في اليوم العالمي للفلسفة
يظل العرب زاهدين عن التفلسف
"كل ما يريده محب الحكمة هو أن يكون الحكم للعقل وحده ولذلك فهو لا يقبل أن يكون محكوما من طرف الآخرين ولا يسعى إلى التحكم فيهم" لابرويار La Bruyère-
أطل علينا يوم الخميس من الأسبوع الثالث من شهر نوفمبر والذي جعلته منظمة اليونسكو اليوم العالمي للفلسفة كعادته وعوائده لا تنقيحات ودون جديد بخصوص منزلة الفلسفة عند العرب وموقفهم منها ودون أن تتخذ بعض الدول والأنظمة السياسية التقليدية قرارا جريئا بالشروع في تدريسها وتداول كتبها والتشجيع على تحصيل علومها وأفانينها ودون أن تقوم الدول الأخرى التي دأبت على إدراجها ضمن البرامج التعليمية بخطوة إلى أمام قصد تعزيز مكانتها والزيادة من حصصها والرفع من ضواربها بالمقارنة مع المواد الأخرى وخاصة عند الشعب العلمية وتجويد كتبها وتنقيح محاور اهتمامها وانتقاء الإطار الأكثر جدارة لتعليمها وتدريب المتربصين والتائقين إلى النهل من خزائنها.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا يستمر البعض من العرب والمسلمين في القرن الواحد والعشرين تبخيس شأن الفلسفة والتقليل من دورها في تحقيق التقدم للمجتمعات والانعتاق للأفراد؟
ما يمكن أن نعترف به هو وجود عدة محاولات مبذولة من أجل تبيئة الفكر الفلسفي في التربة التابعة لحضارة اقرأ منذ نشأة التيار العقلاني الاعتزالي ومذهب أهل الرأي في الفقه ومنذ انبعاث العلوم الطبيعية واللغوية والصورية العربية وقد بلغت هذه المحاولات أوجها لحظة تشكل رؤية جديدة للكون وقطاع مخصوص من العلم لم يعرف أهل لغة الضاد أسموه فلسفة ترجمة للمصطلح الإغريقي أتاهم مع جملة المعارف والصناعات التي نقلوها عن السريالية والفارسية وساعدهم في ذلك المختصون من اليهود والمجوس والنصارى وأضافوا إليها ما أضافوا نتيجة تأملهم للكليات المبتكرة التي تضمنها النص القرآني.
لقد ضمرت هذه المحاولات واختفت أنوار الإنسية العربية التي أبدعها العقل العربي في القرن الرابع هجري وحلت محلها الاشراقيات الغنوصية والظاهرية النصية مع سيطرة المغول على بغداد وسقوط غرناطة ودخول حضارة اقرأ في خندق الحروب الدينية التي لم تستطع الخروج منه إلى حد الآن وما أنتج ذلك من تعصب وانطواء على الذات وتقوقع في الملة وكاقتصار المجهود العلمي على الشرح والتفسير والتعليق والاجترار والتقليد.
غير أن الفلسفة شهدت انتعاشة كبيرة في ظل النهضة العربية واعتماد زعماء الإصلاح على مناهجها في دعاويهم إلى التجديد والتحديث وتشكل الجامعات العربية وخاصة في مصر ولبنان وسوريا وبغداد ودول شمال إفريقيا مع دولة الاستقلال. وقد فسر البعض هذا الاهتمام الكبير والالتفات المتيقظ إلى العلوم الفلسفية في ذلك الزمان إلى بروز التيارات الإيديولوجية وخاصة أدبيات حركات التحرر الوطني وصعود أنصار القومية العربية و تفجر الثورة الاشتراكية في روسيا واكتساح المبادئ اليسارية معظم أجزاء المعمورة وقد رافق ذلك ترجمة لفلاسفة الثورة الفرنسية ومنظري العقد الاجتماعي والتمييز بين السلطات والبديل الديمقراطي ومنظومة حقوق الإنسان وخاصة روسو ومونتسكيو وهوبز واسبينوزا وبرجسن وماركس وانجلز وسارتر... الخ.
هذا المناخ الملائم أنتج شخصيات مثقفة وكتاب وأدباء وأساتذة عملوا على الاشتغال بالفلسفة والعلوم الإنسانية والآداب والدراسات الدينية التنويرية والمقارنة ترجمة وتدريسا وتلخيصا ونشرا وتأليفا وقد اشتهر منهم عبد الرحمان بدوي وحسن حنفي وزكي نجيب محمود من مصر ومحمد عزيز الحبابي وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري من المغرب وطيب تيزيني ومطاع صفدي وبديع الكسم وبرهان غليون من الشام وأبو يعرب المرزوقي وهشام جعيط واحميدة النيفر من تونس وحسام الدين الألوسي وعلي الوردي من العراق ومنير شفيق وعزمي بشارة وادوارد سعيد وهشام شرابي من فلسطين.
غير أن هذا الاهتمام لم يرتق إلى درجة الإقبال والاستقرار وهذا النشر لم يصل إلى درجة التوطين والاستثبات وهذا التأليف لم يصل إلى درجة التنظير والإبداع وهذه الترجمة لم تعانق التأويل والتأصيل. عندئذ ظل السؤال الفلسفي عن الواقع العربي محجوبا تحت أكوام الجواب وبقي مشروع بناء فلسفة للضاد مؤجلا وانتهى تفلسف العرب في عصر ما بعد تشكل دولة الاستقلال مجرد تعريب للفلسفة الغربية. كما انتهى حضور الفكر الفلسفي في المؤسسات التربوية الثانوية والجامعية إلى نفس النقطة التي بدأ منها، فقد بدأ غريبا محاصرا ومرفوضا وهاهو الآن لايزال محل اتهام وتشكيك وتضييق من طرف الجمهور وساسة البلدان ورجال الدين ولم تعد الجامعة مجالا لخلق المبدعين والمنظرين والمثقفين العضويين بل مجرد محتشد لإعادة إنتاج ماهو سائد و لتخريج العمال والموظفين والمدافعين بشدة على الراهن .
لكن متى يأتي العصر الذي يتفلسف فيه المرء الآن وهنا من أجل التدخل بالعقل والنقد في الشأن العام ؟ ألم يحن الوقت بعد لأن يمتلك العرب فلاسفة حقيقيين؟ أليس الزمان مناسبا لكي تدرس الفلسفة وكل فروع العلوم الإنسانية في كل المجتمعات العربية دون تحفظ أو نقصان؟ وألا ينبغي أن تحتل أم العلوم المكانة التي تليق بمقامها في فضاء التربية والتعليم عوض الاكتفاء باحتلال مكان توثيقي في رفوف المكتبات والأرشيف؟ ألا نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى تعزيز الفكر العقلاني النقدي إذا ما أردنا نشر ثقافة المؤسسات والمبادئ التقدمية؟
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |