لقد ارتبطت الفلسفة بالتاريخ ليس فقط من حيث هو تاريخ الفلسفة أي رصد تاريخ الفكر البشري وتقلباته بل من حيث هو فلسفة التاريخ أي التفكير في تطور التاريخ وحركته ومحاولة البحث عن قانون يحكم هذا التطوّر ويصف هذه الحركة. بل إن تاريخ الفلسفة ذاته ليس رصداً ميتاً للمذاهب والنظريات الفلسفية عبر التاريخ دون رجوع إلى ظروفها التاريخية وتعبيرها عن روح العصر، بل هي معرفة التجارب البشرية الفردية والاجتماعية والتاريخية التي خرجت منها هذه الفلسفات. تاريخ الفلسفة هو تاريخ الروح البشري في مواجهة الواقع وعبر التاريخ. لذلك كان هناك نوعان من تاريخ الفلسفة:
الأول هو الرصد الكمّي لتاريخ الأفكار بلا منظور أو قانون أو دلالة. والثاني محاولة الدخول في أعماق التاريخ والذهاب إلى ما وراء الأفكار لمعرفة دلالاتها على عصورها وظروف نشأتها والتجارب الحيّة التي وراءها، وصلتها بالمرحلة التي قبلها وتمهيدها للمرحلة التي بعدها. الأوّل موتٌ للفلسفة، والثاني حياة لها. لقد كانت الفلسفة ابنة عصرها تعبّر عن أزمة العصر وتحاول إعطاء حلول تعبّر أيضاً عن تصوّر العصر وتجاوزه إلى ما بعده. نشأت الفلسفة في التاريخ، وخرجت من موقف ولكن ضاعت على أيدي أساتذة الفلسفة ومحترفيها واجتثوها من الجذور، وعرضوها كطائر في الهواء لا مستقرّ له ولا مكان. الصلة بين الفلسفة والتاريخ واضحة بذاتها. وعليها يتوقف موتها أو حياتها. إذا ما ارتبطت الفلسفة بالتاريخ تنمو وتزدهر وتحيا. وإذا انفصلت عن التاريخ تخبو وتتقلّص وتموت.
الفلسفة حركة التاريخ. وفصلهما مثل فصل الرّوح عن البدن، وإثبات الروح مجردة غير مرئية لا مستقرَّ لها إلاَّ في عالم الغيب، وجثة هامدة لا حراك فيها تنحلّ بعد حين، فتندثر الأمم. وأغلب ما يشاهد فيه موت الفلسفة وحياتها في التاريخ في نهاية مرحلة وبداية أخرى، وفلسفة العصور الذهبية حية باستمرار، وفلسفة الخمود والانحطاط ميتة باستمرار، ولكن البعث الفلسفي يحدث في لحظات الموت والحياة عندما تخبو حركة التاريخ ثم تبعث فيها الحياة من جديد. فأرسطو وابن خلدون وشبنجلر وتوينبي وبرجسون وهوسرل في نهاية عصر عندما تؤذن الحضارة بالنهاية. وسقراط والكندي، وديكارت، والطهطاوي بدايات لعصور عندما تُبْعَث الحضارة من جديد.
تموت الفلسفة إذن عندما تكون خارج التاريخ لا شأن لها بتطور الروح البشري ولا بحياة الشعوب. تظل فلسفة لا في زمان ولا مكان، فلسفةً يمكن نقلها من عصر إلى عصر، ومن بيئة إلى بيئة، ومن جيل إلى جيل، لا موطن لها ولا مستقرَّ، لا تقضي على طاغٍ ولا تقيم صَرْحَ دولة. وهي مثل الفلسفات التي ننقلها نحن هذه الأيام من الغرب حتى نكون معاصرين، نكسب بعض الشهرة، ونرتزق منها، ونجد فيها مادة للتدريس كما نجد البضائع المستوردة، ونضعها في الكتب المقرّرة في معاهدنا وجامعاتنا، فالزمان والحركة هما اللذان يعطيان الفكر البشري قوته وحياته. وهما قنواته التي تمدّ الذهن البشري بخصوصيته ونمائه.
ويشهد التاريخ على ذلك. فمن أسباب موت الفلسفة في العصر الوسيط أنها كانت فلسفات عقائدية لا تهتمّ بتطور التاريخ البشري ولا بحياة الشعوب ولا بمراحله المختلفة، اقتصرت على صياغة فلسفات لا تاريخية ثلاثية القسمة: منطق وطبيعيات وإلهيات دون أن يكون فيها تاريخيات أو إنسانيات كأقسام مستقلة غير ملحقة بالإلهيات. كانت العلاقة بين طَرَفي الحقيقة علاقة رأسية بين الله والعالم، وليست علاقة أفقية بين الماضي والمستقبل أي الله في التاريخ والخلود في الزمان. وقد ظهر الشيء نفسه في فلسفاتنا القديمة عند ابن سينا خاصة في موسوعاته الفلسفية.
فكانت فَلسفة بلا تاريخ وبلا وعي تاريخي، وبلا مراحل تاريخية. وأقصى ما وصلت إليه هو ذكر حضارات السابقين وتراث الأمم السالفة وطبائعها دون صياغة مفهوم لتقدم التاريخ ومراحله. كان التاريخ هو الرواية أو تاريخ النبوّة، أو تاريخ التشريع أو تاريخ الطبقات أو تاريخ الخلفاء أو تاريخ الملوك أو تاريخ السنين أو تاريخ الأعيان والأعلام، ولم يكن تاريخ الشعوب وحركة الجماهير والوعي بالتاريخ.
لقد ماتت الفلسفة أيضاً في الاتجاهين الصوري والمادي في الوعي الأوروبي لأنهما أسقطا الزمان والتاريخ من الحساب. وأكبر مثل على ذلك ديكارت ومالبرانش وليبنتز. فلم يظهر التاريخ في فلسفتهم نظراً لأن العقل كان في علاقة مباشرة مع اللانهائي بلا تطوّر أو زمان. ولم يندّ عن ذلك إلاَّ اسبينوزا في "رسالة في اللاهوت والسياسة" التي درس فيها نشأة دولة العبرانيين وسقوطها، وتطوّر الكتب المقدسة والعقيدة المسيحية والتاريخ المقدس. بل أن البنيوية كوريث للعقلانية والصورية دراسة للموضوعات خارج التاريخ والزمان فتحوّلت إلى تطبيقات في العلوم الإنسانية دون حركة تاريخ بالرغم من وجود التطور الزمني لأنه في نهاية الأمر لا يقدم إلاَّ صوراً وقوالب صورية وليس تاريخاً بمعنى الوعي بالتاريخ وحركة الشعوب.
وماتت الفلسفة في أمريكا لأنها بلا تاريخ، وليس لها جذور إلاَّ كامتداد للفلسفات الأوروبية واتجاهاتها المثالية والواقعية. التاريخ والفلسفات المثالية مثل فلسفات هوكنج ورويس مثالية فردية بلا وعي بالتاريخ. كما أن الفلسفات الشرقية القديمة لم تُعْنَ بموضوع التاريخ. فقد طغى الكون على كل شيء. وابتلع الخلودُ الزمانَ وطواه فيه.
وماتت الفلسفة لدينا لأنه ليس لدينا وعي بالتاريخ، ولا نعرف في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟ نقوم بأدوار أجيال مضت فتنشأ الحركة السلفية أو نقوم بأدوار أجيال قادمة فتنشأ لدينا الاتجاهات الماركسية والعلمية والعلمانية. أو لا نقوم بأي دور في الحاضر فتنشأ حالة اللاّمبالاة دون أن ندري أننا في مرحلة خروج من التقاليد إلى التحرّر، ومن التراث إلى التجديد، ومن الماضي إلى الحاضر، وبالتالي يستلزم ذلك القيام بدور التنوير من أجل نهضة شاملة.
وعلى العكس من ذلك، تحيا الفلسفة بدخولها في معارك التاريخ وباستثمارها رصيد الفكر الإنساني، وإنجازات الروح البشري. وهنا تبدو أهمية أرسطو مؤرخاً وأولويته على سقراط وأفلاطون، فعن طريق أرسطو بُعِث التاريخ، تاريخ الفكر اليوناني، فلم يكن أرسطو يبدأ أية مشكلة دون عرض آراء السابقين عليه، وقبل أن يبدأ برأيه الخاص، فأمكن رؤية جدلية الموضوع واحتمالاته المختلفة. ولمَّا كانت كتابة التاريخ نذيراً بنهاية مرحلة وبداية أخرى كما هو الحال عند أرسطو وابن خلدون وتوينبي، فقد كان أرسطو ينبئ بنهاية الفكر اليوناني.
وقد حييت الفلسفة بشكل واضح في العصور الحديثة خاصة ابتداءً من القرن الثامن عشر بعد اكتشاف فلسفة التاريخ والوعي بالتاريخ ابتداءً من فيكو وكوندرسيه وترجو وفولتير وروسو حيث ارتبطت الفلسفة بالتاريخ. وحين أصبح التاريخ موضوع الفلسفة المفضّل، وحين تحدّدت الفكر الفلسفي طبقاً للفكر للمرحلة التاريخية التي يمرّ بها، تحوّلت العناية الإلهية إلى قانون للتقدّم، وأصبحت الفلسفة هي المعبّرة عن هذا التقدم، وقد ظهر ذلك بوضوح في حركة التنوير في ألمانيا عند لسنج وهردر وكانط. وقد ازدهرت الفلسفة بصورة أوضح عند هيجل. فهو الذي فَلْسَفَ التاريخ وأرَّخ الفلسفة، وجعل للفكر مساراً في التاريخ، وجعل التاريخ تحققاً للفكرة، فوحَّد بين الفلسفة والتاريخ، فالوعي تاريخ الوعي، والمنطق تاريخ المنطق، والفلسفة تاريخ الفلسفة، والجمال تاريخ الجمال، والدين تاريخ الدين، والسياسة تاريخ السياسة، والتاريخ تاريخ الحضارات البشرية.
وفي تراثنا القديم كان يمكن للفلسفة أن تزدهر من التفكير في تاريخ الفِرَق دون تكفير بعضها للبعض الآخر، وتكفير الفرقة الناجية ـ فرقةُ أهل السُنَّة والحديث ـ كلَّ الفرق الأخرى. فتاريخ الأمة هو تاريخ فكرها دون إدانة وحكم بالمُروق. وكان للفلسفة أن تحيا بالتفكير في تاريخ الأمم والحضارات وتاريخ الفرق غير الإسلامية هذا الجزء المجهول في علم أصول الدين الذي ذكره علماء الكلام وهم بصدد الحديث عن صفة "الواحد" أو بصدد الحديث عن الحضارات البشرية السابقة على الإسلام مثل حضارات الهند وفارس والروم. كما كان يمكن للفلسفة أن تزدهر لو ظلّ الاجتهاد ولم يتوقف المسلمون عنه. وكان يمكن لها أن تزدهر أيضاً لو استأنفت تفكير ابن خلدون في علم التاريخ، في أسباب انهيار الأمم والشعوب، وتزيد عليه أسباب نهضة الأمم وشروط البعث الحضاري الجديد. وقد بدأت الإرهاصات منذ القرن الماضي في الفكر الإصلاحي والعلماني والسياسي كلٌّ بطريقته الخاصة دون أن تنشأ فلسفة أو أن يؤسَّس اتجاه أو يُقام مذهب. وهذا لا يعني أن الفلسفة قد ماتت بل يعني أن ظروف حياتها ما زالت تتهيأ وأنها على مشارف ميلاد جديد.
حسن حنفي مفكر مصري، يقيم في القاهرة، يعمل أستاذا جامعيا.
مارس التدريس في عدد من الجامعات العربية ورأس قسم الفلسفة في جامعة القاهرة. له عدد من المؤلفات في فكر الحضارة العربية الاسلامية. حاز على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون. عمل مستشاراً علمياً في جامعة الأمم المتحدة بطوكيو خلال الفترة من (1985-1987). وهو كذلك نائب رئيس الجمعية الفلسفية العربية، والسكرتير العام للجمعية الفلسفية المصرية.
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |