وحدة الوجود من الغزالي إلى ابن عربي
مشكاة النور وشهداؤه
بقلم: عقبة زيدان.
"الروح هي وحدةُ كلِّية الأشياء، هي الكل الذي يشتمل على الكل."
ندره اليازجي
إنها حكمة الفيلسوف السوري الكبير ندره اليازجي، التي تتطابق مع رؤية عبد الرزاق الكاشاني، الذي يرى، بدوره، وجهَ الحق في كلِّ شيء، ويتحدث عن سرِّ التجلِّيات بأنه "شهود كلِّ شيء في كلِّ شيء"!
في مذهب هيغل، يكون المطلق هو الموجود الواقعي، بينما تكون الطبيعة هي حالة من حالاته. أما سپينوزا، فيرى بأن الله هو الموجود بذاته، وبأن لا وجود للعالم إلا به، لأنه جزء منه. غير أن ديدرو، من جانبه، يقول بأن العالم هو الموجود وبأن الخالق ما هو إلا مجموع الكائنات.
تَشكَّل مذهبُ وحدة الوجود في البداية من النظريات والعقائد الهندية. [1] ومن بعدُ أخذ اليونان هذه التعاليم واستندوا إليها في حكمتهم، خصوصًا في المدرسة الرواقية التي اعتقدت بأن الله هو روح العالم ومنظِّمه ومحرِّكه، وكذلك في المدرسة الأفلاطونية الحديثة التي قالت بأن الكائنات الداخلة في تركيب العالم، مع صدورها وانبثاقها من الله، تظل موجودة فيه لأنها في حقيقتها فيض منه.
في كتابه وحدة الوجود من الغزالي إلى ابن عربي [2] يدرس الباحث محمد الراشد فكرة وحدة الوجود وانبثاقها كمنهج ومذهب. ثم يتوقف مطولاً عند المفكرين العرب والمسلمين، بادئًا من حجة الإسلام محمد بن محمد الطوسي أبو حامد الغزالي، الذي يعد بمثابة منعطف خطير في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، باعتباره "العقلية الفذة التي حققت توازنًا مذهلاً بين الظاهر والباطن، بين العقل والقلب، بين الفكر والوجدان".
فعلى العكس من مؤلَّفاته السابقة، التي لم يكن يجرؤ فيها على الإقرار الصريح، نجد أن الغزالي في كتابه مشكاة الأنوار يقول بالمذهب الأحادي، متخذًا من التأويل للنصِّ القرآني منطلَقًا له، بشكل يحقق فيه تجاوزًا كبيرًا على المقدمات الفكرية والبرهانية التي بنى عليها صرحه المعرفي السابق. يقول الغزالي بهذا الصدد: "لا موجود على الحقيقة إلا الله." فالله، عند الغزالي، هو النور؛ والنور الحق هو الذي بيده الخلق والأمر، ومنه "الإنارة أولاً والإدامة ثانيًا".
وهكذا، فإن الغزالي لم يكتفِ بنفي الكثرة عن العالم فحسب، بل نفى كلَّ شيء سوى الله، باعتبار الأشياء كلها عدمًا، وبصفتها اكتسبت صفةَ الوجود من تبعيتها لله. وهذا يعني، بطبيعة الحال، أن الغزالي يقرر بأن النور أو الروح الإلهي يسري في الكائنات؛ ولا يكون العالم إلا ذلك الجسم الذي يتخلَّله النور أو الروح الإلهي. فالعالم بأسره "مشحون بالأنوار الظاهرة البصرية والباطنة العقلية"، على حدِّ قوله. ولكن الغزالي يحصر الكشف الإلهي في الإنسان وحده، كون الإنسان هو الموجود الوحيد الذي يتجلَّى فيه النورُ الإلهي بجميع مراتبه، في حين أنه لا يتجلَّى في غير الإنسان إلا في بعض المراتب وحسب.
بعد ما يقارب الخمسين عامًا، جاء الحكيم شهاب الدين أبو الفتح يحيى السهروردي بـ"حكمة الإشراق" التي اعتمد فيها على فلسفة النور. وانطلاقًا من إيمانه بكون النفس الإنسانية غدت حبيسة الجسد بعد هبوطها من النور الأعلى، يقيم فلسفته الأخلاقية على جهاد النفس، سلوكًا وعملاً، لتخليصها من أدران الجسد، كمنطلق جوهري لنظريته الإشراقية.
مزج السهروردي بين التصوف والفلسفة، فاهتم بالمنطق والفلسفة الأرسطوطالية، موجهًا إليها انتقادات جِدية تُبرِز ألَقَه الفكري. وعمد في كتابه التلويحات إلى الجمع بين الماهية والوجود وعدَّهما شيئًا واحدًا؛ وبذا فقد سبق بألف عام فلاسفة الغرب الوجوديين، من أمثال مارتن هيدغر وجان پول سارتر وكارل ياسبرز، الذين لم يشيروا إلى السهروردي كمصدر لفلسفتهم. [3]
لم يكتفِ السهروردي برفض نظرية الحلول، بل رفض الاتحاد أيضًا، وقال بالاتصال وحده – اتصال الإنسان بالله. وهذا الاتصال لا يتم إلا بالمجاهدة – مجاهدة النفس. وبما أن رؤية السهروردي قائمة على منطلقَي النور والفيض معًا، فقد أدى ذلك إلى بناء فلسفي وجودي ومعرفي بآنٍ معًا. ولكنه، إذ لم يحقق إلا الفراغ وحده في إطار ميتافيزياء الأخلاق، فقد وجد نفسه مضطرًا إلى نقد نظرية وحدة الوجود حرصًا منه على المنحى الأخلاقي، لأنه فهم أن وحدة الوجود تضم الذات الإلهية؛ وهذا يؤدي إلى أن الذات الإلهية ستخضع للشرور والآثام والشهوات – وفي ذلك استحالة مطلقة! وهذا هو سبب الخلاف بينه وبين ابن عربي وعدم الانسجام بينهما.
يقول السهروردي في كتابه هياكل النور: "يا قيوم، أيِّدنا بالنور، وثبِّتنا على النور، واحشرنا إلى النور." ومن الطبيعي أن يستهل "شهيد النور" كتابه بذلك الدعاء مادام يتطلع أبدًا إلى الاستشهاد عِبْر النور، ليعيد تمثيل مأساوية الحلاج من جديد، حيث استشهد الحلاج متمنيًا أن ينال الآخرون حقَّ هدْر دمه نزولاً عند رغبته في صرخته: "أنا الحق!"
أما الصياغة المتكاملة لوحدة الوجود فقد برزتْ على يدَي محيي الدين بن عربي. فقد تشكلت لدى ابن عربي رؤيةٌ متكاملة قوامها أن العالم ليس إلا مظهرًا للألوهية، وذلك باعتبار الله والعالم شيئًا واحدًا، بخلاف الظاهر الذي يجعلنا نرى الإثنينية في الوجود: حق وخلق، خالق ومخلوق، إلخ. بينما النظرة الباطنية عند ابن عربي – أي رؤية القلب – تفيد بأن لا خلاف بين الله والعالم إلا من حيث الصورة. وهو بهذا يقدم نظرية متقدمة لبنية الوجود.
يعترف المستشرق الإسباني آسين پلاثيوس بتأثير ابن عربي في الفكر الغربي [4] قائلاً:
يدين الشاعر دانتي أليجييري لابن عربي. فقد استفاد من أوصافه للآخرة واستوحاها فنيًّا في قصيدته الخالدة الكوميديا الإلهية. والواقع أن الشاعر دانتي استطاع أن يجد في مؤلَّفات ابن عربي، وفي الفتوحات [المكية] على وجه الخصوص، الإطارَ العام لقصيدته، أعني التخيل الشعري لرحلة مليئة بالأسرار إلى مناطق الآخرة.
لم يقل ابن عربي بالحلول، وإنما قال بالاتحاد والوحدة، مقدمًا هذه الرؤى ومهندسًا تفاصيلها، بحيث نجد فيه أكبر عقل عربي إسلامي في هذا المضمار، أولاً، باعتباره الوحيد الذي حقق الصياغة النهائية والكاملة لنظرية وحدة الوجود، ثانيًا.
ولقد تأثر ابن عربي بكلٍّ من الفارابي وابن سينا وابن مسرة وابن طفيل وأخوان الصفا، إلا أنه تجاوزهم جميعًا تركيزًا وهندسةً وصياغةً لنظرية وحدة الوجود بشكل لم يسبق له مثيل، فلم يأتِ بعده بديل؛ إذ لم يحقق مَن جاء بعده أيَّ تجاوُز يُذكَر لمذهبه، وإنما ساروا على الدروب التي عبَّدها لهم، بمن في ذلك عبد الكريم الجيلي وسپينوزا، أكبر عقل غربي في مجال وحدة الوجود.
يتفق سپينوزا مع ابن عربي إلى حدٍّ يثير الدهشة: فهما يؤكدان على وحدة الله والكون، وأن هذا الكون خاضع لقانون الوجود العام، كما يقول ابن عربي؛ بينما يقول سپينوزا بخضوع الكون للقانون الإلهي. ويقول ابن عربي بوحدة الحق والخلق، في حين يقول سپينوزا بـ"الطبيعة الطابعة" (أي الخالق) و"الطبيعة المطبوعة" (أي الخلق). وهنا نرى أن ابن عربي كان أكثر توفيقًا في تعبيره من سپينوزا. وبذلك أثبت ابن عربي أنه سيد جميع مَن قال بوحدة الوجود بلا منازع. [5]
الهوامش:
[1] انظر الهامش 5. (المحرِّر)[2] محمد الراشد، وحدة الوجود من الغزالي إلى ابن عربي، دار الأوائل، دمشق، 2003؛ 288 صفحة من القطع الكبير.
[3] يكرر محمد الراشد هنا تلك اللازمة المملة القائلة بأسبقية المفكرين العرب والمسلمين على فلاسفة الغرب وعلمائه. نقول: إن الفلاسفة الوجوديين (الذين لم يقرأهم الراشد، على ما يبدو، بل قرأ عنهم) لم يكونوا مضطرين إلى النهل من معين مَن سبقهم من الفلاسفة المسلمين، على أهميتهم الكبرى، لأن مرجعيتهم الأساسية هي التراث الفلسفي الغربي الذي يشكل سلسلة غير منقطعة تعود إلى الفلسفة ما قبل السقراطية. ثم إن "وحدة الوجود"، على ما نرى، ليست مذهبًا فلسفيًّا، بل اختبار روحي ووجودي كوني يعبَّر عنه فلسفيًّا (يخطر ببالنا هنا هيدغر قبل غيره)؛ ومن هنا فكل مَن "يختبر" وحدة الماهية والوجود، ويتمتع في الآن نفسه لغويًّا بموهبة التعبير الفلسفي، لا بدَّ أن يتوصل إلى صياغة نظرية فلسفية تترجم خبرته، لا يدين بها، في التحليل الأخير، إلا لهذه الخبرة وحدها، لأن الأفكار هنا لا تعدو كونها مجرد "أدوات" للتعبير عنها. (المحرِّر)
[4] يتجاهل الراشد هنا عشرات الأبحاث والدراسات التي بيَّنت الثغرات في قول پلاثيوس بتأثير "الأخرويات" الإسلامية (ومنها مذهب ابن عربي) على دانتي. كما يأخذ بفرضية "اقتباس اللاحق عن السابق" ويقدمها على وحدة الخبرة الروحية الإنسانية الشاملة، متجاهلاً كذلك وحدة الكوسمولوجيا الدينية في مذهبَي كلٍّ من حكيم مرسية ومؤلِّف الكوميديا، وهي الكوسمولوجيا السائدة في التراث الروحي المتوسطي كلِّه منذ بطليموس. ولنذكِّر هنا كذلك بأن التراث الأسطوري والشعري الإغريقي واللاتيني، الذي هو قطعًا من المصادر الأساسية لثقافة دانتي، غني إلى حدٍّ مذهل بأوصاف العالم الآخر؛ ومن هنا اتخاذ دانتي الشاعرَ اللاتيني "الوثني" فرجيل دليلاً له في "مناطق الآخرة". (المحرِّر)
[5] يتجاهل الراشد، هاهنا أيضًا، مذهب الأدفيتا فيدنتا الهندي، الذي يُعَد أكمل وأجرأ تعبير ممكن عن وحدة الوجود، وذلك قبل ابن عربي بنحو ألف عام (من الواضح أن الراشد لم يطلع عليه كما ينبغي). فهل نقول، على غرار الراشد، إن ابن عربي قرأ مصنفات الحكيم شنكراتشاريا واقتبس عنها لمجرد أن الثاني سبق الأول زمنيًّا؟ – أم أن كلا الحكيمين الهندوسي والمسلم نطق عن "خبرته". (المحرِّر)
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |