وجوه التلفيق في الجمع
بين الفلسفة والشريعة
بقلم: د. طه عبد الرحمن .
إذا بطل أن يكون التوفيق بين الفلسفة والشريعة الذي جاء به الفلاسفة "المتأغرقون" تجديدا مقبولا في الفلسفة كما هو مقبول ذلكم التجديد الذي أتى به بعض علماء المسلمين بشأنه، وجب إذن أن يكون تلفيقا مردوداً أو ابتداعا مذموما، وبيان ذلك من الوجوه الآتية:
أ_ أن حفظ الفلسفة على مقتضاها اليوناني، مجتمعا إلى حفظ الشريعة على مقتضاها الإسلامي، هو كالجمع بين نقيضين كلاهما جلي وحقيقي، إذ ما يثبت في حق الاولى، ينتفي عن الثانية، والعكس بالعكس، ولا أدل على ذلك من تمسك الأولى بالانفصال عن المعرفة التي لا تستند إلى "العقل النظري"، وتشبث الثانية بالاتصال بالمعرفة المستندة إلى "العقل الديني" كما يتجلى في نصوص الوحي، فلا يكون الجمع بينهما من الوصل في شيء، إذ هو أشبه ما يكون بحشد لمتباينات يحتفظ كل منها باستقلاله، ولا يَقوى على الارتباط مع غيره في الحشد الذي دخل فيه.
ب ـ أن حفظ الفلسفة على مقتضاها اليوناني، مجتمعا إلى إدماج عناصر منها في الشريعة الإسلامية، هو كالجمع بين نقيضين أحدهما جلي، والآخر خفي؛ إذ تَلبَس فيه بعض معاني وأحكام الشريعة رداء المقولات والتصديقات الفلسفية اليونانية، إلا أن هذا اللباس لا يجدي نفعا، لأن التناقض الجلي والحقيقي السابق الذي احتُرز منه، يقع نقله إلى طرف الشريعة من طرفيه، فيُرتكَب فيه من حشد المتنافرات ما ارتُكب في التناقض الجلي والحقيقي.
ج ـ أن حفظ الفلسفة على مقتضى اليونان، مجتمعا إلى تأويل الشريعة على هذا المقتضى، هو كالجمع بين نقيضين أحدهما حقيقي والآخر مجازي، إذ تصير المعاني والأحكام الشرعية التي يكون ظاهرها مخالفا للمقتضى اليوناني مجرد مجازات أو مثالات ينبغي صرفها إلى معان غير المعاني الموضوعة إزاء ألفاظها، غير أن هذا الصرف المجازي لا يمكن قبوله، ما دام التناقض الجلي الحقيقي المذكور أعلاه، يقع تفاديه بإسقاط الطرف الثاني من طرفيه، ويؤتى بغيره مكانه تلفيقا، مع العلم بأن ما يتعبد به أهل الشريعة هو هذا الطرف على وجهه الظاهر، وليس هذا البديل بوجهه المجازي؛ فإن لم يكن تلفيقا بمعنى "ضم المتناقضات بعضها إلى بعض" كما هو الأمر في التناقض الأول والتناقض الثاني، فلا أقل من أنه تلفيق بمعنى "تبليغ الأمر بخلاف ما هو عليه في الحقيقة"، وهو هاهنا "تبليغ الشريعة بنقيض ما هي عليه"، فبما أن ظاهر الفلسفة وظاهر الشريعة متناقضان، فحمل الشريعة على المجاز يوجب أن تكون معانيها المجازية عند هؤلاء نقائض لمعانيها الحقيقية، حتى تحصل موافقتها للمعاني الحقيقية للفلسفة.
ولعل التجاء المُوفِّقة من فلاسفة الإسلام إلى طريق حفظ المقتضى اليوناني للفلسفة مع تغيير المقتضى الإسلامي للشريعة بواسطة الإدماج أو التأويل، مرده إلى رغبتهم في اجتناب طريق التفريق الذي هو وحده يتحقق به التوفيق على مذهبهم المنطقي لما يترتب عليه من النتائج التي قد لا تحمد عقباها؛ فهذا الطريق يستلزم منهم، لا أن يدمجوا ولا أن يؤولوا، وإنما أن يأتوا إلى ما تختص به الشريعة من أصول في مقابل ما تختص به الفلسفة منها، فيميزوا فيها بين ضربين: أحدهما لا يتفق مع الفلسفة، فيكون مردوداً، والآخر يحصل به الاتفاق، فيكون مقبولا.
وإذا كان الأصلان اللذان تختص بهما الفلسفة هما: "التدليل" و "التعليل"، فإن الأصلين اللذين يميزان الشريعة هما: "الإيمان" و "العمل"، فيلزمهم بموجب المقتضى المنطقي للتفريق أن يميزوا في كل منهما بين نوعين:
أحدهما مقبول، والآخر مردود، كأن يميزوا في الإيمان بين "إيمان عقلي" و "إيمان وهمي"، وفي العمل بين "عمل اجتهادي" و "عمل تقليدي"، فيأخذون بالضرب الأول من كل أصل ويصرفون الضرب الثاني، فـ "مبدأ الإيمان العقلي" يتلاءم مع "مبادىء التسليم المنطقي" التي يأخذ بها أهل الفلسفة مثل "مبدأ التسليم الجدلي" و "مبدأ التقدير الفرضي"، و "مبدأ الاعتقاد في المنهج العقلي"، كما أن "مبدأ العمل الاجتهادي" يتلاءم مع "مبادىء النظر التأملي" الذي يعد ركنا أساسيا للتفلسف اليوناني، بينما "الإيمان الوهمي" و "العمل التقليدي" يعارضان هذا التفلسف، فيجب ردهما؛ لكن المتفلسفة امتنعوا عن أن يسلكوا هذا الطريق المنطقي الذي يؤدي بهم إلى التوفيق الصحيح، واختاروا طريقا معوجاً كانت ثمرته التلفيق الصريح؛ وقد تكمن وراء هذا الاختيار الفاسد أسباب كثيرة، عقدية ومصلحية، لكنهم لا يُعذرون فيما أتوا من فساد تداولي وفساد منطقي؛ أما فسادهم التداولي، فمن قِبل أنهم أفردوا بالمراجعة طرف الشريعة من دون طرف الفلسفة، واقعين بذلك في مخالفة مقتضيات مجال التداول الإسلامي العربي التي توجب عليهم الابتداء بمراجعة طرف الفلسفة؛ وأما فسادهم المنطقي، فمن قِبل أنهم لم يقوموا بهذه المراجعة للشريعة على شرط المنطق، فيجعلوا الشريعة على نوعين، ثم يجمعوا بين النوع المقبول منهما والفلسفة اليونانية، بل آثروا الإدماج المتناقض أو التأويل المتهافت.
* كل فلسفة سوى الفلسفة المنقولة مردودة.
ليس عجبا وجود "مبدأ الإطلاق" في الممارسة الفلسفية، فلا يختص هذا المبدأ بالمنقول الفلسفي من حيث هو منقول، ولكنه يتجلى في مستويات مختلفة من هذه الممارسة؛ فالفيلسوف يميل إلى الإطلاق بموجب تعوده على أفعال التجريد والتعميم.
فقد يقارن بين فلسفة وغيرها من المعارف، فلا تطمئن نفسه إلا إلى الفلسفة، ناظرا إلى المعرفة العلمية على أنها معرفة آلية لا شعور معها وشيئية لا أخلاق فيها، وناظرا إلى المعرفة الدينية على أنها معرفة وجدانية لا عقل فيها وتقليدية لا اجتهاد معها، حتى إذا بلغ هذا التعلق بالفلسفة من نفسه مبلغا صار إلى اعتبارها المعرفة الحقة بدون منازع، ولسان حاله يقول: "كل معرفة سوى الفلسفة مردودة".
وقد يقابل أيضا بين مذهب فلسفي مخصوص وغيره من المذاهب، فلا تطيب نفسه إلا إلى هذا المذهب المخصوص، معترضا على غيره بكونه لا يستند إلى الأصول الموضوعية أو لا يتوسل بالأدلة المقنعة أو لا يتوصل إلى النتائج النافعة، يحمله شغفه بهذا الاتجاه إلى اعتباره الاتجاه الفلسفي الحق بدون منازع، ولسان حاله يقول: "كل مذهب فلسفي سوى هذا المذهب مردود".
وقد يعرض كذلك على محك الفلسفة التي وضع أصولها ورتب مسائلها، الأفكار والاتجاهات والمذاهب الفلسفية الأخرى، فلا يرى فيما أصابت فيه هذه الأخيرة إلا نتائج متفرعة على أصوله أو مسائله، وفيما أخطأت فيه إلا خروجا عن هذه الأصول أو المسائل، فينساق إلى اعتقاد أن فلسفته هي الفلسفة الحقة بدون منازع، ولسان حاله يقول: "كل فلسفة غير فلسفتي مردودة".
ولا نظن أن هذا الميل إلى الإطلاق في طائفة أشد منه في أهل الفلسفة، فلا نكاد نجد متفلسفا تداول الناس فكره أم لم يتداولوه إلا وانعطف على فكر غيره يكشف عثراته وسوءاته، إن لم يتعد ذلك، فيرمي صاحبه بالسخافة والعماية، جاعلا من فكره الخاص، في مقابل ذلك، "الفكر الحق" الذي لا يُرد؛ وربما رجع السبب في ذلك إلى روح النقد التي يرتاض عليها المتفلسف والتي قد تتفاحش عنده، فتذهب به إلى حد الاعتراض على كل شيء ورد كل شيء، ولسان حاله يقول: "كل رد سوى هذا الرد مردود"، وهذا غاية ما يوصل إليه مبدأ الإطلاق، إذ كل نقد باطل إلا هذا النقد، فهو حق لا مراء فيه.
وإذا تقرر أن مبدأ الإطلاق يحدد جانبا أساسيا من جوانب الموقف الذي يتخذه المتلقي العربي من المنقول الفلسفي، مُشكلاً بذلك سببا قويا من أسباب ترسيخ تبعية الفلسفة العربية للترجمة، فقد تعين نقده بما يُمكّننا من رفع هذه التبعية، وإلا فلا أقل من تخفيفها وتوجيهها متى ثبتت الحاجة إلى حفظ أسباب الاتصال بهذه الفلسفة المنقولة.
* المصدر : فقه الفلسفة1 الفلسفة والترجمة .
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |