التعددية.. معضلة العقل السياسي العربي
تُعد الأسئلة التي يثيرها العقل الحضاري في لحظات تاريخية معينة أهم من الإجابات التي يسعى لتقديمها؛ ذلك أن بذل الجهد في الإجابة المتأنية المدققة على أسئلة خاطئة في جوهرها هو العثرة التي يقع فيها الفكر في مرحلة تاريخية ما، وتصبح إعادة النظر في الأسئلة ذاتها ومراجعة المسلّمات والموضوعات التي استقر عليها هي بداية النهضة ومفتاح التجديد المنشود.
وما تطوُّر العلم الاجتماعي وتجاوزه مرحلة تلو الأخرى في حقيقة الأمر إلا نتاجُ تأملات ونظرات لأئمة جددوا في منطلقات وموضوعات وأدوات العلم، خاصة إذا أدركنا أن علاقة المنهج العلمي بالواقع في الرؤية الإسلامية لا تقف عند حدود الاستجابة لتطوره ورصده، بل تتجاوز ذلك إلى التأثير في هذا الواقع وتقويمه والوقوف منه موقف المسئولية.
ويلاحظ الباحث في النظرية السياسية المعاصرة في بلدان العالم الإسلامي الانشطار الواضح الذي يعاني منه العقل السياسي الإسلامي بين مدرسة تتبنى النظرية الفقهية التقليدية، ولا تخرج في جوهر منهاجيتها عن منهاجية وموضوعات كتب السياسية الشرعية القديمة، باستثناء بعض المحاولات القليلة للإضافة والتجديد في التحليل، وليس في المنهاجية أو الفلسفة أو الموضوعات المستقر عليها.
ومدرسة ثانية تسعى إلى بناء نظرية سياسية باللجوء إلى تبني المنهاجية الغربية والمفاهيم المعتمدة، والسعي إلى إثبات اتفاقها مع مبادئ نظام الحكم في الإسلام؛ من حزبية، وشكل للدولة، وأنظمة للحكم، دون محاولة لتأصيل رؤية إسلامية مستقلة إلا فيما ندر.
وتقف بين المدرستين فئة قليلة من الباحثين تسعى إلى تحقيق الربط المفقود بين المنهاجيتين واستيعاب لغة الفريقين.
ولعل أبرز أسباب هذا الانشطار والاستقطاب هو النظام التعليمي في الدول الإسلامية الذي يغلب عليه النظام الغربي في كليات العلوم الاجتماعية؛ فلا يدرس طلابها ولو نبذة عن العلوم الشرعية، في حين يدرس طلاب السياسية الشرعية الفقه والعلوم الشرعية دون أدنى معرفة بالنظرية السياسية الغربية، ولذا يبقى الفريقان في انفصال وانفصام لا يجمعهما حد أدنى من الثقافة أو حتى الاحتكاك الأكاديمي.
وتظل الفئة الوسيطة التي تسعى لتجسير الفجوة، فئة من الذين تخرجوا -في الأغلب- في كليات العلوم الاجتماعية المدنية، وسعوا بجهد شخصي إلى تحصيل العلم الشرعي دون دعم من مؤسساتهم الأم.
وهي فئة تنظر إليها مؤسساتها الأكاديمية نظرة استغراب، بل واستنكار، وتنظر إليها الكليات الشرعية نظرة ريبة وشك، ويبقى جهدها -رغم جديته- خارج التيار العام للمدرستين.
ويبرز التحدي أمام العقل السياسي الإسلامي المعاصر في تناوله للموضوعات المختلفة المطروحة على الساحة الفكرية؛ حيث يصبغ أجندته واهتماماته هذا الاستقطاب، ويظهر ذلك جليًّا عند تناول موضوع التعددية السياسية والحرية.
الإدارة السياسية للاختلاف.. تساؤلات ما قبل المنهج
قبل أن نشرع في التفكير نتساءل: هل نحن نفكر وفق أولوياتنا أم استجابة لأسئلة مطروحة من خارج سياقاتنا، فرضتها علينا العولمة ومنظوماتها الفكرية؟
لا أجادل هنا في أن التنوع والتعدد من المقومات الأساسية في أي مجتمع إنساني، ولكن المراجعة تنصبّ على فكرة الدلالة أولاً؛ أي ما يعنيه السؤال، واتجاهات الإجابة، وخريطتها المطروحة، ومساحات المفهوم الدلالية.
وثانيًا أولوية هذه الخريطة في سياقنا الفكري؛ أي أولوية السؤال في جدول همومنا الحياتية وفق التصورات المعينة للقضية المقترحة، أو المتوهمة، أو المصنوعة/الأسطورة (كالعديد من أساطير الحداثة المستقرة).
وبدايةً فإن إيماننا يتأسس على أن الاختلاف سنة من سنن الله في المجتمعات؛ فهناك اختلاف في اللسان واللون والمذهبية والدين والرأي، ولا يشغل الباحث في العلوم الاجتماعية صوابُ أو خطأُ الخلاف أو مقومات الاختلاف؛ لأن الحكم عليها إنما هو لله، يوم يُرد الناس إلى الله.. بل يشغل باحث السياسة والاجتماع والاقتصاد كيفية إدارة المجتمعات الإنسانية لهذا الاختلاف بدرجاته، ودراسة ومقارنة تصورها العقيدي/الأيديولوجي لطبيعته وحدوده وضوابطه، أما اختيار سبل الإدارة المثلى لمجتمع ما فشأن كل أفراده وفق مستويات الشورى والاستشارة المؤسسية والعرفية، الهيكلية والاجتماعية اليومية الحياتية.
التعدد ليس "التعددية"
وتجدر في هذا السياق التفرقة بين التعدد والاختلاف كمفاهيم، وبين "التعددية" كمصطلح سياسي في علم السياسة الغربي الليبرالي السائد تحديدًا؛ فالتعدد -كمفهوم- يرادف التنوع والتفاوت والاختلاف، في حين أن "التعددية" كمصطلح هي نظامٌ سياسيٌّ له خلفية تاريخية وفلسفية ترتبط بإدراك دور الدولة وطبيعة المواطنة، بل وطبيعة الإنسان، وصيغ العقد الاجتماعي وقضاياه ونظامه الاقتصادي.
كما أن لذاك النظام ملامح مؤسسية ثابتة متفقًا عليها، ويقترن بتطور اقتصادي واجتماعي محدد، ومناخ ثقافي يقوم على الفصل بين الدين والدولة، ويهدف إلى إدارة الصراع الاجتماعي الممتد دون مرجعية فكرية واحدة تجمع الأفراد والجماعات، سوى مبدأ قبول التعدد ذاته وإجراءات إدارته، مع تنامي الهويات الناشئة والمصطنعة، وليست المكتسبة في مواجهة مرجعيات سائدة أو تاريخية.
ورغم أن "التعددية" كمصطلح تعبر عن صيغة واحدة فقط هي شكل الممارسة الليبرالية الديمقراطية الحزبية في بعض أوروبا والولايات المتحدة وكندا، ورغم أن التعددية الحزبية تحديدًا هي أحد أنماط التعددية السياسية عامة وليست النمط الأوحد.. فإن كثيرًا من الجدل الدائر على الساحة الأكاديمية والفكرية الإسلامية بشأن النظام الإسلامي يدور حول الحزبية، ومدى موافقتها للمبادئ الإسلامية أو تفضيل فكرة أهل الحل والعقد، دون بلورتها وتجديدها، ويصطبغ هذا الجدل بالانقسام السالف الإشارة إليه.
ففي ناحية يقف فريقٌ يؤيد الحزبية، وآلية الانتخابات التمثيلية، ويراها ضمانًا لتداول السلطة وعدم الاستبداد، ووسيلة لإدارة الاختلافات السياسية، وصيانة للحقوق والحريات العامة.. وإحدى الأدوات التي نجحت في الغرب في ضمان المساواة والحرية والتعبير عن الرأي، والرقابة على السلطة الحاكمة.
وفي ناحية أخرى يقف فريقٌ يرى الحزبية مدخلاً للفُرقة، وتحكيمًا للقوى السياسية في مقابل تحكيم الشريعة، وسببًا لعدم الاستقرار السياسي في الدولة الإسلامية، ونظامًا غربيًّا يرتبط بالتجربة التاريخية الغربية، في حين أنه لا يصلح في النظام السياسي الإسلامي.
وليست مهمة هذا المدخل الخوض في الجدل، ومناقشة أطروحات كل فريق.. لكننا نلاحظ -مجملاً- على منحى الجدل ما يلي:
1- أن كلا الفريقين -رغم الخلاف- قد ارتضى الحزبية أرضيةً للجدل، ولم يحاول أحد الطرفين نقل الجدل والاختلاف إلى مساحة جديدة، ووحدات اجتماعية وأشكال إدارية أخرى للتعامل مع التعدد والاختلاف السياسي والاجتماعي؛ فكأن الطرفين قد ارتضيا السؤال رغم اختلاف الإجابة، ولم يحاولا طرح أسئلة جديدة.. فتمسك الأول بشكل واحد من أشكال التعددية أو الممارسة الديمقراطية في الغرب، ورفض الثاني نقل أي تجارب في الإدارة السياسية من الغرب، متجاهلاً أشكالاً للمشاركة السياسية بلورها الغرب.
ويفيد الباحث الإسلامي الاطلاع عليها لاستكشاف البُعد الإنساني الاجتماعي المشترك العام فيها، كالنظام التعاضدي -على سبيل المثال- الذي يقوم على وجود جماعات مصالح متعددة الحجم، ومتفاوتة الترتيب من حيث القوة في المجتمع، تتداخل مع الدولة.. حيث تعد الأخيرة عنصرًا فاعلاً، وليست مجرد ساحة صراع أو طرف فيه.
ويلعب القانون دورًا محوريًّا في هذا النظام الذي يتميز عن التعددية من جهة، والاستبداد من جهة أخرى. لكن بقي في بعض الأدبيات السياسية قرين الفاشية؛ لأنه طُبق فيها ولم يلق في العالم العربي اهتمامًا يُذكر، رغم تزايد الاهتمام النظري به في الغرب، ونجاحه في مجتمعات تنتمي إلى مجتمعات المذهب الليبرالي، مثل النمسا.
2- أن الفريق الأول لم يتابع تطور الحزبية في بلدانها ذاتها، بل اكتفى بالأطروحات العامة التقليدية عن دور الحزب نظريًّا، ومميزات النظم الحزبية، غير مدرك للانتقادات التي يتعرض لها نظام التعددية الحزبية نظريًّا، بل فكرة النيابية والتمثيل السياسي برمته، والمشكلات التي يواجهها عمليًّا بعد خبرة تاريخية ليست بالقليلة، أبرزها العزوف السياسي للمواطنين، وتدني نسب المشاركة في الانتخابات في العديد من الدول الأوروبية، بل والولايات المتحدة. أما الفريق الثاني فقد اكتفى بتقديم فكرة أهل الحل والعقد، كآلية الشورى، وصنع القرار في الدولة الإسلامية دون تفصيل اجتهاد معاصر لمؤسسات الشورى التي يمكن بناؤها في الدولة الإسلامية، باستثناء كتابات قليلة، أبرزها كتاب الدكتور "توفيق الشاوي" القيّم عن الشورى والاستشارة.
وتراوح موقف العلماء المتخصصين في السياسة الشرعية بين الرفض الصريح للحزبية أو إسقاطها كلية من التناول تجاهلاً -أو حتى جهلاً- بحجج قوية يمكن تقديمها لو علم أهل هذا الفريق جوانب قصور التعددية.
3- أن الفريقين ربطَا التعددية السياسية بالسلطة وليس بالمجتمع؛ وهو ما يعني -ولو بشكل كامن- تبنّي إدراك السياسة باعتبارها "علم السلطة" أو طريقة إدارة السلطة في المجتمع وتأسيسها على القوة.. وهي نظرة تختلف عن النظرة الإسلامية التي تؤسس السياسية على المصلحة، وتربطها بالأمة وليس بالحكومة أو نظام الحكم؛ فالتعددية السياسية أوسع نطاقًا من تعدد الرأي على مستوى النخبة السياسية، أو تعدد المنحى السياسي لتعدد إدراك المصلحة القومية.. ففي الرؤية الإسلامية يرتبط المفهوم (وليس المصطلح) بطبيعة المجتمع الإسلامي العضوية، وأشكال وأنماط ودرجات الاختلاف وأشكال إدارتها.
الأمر في الرؤية الإسلامية إذن مرتبط بالجماعة والإدارة السياسية المثلى، وليس بالدولة كجهاز، أو النخبة كجماعة تحترف السياسة أو القواعد المتفق عليها لإدارة الصراع.. ويتضح ذلك جليًّا إذا ما انتقلنا إلى بحث الشورى وفلسفتها وأشكالها في المجتمع الإسلامي.
إدارة الشورى ورابطة المجتمع الإسلامي
تُعد الشورى في الرؤية الإسلامية مبدأ إنسانيًّا واجتماعيًّا وأخلاقيًّا، بجانب كونها قاعدة لنظام الحكم، وهي في مجال السياسة: حق الجماعة في الاختيار، وتحمل مسئولية قراراتها في شئونها العامة.
والشورى من مستلزمات الفطرة، ومن سنن استقرار المجتمع، وهي ليست هدفًا في حد ذاتها، بل شُرعت في الإسلام كوسيلة لتحقيق العدل وتنفيذ مقاصد الشريعة.. لذا فهي فرع من فروع الشريعة، وتابعة لها، وخاضعة لمبادئها وحدودها (بالتعريف العام)؛ وهو ما يميزها عن الديمقراطية التي لا تحكمها مرجعية عليا خارجية متجاوزة.
وإذا كانت أحكام الإمامة أو ما يسمى "فقه الخلافة" هي الموضوع الرئيسي الذي تناولته الكتابات السياسية الإسلامية لقرون طويلة، فإن فقه خلافة الحكام أو نظام الحكومة يجب أن يدرس باعتباره فرعًا من فقه الشورى؛ فالشورى هي الأصل، إذ إنها خلافة الأمة.. أما خلافة الخلفاء وولاية الحكام فهي فرع.
لذا فإن فقه الخلافة في عصرنا يجب أن يعود إلى الشورى -أي إلى سلطان الأمة-، ويتأسس على البيعة الحرة أو الولاية التعاقدية التي تتيح للأمة الرقابة على الحكام ومحاسبتهم؛ فالأمة أسمى من الدولة، والإسلام في جوهره "دين وأمة" وليس "دينا ودولة".
ويلاحظ على هذه الآراء المختلفة أنها انصبت على جانب الحاكم، ولم تتعرض لجانب المحكومين؛ فالشورى وردت في إطار الحديث عن الجماعة في آيتين في القرآن الكريم، تلزم الأولى الحاكم بالمشاورة، وتلزم الثانية الجماعة بالشورى. وإذا كانت الشورى فطرة فإنها أيضًا فريضة، ليس على الحاكم وحده بل على الأمة كذلك، فهي التزام شرعيٌّ يدخل في باب الحاكمية، ويعلو على القانون؛ إذ منه يستمد شرعيته وحجيته بسلطان الأمة المستخلفة وتفويضها له..
ولا يحق للأمة التنازل عن واجبها في إقامة الشورى؛ وهو ما يجعلها مسئولة عن حماية ممارستها، ويطعن في شرعية نظام الحكم الذي يتجاوزها، ويلزم الأمة برده إلى الالتزام بها؛ فقد خرج هو عنها، وما وقفة الأمة في وجهه بخروج.
كذلك فإن هذه الآراء لم تميز في استدلالها بين الشورى والاستشارة؛ حيث تتميز الأولى بأنها ملزمة وواجبة، في حين أن الاستشارة هي طلب النصيحة، وهي مشورة غير ملزمة.
شورى وتعددية.. مَن؟ ومتى؟
ويستلزم التمييز بين مستويات وجوب الشورى والاستشارة (كفرض عين أو فرض كفاية) على أفراد الأمة التمييز بين مسائلهما المختلفة، التي يمكن تقسيمها إلى:
- مسائل تشريعية ذات صبغة فقهية خالصة: وهي أمانة وواجب علماء الشرع، وإذا كان البعض قد ذهب إلى أنه في حالة اختلافهم فإنه يؤخذ بالرأي الأقوى دليلاً؛ فإن هذا أمر يخضع للتقدير، وهو ما دعا بعض الكتابات الحديثة إلى المطالبة بتطبيق الشورى في الاجتهاد، وإلى الأخذ برأي الأغلبية؛ حيث إن "الاجتهاد الجماعي" في عصرنا لازم؛ لتعقد وتشابك جوانب الحياة ومسائلها.
- مسائل فنية خالصة يؤخذ فيها برأي الفنيين المتخصصين: والمشورة فيها فرض كفاية على الأمة، وواجبة على المتخصصين في كل مسألة. وتعتمد الشورى فيها في الرؤية الإسلامية على آلية "النقابة" التي تلجأ إليها الدولة في هذا الصدد؛ لأنها تضم أهل التخصص والكفاءة. وقد يكون اجتهادهم فرديًّا، كما قد يكون جماعيًّا في الأمور التي تستلزم ذلك.
- مسائل تتعلق بتنظيم أوضاع الفئات الاجتماعية المختلفة: وأداء الشورى فيها واجب عيني على المنتمين لهذه الفئات؛ إذ يلزم -كما هو الحال في المسائل العامة- معرفة رأي أهلها جميعًا، حيث يمس الأمر كل أفرادها.
- مصالح خاصة لفئات اجتماعية لا تندرج تحت تصنيف النقابات بأنواعها: كالنساء على سبيل المثال، أو الشيوخ (المسنين)، ويتم تمثيلها من خلال مؤسسات خاصة أو اتحادات، أو من خلال استفتاءات محدودة.. وهنا فالمجتمع المدني يلعب دورًا بارزًا.
النقابية والمجتمع العضوي وتجميع الآراء
ويلاحظ في هذا السياق للشورى أهمية النقابة كوحدة سياسية في النظام الإسلامي، وإذا كانت قد اقترنت في الاستخدام القرآني أو في استخدام علماء السياسية الشرعية بالنَسَب (النقابة على الأنساب)؛ فإن ذلك مرده إلى تأسس الجماعة في هذا الطور التاريخي على القبيلة، واعتبارها الوحدة السياسية المحورية.
أمَا وقد تطورت المجتمعات الإسلامية في بلدان إسلامية عديدة، وأصبح أساس التمايز الاجتماعي هو العمل الاقتصادي بالمفهوم الإسلامي والتخصص العلمي أو المهني، فإن النقابة لا تصبح قرينة النسب لقبيلة؛ بل ترتبط بالجماعات المهنية المختلفة لتصبح إحدى قنوات الشورى في المسائل المذكورة.
وفي هذا الصدد يلاحظ قيام النقابة بالمعنى الذي أوضحناه بدورين: دور الضبط الاجتماعي باعتبارها إطارًا مؤسسيًّا يحكم حركة العاملين في مجال ما، ودور المشاركة في العملية الشورية فيما يخص مصلحة الجماعة في أمور فنية أو مصلحة أهل "النقابة" في أمورها المهنية والاجتماعية؛ وهو ما يرشح النقابة في نظرنا لأن تكون وحدة أساسية في بنيان النظام السياسي الإسلامي.
ومما يلفت نظر الباحث أن "النقابة" كوحدة سياسية لم تستوقف الدارسين في النظرية السياسية الإسلامية كثيرًا، ويعود ذلك لأمرين:
الأول- أن النقابات في المجتمع الغربي تلعب دورًا محددًا لتمثيل المصالح، وتصنف في درجة أدنى من الأحزاب السياسية في مجال التحليل السياسي، ناهيك عن خضوعها السلبي للدولة؛ وهو ما صرف عنها أنظار الباحثين.
والثاني- أنه في التراث الفكري الإسلامي اعتبرت النقابة أداة للضبط الاجتماعي فحسب، وصنفت تحت مبدأ الحسبة عند الحديث عن "الأصناف" أي أصحاب المهن والحرف. وتم تناولها في كتب الحسبة، وليس في كتب السياسية الشرعية؛ لذا تم تجاهلها في الجدل الدائر، والتصور الشائع عن مقومات النظام السياسي الإسلامي، في حين تم التركيز على مؤسسات كالخلافة والوزارة والقضاء والإفتاء.. بل والشرطة!
وإذا كانت بعض الحركات الإسلامية على مستوى الواقع السياسي قد نشطت في المجال النقابي، فإن ذلك قد نشأ لعدم تمكنها من الحصول على الشرعية الحزبية، وليس إدراكًا واعيًا بالوظيفة السياسية الشورية للنقابات في الرؤية الإسلامية -للأسف-، وهو ما يعكسه استمرار الجدل بشأن الحزبية، بل واتهام خصومها لها بتحويل النقابات إلى أحزاب فعلية؛ وهو ما يوضح حجم التشويش في هذه النقطة نظريًّا.
وتجدر في هذا السياق الإشارة إلى عدة أمور:
* أن فكرة النقابة تتجانس مع فكرة الانتشار المؤسسي التي يتسم بها النظام السياسي الشوري في الإسلام، الذي يتأسس على مشاركة الأمة في صنع القرار أيًّا كانت طبيعته، وهو ما يقابل فكرة التركز المؤسسي في الرؤية الغربية لارتباطها بالدولة والسلطة والقوة.. فالمؤسسية في الإسلام تختلف عن المؤسسية في الغرب فلسفة وشكلاً، وهي نقطة يجب الالتفات إليها عند القيام بالاجتهاد في إنشاء مؤسسات إسلامية أو إحياء مؤسسات تقليدية إسلامية اندثرت، أو دعم أخرى في طريقها للضعف.. والتيَبٌّس.
* أن النقابة -بقيامها على العمل كقيمة، وليس على تجمع مصالح أصحاب رؤوس أموال، أو مكانة اجتماعية وسياسية- تتميز عن الحزب بأمرين:
- ارتباطهما بالفئات الاجتماعية المختلفة وليس بالنخبة، واقترانها بصنع السياسة العامة في معناها الواسع، ونفي التنفسية والدعائية؛ حيث إن الهدف هو إدارة العلاقة -وليس الصراع- بين قوى المجتمع وفئاته بأقصى درجة من العدل والتوازن.
- ولأن العمل هو أساس النقابة؛ فإن تلك المؤسسة مرشحة لتذويب بعض مشكلات الأقليات الدينية والعرقية؛ حيث يُعد معيار المشاركة بل والعضوية هي فاعلية الفرد، وصفته المهنية، وليس عقيدته أو عرقه، وذلك بشكل قاعدي يرتبط بالحياة اليومية للأفراد وهمومهم الحقيقية في المعاش وظروف العمل والرعاية الاجتماعية.
* أنه وإن تأسست النقابية على المهن في المجتمع الحديث، فإن هذا لا ينفي نقابة "الأنساب" في المجتمعات القبلية القوية؛ وهو ما يعني تجاور أشكال متفاوتة من النقابات بالمفهوم العام، هدفها في النهاية هو الإدارة الاجتماعية والسياسية، وهو ما يؤكد فكرتي انتشار المؤسسات وشعبية المشاركة، ويطرح أيضًا فكرة تركيبية النموذج السياسي الإسلامي، واستيعابه لكافة أشكال وأنماط الجماعات في الأمة بما يحقق الشورى ومصلحة الجماعة ككل، وذلك في مقابل الاختزال والتنميط والتحديث على خط صاعد كما في نظريات التنمية الغربية، وربط التعدد بمسائل عامة ترتبط بحياة الأمة بأَسرها وشؤونها جمعاء، ويحتاج فيها لرأي الكافة، وأداء الشورى فيها فرض عين، ويتم التعرف على الرأي بواسطة الاستفتاء العام، وهو ما يمكن تسميته "اجتهاد الجماعة".
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الاستفتاء لتحديد "رأي الأغلبية" أداة صالحة، ولكنه ليس ضمانة في حد ذاته لتحقيق الشورى؛ إذ قد يستخدمه النظام السياسي في الحصول على تأييد الشعب لأمر مخالف للشريعة، وهذه الديمقراطية -وليست الشورى-.. كما قد يُستخدم لإضفاء شرعية كاذبة على نظم استبدادية؛ لذا يبقى المناخ الشوري الأوسع، ورقابة الجماهير، ومشاركتهم، وتحكيم الشرع لوازم الاستفتاء الحقيقي.
ويلاحظ هنا أهمية -بل نكاد نقول حتمية- ربط الاستفتاء بمؤسسة المسجد "مع ملاحظة عدم استبعاد ذلك؛ لمشاركة الأقليات الدينية وإمكان تنظيم أدائها برأيها داخله"؛ لاعتبارات ارتباط السياسة في المفهوم الإسلامي بالعقيدة وبالشعائر اليومية، بل ولاعتبارات إدارية كذلك، وهو ما يجب الالتفات لأهميته وعدم السعي إلى "تحديث" الشورى ووسائلها بمؤسسات وإداريات لا تتفق في فلسفتها مع الرؤية الإسلامية التي هي أقرب للديمقراطية المباشرة القاعدية المتسلسلة منها للتمثيل النيابي والاحتراف السياسي.
إن الأمة هي في مجموعها "أهل الشورى"، وتتفاوت درجة وجوب الشورى (عينية/كفائية) باختلاف المسألة محل الشورى من ناحية، وأهلية وموقع كل فرد من ناحية أخرى.. ويمكن تصور إدارة النظام السياسي الإسلامي من خلال الشورى في هذه المستويات المختلفة، ولا يلزم بالضرورة أن تكون الشورى من خلال "مجلس الشورى" كما ذهب البعض؛ إذ إنها مسألة تخضع لتقدير المصلحة، وطريقة الإدارة السياسية للمجتمع، وحجم ودرجة تطوره الاقتصادي والعلمي، ومسائل أخرى عديدة تجعل الأطروحات الإسلامية في حاجة إلى بلورة ملامح التصور العام، ومراعاة اختلاف الواقع في البلدان المختلفة، بل ووجود تركيب مجتمعي و"اختلاف" واسع في بلدان عديدة.
حرية التعبير والتعدد.. مسارات ما بعد الحداثة
الجدل السالف كله جدل في الإدارة السياسية بالمعنى الواسع، لكنه لا يشتبك مع المضامين الجديدة للمفهوم في مرحلة ما بعد الحداثة، الذي يحتاج إلى بحث مستقل.. فحرية الرأي والتعبير لا تنفصل عن تصورات العقد الاجتماعي، والاجتماعي يتداخل مع السياسي في التصور الإسلامي تداخلاً واضحًا؛ حيث يتشابكان في النظرية والممارسة الإسلامية، فقد أقام الإسلام علاقةً وثيقةً بين قواعد تشريعه السياسي وفطرة التكوين الإنساني والاجتماعي..
وضَمِن من خلال التشريع تأهيل الوحدات المختلفة للقيام بوظائف سياسية إلى جانب وظيفتها الاجتماعية والإنسانية.. وكأن تأسسها على الفطرة و"السنن" الاجتماعية ضمانة لاستمرار وجودها في المجتمع من ناحية، كما أن الأحكام الشرعية الفقهية والأخلاقية التي تضبطها بنيتها وقيمها قد أهّلتها لتحمل هذه المسئولية من ناحية أخرى.
لذا فإن فلسفة الوحدات المختلفة ترتبط بطبيعتها السياسية، ولا تتحقق في كمالها إلا بتأكيدها.
وإذا كان البعض يرى أن النظام الإسلامي له خصائص مميزة تكمن في مجموع مكوناته، فإننا نذهب إلى أن هذه الخصائص تكمن بكاملها في كل بناء من أبنية المجتمع الإسلامي، وتشبه البصمة الوراثية التي تحمل خواص كامل الجسد وخريطته الكامنة.
كذا فإن جدل الحرية والتعددية غير منفكٍّ عن جدل الطبيعة الإنسانية، وغير منفصل عن إشكالات ما بعد الحداثة التي تربط حرية الرأي والتعبير والتعددية تحديدًا بالجسد وسياساته، وهي قضايا تتجاوز خطاب الإسلاميين مسافات، ولم يشتبكوا معها بعد، وتقع في الحقيقة في صلب التعددية بالتعريف الجندري النسوي والتعددية في "أنماط الحياة"، وهي الكلمة المشفرة للسيولة الجنسية الكاملة، وكلاهما من أهم قضايا الأجندة التعددية الغربية.
فإن أردنا جدلاً معاصرًا فإنه لا بد أن يكون حاضرًا هنا أيضًا في تلك المساحات.. لكننا أسرى القفص الحديدي للحداثة، غير قادرين على التحليق.. وجدير بنا -بدلاً من مناقشة حق الردة، وحق العمل السياسي للمرأة، على أهميتها- أن ننتقل من المساعي المستميتة لإثبات ليبرالية الإسلام إلى إسلام ديمقراطي راديكالي ضد العولمة، هو حتى الآن ما زال غائبًا عن قضايا المستضعفين والاستعباد الجديد، وإخضاع الإنسان لسلطان الهندسة الوراثية وسوق الرقيق الأبيض العالمي، واجتياح الثقافات تحت اسم السياحة، وعمالة الأطفال، والهوة بين الطبقات، وقضايا أخرى حقيقية غابت عن أولوياتنا أو بالأحرى: غُيبت.
إن حرية الرأي والتعبير تستلزم التراجع الإنساني القوي من رؤى الحداثة لجذور التنوير"تلك الجذور التي كانت مؤمنة بالله، لكنها تسعى للتحرر من استبداد السلطات الدينية بتكريس العقلانية"، ثم التقدم إلى قلب عصر الواقع وثورة التقنية وعوالم المتخيل وشروطه الجديدة، والرفض القاطع للأسئلة المعلبة التي تصلنا بتسليم المفتاح، جاهزة المكونات وطريقة التشغيل.
وبدلاً من أن نناقش تحديات العصر الإلكتروني، وأزمة الثورة الجينية، وانعكاساتها الأخلاقية كقضايا سياسية؛ نتحدث عن تعددية كأنها خارج الوجود والزمن، وندخل جدلاً نحن فيه في موقف المتهم المدافع عن نفسه من بين قضبان قفص، لا يخطر بباله أن يجاهد للخروج من محبسه، واستهداف خصومه ببسالة وشرف في معركة مصيره ومستقبله.
د. هبة رؤوف عزت - مدرس مساعد العلوم السياسية - جامعة القاهرة
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |