المسيري والخطاب الإسلامي الجديد *
أسهمت الكثير من الخطابات الدينية في إعادة تشكيل الفهم الديني والسلوك الديني أكثر مما أسهمت في ظهور مفاهيم جديدة تحل محل المفاهيم التي رسخت في نفوس المسلمين وحددت اتجاه الفكر الإسلامي المعاصر.
فالممارسات والشعارات والخطابات التي يعيشها المواطن العربي أنتجت علاقات غير متكافئة وفجوة بين السلطة والفرد في المجتمع وأن القمع الذي تمارسه النظم السياسية يتيح الفرصة لتفجر الخلاف والصدام بين مكونات البنيان الواحد ويؤكد على الهزيمة والتخلف في شتى ميادين الحياة.
بعض الأيديولوجيات الإسلامية المعاصرة تصرف الانتباه بعيدا عن تلك القرائن المحددة فالخطاب الإسلامي المعاصر يقدم نفسه عادة على أنه مالك للحل السحري الذي سيعيد المجد للأمة ويخرجها من كبوتها منطلقا من انشداه الجمهور للحظة ومتناسيا الواقع والغرق في بحر الحداثة وما بعد الحداثة.
كره الحداثي للعقل الإسلامي
غالبا ما تحدث التغيرات الكبرى في المفاهيم الدينية والسياسية بالتدريج ولا يشعر الناس بخطورتها إلا عندما يسترجعون الأحداث فيما بعد فعندما درس المؤرخ الفرنسي "مارك بلوك" محاولات الاستقلال في أوروبا كتب قائلا "إن الأجيال التالية لا تخلق أنماطا اجتماعية جديدة وإنما تبعث الأنماط القديمة من رقادها".
إن الإسلام في عيون الإنسان العصري الذي يسيره اليوم أنموذجا معرفيا علمانيا يُنظر إليه باعتباره شيئا قديما لا أمل يرجى من ورائه. فالحداثي يكره أي تعبير ينتمي إلى العقلية الإسلامية.
وهنا نجد الدكتور المسيري الذي لم يؤسس لخطاب إسلامي جديد بقدر ما قوض الخطاب العلماني الغربي وأُسسه الفلسفية المعرفية وهو الممثل لصوت العقل الذي ينشد الحقيقة حتى وهو يحتج على المذاهب القائمة ويتحداها.
تأتي أهمية كتابات المسيري من أنها محاولة واعية لفهم الآخر ونقد الذات في فهمها للآخر ثم الارتقاء إلى مرحلة الوعي للنماذج الإدراكية وبناء تلك النماذج وتجيلها في الواقع وبيان موقعها في شبكة الإدراك وصلة ذلك كله بالسلوك الإنساني.
إنه من صميم العقيدة الإسلامية أن يواجه المفكر المسلم منظومة التحديث والحداثة وأن يبين مواطن النقص والخطأ فيها كمذهب لا كفكر.كما إن إخفاق هذه المنظومة في بناء رؤية متكاملة للعالم ورفضها أن تضع في اعتبارها القضايا الجوهرية للمصير البشري يعد سببا قويا لأن يحجم الوعي الإسلامي عنها وأن يتمرد على أي نظام إدراكي أو أخلاقي ينتمي إلى تلك المنظومة.
ومما يؤسف له أن معظم المفكرين المسلمين في مواجهتهم منظومة الحداثة ورؤيتها العلمانية لنظام العالم يكشفون عن الكثير من السخط والقليل من الفهم. والقليل منهم من يواجه الحداثة بوصفها تحولا في المعرفة والوعي والأخلاق الأمر الذي أدى إلى أن يتخلى الغرب عن مبادئه المسيحية ويتحدى أي تصور توحيدي متجاوز للنظام الجوهري للأشياء.
لقد وصل المسيري عبر دراسته لموضوعات اليهود واليهودية والصهيونية إلى ضرورة كشف واكتشاف التحيزات الغربية الكامنة في مصطلحاتنا ومناهجنا وأدواتنا البحثية وقيمنا المعرفية واقترح مصطلحات ومناهج وأدوات وقيما بديلة تتسم بقسط أكبر من الاستقلالية والقدرة التفسيرية العالية وطرح أنموذجا بديلا تعمل على ضوئه الأمة الإسلامية. وهو يوضح أن القضية الأساسية ليست في مجرد رفض الأنموذج الغربي بحجة أو بأخرى مهما كانت مقنعة أو متعمقة بل هي في نقد وتحليل هذا الأنموذج للكشف عن التحيزات الخاصة الكامنة فيه وبيان بأنه ليس بالأطروحة العالمية المطلقة التي تجب غيرها كما يحاول مروجوه .
إنسانية الإنسان ومادية الطبيعة
ومن هنا يأتي قوله في إسلامية المعرفة بوصفها تواصلاً مع الجهود الغربية لفك الارتباط بين إنسانية الإنسان و " مادية الطبيعة :" إن مشروع أسلمة المعرفة يبدأ كمشروع أنسنة المعرفة أي استعادة الفاعل الإنساني كمقولة مادية روحية لا يمكن ردها إطلاقاً إلى عالم المادة وتتطلب دراستها مناهج خاصة ونماذج مركبة تحوي عناصر مادية وغير مادية، ولكون تعريف الإنسان ككائن روحي مادي وكظاهرة غير طبيعية غير مادية يشير في النهاية إلى ما وراء الطبيعة. إلى الله سبحانه وتعالى. "
ويرى المسيري أيضا " إن الثنائية بين الإنسان والطبيعة ستظل واهية ما لم تكتشف الثنائية بين الخالق والمخلوق. فالخلاف يصب في المصدرية لهذه الثنائية التي يرى البعض أن مصدرها مجرد انفصال الإنسان عن الطبيعة دون ذكر لمصدر هذا الانفصال وتحوله إلى كائن حضاري يعيش داخل منظومات معرفية وجمالية وخلقية ولدها بنفسه وعليه يصبح الإنسان النقطة المرجعية النهائية الأمر الذي سيجعله يتحول تدريجياً إلى البديل الميتافيزيقي للإله في المنظومات التوحيدية ".
فالمسيري لا ينقد خصائص وجوانب في الفكر الغربي ويدعو إلى اعتناق ما جاء بنقده بل يحاول إيصال فكرته لتبني ما هو أفضل خاصة إذا كان التحيز أكبر وأقوى عادة في ميادين العقائد الدينية_وهو المجال الخصب_وغيرها من العادات والتقاليد والعلاقات الإنسانية وما يعبر عنها من فنون وآداب وفكر وثقافة.
وهذا الشمول مبعثه في حقيقة الأمر اكتساح الإطار المعرفي الغربي الذي يستند إلى مجموعة من الأسس والمرتكزات تترك بصماتها الواضحة على الحياة ومنها العلوم الذي من شانه أن تكون له نتائج وأثار تبرز عن تبديات هذه الأسس وتلك المرتكزات في العلوم المختلفة.
أضحى الخطاب الإسلامي إما فضفاضا يسع كل شيء ويقدم حلولا حتى لمشاكل الآخر أو خطابا تتلبسه حالة من الضيق يعجز معها أن يقدم حلولا للمشكلات الواقعية التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية.ومثاله مرحلة ما بعد الحداثة التي تطرح الخصوصية المنطلقة من أدواتها وأساليبها ومعرفتها بنفسها ويفترض الاختلاف في النماذج المعرفية الأمر الذي يصطدم بمبدأ أساس كامن في الخطاب الإسلامي وهي الشمولية والعالمية التي يفترضها الإسلام.
معالم الخطاب الجديد
لا تزال التصنيفات والتحليلات النمطية لتيارات الفكر الإسلامي هي السائدة وقد نشر أستاذنا المسيري دراسة بعنوان"معالم الخطاب الإسلامي الجديد"حاول فيها أن يقدم تحليلا لمنهجية وخصائص الخطاب الديني الجديد الذي تميزه عن الخطاب القديم.
وإذا كان هنالك ما من تمييز بين خطاب إسلامي قديم وأخر جديد فان محاولة التمييز بينهما كانت تبدأ من نقطة محورية هي موقفهما من الحضارة الغربية فهذا الموقف هو الذي حدد كثيرا من ملامحهما وتوجهاتهما وأطروحاتهما.فإذا طرح الخطاب القديم كيفية التصالح مع الحداثة الغربية واللحاق بها والتكيف معها وكيفية المزاوجة بينها وبين الإسلام فان حملة الخطاب الإسلامي الجديد لا يشعرون بالإعجاب نفسه تجاه الحداثة الغربية.
ولذا نجد أن خطابهم ينبع من نقد جذري لها، لكن الخطابين يختلفان في المظهر لا في الجوهر فهما يتوحدان بنيويا في العمق: فالأول يتحدد بالغرب بشكله الايجابي والثاني يتحدد به بالشكل السلبي فإذا كان القديم أعجب ببهرجات الغرب وأنواره وأسقطها على خطابه الإسلامي دون تحريف. فإن الثاني أستخدم مترادفات الخطاب الغربي وأضفى عليها صبغة إسلامية.
ولكن إذا تعمقنا في كنه الخطاب الغربي ومدى سحره وتأثيره على القديم والجديد سنجد بأنه هو المتغير وإنما قديمنا وجديدنا يتحددان بناءًا على تغيره.
فالتغير إذا ينبع من الأنموذج المعرفي وإشكالاته التي يطرحها الغرب إن التغير في الخطاب الغربي نفسه أدى في بعض مساراته إلى تحولات كبيرة في الإبداع والثورة العلمية والتقنية وهذا ما يلحظ غيابه في الخطابين.وعدم عنايتهما بهذه المسائل وانصباب اهتمامه على أنموذج معرفي مأخوذا من الأصول الإسلامية. فبدت القضية تمثلنا كصف ثاني مرؤوس ما عليه إلا أن يجيب بصواب الغرب وخطئه من داخل منظومتنا الدينية العقائدية مما قتل الإبداع وأضفى على العقل السبات.
لا.. لأسلمة الحداثة
لذا تأتي من هنا دعوة المسيري إلى طرح تصورات إسلامية لكل مجالات الحياة بدلا من أسلمة بعض جوانب الحداثة خاصة فيما يقتصر على البحث المضني والجهد الكبير في معرفة حلّها أو حرمتها.
اخترق ذلك كله الثنائيات السائدة عن الجواهر الثابتة للحداثة والتقليد والعقلانية أو التنويرية والظلامية والعروبة والإسلام ..الخ فالإسلامية التي تنتشر بيننا نحن المسلمين اليوم ظاهرة شديدة الحداثة لا تتصل بالإسلام الذي نعرفه إلا من حيث الرموز والشعائر بل إن الشعائر نفسها صارت رموزا فهي غربة وغرابة، لأنها نوع جديد من الإسلام ويمكن أن تكون نتيجة خوفها الصاعق من المتغيرات الضخمة التي أحدثها فينا الغرب.خوف دفع للهروب إلى الخطاب بشعارات أليفة تبقى فقط شعارات، ولا تدخل في السياق الحقيقي الذي ظهرت فيه تلك الحركات.كما لا يمكن أن تشكل أهدافا اجتماعية أو سياسية أو ثقافية ممكنة التحقيق.فشكلت مشروعا ضئيلا من وهج مشروع الأمة الحديث للاستقلال والكفاية والتقدم.وأنتجت الراديكالية من شتى الألوان.وشرذمت الساحة العربية وقسّمتها بحيث أصبح إسلامنا جزءا من هذه الشرذمة.
أنتح الخطاب الإسلامي القديم خطابه الجديد النقيض.فقد انصرف اليساريون والعلمانيون والقوميون والتقدميون لنقد الخطاب الإسلامي من منطلقات ليبرالية وأصبحوا هم المنتجون للحتميات الأولى,وممثلوها الحقيقيون ,وصاروا فجأة ديمقراطيين ومتنورين وعصريين .وعندما احتد الصراع بين الأنظمة, والإسلاميين انحاز الجميع الى العصرية التقدمية مع الأخذ على الخارجين على قوانين الغرب وظله.فإذا كانت الثنائية السابقة هي التقليد والحداثة والإسلام والعروبة فان الثنائية الحالية هي الإسلام والعصر .
أفضى التحليل الجديد إلى فكرة أن التخلف الذاتي يعود إلى محاكاة الماضي والعيش على أمجاده وليس لظروف تاريخية معينة.فظهرت ثنائية التخلف الذاتي في مواجهة الأفكار المستورد وطريقة علاجها.لذا تسود خطاباتنا اليوم انقسامات لا تزال تغص بالمتناقضات.
والواضح أن الاتجاهات الفكرية الموجودة ليس بيدها مفتاح الموقف ولا هي مسببه وسط هذا الموقف المتأزم على مستوى الخطابات والوجود التاريخي للأمة فلا بد من الدعوة إلى التغيير ولكن علينا تحديد الأفق الذي يمكن التطلع نحوه.
إن دراسة المسيري للظاهرة الصهيونية أجبرت رموز الظاهرة الإسلامية على مراجعة خطابها والمسلمات التي كانت قائمة في خلفيتها الذهنية وأصبحت رؤية المسيري للظاهرة الصهيونية هي التي تشكل أهم ملامح الخطاب الإسلامي الجديد باعتباره عالما قضى أكثر من ربع قرن يفكك رموز الأخر ويسلط الضوء عليه حتى صدم وعينا وسهّل علينا ما كان مستحيلا.
إن الشعور بالدونية فرض نفسه نتيجة الوضع الانهزامي الذي يخيم على المجتمع, بسبب فقدان الثقة بالنفس وبالقدرة على التجديد والمحافظة على الدين الإسلامي.فالمجتمع فاقد حيويته في مجالات النشاط الإنساني من السياسة إلى الاقتصاد إلى الجهاد وغيره فمن الطبيعي أن يفقد حيويته في المجال الفكري .فالجهل بالدين والانهزام، النفسي والخوف من الأخر،والمنافع والمصالح الزائلة كلها مفردات تعيشنا ونعيشها وغريبها أنها تحوي داخلها قدرا من القداسة أو الحرمة بحيث فقدنا وعينا ونسينا بأن الإيمان المطلق بالله المتجاوز للمادة هو الغاية لوجودنا في هذه البسيطة.ورحم الله ابن خلدون حين قال"'والمغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره، وزيه، وبخلقه، وسائر أحواله وعوائده" لذلك لم يكن صحيحا أن الكيانات السياسية العربية التي نشأت في أعقاب انكفاء المشروع الاستعماري وجلاء قواته العسكرية، تستمد شرعيتها من رحم اجتماعي داخلي فالجراحة الاستعمارية وقعت على كيانات كان بعضها موجودا وكان نسيجه الاجتماعي متماسكاً، فأنتجت دولاً داخل الشعب الواحد موزّعة إياه عليها.وما زال الطبيب الغربي يجري جراحته في قلب الخطاب والمشروع العربي الإسلامي حتى الحاضر.
إن مهمة الإسلام كما هي من عند الله، وتتمثل في إنقاذ الإنسان فكريا وأخلاقيا وحمايته من الوقوع في الخطأ وهذا ما تجلى في كتابات المسيري الذي يمثل صوت العقل وينشد الحقيقة حتى وهو يحتج على المذاهب القائمة ويتحداها.فالأدوار بين الغرب والإسلام مختلفة تماما لذا ركز المسيري على أن الغرب "تراجعت فيه العقيدة الدينية وانحسر الإيمان بالمطلقات المعرفية والأخلاقية وبدأت محاولات لتأسيس علم أخلاق يستند إلى القوانين العلمية والحسابات الرياضية الدقيقة بحيث أصبحت الأخلاق هي المنفعة واللذة وأصبح الهدف من الحياة هو البحث عنهما وتعظيم الإنتاج والدخل وهي أهداف تتسم بأنها كمية يمكن قياسها ولا علاقة لها بغيب أو أسرار".
لقد اعتبر بعض الباحثين والفقهاء أن الإشارة الواردة في الحديث عن زمن التجديد على رأس كل مائة سنة إنما هي دلالة على حقيقة استمراريته ، وتقارب زمانه بحيث يصبح عملية تواصل وتوريث.
القداسة في خدمة الحداثة
وبناءً على ذلك فإن عملية التجديد تعتبر ضرورة لإعادة ضبط العلاقة بين الوحي والعقل حتى لا تضطرب الأمور فيصير التجديد نابعًا من الخارج "التقليد الغربي" أو مرتدًا نحو الماضي لمحاولة إعادته "تقديس التراث"، فالعقل هدفه رفعة الإنسان وأساس تحمله للأمانة وقاعدة التكليف والالتزام بقواعد الاستخلاف.
لذلك ظل كبار مفكري الأئمة ينظروا للخلاف كمصدر غنى للثقافة الإسلامية وزخم للحضارة المرتبطة بعمق التجربة التاريخية واتساع الانتشار الجغرافي.
يقول المسيري "إن محاولة اللحاق بالغرب أصبحت هي جوهر معظم المشروعات النهضوية في العالم بما في ذلك العالم الإسلامي" وتتجلى هذه الحقيقة في تلك المشروعات في الفكر العلماني الليبرالي الذي حدد النهضة –ابتداء-بأنها نقل الفكر الغربي والنظريات الغربية بأمانة شديدة ،وإذا ما نبغ عالم عربي في أي مجال ما فلن يكون له الحضور إلا بعد أن يختم على أعماله بأنها تقليد لآخر غربي. وقد أصبح العالم يضفي على النتاج الغربي الصيغة الإلهية ولمسة القداسة السماوية بحجة أنها طريق النجاة من جحيم التقليد والمحافظة...الخ وهكذا تحولت بعض الفتاوى العصرية إلى أداة لهدم الشريعة نفسها. والحق أنها لا تعني إلا بالالتحاق بالأنموذج الغربي والانسحاق داخله فأصبح التجديد والاجتهاد يميل إلى الأخذ بالملائمة ولٌى عنق النصوص الشرعية الإسلامية حتى تتمشى وتقترب أو تطابق القوانين والمفاهيم الغربية.
فنشر الديمقراطية الغربية لا بد أن يقترن بالاحتلال واحترام حقوق الإنسان لا تأتي إلا بمناهج مدرسية جديدة تخلو حتى من البسملة،والحراك الاجتماعي السليم تنتجه الفتنه وبذور الشقاق والانضمام إلى الصفوة ينشأ منذ الولادة في المدارس الغربية.
إن إقرارنا وقبولنا بالخضوع للهيمنة الغربية قد حصل فعلا.فإذا كانت الهزيمة العسكرية هي حصيلة موازين قوى,فهي أمر موضوعي أو حتمي في ظروف معينة,لكن الهزيمة الثقافية ليست حتمية إلا عندما يقر الطرف الأضعف بها ويقبلها كما جاء عند "مالك بن نبي" في فكرته "قابلية الاستعمار" والمقصود هنا هو القبول والتبعية واليأس من المقاومة .فعندما حصل المسلمون على استقلالهم,كان استقلالا ناقصا قاصرا إذ أن الاستقلال الحقيقي أن يتحرروا من التبعية للغرب سواء التشريعية أو الثقافية أو الاجتماعية إلى جوار التحرر من الاستعمار العسكري والسياسي.
يلاحظ الدكتور المسيري من زاوية فلسفية سياسية إن المدافعين عن العلمانية العقائدية من المسلمين يسعون إلى تحقيق مشروع ذي طابع سياسي لن تكون عواقبه حميدة وحتى إذا نادوا بشكل من أشكال الحداثة يوازي العلمانية الجزئية(خاصة وانه ميز بين العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية) فإنهم لا يدركون القوة التفويضية للوعي الحلولي والواحدي ناهيك عن افتراض تصديهم لهذا الوعي وإذا جاز التسامح مع السياسة العلمانية لكونها شيئا يصعب تجنبه فان علمنة الثقافة والمجتمع والحياة الداخلية لأفراد المجتمع يعد بمثابة كارثة لا يمكن التسامح معها.
انظر للغرب دون قلق
فجاءت إضافة المسيري في تطوير الخطاب الديني لتسد تلك الثغرة المعرفية والفلسفية فاستطاع أن يحدد بأن عملية تحول الغرب من مركز مطلق إلى كونه احد التشكيلات الحضارية تجعل من الممكن بالنسبة لنا أن ننظر إليه دون قلق.
إن ما يقدمه المسيري ليس نقدا سطحيا من موقع خارج منظومة الفكر الغربي بل هو تحليل متعمق في قلب الظاهرة، فالتقدم والتغيير لا يكون باللحاق بالغرب فهذه التبعية هي نفسها مصدر قتل الإبداع، لأنه إذا كان المطلوب اللحاق بالغرب فمعنى ذلك أنك لا تبدع وإنما تقلد.وهذا ما دعاه إلى تسمية جيل النهضة بأنه كان جيلا مقلدا، حيث تحول التأليف إلى ترجمة، وأصبح الذي يجيد لغة أجنبية مؤلفا بغض النظر عن مقدرته الإبداعية. فيركز على أن يفهم فقهاء الأمة طبيعة هذه الحداثة الغربية، ويدركوا أنها ليس فيها مطلق، أنها نسبية، وأنها في نهاية الأمر تفتت الإنسان وتحوله إلى مادة استعمالية.
فالحاجة عند المسيري تحتاج إلى رؤية تولد من رحم الإسلام خطابًا حديثًا يتناسب مع الوضع الراهن ومقتضيات العصر، وهي ليست مسألة معقدة، ولكن الحركة العلمانية دائمًا تحاول إنكار التطورات التي حدثت للخطاب الإسلامي، فإذا تطور الخطاب الديني يجب الاعتراف بذلك والتعاون معه، لأن الهدف هو مصلحة هذا الوطن وهذه الأمة، فمن يحمل لواء المقاومة والثورة الآن هم الإسلاميون، في فلسطين والعراق ومصر وفي كل العالم العربي والإسلامي، ولكن ذلك يعني أيضًا أن قسمًا كبيرًا من الأرض التي كانت تحتلها التيارات العلمانية والماركسية أصبحت الآن تحت سيطرة الإسلاميين وهو ما يغضب هذه التيارات،لذا يوجه المسيري دعوة للعلمانيين والماركسيين التحلي بالموضوعية وأن يعترفوا بالتطور الذي حدث.
كما يركز المسيري على أن المعرفة أساس للتجديد فسبب الفشل العربي في مواجهة المشروع الصهيوني حتى الآن هو قلة معرفتنا بعدونا فالمعرفة شرط لمن أراد الدخول إلى المعركة.وبالنهاية يدعو المسيري إلى إقامة نسق فكري عربي إسلامي يقوم على الثنائية والتجاوز والإنسان الروحاني الديني الرباني مقابل الإرث الغربي المادي الطبيعي الجسدي.فهو المفكر الجريء بانتقاد حركة الاستنارة العقلية المادية المتطرفة وما قادت إليه الغرب، والعالم وراءه، من ضياع وصراعات وانتكاس في الغايات والممارسات، وانسداد في أفق المعرفة والمصير الإنساني إلى درجة القول بأن منطق الاستنارة المضيئة والتنوير المشرق يقود الإنسانية بالضرورة إلى الاستنارة المظلمة والتنوير ألظلامي وهذا ما يتضح في كتاب المسيري العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة.
* د. صالح الشورة : باحث أردني في التاريخ
* ورقة علمية قدمت لندوة المسيرى: الرؤية والمنهج عقدت في القاهرة 14 – 16 فبراير 2007.. بتصرف يسير.
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |