صورة الفيلسوف
خارج مقولتي النسق والمنهج
"ينظر الفلاسفة إلى الأهواء التي تختلج في صدورنا على أنها رذائل نقع فيها بمحض إرادتنا ولذلك فقد تعودوا مقابلتها بالسخرية والعتاب واللوم بل وباللعن أيضا حتى يظهروا بمظهر الطهارة والعفة... وفعلا فإنهم لا ينظرون إلى البشر على حقيقتهم وإنما على نحو ما يرغبون." [1]
ربما لاحت صورة الفيلسوف زمن العولمة مفارقة لما كانت عليه في الماضي القريب والبعيد على السواء، فهو لم يعد ذلك النسقي الذي يتدرج من منزلة إلى أخرى ولا ذلك المفكر الذي يتبع منهجا ويقود فكره بنظام، انه خارج مقولتي النسق والمنهج وقريب من تجربتي الحرية والترحال على طول مسطح المحايثة برا وبحرا وجوا، انه يعشق المبادأة ويتبع أسلوب الشذرة ويفضل الركض خلف السلحفاة تماما مثل أخيل الذي لا يلتحق أبدا، كما أنه لم يبق ذلك المربي الذي يملئ الدنيا ويقعدها وعظا ونصحا وإرشادا ولا رجل العلم الزاهد في استنباط القانون والمختص في إنقاذ الظواهر ولا ذلك الفنان عاشق الطبيعة والحريص على إظهار مسحة من الجمال في جميع آثاره ولا ذلك الناسك المتصوف الغارق في تأملاته والمبحر في موج اعترافاه بل أصبح هذا الطبيب السياسي المنقب عن العلل والمفتش عن الأمراض والشاعر الذي ينهمك في قص الوضعيات الحدية التي يعاني منها النوع الآدمي.
ربما يوجد هذا السارد المتفجع بالقرب من المدينة ويجعل من فكره شكلا من التجذر والالتزام بقضايا عصره، انه يفكر أكثر من كونه سيد تفكيره أو سيد التفكير بالنسبة للأجيال المتعاقبة وينزل إلى الشارع ويقابل الغرباء والمهمشين ويتفحص المارة ويشخص الأحوال ويلتفت إلى الأشياء المعروضة على قارعة الطريق ويهتم بالتجارب اليومية متلقطا المعنى وظافرا بالدلالة ومحددا المقصد، انه الباحث دوما عن الحقيقة المتخلي عن أكوام الأجوبة القديمة المفلسة، والمفتش عن الأسئلة الجديدة والباعث من الرماد للأسئلة الجديدة طالما أنها أسئلة الكينونة.
ليس المطلوب من المرء اليوم أن يرد على موجة التكفير ويواجه تحريض الفقهاء وأن يحل معضلة الأزمة المالية العالمية ولا أن يجد تفسيرا للغز الثقب السوداء ومثلث برمودا وأن يحدد بدقة بالغة أصل الحياة ومصير الإنسان والغاية من وجوده لكي يصبح فيلسوفا بحق، ان المطلوب منه لكي يبلغ درجة معقولة من التفكير الفلسفي هو أن يسرد حياته للآخرين بأي طريقة اختار ويبحث عن السبل التي يكون بها إنسانا والشروط التي يتخلص بها من اللاانسانية من تمركز على الذات وجنون عظمة وبربرية الصناعة والبضاعة، في هذا السياق يصرح ماركس:" الناس هم الذين يصنعون التاريخ ضمن ظروف لم يصنعوها" [2].
والحق أن ديدن الفيلسوف هو في الوقوف عند العتبة بين المكان المعزول الذي يدفن فيه الفرد صمته والساحة العامة التي يجمع فيها الأغلبية على تكلم أحدهم باسم الرأي العام ويصدح للجميع بالحقيقة الجمهورية المشتركة، ان انشغاله هو بناء عمارة جديدة للفكر بأحجار قديمة للثقافة وتكوين نسق من المعارف توقظ الوعي وتقطع مع البداهة وتنتصر إلى السؤال وتهتم بالمنزع والمسلك أكثر من اهتمامها بالنسق والمنهج.
ينتمي الفيلسوف إلى نمط جديد من البشر فكروا داخل الأفق الذي فتحته الذات للتوجه نحو العالم وعلى عتبة المشرع الذي اكتشف به الفكر وطنا جديدا للسؤال عن الكينونة غير المشرع الذي يحيل إلى الكائنات وغير الذي يمر عبر الأشياء الموضوعة تحت اليد، انه ينتمي إلى نمط من الكائنات الآدمية المترحلة والرواة السرديين الذين لم يملوا من ذكر قصص الناس العاديين في الحياة ومن ضرب الأمثال عن سيرة الحكام والذين يجعلون في النهاية من تدبير المدينة شغلهم الشاغل.
ينتمي الفيلسوف الحقيقي إلى فكر الوجود الذي قد غطى زمانية بأكملها ويتعرض ويلتقي مع العديد من التيارات والاتجاهات ويلقي شهرة عالمية ويطرح نفسه كمرجع في النقاشات الفكرية المعاصرة ورغم ذلاك فان فلسفته تظل مستعصية على الفهم في وحدتها التي تخصها بحيث يشك البعض في تأثيرها في الدراسات الإنسانية، لكن منهجه الفلسفي قد يبلغ الآفاق ويصل مداه حد التطبيق في اختصاصات مختلفة مثل الألسنية والتاريخ والعلوم القانونية ولم يقتصر على النصوص الدينية والآثار الفنية والأساطير، ورغم ذلك فانه من الصعب أن نستخرج شيئا ما اسمه الفلسفة التي تخص هذا الفرد بعينه من مجرد مطالعتنا لكل ما تركه هذا الرحالة من مؤلفات وأطروحات ومقابلات ومشاريع وبرامج خصوصا وأنه في سيرته الذاتية لم يصرح بوجود وحدة نسقية لفكره واكتفى بالأسلوب السردي الذي يأخذ بعين الاعتبار التطورات التي تلحق بالسؤال مع الإبقاء عليه في انفتاحه وشرعته ومنهاجه.
إننا يمكن أن نتحدث عن وحدة في السؤال والمنهج أكثر منها وحدة في المواضيع خصوصا وأن فكره يتميز بالطابع الباحث الحائر الذي يحبذ الإقامة عند المضيقات وبلورة الاحراجات وتفكيك الألغاز واقتحام المناطق المهجورة وينأى عن التصريح الدغمائي بامتلاك الحقيقة وتأسيس أرضية أرخميديسية تقول الكلمة الختامية.
يبحر الفكر في هذا الطريق إلى الحدود القصوى وملامسة التخوم دون أن يتفادى الصعوبات التي تعترضه في الطريق متسلحا بالقدرة على مهاجمتها وبالحذر والحيطة من كل المفاجآت والأمور الطارئة. لكن لا ينبغي أن نعتقد أن هذا الامتحان الصبور والمتأني وهذا الحوار المتمدن والعاطفي هو علامة اختزال وانتقاء لأن الفيلسوف يرفض منذ البدء كل الادعاءات الوثوقية المعممة من جهة وكل ريبية مزلزلة من جهة ثانية ولكنه لم يكن منقطعا عن تقديم جدة نظرية تسمح له بمواجهة كل الأسئلة الجذرية بعيون تدبيرية فاحصة.
لا يتعلق الأمر عند الفيلسوف بالخلوص إلى نتائج وتحصيل مكاسب نظرية وزاد معرفي بل فقط بتجذير دائم للتناقضات وتكثيف الالتباسات، والأسلوب الذي يميزه هو الانخراط في تجربة من التوجه نحو الفكر وتحويل الألغاز إلى واحراجات وصعوبات طالما " أن اللغز صعوبة ابتدائية بينما الإحراج هو صعوبة نهائية ينتج عن انشغال الروح بنفسها".
فيلسوف القرن الواحد والعشرون ليس له أعداء حتى في ظل سيطرة الداعية والفقيه والمنجم والساحر بل له أصدقاء وأخلاء أوفياء معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ والمجانين ولا يهتدي بمنهج ولا يسعى إلى بناء نسق معرفي ووجودي وفيمي متكامل يحل فيه كل معضلة ويجيب عن كل استفسار بل هو شخص يكتفي بالكتابة الشذرة وبالمشهد اللمحة وبالعبارة الصرخة وبالواقعة الصدمة ويستبدل المنهج بالأسلوب والمذهب بالنزعة والمرجع بالإيقاع والتوقيع بالبصمة ويرى نفسه معنى بالتوقف عن الحكم من أجل الانقطاع عن التوتر وتحصيل الطمأنينة في قلب صخب العالم.
من هنا تنصح الفلسفة الجمهور بأن يمسك نفسه عن إتباع الرأي وأن يبتعد عن الحكم المسبق والعادة الفكرية "لأن هذه الكيفية في الحكم تشبه إلى حد بعيد، تلك الطريقة التـي تروم التعرف على ماهية الأسماك وأصولـها من خلال القدرة التي لـها على العيش في اليابسة. وقد أبان الفكر عن فشله في اليابسة هذه منذ زمن بعيد وبعيد جدا." [3]
أليس الأوان قد حان لكي يحلق الفيلسوف في الأعالي وينطلق إلى المدى الذي يبدو جميلا دون أن يحمل معه أي نور يهتدي به ودون أن يأسر نفسه في نسق مرجعي أو أن يتسلح بمنهج منظم ،أليس حفنة من الممكنات المفرحة خير له من عربة مليئة باليقينيات المحنطة؟ وألا يعبر بذلك أحسن تعبير عن تشبثه بممارسة الحرية ونيته إنتاج المعنى بغير تكلف؟
المراجع:
- اسبينوزا ، كتاب السياسة، ترجمة جلال الدين سعيد، دار الجنوب للنشر، تونس ، الطبعة الأولى 1999.
- بول ريكور، من النص إلى الفعل، أبحاث التأويل، ترجمة محمد برادة وحسان بورقية، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، الطبعة الأولى 2001.
- مارتن هيدجر، رسالة في النزعة الإنسانية، مقال ترجمه عبد الهادي مفتاح. كاتب فلسفي
الهوامش:
[1] اسبينوزا ، كتاب السياسة، ترجمة جلال الدين سعيد، دار الجنوب للنشر، تونس ، الطبعة الأولى 1999،ص37
[2] بول ريكور، من النص إلى الفعل، أبحاث التأويل، ترجمة محمد برادة وحسان بورقية، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، الطبعة الأولى 2001،ص 11
[3] مارتن هيدجر ، رسالة في النزعة الإنسانية، مجلة مدارات، ترجمة عبد الهادي مفتاح
زهير الخويلدي
كاتب فلسفي من تونس
أستاذ باحث بالجامعة التونسية
تحصل على الإجازة في الفلسفة سنة 1996
متحصل على الكفاءة في التدريس سنة 1999
متحصل على التبريز في الفلسفة سنة2003
يتقن ثلاث لغات أساسية: الانجليزية والفرنسية والعربية
نشر على حسابه الخاص كتابا من الحجم المتوسط عنوانه: لزومية العود على بدء
له العديد من المنشورات الجامعية والعلمية والصحفية في العديد من المجلات والصحف والمواقع
يعد حاليا رسالة دكتوراه حول الفلسفة المعاصرة
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |