و يعطي لجسد حضارتنا إكسير البعث ... بدلاً من ضخ الدم في جسد ميت
في عالم تتشابك فيه الفواصل وتتقارب فيه المعارف، لا بد للقارئ من وعي جيد بالنص، وهذا الوعي يتوفر من مادة المعرفة، وإلا لن تثمر ثمرة النصوص إلاّ الجهل وغيبة المعرفة.
قارئ جاهل، وكاتب أجهل منه، يصارعان السطور بمفردة فلسفية كــــ ( الإشراق ) وكلاهما لعظم جهلهما لا يعرفان عمق معناها، سطحوها بمجرد دلالة نورها بين السطور.
والعاتق والمسئولية يتحمل وزرهما الأكبر فلاسفة عصرنا وباحثينا ـ الذين أغرقوا أنفسهم في فلسفة اليونان والإغريق، متناسين الصوغ الجديد للفلسفة، ألا وهي الفلسفة الإسلامية التي بأعلام كابن رشد والغزالي وابن سينا والسهروردي ناطحت ثريا حضارات الغرب، ونهضت بإشراق نور الله على بيتنا المشرق.
والوعي بالمصطلح الفلسفي بالغ الأهمية في مسار أدبياتنا اليوم، فالنصوص التراثية؛ بل حتى نصوص الحداثة كالرواية البديعة ( عزازيل ) للعبقري المصري ( يوسف زيدان ) تحتاج إلى تفريغ فلسفي؛ طالما نحن نفتقر إلى مادة وآلة هذا التحليل الفلسفى لغياب فلاسفتنا وباحثينا.
والناقد المراقب لأدبيات العصر لديه حالة إقرار بضرورة وعي قارئ اليوم بالفلسفة وإشكاليتها، وإلا سيصاب القارئ بمصيبة الحمار صاحب الأسفار، أو تعتقله أفكار وحدود قوم لا يرحمون سعة الفكر.
وسعادتنا اليوم بباحث، يمسح لنا غبار الصدأ عن مصباح الإشراق الفلسفي، وهو راقينا وأستاذنا الشاعر والباحث في الفلسفة والعرفان ( محمد حسين بزي )، الذي لم تعرف عنه مسيرة الحضارة الإسلامية إلا كل مفهوم للتقدمية والإعلاء بمجد أمتنا.
وأقدم له خالص التهاني والتبريكات على فضل الله عليه، بصدور رائعته الجديدة: كتاب (( فلسفة الوجود عند السهروردي )).
وأحب أن يشاركني القارئ؛ في التعرّف والإسعاد بإدراك قيمة هذا العمل العلمي، وأحاول أن أقدم له معرفة توضيحية بسيطة بالكتاب ومكوناته؛ تُقرّب له إدراك ووعي مادته.
فالكتاب يترفع عن كونه كتاب ترويجي أو تسويقي كما نشاهد في زخم وعبثية المشهد الثقافي.
إنما يعد عملاً تفخر به المكتبات الأكاديمية، لأنه نتاج رسالة ماجستير في الفلسفة والإلهيات؛ ولكونه يحمل دلالة العلمية والتحقيق نال عليها الكاتب درجة تقدير عام الإمتياز، مع توصيّة بالنشر لأهمية العمل البحثي وعلميته.
عنوان الكتاب وهدفيته:
فلسفة الوجود عند السُّهرَوردي
( مقاربة في حكمة الإشراق )
المؤلف: محمد حسين بزي
تقديم: أ. د. حسن حنفي
صدر عن دار الأمير في بيروت
في 232 صفحة من القطع الكبير
الكتاب في الأصل رسالة ماجستير في الفلسفة والإلهيات، ونال عليها الطالب تقدير عام ممتاز مع توصيّة بالنشر. وأشرف عليها الأستاذ الدكتور خنجر حميّة وناقشها كل من معالي الوزير الأستاذ الدكتور طراد حمادة والأستاذ الدكتور حبيب فيّاض بتاريخ 24/7/2008م.
والكتاب تقدمته ديباجة لعالميّن كبيرين من أشهر من يمنحون الجسد الحضاري الإسلامي بعثاً حتى اليوم، وهما الفيلسوف المصري الشهير الأستاذ الدكتور حسن حنفي، ومفجر خبايا العرفان الإسلامي الأستاذ الدكتور خنجر حميّة؛ وكفى باسمهما خيوط ذهب في ديباجة الكتاب .
صورة الغلاف:
محتواه وتكوينه:
يحتل الكتاب مساحة: 232 صفحة من القطع الكبير؛ في مقدمة وخمس فصول، يتصدرهما تعريف بالمؤلف، ومقدمتان، وينتهي الكتاب بخاتمة، وقائمة من المصادر والمراجع، وقائمة من الفهارس للموضوعات والأماكن..، وكأن الكتاب حافظ على عملية التوثيق والتحقيق.
ترتيب الكتاب:
الإهداء
المؤلف في سطور
مقدمة الأستاذ الدكتور حسن حنفي
مقدمة الأستاذ الدكتور خنجر حمية
المقدمة
الفصل الأول:
حياة السّهروردي ورؤيته الفلسفية في سياق عصره
1- عصر التناقضات
2- معالم حياته في عصر مضطرب
3- إنتاجه الفلسفي
الفصل الثاني:
الجذور الفلسفية لنظرية الوجود عند السّهروردي
1- الجذر الهرمسي
2- الجذر الفارسي
3- الجذر اليوناني
الأفلاطونية الحديثة
4- الجذر الإسلامي
الفصل الثالث:
علم النور وحقيقته
1- مفهوم الإشراق
2- ماهية النور
3- الأنوار وجدلية العشق والقهر والمعرفة والأخلاق
الفصل الرابع:
الفيض والمنظومة الأنطولوجية
1- الفيض عن الواحد
2- البنية الأنطولوجية للعوالم
3- أزلية العالم
4- الواجب والممكن والوجود والماهية
5- عالم البرازخ
الفصل الخامس:
تأثير السّهروردي
الخاتمة
المراجع والمصادر
فهرس الآيات القرآنية
فهرس الأحاديث النبوية
فهرس الأعلام
فهرس الأماكن
فهرس الفرق والجماعات
فهرس القوافي الشعرية
فهرس المصطلحات
فهرس الموضوعات
من مقدمة المؤلف:
إذا كان السُّهروردي يستمد أهميته في الماضي من كونه أباً لحكمة الإشراق، فإنه يستمد أهميته في مطلع القرن الحادي والعشرين من كونه صاحب فلسفة في الدين تتميز بالتفرّد والأصالة، لاسيما في موقفها من الوجود؛ فنظريته في الوجود رغم أن لها جذوراً فلسفية في الماضي، لكنها استطاعت أن تضع نفسها بقوة بين نظريات الوجود الأخرى؛ بل وضعت نفسها في القمة؛ لأن صاحبها أتى بأفكار فريدة جعلته محط أنظار الباحثين.
فنظريته في الوجود هي التي خلقت له هذه الأهمية الشديدة مع مطلع هذا القرن، وهذا ما يتضح لنا مبدئياً من خلال الدراسات المتنوعة التي صدرت في السنوات الأخيرة عن فلسفة الدين. فبحث بسيط على شبكة المعلومات الدولية يكشف عن صدور العديد من الدراسات عنه.
وفي الوقت الذي أصّل فيه المفاهيم الإشراقية في الفلسفة الإسلامية، واعتبر رأس الإشراق فيها، فإنه أصّل أيضاً المفاهيم الدينية لفلسفة الدين المؤسَّسة على التراث الذي يجمع بين البرهان والعرفان. ورغم مرور عدة قرون على وفاته إلا أن مريديه والمنقبين عن كنوز فلسفة الدين عنده يتزايدون بصورة متضاعفة.
ونظراً لأن السُّهروردي كان سابقاً لعصره، فقد وجد فيه المشتغلون بفلسفة الدين المعاصرة وسيلة لمواجهة أزمة الإيمان التي يواجهها الإنسان المعاصر؛ بسبب طموحاته الشبيهة بطموحات المهمومين بفلسفة الدين الآن، وعاش وسط متناقضات يعيشها جيلنا الحاضر. كما يرى الكثيرون أن مقولات السُّهروردي تحمل صراحة مفرطة ومرآة ذاتية تفتقر إليها كثير من الدراسات الدينية السابقة والحالية على السواء، إلى حد يجعلها تنفتح على عقل القارئ في محاولة جادة لبحث أسئلة دينية مؤرقة للإنسان المعاصر، أو للنبش في أصول وثوابت جمدت بدرجة جعلت التصويب مستحيلاً، مما ينتج عنه إثارة مشكلات يجب العمل على مواجهتها قدر المستطاع. لذلك وجدنا أنه من الأجدى أن نعمل على دراسة هذه الشخصية الثرية الجوانب، خاصة في أبرز جانب من جوانب إبداعها، أعني نظرية الوجود والمشكلة "الأنطولوجية"؛ فنظريته في الوجود تطرح مجموعة من الإشكاليات الحقيقية، التي يطمع هذا البحث إلى طرحها على طاولة الدراسة التحليلية؛ لمعرفة الأساس الذي قامت عليه فلسفة السُّهروردي سواء في الوجود أو المعرفة، وأيضاً الأساس الذي قامت عليه فلسفته في الأخلاق، فالثالوث الفلسفي: الوجود والمعرفة والأخلاق؛ متلاحم في المنظومة الأنطولوجية عند السُّهروردي.
ولا شك في أن نظرية الوجود عند السُّهروردي يكتنفها بعض الغموض حتى الآن، لعدم تناولها بشكل مستقل في الدراسات العربية السابقة، وإن تطرقت للوجود عنده فإنها كانت تقف على الحدود ولا تتعداها.
لذا وجدنا أن دراسة مشكلة الوجود عنده مهمة للكشف عن ثراء وعمق الجانب الديني الفلسفي لديه، لاسيما مع محاولاته الدؤوبة لتصحيح الإيمان بالحفر في الأسس والأصول التي رأى أن كثيراً من المفاهيم الهامة قد أخفيت بفعل الفقهاء والمتكلمين.
وإذا أردنا البحث في فلسفة الدين المعاصرة وربطها بالجذور الدينية القديمة، لن نجد أفضل من السُّهروردي لهذه المهمة. واعتقد أننا بحاجة ماسة لذلك خاصة الآن لمواجهة كثير من الأمور المعقدة التي تحتاج إلى حل أو رد أو توضيح.
ويشتمل هذا البحث على مجموعة من الإشكاليات، لعل أهمها:
ما سر الاهتمام المعاصر مع مطلع القرن الواحد والعشرين بفلسفة الإشراق عند السُّهروردي؟ وكيف يمكن أن تلتقي حكمة الإشراق والدين على خط واحد؟ وإذا كان السُّهروردي هو رأس الإشراق؛ فهل ثمة مفارقة في عدم إنكار البرهان والحكمة المشّائية؟ كيف يمكن أن يكون فيلسوف واحد منبعاً مشتركاً لكل من البرهان والعرفان في آن واحد؟ هل كانت رؤيته للوجود عقلانية أم عرفانية أم تجمع بين الاثنين؟ وهل أثّر ذلك في مفهوم الألوهية عنده؟ وهل نجح في تجاوز الصراع التقليدي بين البرهان والعرفان؟
ثم هل كان للظروف التاريخية تأثير على الاتجاه الفكري والديني للسهروردي؟ وما طبيعة التجديد الذي قام به للتيار الإشراقي؟ وهل سعى إلى أن يكون هرمس الجديد لإعادة تأسيس العرفان؟ وأخيراً كيف أتى حلُّ مشكلة المعرفة عند السُّهروردي من خلال النظرية الأنطولوجية ذاتها؟
من مقدمة الأستاذ الدكتور حسن حنفي
رسالة صغيرة الحجم، عظيمة القدر، دقيقة ومحددة، واضحة ومركزة، تخلو من الحشو والإطناب الذي تتسم به الرسائل الجامعية. تجمع بين الماضي والحاضر. وتقرأ القديم بالهم الجديد.. وعلى هذا النحو يمكن تجديد الدراسات الإسلامية بدلاً من رؤيتها كتاريخ ماض وترك الحاضر الذي ما زال امتداداً لها على نحو لا شعوري في رؤى العالم أو في سلوك الناس.. وتخلو من الأحكام الذائعة والنبرة العالية. كما تنأى عن أخذ المواقف بالدفاع أو الهجوم، بالتبرئة أو الإدانة ولو أنّ القارئ يستطيع أن يستشف ذلك من بين السطور.
ليست الغاية من هذه المقدمة الصغيرة المدح والإطراء. فصاحب الرسالة غنيّ عن ذلك، ( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ )، ( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ )، ولكن الغاية السعي نحو الكمال..
حسن حنفي
مقدمة الأستاذ الدكتور خنجر حميّة ( أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية )
يعود الفيلسوف الإشراقي شهاب الدين السُّهرَوردي من جديد إلى واجهة الاهتمام، وتثير مؤلفاته، التي نشر بعضها وأذيع بفضل جهود كوربان وحسين نصر خاصة، نقاشاً مستأنفاً حول المكانة الفلسفية التي يتمتع بها، والجهد الميتافيزيقي الذي قدمه، والآفاق التي منحها تبصّره في السياق الفكري لعالم الإسلامي. ومن غير العلمي والموضوعي أن تقوَّم شخصية تمَّ إغفال جهودها قروناً، وحيِّد تراثها عن دائرة التأريخ لحركة الفكر والثقافة، وانتقص من القيمة الفعلية للمشروع الفلسفي الذي قيض لها أن تشيّد أركانه في ظروف جد معقدة سياسياً واجتماعياً وفكرياً، وفي سياق عوامل متناقضة إلى أقصى الحدود، بتسرع وعلى عجل، إذا ما أريد لها أن تساهم من جديد في إعادة تشكيل نظامنا الفلسفي، وقناعاتنا الفكرية، ورؤيتنا للوجود والعالم، ووعينا لغيرنا ولأنفسنا، وإذا ما أريد لنا أن نؤسس لإعادة استثمار موروثنا في الراهن في حدود ما يستبطنه من عبقرية فذة وإبداع، أو خلاقية وابتكار، أو تحرر ونزوع نقدي.
ولأجل ذلك فإن ما يعيب أولئك الذين حملوا على عاتقه إعادة قراءة نتاجه حديثاً أنهم كانوا مأخوذين بتلك الصورة النمطية للسُّهرَوردي، والتي ركبها في الأعم خصوم، كان يُحركهم هاجس إعادة تكوين العقيدة الإسلامية في إطار شرط العروبة، أو الانتماء القومي، أو النزوع السلفي الطامح إلى حماية الذات والحفاظ على الهوية نقية من أن يداخلها ابتداع يجلبه العقل المتفلسف، أو الروحانية المتحررة، أو الأسطورة المستعادة تحت عنوان التقاليد المعرفية. ولم يكد ينجو من هذه الزلة إلا القليلون الذين لم يخدعوا ببساطة بالدعاية التي رُوِّج لها باسم مشروعية دينية مدعاة فترة طويلة من الزمن كحقيقة لا يجادل فيها ولا تناقش.
إنّ استعادة متروِّية وهادئة لشخصية من هذا الطراز ضرورية، للكشف عن العوامل الموضوعية التي حركت باتجاه انبثاق مذهب فلسفي يمجد الروحانية على حساب العقل، ويدفع بالحقيقة الدينية بعيداً خلف حدود الظواهر، كسرِّ تتوالد معانيه ودلالاته إلى غير نهاية بفعل التبصر المستديم والتأمل الداخلي، الذي يولد طبقات من المغازي والآفاق لا تتناهى ولا تحد.
لقد ترسّخ الجهد الفلسفي في الإسلام على قاعدة تمجيد العقل وإجلاله، ذاك شيء فرضته الهالة التي أسبغت على العقلانية اليونانية ممثلة في ذروة ما بلغته عند أرسطو وتراثه. ولقد رُفع العقل في سياق هذا الجهد من مجرد كونه آلة لاختبار العالم أو فقل: لاكتشاف علاقات العالم ونظام أشيائه، إلى واقعة وجودية - كينونة – ثم رفع إلى حدود الفاعلية والإرادة التامتين حينما وضع في رأس علل الكون والانبثاق والوجود، لا يقترب منه عدم، ولا يدانيه فساد أو اضطراب أو اختلال... بات العقل إذاً ها هنا واقعية فريدة لا تضاهى ولا تماثل... وهذا ما يفسر لنا التمجيد المفرط لمكانة هذا الموجود الذي يمنح ليس فقط المعرفة الكاملة التي لا يشوبها فساد أو خطأ، بل كذلك الموجودية والكون. فبات هو الحقيقة، ومصدرها في آن، أعني بات هو الحقيقة والمعرفة، أو الواقعية التامة والانكشاف التام. مثل هذا التمجيد للعقل ولّد في سياق التفكير الفلسفي الإسلامي طوباوية، أو أيديولوجيا للعقل وللمعرفة العقلية، واختصرت طريق الحقيقة بممارسة فعل التعقل، ذاك الذي كان يعني أن الإنسان قادرٌ على أن يبلغ الحقيقة بفعل اتصال فريد بين فاعلية إدراكه أو تعقله وبين هذا العقل الكائن المجرد التام الموجودية، فاختصرت بذلك الحقيقة أو قلصت إلى مجرد مفاهيم وتصورات وأفكار ورؤى، تدرك ولا تعاش، تفهم ولا تترك في الذات المدركة أي أثر على الإطلاق، أعني أن الحقيقة باتت شيئاً يتصور لا شيئاً يكابد، وشيئاً يفهم لا شيئاً يختبر أو يعاين.
هذا من جانب، ومن جانب آخر كان الفكر الديني يبالغ في الدعوة إلى افتراض اكتمال الحقيقة ونهائيتها، متجسدة في حدود لغة الوحي، لا تكاد تجاوزها أو تعدوها، ولقد آمن أولئك الذين رفعوا لواء هذا التيار في التراث الإسلامي منذ بدايات تشكّل أنساقه المعرفية، بأن اللغة الدينية تقودنا، إذا ما التزمنا بشروط فهمها، إلى الحقيقة كاملة غير منقوصة، واضحة لا لبس فيها ولا غموض. ومثل هذا التفكير في حدود الدين قاد في العموم إلى الجمود والتحجر، وإلى التقوقع والانعزال، أو إلى نرجسية مقيتة ومدعية. إذ ما الذي يرجوه القارئ للغة الوحي بعدُ أو يطمح إليه أو يبغيه إذا كان على قناعة راسخة بأن لا شيء ثمة يُطمح إليه أو يُرغب فيه أو يقصد نيله إلا وهو حاضر في صورة كماله وتمامه في حدود ما يملكه من نصوص. وإذا كانت المكابدة سوف لن تقوده إلى شيء؟ وأي شعور سوف يتملكه إذا كان على قناعة كذلك بأن ما بلغه إنما هو تمام الحقيقة التي لا تتجزأ، ولا تتباعد أبعاضها، أو تتفرق عناصرها؟ أليس هو شعور الزهو والخيلاء، وشعور الركون إلى طمأنينة موهومة، ودعة مدمرة، وكسل مميت، لا يحركه طموح البحث عن شيء، ولا رغبة اكتناه شيء ولا تتطلب الوصول إلى شيء؟
ذاك هو المناخ العام الذي انبثقت في ضوئه فلسفة السُّهرَوردي وحكمته، لقد هاله تنصيب العقل صنماً جديداً، وهاله كذلك اختصار الحقيقة في حدود مفاهيم ضيقة وتصورات خاوية خالية من الروح والحياة، وحرك حفيظته حصر المعرفة في حدود الفهم، وافتراض نهائية الحقيقية الوجودية واكتمالها ثاوية في حدود اللغة. فاندفع متبصراً الوجود في انفتاحها المطلق على اللانهاية، تلك التي تتبدى في أشكال من المظاهر والتجليات التي لا تكاد تستنفد أو تستغرق... معتبراً أن الحقيقة شيء يكابد ويعاين، وأن تجلياتها يتم خلقها على الدوام في نفس من يشاهدها في صور لا تكاد تستقر على حال، وأن المعرفة هي فعل كينونة ووجود، لا فعل فهم وتفكر، وأنها مكابدة دائبة تطمح إلى المطلق من غير أن تلامسه ...، وتعاينه من غير أن تختلط به أو يختلط بها.
وبغض النظر عن طبيعة الروافد التي استمد منها السُّهرَوردي مادة فلسفته، أو أقام عليها بناء حكمته، فإن ما قدّمه في صياغته لجماع مشروعه ينمّ عن عبقرية فريدة، وعن جهد خلاق مبتكر، يتبديان في تماسك نظري ومنهجي محكم، وفي خيال متوهج ورؤيوية فريدة وذكاء متوقد، وفي نزوع نقدي وجهه في العموم طموح اكتناه الحقيقة، لا الانتصار لمذهب راسخ أو فكرة مسلمة أو معتقد مفترض. ورغم الجهود المبذولة في سياق البحث عن عناصر فلسفته ومكوناتها، والأعمال التي قدمت في إطار تحليل حكمته وشرحها وتقويمها، فإن تراث السُّهرَوردي ما زال بحاجة إلى الكثير من الجهد، وإلى عناية خاصة لما تتوفر بعض عناصر تحققها، ليتأتى لنا بعد ذلك الحكم بشكل موضوعي على القيمة الفعلية لتراث هذا الحكيم الإشراقي الفذ ونتاجه، وعلى المكانة التي يحتلها في حركة الفكر الفلسفي في الإسلام.
في عمل الأستاذ الصديق محمد حسين بزي انشغال جديد مختلف يطمح إلى رؤية السُّهرَوردي من زوايا أظن أنها ما زالت غائمة أو محتجبة، وإلى معاينة جهده الفلسفي في حدود مآلاته التي يشف عنها، ونهاياته التي يقود إليها، والآفاق القصية التي يفتحها العالم أمام الفكر، ويلقي بها أمام الوعي. وهو جهد يبشر بنمط جديد من التفكير في تراثنا الفلسفي، غني، خصب ومبدع، لما تتبدى ثماره أمام أعيننا بعدُ.
د. خنجر حميّة
وبعد ما تقدم، أرى وجوب الاستفادة من استعادة جميمع فلاسفتنا الإلهيين، سيما شيخ الإشراق ، لما تحمله فلسفته من نزعة هيرمنطيقية لم تسبر أغوارها بالشكل الكافي بعد.
إن الحكيم المتأله شهاب الدين السهروردي والذي عاش 38 عاماً فقط، وأنتج من أنتج من تآليف وتصانيف وبالأخص درته النادرة " كتاب حكمة الإشراق " لهو شخصية جديرة بالدراسة في البيئة العلمية العربية تحديداً، ولا يجب الاكتفاء بدراسات المستشرقين حوله كدراسة ماسينيون على سبيل المثال لا الحصر. وهذا ما قام به محمد حسين بزي أيضاً من خلال تسجيله رسالته للدكتوراه بموضوع جريء ونبيه وغني، ألا وهو: " النبوة والمعاد في فلسفة شيخ الإشراق "، ولكن يبقى أن هناك آمالاً معلقة على المهتمين بالفلسفة الإسلامية أن يثروا البحث حول شيخ الإشراق أكثر، وذلك في الإطار العام لفلسفة الدين المعاصرة.
إنّ محمد حسين بزي قد استعاد إلى حد ما شيخ الإشراق بمصنفه " فلسفة الوجود عند السهروردي "، ولكن الأكيد أنه قد فتح تلك الكوة التي سيعبر منها الكثير الكثير من الإشراقيين الجدد.
* بنده يوسف / ناقد وأديب مصري يكتب باللغات الثلاث ( العربية - التركية - الفارسية )
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |