بقلم: د. عبد الرحمن بدوي .
1_ الزمان:
يقول ابن سينا عن الزمان:
"وأما الزمان فهو شيء غير مقداره، وغير مكانه. وهو أمر به يكون "القبل" الذي لا يكون معه "البعد". فهذه القبلية له لذاته، ولغيره، وكذلك البعدية.
وهذه القبليات والبعديات متصلة إلى غير نهاية. والذي لذاته هو قبل شيء هو بعينه يصير بعد شيء، وليس أنه "قبل" هو أنه حركة، بل معنى آخر.
وكذلك ليس هو سكون، ولا شيء من الأحوال التي تعرض، فإنها في أنفسها لها معان غير المعاني التي هو بها "قبل" وبها "بعد". وكذلك "مع" فإن للـ "مع" مفهوماً غير مفهوم كون الشيء حركة.
وهذه القبليات والبعديات والمعيات تتوالى على الاتصال، ويستحيل أن تكون "دفعات لا تنقسم، وإلاّ لكانت توازي حركات في مسافات لا تنقسم _ وهذا محال. فإذن يجب أن يكون اتصالها اتصال المقادير. ومحال أن تكون أمور ليس وجودها معاً تحدث وتبطل، ولا تتغيّر البتة، فإنه إن لم يكن أمر زال ولم يكن أمر حدث، لم يكن "قبل" ولا "بعد" بهذه الصفة. فإذن هذا الشيء المتصل متعلق بالحركة والتغير. وكل حركة على مسافة، على سرعة محدودة فإنه إذا تعيّن لها، أو تعيّن بها، مبدأ وطرف، لا يمكن أن يكون الإبطاء منها يبتدىء معها ويقطع النهاية معها، بل بعدها. فإذن ها هنا تعلق أيضاً بالـ "مع" و الـ "بعد" وإمكان قطع سرعة محدودة مسافة محدودة فيما بين أخذه في الابتداء وتركه في الانتهاء، وفي أقل من ذلك إمكان قطع أقل من تلك المسافة. وهذا لا (= ليس) مقدار المسافة التي لا يختلف فيها السريع والبطيء، وغير مقدار المتحرك الذي قد يختلف فيه على الاتفاق في هذا، بل هو الذي يقول ان السريع يقطع فيه هذه المسافة، وفي أقل منه أقل من هذه المسافة. وهذا الإمكان مقدار غير ثابت، بل متجدد. كما أن الابتداء بالحركة للحركة غير ثابت. ولو كان ثابتاً لكان موجوداً للسريع والبطيء بلا اختلاف".
ونحن نعلم أن أرسطو قد حدّ الزمان بأنه "مقدار الحركة بحسب المتقدم والمتأخر". لكنه لا يتابع عرض أرسطو لمشكلة الزمان في المقالة الرابعة من "الطبيعة" ولا يثير ما أثار أرسطو من إشكالات عميقة، بل تعلّق خصوصاً بمسألة العلاقة بين الزمان والمسافة، وهي مسألة ليست بذي بال في مشكلة الزمان.
ولا يزيد ابن سينا في "النجاة" شيئاً يذكر على ما ورد مركزاً في "عيون الحكمة" وكل ما هنالك:
1_ أنه يؤكد الارتباط التام بين الزمان وبين الحركة فيؤكد أنه "لا يتصور الزمان إلا مع الحركة. ومتى لم يحسّ بحركة، لم يحس بزمان، مثلما قيل في قصة أصحاب الكهف".
2_ ويقرر أن "الزمان ليس محدثاً حدوثاً زمانياً، بل حدوث إبداع، لا يتقدمه محدثه بالزمان والمدة، بل بالذات. ولو كان له مبدأ زماني، لكان حدوثه بعد ما لم يكن، أي بعد زمان متقدم، وكان بعداً لقبل غير موجود معه، فكان بعد قبل وقبل بعد، وكان له "قبل" غير ذات الموجود عند وجوده. وكل ما كان كذلك، فليس هو أول "قبل". وكل ما ليس أول "قبل" فليس مبدأ للزمان كله. فالزمان مبدع، أي يتقدمه باريه فقط".
لكن معنى هذا الكلام هو أن الزمان قديم قدم الباري، إذ هو لا يتقدمه بالزمان، بل بالذات، أي بالمرتبة. وما دام كذلك، فقد أحدثه منذ القدم، إذ يجوز أن يكون معه في الوجود الزماني. غير أن رأي ابن سينا ليس صريحاً تماماً ها هنا.
3_ ويقرر أن الزمان "مقدار للحركة المستديرة من جهة المتقدم والمتأخر، لا من جهة المسافة. والحركة متصلة. فالزمان متصل، لأنه يطابق المتصل، وكل ما طابق المتصل فهو متصل".
4_ وإذن فالزمان يتهيأ أن ينقسم بالتوهم، لأن كل متصل يمكن أن ينقسم بالتوهم، لا بالفعل. فإذا قسم ثبتت له في الوهم نهايات، تسمى الآنات.
5_ والآن هو فصل الزمان وطرف أجزائه المفروضة فيه.
6_ ولما كان الزمان لا ثبات له "قبله" مع "بعده" فإنه متعلق بالتغير، لا بكل تغير كان، بل بالتغير الذي من شأنه أن يتصل. والتغير الذي يتعلق به الزمان هو الذي يكون في الوضع المستدير الذي يصحّ له أن يتصل "وأما السكون فالزمان لا يتعلق به ولا يقدره إلاّ بالعرض.. والحركات الأخرى يقدرها الزمان لا بأنه مقدارها الأول، بل بأنه معها، كالمقدار الذي في الذراع يقدر خشبة الذراع بذاته، وسائر الأشياء بتوسطه. ولهذا يجدر أن يكون في زمان واحد مقدار الحركات فوق واحدة. وكما أن الشيء في العدد: أما مبدؤه كالوحدة، وأما قسمته كالزوج والفرد، واما معدودة _كذلك الشيء في الزمان: منه ما هو مبدؤه كالآن، ومنه ما هو جزؤه كالماضي والمستقبل، ومنه ما هو معدودة ومقدّرة وهو الحركة".
والدهر هو المحيط بالزمان. وهو "نسبة ما مع الزمان وليس في الزمان إلى الزمان من جهة ما مع الزمان". "ونسبة ما ليس في الزمان إلى ما ليس في الزمان من جهة ما ليس في الزمان: الأولى به أن يسمى السرمد.
والدهر في ذاته من السرمد. وبالمقياس إلى الزمان دهر الحركة علة حصول الزمان".
الزمان إذن متصل، ولا ينقسم إلا بالتوهم، اما إلى آنات هي الماضي والمستقبل والحاضر، أو إلى ساعات وايام وشهور وسنين.
2_ المكان:
يطلق المكان بمعنيين:
1_ إذ يقال: "مكان" لشيء يكون فيه الجسم فيكون محيطاً به.
2_ ويقال: "مكان" لشيء يعتمد عليه الجسم فيستقر عليه.
والمكان الذي يتكلم فيه الطبيعيون هو الأول. وهو حاو للمتمكن، مفارق له عند الحركة، ومساو له، لأنهم يقولون: لا يتأتى أن يوجد جسمان في مكان واحد. فإذا كان كذلك، فينبغي أن يكون خارجاً عن ذات المتمكن، لأن كل شيء يكون في ذات المتحرك فلا يفارقه المتحرك عند الحركة. وقد قيل ان كل مكان مباين للمتحرك عند الحركة. فإذن ليس المكان شيئاً في المتمكن. وكل هيولي وكل صورة فهي في المتمكن. فليس إذن المكان بهيولي ولا صورة. ولا الأبعاد التي يدّعى أنها مجرّدة عن المكان بمكان الجسم المتمكن: لا مع امتناع خلوها كما يراه بعضهم، ولا مع جواز خلوّها كما يظن مثبتو الخلاء".
فالمكان ليس هيولي الشيء، ولا صورته. وليس هو الخلاء، إذ لا يوجد خلاء.
إن المكان شيء فيه الجسم. فإما أن يكون ذلك على سبيل التداخل، وإما أن يكون على سبيل الإحاطة. ويبرهن ابن سينا برهنة طويلة على امتناع التدخل. كذلك ليس المكان هو الأبعاد التي بين غايات الجسم المحيط، "فهذا قول كاذب جداً" على حد تعبير ابن سينا، إذ ليس بين الغايات شيء غير أبعاد المتمكن. إذن فذلك هو على سبيل الاحاطة.
"وقد قيل ان المكان مساو. فإما أن يكون مساوياً لجسم المتمكن، وقد قيل انه محال، وإما أن يكون مساوياً لسطحه، وهو الصواب. ومساوي السطح سطح. فالمكان هو السطح المساوي لسطح المتمكن، وهو نهاية الحاوي المماسّة لنهاية المحوي. وهذا هو المكان الحقيقي. وأما المكان غير الحقيقي فهو الجسم المحيط".
ويبحث ابن سينا في الخلاء لإبطاله، إذ لو كان الخلاء موجوداً، لكان فيه أبعاد وفي كل جهة، وكان يحتمل الفصل في الجهات كالجسم. ولو كان خلاء موجوداً لما كان يختص فيه الجسم المحيط إلا بجهة تعين، فيجب أن يكون لهذا المحيط جهة. ولو كان خلاء لكان له خير من الخلاء مخصوص ووراءه أحياز أخرى خارجة عن حيّزه لا يتحدد بها حيّزه، ولا تتحدد هي لحيّزه.
** المصدر : موسوعة الحضارة العربية / الفلسفة والفلاسفة عند العرب
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |