بقلم: علي حرب .
الفلسفة تمر الآن في إشكال يضعها موضع التساؤل والتشكيك، خصوصاً في العالم العربي، حيث وجد على الدوام، قديماً وحديثاً، من يشكك بهوية الفلسفة المكتوبة بالعربية وينكر عليها أصالتها. مع أني بتّ أميل إلى مخالفة الرأي القائل بأن الفلسفة احتلت موقعاً هامشياً في الثقافة العربية الاسلامية. إنها كانت، على العكس، تلقى تقديراً عالياً في العصر الاسلامي الكلاسيكي، والدليل أن الخلفاء والسلاطين كانوا يتخذون وزراء لهم من بين الفلاسفة والحكماء لا من بين الفقهاء والعلماء. بالطبع تعرض الفلاسفة للضغوط في بعض الأحيان. ولكن ذلك شكل استثناءً وخرقاً للقاعدة. وهذا الخرق شهدته أثينا مهد الفلسفة عند إعدام سقراط، كما شهده أيضاً العصر الكلاسيكي في أوروبا عند إعدام الفيلسوف سبينوزا.
أعود بعد هذا الاستطراد لأبدأ كلامي على الفلسفة من اللغة، لا من الشيء الذي يعتبر أخص خصائص النشاط الفلسفي، عنيتُ به العمل على الأفكار وابتكار المفاهيم. طبعاً من نافلة القول أن الانسان، يتميز، عموماً، بالفكر والفهم والتعقل. ولكن الفيلسوف هو من يهتم، على الخصوص، بالأفكار ويعمل على إنشاء عالم فكري تعمره الكائنات والشخوص المفهومية. بل يمكن القول إن الفيلسوف هو عشيق المفهوم. ومع ذلك فإنني سأدخل على الموضوع من باب الكلمات لا من جهة المفهومات. ذلك أن اللغة هي الأشد دلالةً على وجود الأشياء، أكانت كيانات ذهنية أم موجودات عينية، أجهزة مفهومية أم أدوات مادية.
ومسوغ الانطلاق من اللغة هو الطفرة المعرفية التي بدلت العلاقة بين الدال والمدلول، اللغة لم تعد مجرد ممثل للمعرفة، كما أن المعرفة لم تعد مجرد تمثل للأشياء بكلام آخر لم تعد اللغة ممثلاً للتمثل ذاته. بل أصبحت إمكاناً للوجود بقدر ما تجسد بيئة للفكر أو وسطاً للفهم. وإذا شئت أن أتأول ذلك أقول بلغتي، إن علاقة الانسان بوجوده هي علاقة لغوية، سواء اتصل الأمر بالعقل أو الحس، بالوعي أو اللاوعي، بالمعرفة أو بالممارسة... من هنا يمكن القول بأن اللغة هي مفتتح الوعي، وبأن الوعي بالأشياء هو نشاط رمزي لغوي.
وهذا الحدث المعرفي الهام، والأحرى القول هذا الحدث الانطولوجي، الذي خربط العلاقة بين اللغة والفكر، يحمل على تجاوز ثنائية المتعالي والتجريبي. وهي ثنائية قامت أساساً على تغييب دور اللغة في فاعلية الفكر ونشاطه المفهومي. بيد أن العامل اللغوي هو عائق وجودي يعني الاعتراف به، أنه لا حياة للأفكار من دون الكلمات، تماماً كما أنه لا انفصال للماهيات عن المعايشات. ولهذا فالكلام على الأفكار المتعالية والمفاهيم الصرفة ينطوي على حجب لوجود اللغة هو تغييب لأرض الفكر وجسد المفهوم، كما ينطوي من جهة أخرى على اختزال للتجارب الوجودية هو عبارة عن تجريد لما يحدث بإحالته إلى مجرد شكل منطقي أو كائن رياضي. وفي كلا الحالين يجري إقصاء للفلسفة، إما لصالح اللاهوت حيث يمارس تغييب الموجود وراء علله وأسبابه، وإما لصالح المنطق والرياضيات حيث يمارس تجريد الموجود من ثقله وكثافته. والفلسفة تبتعد عن اللاهوت قدر ابتعادها عن الرياضيات: تبتعد عن اللاهوت من حيث علاقتها بالمفهوم، فيما تبتعد عن الرياضيات والعلوم من حيث علاقتها باللغة، لتقترب من الفن والشعر. معنى ذلك أن العمل الفلسفي يصدر عن تجربة فريدة لا يمكن تكرارها أو تعميمها، كما يجري مثلاً تعميم المعارف في المنطق والرياضيات والفيزياء. وعلى قدر تفرد التجربة الفلسفية تكون عالميتها. وتلك هي المفارقة لدى الفيلسوف كما هي لدى الشاعر أو الفنان. كل واحد من هؤلاء يصنع كونيته بقدر ما يمارس أحديته، أي بقدر ما يتفرد فيما ينجزه ويغدو واحداً أحداً لا نظير له.
ولأن التجربة الفلسفية هي كذلك، لا يمكن الافصاح عنها من دون ابتكار لغوي يطال المصطلح والعبارة كما يطال الاسلوب والتراكيب. أي لا يمكن إخراج هذه التجربة مخرج الوجود من دون تشكيل نص بكل ما للكلمة من معنى. إن الفلسفة هي هنا على النقيض من العلم. فالعمل العلمي نموذجه المعادلة الرياضية. ولهذا لا أهمية للنص في التعبير عن التجارب العلمية. أما الفلسفة فهي تتجسد في النهاية بنص يتمتع بالفرادة والأهمية، تماماً كما هي حال النص الأدبي أو العمل الشعري. ولهذا لكل فيلسوف كبير لغته وأسلوبه. كل مفكر يكتب تجربته بتشكيل نصه الفريد المميز. وهذا شأن التجارب الوجودية: كل تجربة أصيلة تُملي لغتها الخاصة.
** المصدر : الممنوع والممتنع – علي حرب – المركز الثقافي العربي – المغرب.
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |