العلم الإلهي عند ابن سينا *
بقلم: د. عبد الرحمن بدوي
يقول ابن سينا: " الفلسفة الأولى موضوعها الموجود بما هو موجود، ومطلوبها: الأعراض الذاتية للموجود بما هو موجود ـ مثل الوحدة والكثرة والعّلية وغير ذلك ".
والموجود إما جوهر وهو الذي لا يحل في موضوع أي هو ما يقوم بذاته، وإما عرض، وهو الذي يحلّ في غيره ولا يقوم بذاته وحده. والأول مثل الإنسان، الفرس، الوردة، الخ. والأعراض مثل اللون، والحجم، والمكان، والزمان، الخ.
فالجواهر أربعة: " ماهية بلا مادة، ومادة بلا صورة، وصورة في مادة، ومركب من مادة وصورة ".
وأولى الأشياء بالوجود هي الجواهر، ويتلوها الأعراض. وأولى الجواهر بالوجود الجواهر التي ليست بأجسام.
وأول الموجودات في استحقاق الوجود الجوهر المفارق غير الجسماني، ويتلوه الصورة، ويتلوه الجسم، وتتلوه الهيولى المحضة، إذ هي محل لنيل الوجود وليست سبباً يعطي الوجود، ثم العرض.
والهيولى أو المادة لا تتجرد عن الصورة، بل توجد دائماً مقارنة للصورة. إذ " لا يجوز أن تفارق الصورة الجسمية وتكون موجودة بالفعل، لأنها إن فارقت الصورة الجسمية فلا يخلو: إما أن يكون لها وضع وحيز في الوجود الذي لها حينئذ، أو لا يكون. فإن كان لها وضع وحيز، وكان يمكن أن تنقسم، فهي لا محالة ذات مقدار، وقد فرضت لا مقدار لهاـ هذا خلف. وإن لم يمكن أن تنقسم ولها وضع، فهي لا محالة نقطة ويمكن أن ينتهي إليها خط، ولا يمكن أن تكون منفردة الذات منحازتها، لأن خطّاً إذا انتهى إليها، لاقاها بنقطة أخرى غيرها، ثم إن لاقاها خط آخر لاقاها بنقطة أخرى غيرها. ثم لا يخلو أما أن تتباين النقطتان عن جنبيها فتكون المتوسطة التي تلاقيها اثنتان لا تتلاقيان تنقسم بينهما وقد فرضت غير منقسمة، ـ وإما أن تكون النقطتان تتلاقيان، وبتلاقيهما تكون ذاتها سارية في ذات كل واحد منهما وذاتها منحازة عن الخطين فذاتاهما منحازتان منقطعتان عن الخطين، فللخطين نقطتان غير الأُوليين هما نهايتاهما، وفرضناهما نهايتيها ـ هذا خلف". ويستمر ابن سينا في هذه البرهنة المعقدة حتى يصل في النهاية إلى إثبات أن المادة لا تتعرى عن الصورة الجسمية، وفي هذا يسير وفقاً لرأي أرسطو في مقابل رأي أفلاطون. لكنه في هذا يناقض ما قاله في " عيون الحكمة " حين قال بوجود مادة بلا صورة.
2_ الموجود محسوس ومعقول
وينبه ابن سينا إلى ما قد يغلب على أوهام الناس (من) أن الموجود هو المحسوس، وأن ما لا يناله الحسّ بجوهره، ففرض وجوده محال، وأن ما لا يتخصص بمكان أو وضع بذاته كالجسم، أو بسبب ما هو فيه كأحوال الجسم، فلا حظّ له من الوجود".
ويرد ابن سينا على هذا الوهم الشائع ببيان أن الناس يتفقون على وجود المعنى الكلي، وهو المشترك بين الكثيرين مثل: "إنسان" ـ في وقوعه على زيد وعمرو بمعنى واحد موجود. وإذن فإن البحث في المحسوسات نفسها يفضي إلى الاعتراف بوجود غير محسوس هو المعاني الكلية التي تشترك فيها أنواع من المحسوسات.
3_ العلّية
والشيء ينال وجوده بعّلة. ومعلوليته إما باعتبار ماهيته وحقيقته، أو باعتبار وجوده: فالمثلث حقيقته متعلقة بالسطح والأضلاع، وهما علتاه المادية والصورية. "أما من حيث وجوده فقد يتعلق بعلة أخرى أيضاً غير هذه، ليست هي علة تقوّم مثلثيته وتكوّن جزءاً من حدها، وتلك هي العلة الفاعلية أو الغائية التي هي علة فاعلية لعلية العلة الفاعلية" والغائية لا تفيد وجود المعلول بالذات، بل تفيد فاعلية الفاعل. فهي إذن علة غائية بالنسبة إلى المعلول، وفاعلية بالنسبة إلى الفاعل.
"والفاعل الذي يفيد الشيء وجوداً بعد عدمه يكون لمفعوله أمران:ـ عدم قد سبق، ووجود في الحال. وليس للفاعل، في عدمه السابق،، تأثير، بل تأثيره في الوجود الذي للمفعول منه.
4_ إثبات علة أولى
وهذا البرهان إنما نجده في "الإشارات والتنبيهات". وقد أقامه على مبدأين:
الأول: أن العالم سلسلة مرتبة من علل ومعلولات.
والثاني: أن هذه السلسلة تنتهي بالضرورة إلى علة أولى لا علة لها.
وذلك لأن "كل جملة كل واحد منها معلول، فإنها تقتضي علة خارجية عن آحادها. وذلك لأنها إما أن لا تقتضي علة أصلاً، فتكون واجبة غير ممكنة ـ وكيف يتأتى هذا وإنما تجب بآحادها؟ وإما أن تقتضي علة هي الآحاد بأسرها، فتكون معلولة لذاتها، فإن تلك الجملة والكل شيء واحد. وأما الكل ـ بمعنى كل واحد ـ فليس تجب به الجملة ـ وإما أن تقتضي علة هي بعض الآحاد، وليس بعض الآحاد أول بذلك من بعض، إذا كان كل واحد منها معلولاً، لأن علته أولى بذلك ـ وإما أ تقتضي علة خارجة عن الآحاد كلها، وهو الباقي".
وإذن فكل سلسلة تنتهي إلى واجب الوجود بذاته.
"ولا يجوز أن يكون شيء واحد واجب الوجود بذاته وبغيره معاً. فإنه إن رفع غيره أو لم يعتبر وجوده لم يخل: إما أن يبقى وجوب وجوده على حاله فلا يكون وجوب وجوده بغيره، وإما أن لا يبقى وجود وجوده، فلا يكون وجود وجوده بذاته. وكل ما هو واجب الوجود بغيره فإنه ممكن الوجود بذاته.
5_ البرهان على واجب الوجود بواسطة فكرة الممكن والواجب
يقول ابن سينا:
" لا شك أن هنا وجوداً. وكل وجود: فإما واجب، وإما ممكن. فإن كان واجباً، فقد صحّ وجود الواجب ـ وهو المطلوب.
وإن كان ممكناً، فإنا نوضح أن الممكن ينتهي وجوده إلى واجب الوجود. وقبل ذلك فإننا نقدم مقدمات:
1_ فمن ذلك أنه لا يمكن أن يكون في زمان واحد لكل ممكن الذات علل ممكنة الذات بلا نهاية. وذلك لأن جميعها: إما أن يكون موجوداً معاً، وإما أن لا يكون موجوداً معاً. فإن لم يكن موجوداً معاً غير المتناهي في زمان واحد، ولكن واحد قبل الآخر، فلنؤخر الكلام في هذا ـ وإما أن يكون موجوداً معاً ولا واجب وجود فيه، فلا يخلو: إما أن تكون الجملة بما هي تلك الجملة ـ سواء كانت متناهية أو غير متناهية ـ واجبة الوجود بذاتها، أو ممكنة الوجود. فإن كانت واجبة الوجود بذاتها، وكل واحد منها ممكن، يكون الواجب الوجود متقوّماً بممكنات الوجود ـ هذا خلف. وإن كانت ممكنة الوجود بذاتها، فالجملة محتاجة في الوجود إلى مفيد الوجود: فإما أن يكون خارجاً منها، أو داخلاً فيها. فإن كان داخلاً فيها: فإما أن يكون واحد منها واجب الوجود، وكان كل واحد منها ممكن الوجود ـ هذا خلف. وإما أن يكون ممكن الوجود، فيكون هو علة لوجود الجملة، وعلة الجملة علة أولاً لوجود أجزائها ـ ومنها هو ـ فهو علة لوجود نفسه. وهذا ـ مع استحالته ـ إن صحّ فهو من وجه ما، نفس المطلوب. فإن كل شيء يكون كافياً في أن يوجد ذاته فهو واجب الوجود، وكان ليس واجب الوجود ـ هذا خلف.
فبقي أن يكون خارجاً عنها. ولا يمكن أن يكون علة ممكنة، فإنّا جمعنا كل علة ممكنة الوجود في هذه الجملة. فهي إذن خارجة عنها، وواجبة الوجود بذاتها.
فقد انتهت الممكنات إلى علة واجبة الوجود. فليس لكل ممكن علة ممكنة، بلا نهاية.
2_ ونقول أيضاً أنه لا يجوز أن يكون للعلل عدد متناه، وكل واحد منه ممكن الوجود في نفسه، ولكنه واجب بالآخر، إلى أن ينتهي إليه دوراً.
ولنقدم مقدمة أخرى فنقول: إن وضع عدد متناه من ممكنات الوجود بعضها لبعض علل في الدور ـ فهو أيضاً محال. وتبين (أي: هذه المسألة) بمثل بيان المسألة الأولى ويخصها: أن كل واحد منها يكون علة لوجود نفسه، ومعلولاً لوجود نفسه، ويكون حاصل الوجود عن شيء إنما يحصل بعد حصوله بالذات. وما توقف وجوده على وجود ما لا يوجد إلا بعد وجوده، البعدية الذاتية، فهو محال الوجود وليس حال المتضايفين هكذا: فإنهما معاً في الوجود، وليس يتوقف وجود أحدهما فيكون بعد وجود الآخر، بل توجدهما معاً: العلة الموجدة لهما والمعنى الموجب إياهما معاً. فإن كان لأحدهما تقدم، وللآخر تأخر ـ مثل الأب والابن، فتقدمه من جهة غير جهة الإضافة: فإن تقدمه من جهة وجود الذات. ويكونان معاً من جهة الإضافة، الواقعة بعد حصول الذات. ولو كان الابن يتوقف وجوده على وجود الأب، والأب يتوقف وجوده على وجود الابن، ثم كانا ليسا معاً بل أحدهما بالذات بعد، لكان لا يوجد ولا أحد منهما. وليس المحال هو أن يكون وجود ما يوجد مع الشيء شرطاً في وجوده، بل وجود ما يوجد عنه وبعده".
6_ البرهان على المحرك الأول
كذلك يورد ابن سينا (ص 240ـ243) البرهان على وجود محرك أول لا يتحرك، وهو البرهان الأرسطي الشهير.
7_ صفات واجب الوجود
"هو واجب الوجود من جميع جهاته. ولأنه لا ينقسم بوجه من الوجوه، فلا جزء له ولا جنس له. وإذ لا جنس له، فلا فصل له. ولأن ماهيته آنية ـ أعني الوجود، فلا ماهية يعرض لها الوجود. فلا جنس له إذ لا مقول عليه وعلى غيره في جواب ما هو شيء. وإذ لا جنس له ولا فصل، فلا حدّ له. وإذ لا موضوع له، فلا ضد له. وإذ لا نوع له، فلا ندّ له. وإذ هو واجب الوجود من جميع جهاته، فلا تغيّر له. وهو عالم، لا لأنه مجتمع الماهيات، بل لأنه مبدؤها، وعنه يفيض وجودها.
وهو معقول وجود الذات، فإنه مبدأ. وليس أنه معقول وجود الذات غير أن ذاته مجرّدة عن المواد ولواحقها التي لأجلها يكون الموجود حسّياً، لا عقلياً.
وهو قادر الذات، لهذا بعينه، لأنه مبدأ عالم بوجود الكل عنه. وتصوّر حقيقة الشيء ـ إذا لم يحتج في وجود تلك الحقيقة إلى شيء غير نفس التصوّر ـ يكون العلم نفسه قدرة. وأما إذا كان نفس التصوّر غير موجب، لم يكن العلم قدرة.
وهناك فلا كثرة، بل إنما توجد الأشياء عنه من جهة واحدة، فإذا كان كذلك، فكونه عالماً بنظام الكل الحسن المختار هو كونه قادراً بلا اثنينية ولا غيرته.
وإذ قيل: "واحد" يعني به: موجود لا نظير له، أو موجود لا جزء له. فهذه التسمية تقع عليه من حيث اعتبار السلب.
وإذا قيل: "حق" يعني أن وجوده لا يزول، وأن وجوده هو على ما يعتقد منه.
وإذا قيل: "حي" يعني أنه موجود لا يفسد، وهو مع ذلك على الإضافة التي للعالم العاقل.
وإذ قيل: "خير محض" يعني به أنه كامل الوجود بريء عن القوة والنقص. فإن شر كل شيء نقصه الخاص. ويقال له: خير، لأنه يؤتي كل شيء خيريته".
وواجب الوجود بذاته عقل وعاقل ومعقول: إنه يعقل ذاته، وهو إذن معقول لذاته، وعاقل لذاته. وكونه عاقلاً ومعقولاً لا يوجب أن يكون في ذاته اثنينية في الذات ولا في الاعتبار، إذ المقصود هو أن له ماهية مجردة هي ذاته. وإذن فكونه عاقلاً ومعقولاً لا يوجب فيه كثرة ألبتة.
وهو أيضاً بذاته معشوق وعاشق، ولذيذ وملتذ. إذ "لا يمكن أن يكون جمال أو بهاء فوق أن تكون الماهية عقلية محضة، خيرية محضة، بريئة عن كل واحد من أنحاء النقص، واحدة من كل جهة. والواجب الوجود له الجمال والبهاء المحض. وهو مبدأ كل الاعتدال، لأن كل إعتدال هو في كثرة تركيب أو مزاج، فيحدث وحدة في كثرته وجمال كل شيء وبهاؤه هو أن يكون على ما يجب له. فكيف جمال ما يكون على ما يجب في الوجود الواجب وكل جمال ملائم وخير مدرك فهو محبوب ومعشوق. وكلما كان الإدراك أشد اكتناها وأشد تحقيقاً، والمدرك أجمل وأشرف ذاتاً، فأحباب القوة المدركة إياه واعتزازها به أكثر. فالواجب الوجود ـ الذي في غاية الجمال والكمال والبهاء، والذي يعقل ذاته بتلك الغاية في البهاء والجمال وبتمام التعقل، ويتعقل العاقل والمعقول على أنهما واحد بالحقيقة ـ تكون ذاته لذاته أعظم عاشق ومعشوق، وأعظم لاذ وملتذ... وليس عندنا لهذه المعاني أسام غير هذه الأسامي، فمن استبشعها استعمل غيرها".
أما كيف يعقل واجب الوجود الأشياء، فإنه إذا عقل ذاته وعقل أنه مبدأ كل الوجود، عقل أوائل الموجودات عنه وما يتولد عنها، ولا شيء من الأشياء يوجد إلا وقد صار من جهة ما واجباً بسببه".
إنه يعلم الأسباب ومطابقتها، فيعلم بالضرورة ما تتأدى إليه، وما بينها من الأزمنة وما لها من العودات. ومعنى هذا أن الله إنما يعلم الكليات، وبعلمه إياها يكون مدركاً للأمور الجزئية من حيث هي كلية، أعني من حيث ما لها من صفات كلية.
8_ صدور الأشياء عن واجب الوجود
الله فاعل الكل بمعنى أنه الموجود الذي يفيض عنه كل وجود فيضاً تاماً مبايناً لذاته. وفيض الكل عنه ليس على سبيل قصد منه، كذلك ليس كون الكل عنه على سبيل الطبع، بأن لا يكون وجود الكل عنه بغير معرفة ولا رضا منه، إذ كيف يصح هذا عنه وهو عقل محض.
ولا يجوز أن تكون أول المبدعات عنه كثيرة: لا بالعدد، ولا بالانقسام إلى مادة وصورة. بل أن أول الموجودات عن العلة الأولى واحد بالعدد، وذاته وماهيته موجودة لا في مادة، أي أنه عقل محض لأنه صورة لا في مادة، وهو أول العقول المفارقة.
9_ العقول المفارقة
والمتحرك الأول واحد. لكن لكل كرة من كرات السماء محركاً قريباً يخصها ومعشوقاً يخصها.
وأول المفارقات الخاصة محرك الكرة الأولى، وهي كرة الثوابت.
العقول المفارقة إذن كثيرة العدد، لكنها ليست موجودة معاً عن الأول، بل يجب أن يكون أعلاها هو الموجود الأول عنه. ثم يتلوه عقل وعقل. ولأن تحت كل عقل فلكاً بمادته وصورته التي هي النفس، وعقلاً دونه، فتحت كل عقل ثلاثة أشياء في الوجود. فيجب أن يكون إمكان وجود هذه الثلاثة عن ذلك العقل الأول في الإبداع، لأجل التثليث المذكور فيه. والأفضل يتبع الأفضل من جهات كثيرة.
فيكون إذاً العقل الأول يلزم عنه بما يعقل الأول: وجود عقل تحته، وبما يعقل ذاته: وجود صورة الفلك الأقصى وكمالها، وهي النفس. وبطبيعة إمكان الوجود الحاصلة له المندرجة في تعقله، لذاته: وجود جرمية الفلك الأقصى المندرجة في جملة ذات الفلك الأقصى بنوعه، وهو الأمر المشابك للقوة.
فبما يعقل الأول، يلزم عنه عقل. وبما يختص بذاته على جهتيه: الكثرة الأولى بجزئيها: أعني المادة والصورة، والمادة بتوسط الصورة أو بمشاركتها، كما أن إمكان الوجود يخرج إلى الفعل بالفعل الذي يحاذي صورة الفلك.
وكذلك الحال في عقل عقل، وفلك فلك، حتى ينتهي إلى العقل الفعّال الذي يدبّر أنفسنا وليس يجب أن يذهب هذا المعنى إلى غير النهاية حتى يكون تحت كل مفارق مفارق".
10_ العناية الإلهية
يعرّف ابن سينا العناية بأنها: " إحاطة علم الأول بالكل، وبالواجب أن يكون عليه الكل، حتى يكون على أحسن النظام، وبأن ذلك واجب عنه، وعن إحاطته به، فيكون الموجود وفق المعلوم على أحسن النظام من غير انبعاث قصد وطلب من الأول الحق. فعلم الأول بكيفية الصواب في ترتيب وجود الكل منبع لفيضان الخير في الكل ".
لكن كيف نقول بوجود عناية، والشر واضح للعيان في الوجود؟
يرد ابن سينا على هذا قائلاً: " أن الشرّ على وجوه:
1_ فيقال "شر": للنقص الذي هو مثل الجهل، والضعف، والشويه في الخلقة.
2_ ويقال شر لما هو مثل الألم والغم الذي يكون هناك إدراكاً ما بسبب، لا (بسبب) فَقْدِ شيء فقط، فإن السبب المنافي للخير، المانع للخير والموجب لعدمه وبما كان لا يدركه المضرور، كالسحاب إذا ظلّل فمنع شروق الشمس عن المحتاج إلى أن يستكمل بالشمس. فإن كان هذا المحتاج دراكاً، وأدرك أنه غير منتفع، ولم يدرك ذلك من حيث أن السحاب قد حال، بل من حيث هو مبصر، وليس هو من حيث هو مبصر متأذياً بذلك متصرراً أو منتقضاً، بل من حيث هو شيء آخر ".
كذلك ينقسم الشر إلى:
1_ شر بالذات، وهو العدم، لا كل عدم، بل عدم ما يقتضيه طبع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته، مثل عدم حاسة من الحواس للإنسان أو الحيوان.
2_ شر بالعرض، وهو الحابس للكمال عن مستحقه، مثل البرد المانع للثمار عن النضوج، وهو أمر طارئ هو أحد شيئين: أما مانع وحائل ومبعد للمكمل، وإما مضاد وأصل محقق للكمال. مثال الأول: وقوع سحب كثيرة وتراكمها وإظلال جبال شاهقة تمنع تأثير الشمس في الثمار على الكمال. ومثال الثاني: حبس البرد للنبات المصيب لكماله في وقته حتى يفسد الاستعداد الخاص وما تبعه"
* المصدر موسوعة الحضارة العربية /ج1/ الفلسفة والفلاسفة عند العرب .
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |