قلــبُ المسيـح وحكمـــة سُقراط ويــدُ قيـْصَر
بقلم: عبدالهادي خلف.
في مقالته عن محمد إقبال يقول شريعتي إن أعظم نصيحة قدمها للبشرية ذلك المفكر الهندي المسلم هي ''ليكن قلبك مثل قلب المسيح وفكرك مثل فكر سقراط ويدك مثل يد قيصر. ولكن ليكن كل ذلك في إنسانٍ واحد...'' [1] يبدو غريباً تركيز شريعتي على هذه الأسماء كرموز المحبة والحكمة والقوة وتحاشيه أيٍ من الأسماء الإسلامية التي تعود على ذكرها وخاصة أسماء أبي ذر وعلي والحسين وفاطمة. ولعله باستعادة تلك الأسماء غير المعتادة عند الحديث عن مفكرٍ إسلامي يريدنا أن نرى إن للإنسانية منابع عدة تصب مجتمعة في تشكيل الإنسان الكامل. فوحده ذلك الإنسان الذي يستطيع أن يجمع المحبة والحكمة والقوة في نفسٍ واحدة قادرٌ على أن يكون، كما أراده الله، خليفته على الأرض.
محمد إقبال كما يراه شريعتي، ذهب إلى أوروبا وتعرف على مدارسها الفلسفية وعرّف بها الناس حين عاد إلى الهند. ورغم إنه عاش في القرن العشرين وفي خضم الحضارة الغربية ورغم اعتراف الجميع به بعلمه وبأنه فيلسوفٌ من فلاسفة ذلك القرن إلا إن أحداً لا يتهمه بأنه صنيعة الفكر الغربي أو إنه ''تغريبي''. بل على العكس. فشريعتي يرى إن إقبال استوعب ثقافة الغرب فصار لا يرهبهما. وذلك لأن معرفة إقبال بالغرب مكنته من السيطرة عليه، وسلاحه في هذا هو ما يمتلكه من ملكات نقدية وقدرة على الاختيار [2] وبهذه الخلفية بدا محمد إقبال في عين شريعتي إنساناً كاملاً مثلما هو مسلم كامل. مسلمٌ يعرف موروثه الحضاري ويعرف موروث الآخرين الحضاري. وهو بما لديه من ملكات النقد يستطيع التعاطي مع الموروثيْن واتخاذ الموقف الملائم من مكوناتهما رفضاً أو قبولاً.
لن يجد قارئ كلمات شريعتي السابقة صعوبة في ملاحظة تداخل سيرته في سيرة إقبال. فشريعتي أيضاً تعرّف على المدارس الفلسفية الأوروبية وعرّف الآخرين بها. وهو أيضاً يفاخر امتلاكه لتلك الملكات النقدية والقدرة على الاختيار. فهل كان شريعتي يريد أن يُسقط على نفسه الأوصافَ التي وصف بها إقبال؟ هل يقول: أنا، علي شريعتي، أيضاً إنسانٌ كاملٌ، أنا أيضاً مسلم كامل. أم كان يستخدم مكانة إقبال للدفاع عن نفسه أمام تشكيك مشايخ الدين في نقاوة فكره بعد أن تغرب هو للدراسة في أوروبا؟
معلومٌ إن كثيرين قبل شريعتي وبعده ممن درسوا في الغرب واجهوا تعابير مختلفة من الرفض بدءا من الطعن في إسلامهم وصولاً إلى التشكيك في ''نقاوة'' فكرهم. ومعلومٌ أيضاً إنها لم تكن بدون أساس نظرات التشكيك التي كان الناس يقابلون بها الدارسُ في الغرب. فكثيرٌ من هؤلاء انبهروا بالغرب إلى أقصى الحدود. فلم يكتف من انبهروا بمساءلة موروثهم وثقافاتهم الشرقية بل وتنكروا لها. هم في، في حالات، ساهموا في جهود إزالتها.
كان من حسن حظ شريعتي [3] إنه سعى للانتماء، وإن كمتلقٍ، إلى وسطٍ أكاديمي مَكّنه من أن يزداد التصاقأ بموروثه في نفس الوقت الذي مَكّنه من التخلص من تقديس ذلك الموروث. وكانت صدفة تاريخية أن يكون شريعتي في باريس في فترة من أغنى فترات حياتها السياسية والثقافية. ولقد دفعته النقدية إلى قاعات التدريس التي كان يحاضر فيها من سماهم معلميه والذين ستكرر أسماؤهم في سِيَر كثيرين من مثقفي منطقتنا ممن درسوا في أوروبا في ستينات وسبعينيات القرن الماضي.
كان لمواظبته على دروس المستشرقيْن الفرنسييْن لوي ماسينيون وجاك بيرك علاوة دروس عالم اجتماع المعرفة الروسي الأصل جورج جورفيتش تأثيراً ملموساً في الخليط الفكري الذي يتشكل فيما كتبه شريعتي. لكلٍ من أصحاب هذه الأسماء مجاله الخاص، إلا إنهم كانوا يقدمون للدارس القادم من العالم الثالث في تلك الفترة فرصة التعرف على عالم جديد وإشكالي. كان عالمهم عالمَ الأوروبي المتضامن مع العالم الثالث ومع نضال شعوبه في مقابل صور نمطية مضادة رسمتها في أذهاننا قرونٌ من المواجهة مع أوروبا الاستعمارية وأوروبا التبشيرية، واحدة تسرق الجسد وأخرى تسرق الروح. لأوروبا التي إلتقاها شريعتي عبر ماسينيون وبيرك وجورفييتش وإلتقاها آخرون في أمثالهم صوراً أخرى متعددة تتحدى الصور النمطية في أذهاننا عن الآخر. صورٌ تتحدى ثنائيات هم ونحن، ظالمٌ ومظلوم. ففي الظالم مظلومٌ وفي المظلوم ظالم.
فتحت دروس جورفيتش عينيْ شريعتي على مكتبة غنية من أفكار المثقفين الأوروبيين والنظريات الأساسية في علم اجتماع المعرفة وعلى الجدل فيها بين الماركسيين والليبراليين. ولعل مواظبة شريعتي على حضور محاضرات جورفيتش، الماركسي الملتزم والمعارض للستالينية، قد فتحت أمام شريعتي أبواب الفكر الماركسي وسهلت عليه التعاطي معها نهلاً ونقداً. ولعل نهج جورفيتش في التدريس قد أسهم في تمكين شريعتي من رؤية الفرق بين مرونة النظريات الماركسية وتعددها وبين تطبيقها السوفياتي. ولعل هذا ما يفسر بقاء شريعتي على موقفه المتحفظ من حزب تودة الإيراني الذي رآه مجرد مرآة للحزب الشيوعي السوفياتي.
معلمٌ آخر من معلمي شريعتي، جاك بيرك، كان مسحوراً بالآمال التي كانت تزرعها حركة التحرر الوطني في العالم الثالث. وكان بيرك يعتبر انتصار حركة التحرر الوطني العالمية، التي كان يقودها جمال عبدالناصر ونهرو ونكروما، نقطة بداية انتفاضة عالمية لإطلاق الطاقات الإنسانية الكامنة للتخلص من الأنماط الحضارية التي فرضتها الرأسمالية والنظام الاستعماري على العالم. لقد أسهمت محاضرات عن مبادئ علم الاجتماع في قبول شريعتي أن يتعاطى مع الدين كظاهرة اجتماعية.
من معلميه الآخرين نرى لوي ماسينيون، عاشق الصوفية وشهيدها الحلاج. ولقد سهلت دروس ماسينيون على شريعتي إن يعيد اكتشاف ما حمله معه من إيران. إلا إن من الممكن إن يكون تأثير ماسينيون الأكبر كان يكمن وفي قدرته وهو الكاثوليكي المتدين على التعاطي مع الدين الإسلامي بمحبة. وهي قدرة استند إليها تأييده لنضال الشعوب المسلمة، وبخاصة في شمال أفريقيا، ضد الاستعمار. وبلغ تأثير ماسينيون مبلغه حين إستخدم شريعتي في العامين 1960-1962مساعداً له بينما كان يعد كتابه عن سيرة فاطمة الزهراء. ويبرز ماسينيون واضحاً في إحدى أهم المحاضرات التي ألقاها شريعتي في 1972 إيران بعنوان ''فاطمة هي فاطمة''.
مثل محمد إقبال، وقبله الطهطاوي والشدياق والكواكبي، اكتشف شريعتي تعدد الآخر. ومثلهم شكلت مواجهة الآخر له صدمة معرفية وثقافية. إلا إن نتائج هذه الصدمة لدى شريعتي لم تكن كما رسمتها .مثلاً، رواية ''موسم الهجرة إلى الشمال''. فانبهار مصطفى سعيد التام أوصله في البداية إلى حد الهوس بالتماثل مع الآخر لينتهي إلى رفضٍ تام للآخر وهوسٍ بنفيه والرغبة في تصفيته رمزياً أو جسدياً.
لتلك الصدمة انعكاسات مغايرة لدى شريعتي. نعم انبهر شريعتي بما رآه في باريس ولكنه انبهار قاده إلى الاعتراف بتعدد الآخر وبإنسانيته التي يتداخل فيها الشر والخير. وبهذا الاعتراف أكتشف شريعتي إنه هو نفسه، الإيراني العالم ثالثي المعادي للكولونيالية، متعددٌ ويتداخل فيه الشر والخير.
هو اكتشاف عظيم بلا شك أن تتوصل إلى الاقتناع بأنه طالما إن كل شيء في صيرورة دائمة فمن العبث البحث عن الجوهر. فلا جوهر في الآخر ولا في الأنا. أوضحت سيرة حياة شريعتي حتى استشهاده إن ذلك الاكتشاف لا يوصل إلى السعادة الأبدية. بل هو يفتح طريقاً تزداد فيه الأسئلة وتنهار فيه البديهيات تباعاً.هو طريق لا يفلح فيه غيرُ من حارَ. وفيه يحتاج كلٍ منا، مثل إقبال وشريعتي، إلى قلب المسيح وحكمة سقراط ويد قيصر.
المصدر: الوقت - البحرانية.
الهوامش:
(1) Ali Shariati, (2002) - Mohammad Iqbal A Manifestation of Self-reconstruction and Reformation , Educate A quarterly on Education and Development, Issue No.3, Vol. 1
(3) أعتمد في هذا الجانب علىAli Rahnema, (1998) An Islamic Utopian A Political Biography of Ali Shariati, I.B. Tauris, 031-711.pP .kroY weN/nodnoL
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |