في جامعة الأمم المتحدة بطوكيو وهو يدور حول ( البدائل الاجتماعية- الثقافية للتنمية في عالم متغير)، فكتبت بحثاً عن (مفهوم العالم في الفكر الإسلامي)، وقد نشر ضمن أبحاث هذا المشروع.
لقد تطور فكر أنور عبد الملك من الماركسية الأممية إلى الخصوصية الاجتماعية والحضارية التي تدرك أن فهم الوضع الداخلي في بلد ما الوضع السياسي والاجتماعي يجب أن يبدأ بفهم هذا البلد ضمن الدائرة القومية التي ينتمي اليها، ووضع تلك الدائرة القومية في إطار دائرة ثقافية أوسع، تدخل بدورها في إطار دائرة حضارية (مقابلة مع الدكتور أنور عبد الملك، ملحق النهار،17/3/ 1974).
وكان إدراكه للخصوصية الحضارية للمجتمعات مدخلاً لفهم دور الإسلام في الصراع الحضاري القائم منذ عقود، ومكانة العالم العربي فيه. يقول: (( العالم العربي اليوم ينتمي إلى دائرة حضارية- ثقافية امتدت من المغرب غرباً إلى الفيلبين شرقاً واتخذت الإسلام ديناً ودولة. إن العالم العربي يشكل الدائرة الثقافية الأوسع في العالم الإسلامي، إلى جانب الدوائر الثقافية الافريقية والآسيوية والهندية)). (المصدر السابق).
ولاشك ان هذه المواقف المؤمنة بدور الإسلام في نهضة المجتمعات الشرقية والافريقية بوجه عام قد دعته الى ضرورة أن يراجع الماركسيون العرب انفسهم والإقرار بأنهم لم يكونوا تاريخياً قيادة الحركة الوطنية، وأن البورجوازية الوطنية منذ عهد محمد علي، هي التي بنت مصر الحديثة. كما دعا المثقفين العرب إلى أن يديروا ظهورهم بشكل قاطع لدعاة التنكر لواقعهم التاريخي والاجتماعي والثقافي. سوف يخسرون هنا وهناك تقدير بعض الأقلام والندوات، لكنهم سيكسبون بكل تأكيد قلوب شعوبهم وصداقة حلفائهم واحترام أندادهم. وهم إذ يذكرون قول ماركس: ((لقد اكتفى الفلاسفة حتى اليوم بتفسير العالم وأصبح لزاماً علينا أن نغيره))، وجب عليهم أن يذكروا الآية القرآنية: ((وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون))!
لقد جهر عبد الملك بأقواله تلك قبل ما يقرب من أربعين عاماً، واليسار بكافة اطيافه مازال في عز سطوته وجبروته، فجوبه بمعارضة شديدة واتهم اتهامات شتى من قبل الماركسيين، بينما رحب بأفكاره المؤمنون بدور التراث والمخزون الحضاري للأمة في تحقيق النهضة وتقدم الأمة العربية والإسلامية، خاصة وان افكاره تأتي من مفكر يفترض أن يكون في الطرف المضاد، لكنه كان يدرك المتغيرات التي سوف تحدث على الصعيد العالمي منذ وقت مبكر، وقد جاء زلزال الثورة الإيرانية بعدها بسنوات ليؤكد صدق توقعاته.
استمر الأستاذ انور في الحديث عن العالم المتغير حتى انهارت المنظومة الشيوعية، ودخلنا عصر الأحادية القطبية، لكنه توقع بروز الصين كقوة عظمى تنافس الولايات المتحدة الأمريكية وهو ما حصل بالفعل، ومازال عالمنا يحفل بالمتغيرات التي تنبأ بها عبد الملك وتحتاج فلسفتها عنده الى دراسة خاصة.
وداعاً فقيدنا الراحل، وليرحمك الله
كان اسم هذا المفكر يتردد في أوساط المثقفين العرب منذ الستينيات، بعد أن تعرفوا على دراسته المهمة (مصر مجتمع عسكري)، التي حللت بشكل نقدي دور الجيش في المجتمع المصري، والذي استنسخ في العديد من البلدان العربية، فكان مشكلة عربية لا مصرية فقط.
وأذكر أن أول من لفت نظري له أحد الأدباء المقربين من الشاعر أحمد الصافي النجفي (ت 1977) الذي كنا نتحلق حوله في مقهى الهافانا بدمشق، مطلع دراستي الجامعية الأولى عام 1970. وكنت ونخبة ممن يترددون على الصافي رحمه الله- مسكونين بهاجس الصراع الحضاري وفلسفته، وكيف يمكن للأمم الأخرى أن تطيح بالهيمنة الحضارية الغربية التي امتدت لعدة قرون، فكان كتاب الفيلسوف الألماني أوزوالد شبنغلر (سقوط الغرب) هو الكتاب الأثير بالنسبة لنا، لأنه حلل الحضارة الغربية تحليلاً دقيقاً، وميّز بين طورين من أطوارها هما: الحضارة والمدنية، الأولى تعبر عن الجانب الروحي والمعنوي والمثل السائدة في مجتمع ما، أما الثانية فهي تستعمل للتعبير عن الجوانب المادية والعملية في ذلك المجتمع، وقد رأى شبنغلر أن الحضارة الغربية تمر منذ أمد غير قليل بمرحلة المدنية، وهي المرحلة التي تدخل فيها الحضارة مرحلة الشتاء الذي يسبق النهاية، أو مرحلة الهرم أو الشيخوخة التي تسبق الموت، حسب نظرية ابن خلدون في أعمار الدول.
ولما كان عبد الملك مهتما أيضاً بالبعد الحضاري الكامن وراء الصراعات الدائرة في العالم، وبخاصة بين الشرق والغرب، وتشيع عنده فكرة الدوائر الحضارية التي تختلف عن نظائرها عند شبنغلر، فهي عند الأخير مغلقة على نفسها، بينما هي عند عبد الملك مرنة ومفتوحة، تؤثر وتتأثر، فقد شكل ذلك عاملاً إضافيا لاهتمامي به ومعرفة المزيد من أفكاره.
وحينما قامت حرب تشرين (أكتوبر) ضد الكيان الصهيوني كان عبد الملك متفائلاً جداً، لأن العرب قد سجلوا حينها أول نصر سيغير من السياسات الاستراتيجية في المنطقة التي كانت سائدة بعد هزيمة حزيران (يونيه) 1967، قبل أن يفاجئ أنور السادات العالم بتنازلاته الكارثية للكيان الصهيوني التي توجت بمعاهدة كامب ديفيد، التي سلم فيها مقاليد الأمور لأميركا وربيبتها إسرائيل على أساس أن 99 ' من أوراق اللعبة هي بيد أمريكا، كما كان يردد!!
وتشاء الظروف أن أنتقل إلى مصر لإكمال دراستي العليا في القاهرة، وأن أسكن في نفس العمارة التي كان يسكنها الأستاذ أنور، حينما كان يتردد عليها من باريس بعض الأشهر من السنة، فكانت تلك فرصة سانحة للتعرف شخصياً على هذا المفكر، وهكذا كان. أذكر انني حينما زرته في شقته بمصر الجديدة لأول مرة عام 1980 كان صوت أم كلثوم يصدح من جهاز التسجيل بهمزية أحمد شوقي في مدح النبي محمد (ص) ومطلعها (ولد الهدى فالكائنات ضياء)، ولم يكن ذلك مستغرباً من عبد الملك الذي عرف كيف يوفق بين مسيحيته الأرثذوكسية وبين إيمانه بالإسلام كرمز للهوية الحضارية للأمة العربية عبر القرون، وهو ما توحي به مؤلفاته وأبحاثه العديدة في هذا الخصوص. وقد توثقت علاقتي به حتى أنه طلب مني الاشتراك في المشروع الذي كان يشرف عليه في جامعة الأمم المتحدة بطوكيو وهو يدور حول ( البدائل الاجتماعية- الثقافية للتنمية في عالم متغير)، فكتبت بحثاً عن (مفهوم العالم في الفكر الإسلامي)، وقد نشر ضمن أبحاث هذا المشروع.
لقد تطور فكر أنور عبد الملك من الماركسية الأممية إلى الخصوصية الاجتماعية والحضارية التي تدرك أن فهم الوضع الداخلي في بلد ما الوضع السياسي والاجتماعي يجب أن يبدأ بفهم هذا البلد ضمن الدائرة القومية التي ينتمي اليها، ووضع تلك الدائرة القومية في إطار دائرة ثقافية أوسع، تدخل بدورها في إطار دائرة حضارية (مقابلة مع الدكتور أنور عبد الملك، ملحق النهار،17/3/ 1974).
وكان إدراكه للخصوصية الحضارية للمجتمعات مدخلاً لفهم دور الإسلام في الصراع الحضاري القائم منذ عقود، ومكانة العالم العربي فيه. يقول: (( العالم العربي اليوم ينتمي إلى دائرة حضارية- ثقافية امتدت من المغرب غرباً إلى الفيلبين شرقاً واتخذت الإسلام ديناً ودولة. إن العالم العربي يشكل الدائرة الثقافية الأوسع في العالم الإسلامي، إلى جانب الدوائر الثقافية الافريقية والآسيوية والهندية)). (المصدر السابق).
ولاشك ان هذه المواقف المؤمنة بدور الإسلام في نهضة المجتمعات الشرقية والافريقية بوجه عام قد دعته الى ضرورة أن يراجع الماركسيون العرب انفسهم والإقرار بأنهم لم يكونوا تاريخياً قيادة الحركة الوطنية، وأن البورجوازية الوطنية منذ عهد محمد علي، هي التي بنت مصر الحديثة. كما دعا المثقفين العرب إلى أن يديروا ظهورهم بشكل قاطع لدعاة التنكر لواقعهم التاريخي والاجتماعي والثقافي. سوف يخسرون هنا وهناك تقدير بعض الأقلام والندوات، لكنهم سيكسبون بكل تأكيد قلوب شعوبهم وصداقة حلفائهم واحترام أندادهم. وهم إذ يذكرون قول ماركس: ((لقد اكتفى الفلاسفة حتى اليوم بتفسير العالم وأصبح لزاماً علينا أن نغيره))، وجب عليهم أن يذكروا الآية القرآنية: ((وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون))!
لقد جهر عبد الملك بأقواله تلك قبل ما يقرب من أربعين عاماً، واليسار بكافة اطيافه مازال في عز سطوته وجبروته، فجوبه بمعارضة شديدة واتهم اتهامات شتى من قبل الماركسيين، بينما رحب بأفكاره المؤمنون بدور التراث والمخزون الحضاري للأمة في تحقيق النهضة وتقدم الأمة العربية والإسلامية، خاصة وان افكاره تأتي من مفكر يفترض أن يكون في الطرف المضاد، لكنه كان يدرك المتغيرات التي سوف تحدث على الصعيد العالمي منذ وقت مبكر، وقد جاء زلزال الثورة الإيرانية بعدها بسنوات ليؤكد صدق توقعاته.
استمر الأستاذ انور في الحديث عن العالم المتغير حتى انهارت المنظومة الشيوعية، ودخلنا عصر الأحادية القطبية، لكنه توقع بروز الصين كقوة عظمى تنافس الولايات المتحدة الأمريكية وهو ما حصل بالفعل، ومازال عالمنا يحفل بالمتغيرات التي تنبأ بها عبد الملك وتحتاج فلسفتها عنده الى دراسة خاصة.
وداعاً فقيدنا الراحل، وليرحمك الله
* د. إبراهيم العاتي اكاديمي وباحث
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |