رحلة في حياة جلال الدين الرومي
بقلم: رشيد يلوح
"حَوَّل الرومي طيني إلى جوهر، ومن غباري شيّد كونا آخر"
الشاعر الباكستاني محمد إقبال
زمن مولانا:
في سنة 616هجرية، 1219م، اجتاح المغول بقيادة جنكيزخان المشرق الإسلامي ، تحت ذريعة قتل الخوارزميين لمجموعة من تجارهم، أما وضع الدولة الخوارزمية الحاكمة في ذلك الوقت فقد وصفه المؤرخ الذهبي قائلا:(والزنا فيهم فاش، واللواط ليس بقبيح..والغدر خلق لا يزايلهم).
كانت نتيجة الهجوم المغولي أن حولوا حواضر الإسلام الزاهرة في إيران والعراق وآسيا الوسطى عموما إلى كتل من اللهب وركام من التراب، وكان جنكيز خان يسأل الناس عن دينهم فيجيبونه:"ديننا الإسلام، ويقول كذا وكذا.."، فيرد عليهم:"لا أرى أنكم تقيمون دينكم، أنا نقمة ربكم عليكم".أما السلطان الخوارزمي علاء الدين محمد فقد تمكن المغول من القبض على نسائه ووالدته وأصبحن خادمات في بيوت أمراء المغول أنفسهم ، هذا السلطان الذي كان هو و جنده أسرى للشهوات والأهواء، هرب قاصداً إحدى الجزر البحرية النائية في بحر قزوين، حيث مات ذليلاً، طريداً، قبيل وفاته قال كلاماً بليغاً يدل على شدة ندمه على ما فرط في جنب الله سبحانه وتعالى، قال السلطان:"لم يبق لنا مما ملكناه من أقاليم الأرض قدر ذراعين، تُحفَر فنُقبر، فما الدنيا لساكنها بدار، ولا ركونه إليها سوى انخداع واغترار، ما هي إلا رباط ، يدخل من باب ويخرج من باب ، فاعتبروا يا أولي الألباب".
مولانا من الطفولة إلى لقاء شمس:
في هذا الجو التاريخي المؤلم عاش الشاعر الفارسي مولانا جلال الدين الرومي طفولته(ولد 603هجرية، 1207م)، إذ بسبب الاجتياح المغولي لمنطقة(بلخ)التي تدعى اليوم أفغانستان، تركت عائلته موطنها واستقرت في قونية التركية، وأصبح والده بهاء الدين أستاذا يدرس في جامعة قونية، تلقى جلال الدين تعليمه الروحي المبكر تحت إشراف والده وبعد ذلك تحت إشراف صديق والده سيد برهان الدين البلخي.واصل مولانا جلال الدين التعلم عن أستاذه سيد برهان الدين إلى جانب مكابدة أربعينيات صارمة من العبادة والصوم، بعد ذلك قضى أكثر من أربع سنوات في دمشق وغيرها حيث درس مع نخبة من أعظم العقول الفقهية والعلمية في ذلك الوقت، مما مكنه في النهاية من اكتساب تكوين متين في الفقه والتصوف.
لما أدرك سيد برهان انه أكمل مسؤولياته تجاه تلميذه مولانا جلال الدين أراد أن يمضي البقية من عمره في عزلة فأخبر مولانا بذلك، فظهر بعد ذلك شمس الدين التبريزي الحدث المركزي في حياة مولانا، إذ في عمر السابعة والثلاثين التقى مولانا جلال الدين بالدرويش الأمي المتجول شمس الدين التبريزي الملقب بشمس المغربي ، فكانت ولادة جديدة لمولانا جلال الدين الرومي، أنشد بعدها للبشرية أرق وأجمل أناشيد الحب الخالدة.
حب إلهي وميراث إنساني:
باقتراح من تلميذه حسام الدين شرع مولانا في بداية الخمسينيات من عمره بإملاء ديوانه الشعري الصوفي الضخم على هذا التلميذ الذي أخذ على عاتقه مهمة تدوين أكبر ديوان صوفي في التاريخ الإنساني، فمضامينه تعكس كل مناحي الشخصية الإنسانية، كما يتميز بالغزارة والتفاصيل الدقيقة في عالم الطبيعة والتاريخ والجغرافيا.
ويتكون هذا العمل الروحي الكبير من 27 ألف بيت من الشعر، يفتتحها بأبيات تحكي شوق الروح الإنسانية إلى خالقها، تحت غطاء رمز الناي الذي يئن حنينا إلى منبته، بقوله:
أنصت للناي كيف يقصّ حكايته ** إنه يشكو آلام الفراق، إذ يقول:
إنني منذ قطعت من منبت الغاب** والناس رجالاً ونساء يبكون لبكائي
إنني أنشد صدراً مزّقه الفراق ** حتى أشرح له ألم الاشتياق
فكلّ إنسان أقام بعيداً عن أصله ** يظلّ يبحث عن زمان وصله
تنقل الروايات التي اهتمت بحياة مولانا جلال الدين أنه لما توجه صحبة والده بهاء الدين إلى مكة لأداء فريضة الحج، التقى في نيسابور الشاعر الصوفي المشهور فريد الدين العطار، الذي أهدى إلى جلال الدين الرومي كتابه "أسرار نامة"، وأوصى العطار بهاء الدين بالولد الصغير قائلا:"اعتني بهذا الولد، فإنه عما قريب سينفث في هذا العالم نفسا مشتعلا"، ولما كبر الولد جلال الدين الرومي ظل معجباً بالشاعر الصوفي العطار،وكان يردّد:"لقد اجتاز العطار مدن الحب السبع بينما لا أزال أنا في الزاوية من ممر ضيق"، ولما أراد أن يصف لنا لحظة الانتقال في حياته أنشد بالفارسية قائلا:
مرده بودم زنده شدم، گريه بودم خنده شدم
دولت عشق آمد و من دولت پاينده شدم
وتعريبه: كنت ميتا فأصبحت حيا، كنت باكيا فأصبحت ضاحكا
لقد جاءت دولة الحب، و أنا أصبحت دولة راسخة
بينما عبر عن نفس اللحظة بطريقة أخرى في إحدى رباعياته:
وفجأة أشرق في صدري نجم لامع
واختفت في ضوء ذلك النجم
كل شموس السماء
لقد عكست أشعار وتعابير مولانا استقلالا واضحا عن المذاهب إذ يقول:"تعالَ وكلمني ولا يهم من أنت ولا إلى أي طريقة تنتمي ولا من هو أستاذك، تعال لنتكلم عن الله"، فالرجل يعتبر نفسه داعيا الخلق بكل أشكالهم إلى الله تعالى، دون اعتبار للحواجز والحدود.
لقد أنشد مولانا جلال الدين الرومي كلاما جميلا في الحب الإلهي، في ديوانه (شمس مغربي) يقول:
ولقد شهدت جماله في ذاتي ** لما صفت وتصقلت مرآتي
وتزينت بجماله وجلاله ** وكماله ووصاله خلواتي
أنواره قد أوقدت مصباحي** فتلألأت من ضوئه مشكاتي
بالنسبة للنصوص النثرية ننقل نصا مميزا يعكس عمق نظرته للناس والتاريخ وذلك عندما أوضح سبب انهزام المسلمين أمام المغول، وهو كتابه "فيه ما فيه"الذي يضم مجموعة من أحاديثه وتوجيهاته التي جمعها مريدوه من بعده، يحكي مولانا قصة انتصار المغول قائلا:(في البداية كان المغول يأتون إلينا وهم عراة حفاة يركبون العجول ويحملون سيوفا من خشب، إنهم يسكنون الصحاري والقفار، كانوا أذلة وضعافا و كانت قلوبهم منكسرة، في أحد الأيام قصدت جماعة من تجارهم سوقا من الأسواق التي كانت تحت ولاية السلطان خوارزم شاه، و بينما هم منشغلون بتجارتهم البسيطة هاجمهم جنود السلطان خوارزم شاه و أجهزوا على تجارتهم وساموهم العذاب، بل قتلوا الكثير منهم، الناجون من التجار المغول هربوا نحو بلادهم فالتجأوا إلى ملكهم يشتكون و يطلبون النجدة، طلب منهم الملك أن يمهلوه عشرة أيام، فذهب إلى خارج البلدة واعتكف داخل غار صائما متبتلا متوسلا، فجاءه نداء من الله:"لقد قبلنا شكواك، اذهب فأينما حللت فإنك منصور"، لذلك انتصر المغول وحكموا العالم).إذا كان هذا النص يعرض من جهة للتاريخ الروحي ، فإنه من جهة أخرى يقربنا من عمق نظر مولانا جلال الدين في الأنفس والآفاق .
اهتم المستشرقون كثيرا بآثار مولانا وفتحت في الغرب تخصصات أكاديمية عكفت على دراستها، وقبل سنوات قليلة سجلت مبيعات ترجمة بعض أشعاره أكبر حصة في الولايات المتحدة الأمريكية، ويعتبر الكثير من الدارسين لديوانه الصوفي الضخم"مثنوي معنوي"أن هذا الأثر هو بحق أثر إنساني بلا منازع، وإبداع عالمي أغمط حق الاعتراف به، وربما يعرف الناس مولانا عن طريق رقصة المولوية، التي ترجع أصولها إلى ما بعد وفاة الشاعر مولانا جلال الدين، وأصبحت اليوم رمزا سياحيا أكثر منه أثرا صوفيا ذو جذور عرفانية.
و كانت المولوية تتكفل بتقليد السلطان سيفه عند جلوسه على العرش ، كما انتسب إليها الكثير من الأمراء، و ظلت هذه الفرقة محل إجلال و تقدير طيلة العهد العثماني إلى أن ألغاها كمال أتاتورك عام 1926، عندها تحوّل مركز المولوية إلى حلب في سوريا.
توفي مولانا جلال الدين الرومي في 672 هـ ،1273م عن عمر بلغ نحو سبعين عامًا، ودُفن في ضريحه المعروف في قونية بتركيا وقد كتب على الضريح بيت من الشعر يخاطب به مولانا جلال الدين زواره قائلا:
يا من تبحث عن مرقدنا بعد شدِّ الرحال
قبرنا يا هذا في صدور العارفين من الرجال
* صحفي – قطر – باحث في الحضارة الفارسية.
** كتاب فيه ما فيه: مولانا جلال الدين الرومي، تصحيح بديع الزمان فروزنفر منشورات نامك، طهران.
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |