قانون الاستحقاق والعوض قانون اعتزالي خالص فصل فيه المعتزلة واكتفى الأشاعرة بالإنكار والرفض. فقالت المعتزلة إن الغرض من التكليف هو التعويض لاستحقاق التعظيم فإن التفضل بدونه قبيح. ورفضت الأشاعرة هذا القول لأنه مبنى على القول بالحسن والقبح في أفعال الله وهو ما ترفضه الأشاعرة. هذا بالإضافة إلى أن التفضل إنما يقبح ممن يتصور له النفع والضرر وهو محال على الله.
والآلام عند الأشاعرة لا تقع مقدورة لغير الله، فإذا وقعت من فعل الله فهي منه حسن سواء وقع ابتداء أو حدثت منه فتسمى جزاء. ولا يحتاج الأشاعرة في تقريرها حسنة إلى إثبات سبق استحقاقها عليها أو استلزام أعواض عنها بل كل ما وقع منها فهو من الله حسن لا اعتراض عليه ولا تبرير لأحكامه. والحقيقة أن هذا الموقف الأشعري يدعو الإنسان إلى تقبل الألم بلا داع أو سبب ويجعل الله علة لآلام البشر ويغفل أسبابها الحقيقية في العالم. والحقيقة أن موقف الجبرية لا يختلف كثيراً عن موقف الأشاعرة إذ تعتبر أن الآلام تحسن وتقبح بحال فاعلها. فإن كان فاعلها القديم يحسن منه سواء كان ظلماً أو اعتباراً وإن كان فاعلها الإنسان لا يحسن منه. فالله مالك كل شيء ومن حقه أن يفعل في ملكه ما يشاء. لذلك قالت الثنوية بأن الآلام ظلم قبيح لعينه وهي تصدر عن إله الشر وليس عن إله الخير.
فالآلام كلها قبيحة والملاذّ كلها حسنة، ولا يكون كلاهما من فاعل واحد. كما ذهبت البكرية أتباع بكر ابن أخت عبد الواحد بن يزيد إلى أن البهائم تتألم أصلاً وكذلك الأطفال الذين لم يبلغوا عمر العقل. ويحاول الأشاعرة تفنيد موقف الثنوية والبكرية. وذلك بإثبات نسبة الحسن والقبيح وتغيرهما من وجه لآخر، ومن فرد لآخر، ومن وقت لآخر، وهذا في الحقيقة نفي لمطلق الإرادة الإلهية ولشمولية مقاييس المنفعة والضرر وموضوعيتها. وقد قالت طائفة من غلاة الروافض بالتناسخ. فالبهائم تتألم لأن أرواحها كانت في أجساد وقوالب أحسن من أجسادها وقد قارفت آثاماً فنقلت إلى أجساد أخرى تتعذب فيها. فإذا ما استوفت العقاب نقلت إلى أجسام افضل.
والله لديهم لا يبتدئ بالآلام إلا عن استحقاق سابق. والبهائم لديهم مكلفة، ثم اختلفوا في ابتداع التكليف فذهب البعض إلى أنه ابتداء من أصل الأرواح وذهب البعض الآخر إلى أنه في ابتداء الفطرة. والغلاة منهم أنكروا الحشر والآخرة وقالوا العقاب والثواب في الدنيا بالتعاقب على الأجسام ثواباً أم عقاباً.
أما المعتزلة فقد قالوا إن الآلام الحالة بالأطفال والبهائم تحسن لعدة أوجه:
منها أن تكون مستحقة على سوابق، ومنها أن تجلب منافع أزيد منها بقدر واف، ومنها أن يقضي بها على دفع ضرر أخطر منها. واتفقوا على أن ما يحسن من الألم لأجله لو علم فإنه يحسن إذا اعتقد أو غلب على الظن ما يحسن الآلام لأجله في عادات الناس لتوقع منافع زائدة عليها. وبصرف النظر عن صحة القول أو خطئه فإن الشاهد لا يقاس على الشاهد. فإيلام الأطفال والبهائم شاهد لا يُقاس على شاهد آخر وهو إيلام الإنسان. إنما قد يحدث إسقاط من إيلام الإنسان على الأطفال والبهائم، ومع ذلك فكل ما هو خارج التجربة الإنسانية لا يمكن معرفته إلا قياساً.
وقد اختلفت المذاهب أيضاً في الأعواض. فعند الأشاعرة أن التعويض غير لازم لأنه لا يقبح من الله شيء. فالرب قادر على التفضل بمثل ما يصدر عنه عوضاً فلا غرض في تقديم ألم ثم التعويض عليه مع القدرة على التفضل بمثله. وكثيراً ما يرفض الإنسان إعطاء عوض عن إيلامه إنساناً آخر. وقال أهل التناسخ أن الابتداء بالإيلام من غير عوض قبيح ولا يحسن التعويض عليه مع القدرة على التفضل بأمثال العوض وأضعافه. أما المعتزلة فقالوا إن الألم يحسن للتعويض عليه بنعيم يفوقه حتى يخرج بالألم عن كونه ظلماً.
وعند أبي علي يحسن الألم من الله لمجرد العوض لأن العوض لا يجوز التفضل به ولا الابتداء بمثله. وعند أبي هاشم لابد في الألم من غرض آخر وهو الاعتبار. وهو ما يقبله القاضي عبد الجبار ويحاول تأييده. وقد ذهب عباد الصيمري أيضاً إلى أن الآلام تحسن بمحض الاعتبار من غير تقدير عوض عليها ويعتمد في ذلك على شبهتين: الأولى أن الإنسان يستحق ما يستحقه ثواباً أو عوضاً بفعل نفسه والإيلام من فعل الله فلا يجوز أن يستحق عوضاً. والثانية أنه لو كان يحسن من الله الإيلام للعوض لكان يحسن منا الألم للعوض.
وقد فصل القاضي عبد الجبار في أحكام العوض. فالعوض هو كل منفعة مستحقة لا على طريق التعظيم والإجلال. ولا يحسن من الله أن يؤلم الإنسان من غير اعتبار رضاه. وبالتالي فإن العوض لا يستحق على طريق الدوام عند أبي هاشم. أما أبو علي وأبو الهذيل وبعض البغداديين والصاحب الكافي (385ه) فإن العوض لديهم يستحق على طريق الدوام. والأصح هو طريق الانقطاع لأن العوض حادث طارئ. وقد أورد بعض الملاحدة شبهة في طلبهم العوض من جنس المنافع في الدنيا وما تعود عليه الإنسان، في حين أنه ليس من الضروري أن يكون العوض من جنس الألم. أما المستحق للعوض فإنه إن كان مكلفاً ومن أهل الثواب ويكون عوضه مستحقاً على الله فإن الله يوفره له بتمامه وكماله مفرقاً على الأوقات. وان كان مستحقاً على غير الله فإن الله أيضاً يأخذ من ذلك الغير العوض سواء كان مكلفاً أو غير مكلف. أما إن كان المستحق للعوض مكلفاً ولكن من أهل العقاب ويكون عوضه مستحقاً على الله فإن الله أيضاً يوفره له في الدنيا أو في الآخرة قبل دخول النار أو بعدها. وإن كان مستحقاً على غير الله فإن الله أيضاً يأخذه من ذلك الغير ويوصله له بالتمام والكمال. والحقيقة أن كل ذلك هو محاولة لفهم آلام الإنسان وتحقيق اكبر قسط ممكن من العدل في الدنيا والآخرة بقياس الغائب على الشاهد وهو أساس الفكر الإلهي كله.
وفي النهاية يمكن استنتاج الآتي من موضوع "العقل والنقل" كما عرضه علماء أصول الدين:
أولاً، أهمية العقل في علم أصول الدين وضرورة إقامة النقل عليه. فالعقل أساس النقل، والنقل بدون العقل يكون مجرد ظن، ولا يرقى إلى مرتبة اليقين. فالنقل لا يتحدث بنفسه، ولا يعرض نفسه إلا من خلال الذهن الإنساني. النقل وحده لا يثبت شيئاً. وقال الله، وقال الرسول لا يعتبر حجة.
ثانياً، أهمية العقل في موضوع العدل. إذ يشمل العدل عند المعتزلة موضوعين: حرية الأفعال والحسن والقبح. وكأن الحرية لا تقوم إلا على العقل والتمييز بين الخير والشر. فالعقل هو الذي يجعل الحرية ممكنة.
ثالثاً، أهمية موضوع الظلم والألم ورغبة الإنسان في أن يعيش في عالم يحكمه قانون الاستحقاق وقانون الصلاح والأصلح، ووفقاً لغاية وغرض حتى يستطيع الإنسان أن يُعمل الروية والقصد في حياته بدلاً من أن يعيش في عالم يسوده العبث والفوضى والتشتت والتناقض.
رابعاً، أهمية قياس الغائب على الشاهد كمصدر للفكر الإلهي. فالإنسان لا يعلم إلا ما يعرفه عن طريق تجاربه الخاصة من خلال ما يراه في دنياه. فإذا ما وجد نفسه أمام موضوعات متعالية فإنه لا يملك إلا أن يتصورها طبقاً لما لديه من معرفة تجريبية.
خامساً، إن الرغبة في التنزيه وفي التأليه تجعل المتكلم ينسى أن الهدف ليس هو الدفاع عن حقوق الله بقدر ما هو الدفاع عن حقوق الإنسان. فالله غني عن العالمين، أما الإنسان فإنه في حاجة إلى كل شيء. وبالتالي لا يمكن التضحية بحقوق الإنسان من أجل إثبات حقوق الله. فالله نفسه بإرساله الوحي أراد تثبيت حقوق الإنسان.
سادساً، لابد من النظر في صالح المسلمين الآن، ومعرفة أي الآراء والمذاهب الكلامية يكون فيها تحقيق لمطالبهم. فإثبات الغائية والغرض يحقق نفعاً لهم ويبعد عنهم مخاطر العبث والعشوائية. وقد يكون دفع الألم خيراً من قبول العوض عنه.
المصدر: موسوعة الحضارة العربية الإسلامية / العقل والنقل ج 2
حسن حنفي : مفكر عربي ، على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون. عمل مستشاراً علمياً في جامعة الأمم المتحدة بطوكيو خلال الفترة من (1985-1987).
هذه الصورة التقطت للدكتور حسن حنفي خلال زيارته لـ دار الأمير للثقافة والعلوم بتاريخ 18/7/2008 .
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |