خطأ الحكم بالنقل والتأثر والخلط والتوفيق
بقلم: د. حسن حنفي .
ذاعت عدة أحكام خاطئة على علوم الحكمة منذ تسميتها الفلسفة الإسلامية بأنها امتداد لعلوم اليونان، وأن الحكماء أي الفلاسفة ما هو إلا اتباع المعلم الأول، وأن أقصى ما أبدعوه هو المعلم الثاني أو الشارح الأعظم. علوم الحكمة ما هي إلا شروح على متون، الشرح لفظاً بلفظ، وعبارة بعبارة، وفقرة بفقرة، وفصلاً بفصل، وباباً بباب وكأن المسلمين قد استبدلوا بنص الوحي نص أرسطو. فالأنا يدور في فلك الآخر. الآخر هو الأصل، والأنا الفرع. كان أقصى إبداع للحضارة الإسلامية هو شروحها على ارسطو ونقل ذلك إلى الغرب. استفاد منه أولاً لتأييد الدين ثم لفظهُ ثانياً عندما اكتشف عورته وهو بصدد نشأة العلم الحديث إبان الفصل بين الفلسفة والدين، والعلم والإيمان. وقد أصدر هذا الحكم بعض المستشرقين.
وتابعهم فيه بعض العرب المقلدين من محرري الكتب المقررة ومدعى التجديد إيحاء برفض المحلية وتبنيا لمحلية الثقافة وهي اليونانية، مستنكفاً من حضارة الأنا ومدعيا ثقافة الآخر، إحساساً بالدونية. وبالإضافة إلى عيوب الاستشراق العامة المنهجية والموضوعية التي وراء كثير من أحكامه يخطئ هذا الحكم ليس فقط بالنسبة للحضارة الإسلامية في التقائها مع الحضارات المجاورة بل بالنسبة لالتقاء الحضارات بعضها بالبعض الآخر. فلا توجد حضارة ناقلة لأخرى. الحضارات كائنات حية، لكل منها استقلالها الذاتي، وحياتها الخاصة، وشخصيتها المتميزة. لكل منها عمرها ودورتها ودورها في تاريخ الحضارات البشرية. علاقاتها بالحضارات المجاورة تحكمه قوانين التقاء الحضارات ومنطقه والذي حاول الغرب صياغته في علم "أنثروبوجيا الثقافة". إن لم يعرفه التابع العربي نظراً لعدم اطلاعه على الثقافة الغربية والعلوم الإنسانية فإن المستشرق لا عذر له لأن الثقافة الغربية ثقافته، والعلوم الإنسانية علومه. وعادة ما يكون المستشرق لغوياً مؤرخاً لا شأن له بتطورات الثقافة الغربية ولا علومها، عالما داخل حضارته من الدرجة الثانية. وقد يكون على علم بها ولكنه بها ضنين. فهي إبداعات الحضارة المتميزة الحديثة لا تطبق إلا في الموضوعات المتميزة الحديثة.
والحضارة الإسلامية ليست كذلك. فهي تنتمي إلى الحضارات اللا أوربية، حضارات الأطراف التي وظيفتها النقل عن المركز. تنتمي إلى الحضارات السامية بما فيها من تناقض وسحر وتسلط في مقابل الحضارة الآرية التي تقوم على العقل والعلم والحرية. وهي نظرة عنصرية قديمة سادت الاستشراق الأوربي في القرن الماضي. والواقع أن كل حضارة تتفاعل مع غيرها من الحضارات المجاورة، تأخذ منها طبقاً لاختيارها الخاص، وتتمثل منها ما تريد، وتعيد توظيفه من منظورها وطبقاً لاحتياجاتها.
وقد يخف الحكم من النقل الآلي، والنسخ المطابق، والتقليد الأعمى إلى الأثر والتأثر، أثر الفلسفة اليونانية في الفلسفة الإسلامية، وتأثر الفلسفة الإسلامية بالفلسفة اليونانية. هنا على الأقل يوجد تمايز بين حضارتين، تمايز وجود، وأن كان هناك فيض من المركز إلى المحيط في الثقافة والعلوم.
هناك أثر ميتافيزيقا أرسطو على إلهيات ابن سينا في العلة الأولى والمحرك الأول، وأثر فيض أفلوطين على تصور الفارابي للصلة بين العقل الأول والعقول العشرة، وأثر أفلاطون على أنصار الحكمة الاشراقية مثل إخوان الصفا، وأثر أرسطو على ابن رشد في كل شيء في المنطق والطبيعيات والإلهيات.
أقسام النفس وقواها عند ابن سينا من أرسطو، والمدينة الفاضلة عند الفارابي من جمهورية أفلاطون. ويرجع خطأ الحكم بالأثر والتأثر إلى السرعة والحكم بظاهر اللغة بالإضافة إلى عموم استعمال لفظي الأثر والتأثر. فاللغة ثوب الفكر بتعبير القدماء شكل دون مضمون. واستعمال علوم الحكمة ألفاظ الفلسفة اليونانية ومصطلحاتها لا تعني تبنى معانيها وتصوراتها أو وصف نفس الأشياء التي تحيل إليها هذه الألفاظ وتفيد نفس المعاني. وكان المستشرق قد تربى على أن أصول الحضارة عند اليونان كما تدل على ذلك الحضارة الغربية في عصورها الحديثة. كما أن المستشرق عنصري الحضارة، مركزي الثقافة، أبيض اللون، ومتفوق العصر كما يبدو في الأعمال السينمائية. وبالتالي يحيل موضوعه في الأطراف إلى أصوله في المركز فيحكم بالأثر والتأثر. الغير عنده يُرد إلى الأنا لديه. فيرد كل شيء إليه، وتصب الخيرات والثروات والسكان والعلوم والثقافات في المركز من المنابع التي خرجت منها: ذهب جنوب أفريقيا، عبيد أفريقيا، قطن مصر، توابل الهند، مطاط الملايو، ثقافة العالم القديم وعلومه. حضارة اليونان خلق عبقري على غير منوال. أثرت في حضارات الشعوب المجاورة، مصر وفارس وفينيقيا وكنعان وبابل وآشور، ولم تأخذ منها شيئاً بالرغم من حداثة اليونان وقدم شعوب الشرق القديم. والحقيقة أن لفظ أثر لفظ متشابه. الأثر متعدد المستويات: المستوى الأول اللغة، وهو ما حدث في علوم الحكمة، هو المستوى الظاهري الشكلي الخارجي. وهو ليس أثراً بالمعنى الدقيق بعد عصر الترجمة، بعد أن أصبحت اللغة مشاعاً عند الجميع، لا فرق بين وافد وموروث. إنما الخلاف بين اللفظين المتشابهين هو خلاف فقط في علم الأصوات، في طريقة النطق مثل عقل NOUS الله THEOU طبيعة PHUSIS، نفس PSYCHE أو في الأصل الاشتقاقي الحسي الذي غالباً ما يشابه أيضاً سواء في الصوت مثل عقل LOGOS، صراط STRATA أو في المعنى مثل روح PNEUMA وكلاهما من معنى الريح أو الهواء. والمستوى الثاني المعنى، والمعنى لا يُستورد ولا يفد لأنه يفيد الشيء. والشيء واحد، يفيد معنى واحداًٍ، فالعالم COSMOS، والإنسان ANTHROPOS. المعنى واحد وأن اختلفت التصورات والمفاهيم، وهو المعنى الخاص للعالم وللإنسان في كل حضارة ولدى كل شعب. والمستوى الثالث الشيء المفيد للمعنى والمعبر عنه باللفظ. وهذا أيضاً لا إستيراد فيه ولا إيفاد. فالأشياء لا تنقل. والمستوى الرابع هو الذي قد يحدث فيه تفاعل والتقاء بين حضارتين، مستوى التصورات والمفاهيم الخاصة بكل حضارة والتي قد تتزاحم وتتداخل وتتبادل لصالح الحضارة الناشئة التي في طور التكوين. فالعلة الأولى في علوم الحكمة خالق، والمحرك الأول يعتني بالعالم. وهي تصورات جديدة على التصورات اليونانية التي جعلت العالم يشارك العلة القديمة في بعض مظاهر قدمها سواء في الفكر أو في المادة والتي جعلت العالم يتحرك نحو المحرك الأول عشقاً دون تدبير أو عناية. ويتم التأثير باستمرار لصالح الألفاظ في الحضارة الوافدة إذ تدخل إليها تصورات جديدة لم تكن فيها من قبل، وليس لصالح الحضارة الناشئة التي لا تستعمل الألفاظ المشاعة بعد عصر الترجمة حرصاً على وحدة الثقافة، وثقة بالمعاني والتصورات والأشياء. ولا مشاحة في الألفاظ.
وقد يتعدى الحكم الخاطئ النقل والأثر إلى سوء الفهم والخلط والتوفيق الهجين بين الفلسفة اليونانية والدين الإسلامي، بين الحكمة والشريعة، بين العقل والإيمان، بين الفيلسوف والنبي، بين أرسطو ومحمد. أن أقصى إبداع لعلوم الحكمة هي الشروح والملخصات على أرسطو خاصة، صائبة أحياناً وخاطئة في معظم الأحيان، تخلط بين أفلاطون وأرسطو، بين أفلوطين وأرسطو، من عقلية لا تعرف النقد التاريخي أو الموضوعية العلمية. وهو أيضاً حكم عام ومبتسر يحكم على ظاهر الأشياء. ويرجع الخطأ في الحكم إلى سببين: ذاتي يتعلق بعقلية المستشرق، وموضوعي خاص بطبيعة العمليات الحضارية التي تحدث في حالة التقاء الوافد والموروث في حضارة واحدة. فعقلية المستشرق عقلية مفرقة، تقوم على التمييز والفصل ورصد الاختلاف أكثر من رؤية التشابه إثر تجربة العصور الحديثة التي كشفت مخاطر الخلط بين الكنيسة وأرسطو، بين الإيمان والعقل، بين الدين والفلسفة، بين الكتاب المقدس المغلق وكتاب الطبيعة المفتوح. ولما كان المستشرق ابن حضارته فقد حكم على كل نتاج حضارة يقوم على الجمع بين الثقافات والتزواج بينها، ورؤية العالم من منظور الوحدة أكثر من منظور الاختلاف بأن ذلك خلط وتلفيق وتوفيق. ويقوم على سوء فهم لأحد الطرفين، هو الغالب الوافد لتقريب المسافة بينه وبين الموروث، فأرسطو هو الفيلسوف النبي، حكيم اليونان، المعلم الأول، وسقراط أحد صوفية المسلمين، وهرمس هو النبي إدريس، وأفلوطين هو الشيخ اليوناني، فتقريب الوافد إلى الموروث أكثر من تقريب الموروث إلى الوافد لأن الوافد يمكن تأويله بسهولة في حين أن الموروث له قواعده وأصوله. وقد أمكن تقريب الوافد إلى الموروث عن طريق نسبة أعمال إلى أرسطو، تاسوعات أفلوطين، حتى يبدو كاملاً، وبالتالي يصبح نموذج الفيلسوف الكامل، خاتم الأنبياء. كما أمكن تقريب الموروث إلى الوافد عن طريق التأويل العقلي للنصوص خاصة وأن علوم الحكمة قد وحدت بين الفلسفة والدين، بين الحكمة والشريعة، بين الوحي والعقل، استئنافاً للاعتزال في جعل العقل أساس النقل، وتأكيداً لموقف الفقهاء، أن من قدح في العقل فقد قدح في النقل، وأن الاتفاق مع بداهة العقل وشهادة الحس والوجدان أحد شروط التواتر.
وهناك حكم آخر شائع يجعل الفلاسفة المسلمين مجرد دوائر منعزلة عن قلب الحضارة الإسلامية، تابعين لليونان، امتداداً للمشائية. وهو مثل حكم المستشرقين مع اختلاف الدوافع. دافع المستشرق هو إثبات جدب الحضارة الإسلامية وخلوها من الإبداع. ودافع الممثل الجديد للاشعرية التقليدية في مصر والوطن العربي هو الدفاع عن علم الأصول بشقيه، علم أصول الدين وعلم أصول الفقه، موطن الإبداع في الحضارة الإسلامية. وهو أيضاً موقف بعض الفقهاء من المدرسة السلفية القديمة والحديثة من ابن حنبل حتى ابن تيمية وابن القيم ورشيد رضا. والحقيقة أن ذلك حكم ديني مسبق يقوم على الرد على المستشرقين وأخطائهم كما فعل مصطفى عبد الرازق من أجل الوقوع في خطأ مضاد، إثبات الأصالة على حساب التبعية بنفس سلاح المستشرقين وهو إخراج الفلاسفة المسلمين من الدائرة. وهو إغفال لوظيفة الفلسفة بعد عصر الترجمة في التوحيد بين الموروث والوافد. فمن حيث طبيعة الحضارة الناشئة فإنها بعد أن انتشرت فوق رقعة الأراضي المفتوحة نقلت ثقافات شعوبها إلى العربية، فأصبحت مزدوجة الثقافة، بين الموروث القديم والوافد الجديد، بين الأصل والفرع، بين الأنا والآخر. وكان من الطبيعي أن يخرج من بين المتكلمين المعتزلة من يتجرأ على الوافد باسم الموروث، ويحاول الجمع بينهما في ثقافة واحدة، درءاً للتعارض بين النقل والعقل، وتأكيداً على وحدة الثقافة بين الداخل والخارج، بين التراث والتجديد بلغتنا، بين السلفية والعلمانية بلغة العصر، بين الأزهر والجامعة بلغة مناهج التعليم، علوم الحكمة إذن ليست دوائر منعزلة على هامش الحضارة الإسلامية، لا تمثل قلبها، منفصلة عن الموروث، تابعة للوافد، لم تبدع كما أبدع علم الأصول بشقيه، علم أصول الدين وعلم أصول الفقه. بل هي علوم تؤدي وظيفة حضارية محددة، وحدة الثقافة ضد ازدواجيتها. علوم الحكمة أشبه بالثغور للدفاع عن الحدود في حين أن علم أصول الدين أشبه بالزوايا لتقوية الإيمان. الحكماء وزراء خارجية يتعاملون مع الخارج لصالح الداخل في ميدان العلاقات الدولية، مهمتهم الحفاظ على الأمن الخارجي وسلامة أرض الوطن. والمتكلمون وزراء داخلية مهمتهم الحفاظ على النظام والأمن الداخلي. ولا تعارض بين المهمتين. كلاهما ضروري لسلامة الدولة في الخارج والداخل. إن علوم الحكمة جزء من كل. وظيفتها التمثل والإخراج، والنقل والإبداع، واستيعاب الوافد في الموروث، ليس فقط من جانب الحكماء باسم الوافد بل أيضاً من جانب بعض الفقهاء باسم الموروث. أما وظيفة النقد والرفض والإبداع الموازي فإنها وظيفة علوم أخرى، قام بها الفقهاء الذين قاموا بنقد المنطق اليوناني الذي هو أساس الطبيعيات والإلهيات اليونانية. فكتبوا "الرد على المنطقيين" و"نقض المنطق" و"ترجيح أساليب القرآن على منطق اليونان". هناك إذن نوعان من الإبداع. الأول داخل علوم الحكمة ذاتها. فالنقل إبداع للمصطلحات وقراءة للنص المنقول وإعادة كتابة له. والشرح إبداع عن طريق تفتيت النص ومعرفة مكوناته العقلية. والتلخيص إبداع عن طريق إعادة تركيب النص، والقدرة على رؤية بؤرته، والغوص في قلبه، وإعادة التعبير عن قصده الرئيسي وحدسه الأولى. والتعليق إبداع لأنه نقل للوافد داخل الموروث، ومضغ الوافد لقمة لقمة حتى يسهل ابتلاعها قبل هضمها وتمثلها. والعرض إبداع لأنه تأليف في الوافد دون نصوصه وعرض لموضوعاته مباشرة دون وسط النص. والتأليف إبداع لأنه يتجاوز النقل، ويتوجه إلى الأشياء ذاتها، ينظرها تنظيراً مباشراً بالاعتماد على المصدرين الرئيسيين للعلم، الموروث والوافد.
"من النقل إلى الإبداع" إذن موجه ضد فريقين: الأول المستشرقون واتباعهم من العرب الذين يرون علوم الحكمة مجرد نقل لفلسفة اليونان وامتداد للتراث اليوناني داخل التراث الإسلامي، حكماً على ظاهرة اللغة، وتأثراً بالحضارة الغربية التي ترى أن اليونان هم الأصل، وبدافع النظرة الدونية للمركز إلى الأطراف. فالإبداع لا يكون إلا في المركز والأطراف ليس لها إلا التعليق والشرح. وإن كان لذلك فضل فهو في حفظ تراث الأصل اليوناني ونقله في العصر الوسيط إلى الغرب الحديث قبل أن ينقله الغرب بنفسه مباشرة بعد أن اكتشف نقص النقل الأول، زيادة ونقصاناً أو سوء فهم وخلط. والثاني الفقهاء القدماء والمحدثون. فهم الذين يعتبرون فلاسفة الإسلام مجرد دوائر منعزلة على هامش الحضارة الإسلامية. يكفرونهم ولا يرون لهم أي دور إلا في تبعية اليونان بل والتآمر على العقيدة من الفلاسفة الباطنيين والانحراف بها عن فهمها الصحيح عند متكلمي أهل السنة.
وقف الحكماء أمام الوافد بطريقة المحاور، الند للند، من أجل استيعابه وتمثله. والأوسع نظراً يستوعب الأضيق أفقا. والأكمل تصوراً يحتوي الأنقص رؤية. جمعوا بين الموروث والوافد على عكس المتكلمين الذين يتعاملون مع الموروث فحسب باستثناء المعتزلة وأصحاب الطبائع خاصة. وطوروا علم الكلام من علم داخلي إلى علم داخلي وخارجي، مدافعين ليس فقط عن الأمن في الداخل بل أيضاً عن الأمن في الخارج. فالمتكلمون نصف فلاسفة، والفلاسفة متكلمون كاملون.
المصدر : من النقل إلى الإبداع/ مجلد1/ النقل – حسن حنفي .
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |