علي جمعة وجناية الصوفي على الفقيه
لا شك أنك امتعضت –مثلي– من حكاية شرب بول الرسول صلى الله عليه وسلم، أقول امتعضت تأدبًا مع مقام الشيخ الجليل علي جمعة الذي أعلم أنه صاحب مدرسة فكرية مميزة وعالم من الوزن الثقيل.. لكن –بصراحة- هذه الفتوى مع أختها الخاصة بإرضاع الكبير تكفيان لصرف الناس عن دخول الإسلام لعشرات السنين، ولا يمكن أن نلومهم عن الانصراف عن دين يشرب أتباعه بول رسولهم ويرضع بعضهم بعضا!!
أضف إلى ذلك أن الحديث في هذا الأمر بعيد عن اللياقة؛ فالطبيب يسأل عن البول لتشخيص مرض، هذا مع الشخص العادي، فما بالك برسول كريم يقرن اسمه بما يستدعي إلى النفس معاني الطهارة والجمال!!.. حينما وصفه أصحابه ذكروا محاسنه (فداه أمي وأبي): طيب ريحه وإشراقة ابتسامته وحسن خلقه.
الصوفي والفقيه
لا أدري إن كنت مصيبًا أم مخطئًا إذا قلت إن هذه الفتوى –مع عظيم توقيرنا للشيخ الجليل- مثال لجناية الصوفي على الفقيه، حينما يجتمعان معا في رجل واحد، الشيخ علي جمعة ليس أول من جمع الفقه مع التصوف، ولن يكون آخرهم، الإمام الغزالي فقيه عصره تحول للتصوف، جلال الدين الرومي، الشيخ عبد الحليم محمود، وغيرهم كثيرون لا يحصيهم العد.
علي جمعة الصوفي الذي يرى الرسول ظاهره وباطنه طاهرًا هو صاحب هذه الفتوى الصادمة، وليس علي جمعة الفقيه البارع الذي يعرف أن الرسول كان يغتسل من الجنابة وإذا ابتل ثوبه بالبول غسله بالماء، ولو كان هناك خصوصية في ذلك الأمر لأبلغنا ذلك كما أبلغنا غيره من خصوصياته، إن فرط عشق الصوفي لشخص الرسول هو الذي جعله يستسيغ ذلك –كلاما وفعلا– وفات الفقيه اختلاف درجة الحساسية عند الشخص العادي.
أرجو ألا يفهم من هذا أنني ضد الصوفية أو أنتقص من تراثها الباهر وشيوخها الأجلاء، إنني أفهم الصوفية -كما يفهمها الرجل العادي- على أنها طريق يقطع إلى الخالق، ومحاولة للارتقاء بالملكات الروحية ومقاومة الشح والأثرة.
لكن المرء مهما بالغ في التماس الأعذار لا يستطيع أن ينكر –وإلا خدع نفسه– أن الصوفية في اهتمامها البالغ بمملكة الروح لم تول نفس الدرجة من الأهمية للعقل والدليل.. هي منطق وجداني يقوم على تهذيب النفس وهذا شيء رائع يحسب لها، لكن جنايتها على العقل (أحيانا) تحسب عليها بالتأكيد!!.
العقل والروح
(العقل) و(الملكات الروحية) جناحان يرتفع بواسطتهما الإنسان محلقا في فضاء لا حدود له.. ولحسن الحظ أن أتباع دين كتابه المقدس هو القرآن الكريم ليسوا في حاجة أبدا إلى المفاضلة والاختيار بينهما، وإذا كانت منجزات الحضارة الحديثة هي ثمرة العقل الغالية فإني مندهش من كونها لم تحدث في الشرق الإسلامي، على الرغم من امتلاكنا مقوماتها الواقعية؛ فالقرآن أعلى من قيمة العقل والبرهان، وهل النهضة العلمية إلا عقل وبرهان؟. آيات لا حصر لها تحمل معنى (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين).. ولقد التقط الفقهاء الفكرة فأسسوا مذاهب تقوم على البرهان وتسبق المنطق العلمي الأوربي بقرون كثيرة، ولكن علماء هذه العصور لم يلتقطوا الفكرة بالدرجة الكافية –على الرغم من أنها كانت في متناول أيديهم- فبقيت النهضة العلمية التجريبية رهينة محاولات فردية لعلماء مسلمين أفذاذ، ولكنها لم تصبغ المجتمع بأسره وتؤثر على حياة أفراده كما حدث هناك.
وفي كل الأحوال فإن العقل الذي أنشأ المذهب الفقهي الصارم المعتمد على الدليل والبرهان في الشرق، أو ذلك الذي أبدع النهضة العلمية في أوربا، لم يكن كافيا أبدا لإشباع ملكات أخرى في النفس الإنسانية، ثمة مسافة للروح لا يملك العقل والبرهان (فقهيا أو علميا) أن يملأها، نحن بحاجة إلى ارتياد مملكة الروح أحيانا والتخفف من منطق العقل التجريبي بقيوده الصارمة.
وهنا كان مكان وزمان الصوفية..
فن وتراث
والخلاف بين الفقهاء والصوفية قديم جدا ومحتم بحكم التباين بينهما، الفقيه يعتبر الدليل ولا يقيم حجة لغيره، والصوفي يعتمد على تجاربه الروحية وذوقه الفردي، ليس من مصلحة أحد الانتقاص من التراث الصوفي الهائل المتراكم عبر السنين، ومحاولة هدمه وتخريبه –على يد أعدائه وعلى يد المدعين أيضا– جريمة؛ فهذا التراث ملك للبشرية جمعاء، ولكن يجب النظر إليه –من وجهة نظري– على أنه فن وشعر وتراث، لا دين وإيمان واعتقاد.
الصوفية حركة روحية عميقة الجذور في عموم بلاد المسلمين ولها دولة خاصة بها في القلوب، والطرق الصوفية نشرت الإسلام في كثير من البلدان وما زال تأثيرها الروحي ممتدا حتى تلك اللحظة.
ثمة أشياء جميلة جدا في الطرق الصوفية، هناك تربية حقيقة على يد شيخ لمريديه، وتلك العلاقة الفردية يثبت دائما أنها الأنفع والأبقى، نحن بحاجة إلى تنمية ملكات الروح والوجدان ومغالبة الشح الإنساني والتكالب الدنيوي، تقتضي الأمانة العلمية أن نثبت ذلك للصوفية ولكن هناك انحرافات وشطط (لا شك في هذا)، ونحن بحاجة لتنقية الصوفية الحقة من الشوائب؛ لأننا بحاجة إلى تلك الاستراحة في عالم الروح.
هناك أشياء في الطرق الصوفية لا يمكن للعقل أن يقبلها، بالذات عقل كرمه الله تعالى أيما تكريم، وطالبه القرآن الكريم بطلب البرهان قبل قبول أي قضية.
مثلا.. تلك المبالغة في منح الأولياء والمشايخ كرامات تتعدى حياتهم إلى موتهم، فليكن فلان وليا، هنيئا له ما أعده ربه للمتقين, والعاقل من يبحث عن دعوة مستجابة، ولا يستقيم حال مجتمع لا يعز فيه أهل الطاعة ولا يذل فيه أهل المعصية، كل هذا جميل ومفهوم، ولكن أن تزعم تأثيرًا للولي بعد موته عبر القرون بحجة أن الروح لا سلطان للزمان عليها.. فذلك شيء يحتاج بالتأكيد إلى دليل من الدين نفسه.
معضلة القابلية للتصديق
في قلب مسجد السيد البدوي توجد لوحة تقشعر منها الأبدان، تزعم على لسان الولي أنه يرعى الأسماك في المحيط والطير في الهواء؛ فكيف يعجز عن حماية من يزوره يوم مولده؟. وبصرف النظر عن الافتعال الواضح في الكلام فمن واضح أن من كتب هذا الكلام تاجر يهمه رواج بضاعته بتدفق الأتباع على المدينة وقت المولد أو كتبه أحد المخابيل، (وما أكثرهم).
ليس السيد البدوي مسئولا عن هذا الهراء، ولو كان قالها (ولا أعتقد ذلك) فهذا شرك صريح كائنا من قاله؟، إذا كان النبي لا يعرف الغيب وليس له من الأمر شيء ولا يعرف إلا ما علمه ربه.
والمدهش حقا هو تلك القابلية للتصديق عند البعض، ردود فعل بعض الصوفية كانت عجيبة، تهيبوا وقالوا هناك أسرار فوق مستوى العقل ولعله قالها ويقصد معنى معينا فاسكت أفضل لك.
ولم أسكت لأن السكوت هنا خيانة للعقل والبرهان وللقرآن نفسه، ومسألة الأسرار التي يعتنقها الصوفية تحمل رائحة غير مريحة من روائح الباطنية تسربت من عصور الظلام، العقل السليم لا يتصور أن هناك أسرارًا يختص بها البعض دون الآخرين؛ فمبادئ الدين يجب أن تكون واضحة للكل مناسبة للجميع على اختلاف عقولهم وأفكارهم، وفكرة احتكار طائفة أو شيخ لبعض الأسرار تتعارض مع أسس الدين ذاته؛ فالله تعالى أعلن على الملأ أن النعمة قد تمت، والدين قد اكتمل؛ فلا معنى أن يأتي أحد كائنا من كان زاعما اتصاله بالنبي أو بالملأ الأعلى ويطالبنا بالتهيب والتصديق.
من ذاق عرف
أذكر أني كنت يوما عند شيخ طريقة مشهور كنت –ومازلت- أحبه، فقد كانت له مدائح بديعة في حب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ما حدث كان مدهشا، فقد اجتمع عنده عدد محدود قبل توافد أتباعه، وفجأة وجدته قد بسط يده وقال بلهجته الصعيدية المحببة للنفس: "اللي يحب يخش الجنة يا ولاد يضع يده على يدي الآن". وسارع الكل -وأولهم أنا- إلى وضع يده على يديه، ولكني لم أستطع برغم حبي له أن أمنع نفسي من السؤال: هل يستطيع أحد أن يضمن لغيره الجنة؟ وبهذه الطريقة؟، ثمة رائحة مريبة، رائحة تتعارض مع العقل والبرهان في القرآن الكريم، رائحة غير مريحة على الإطلاق، وبرغم أنه من مصلحتي أن يكون كلامه صحيحا فإن عقلي لا يشعر بالارتياح.
ليس بهذه الطريقة، أليس كذلك؟
لن تستطيع أن تجادل صوفيا بسهولة، سيقول لك فورا (من ذاق عرف)، ومعنى سؤالك أنك لم تذق، وإلا لما سألت؛ وبالتالي فأنت لم تعرف، هكذا ينتهي الحوار قبل أن يبدأ ناسيا أن أدنى أنواع اليقين هو اليقين الذاتي (مثل قلبي حاسس أن هذا الرجل ولي)، لأنه لا يقوم على أفكار يجزم العقل بصحتها بعد اختبارها، وكالقاعدة فإن البسطاء من الناس هم أشد الناس تمتعا بهذا النوع من اليقين، وكلما زاد علم الإنسان استخدم عبارات من قبيل "ربما ويحتمل" وابتعد عن العبارات التي تعطي معنى الجزم والتأكيد.
أو سيقول لك الصوفي أن هناك أسرارا غامضة لا تعرفها، أسرار اختص الله بها الشيخ الذي له اتصال مباشر مع الملأ الأعلى، ويرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة ومناما، وهو الذي أمره بفعل كذا، وبالطبع لا يجرؤ أحد على الاعتراض أو التساؤل عن شرعية مثل هذا الكلام.
وربما كان الصوفي ذكيا وواسع الأفق فيتبرأ من هذه الممارسات -حاسبا أن مجرد النفي يكفي- ويردد مقولة الإمام الجنيد: "طريقنا هذا مضبوط بالكتاب والسنة، ومقولة الشبلي: الصوفي من صفا قلبه فصفى، وسلك طريق المصطفى صلى الله عليه وسلم" ومقولة الرفاعي: "كل باطن خالف الظاهر فهو مردود". وكأن مجرد نقل هذه الأقوال يكفي ليجعلنا ننسى ما يحدث على الأرض طيلة الوقت، ويذكرني هذا بحكومتنا الرشيدة التي تقول -دون أي قصد للمقارنة-: "إن الشفافية والطهارة ونظافة اليد تحكم العملية السياسية". وكلنا يعرف ما يجري على أرض الواقع بعيدا عن المبادئ الرفيعة.
نريدها خالصة
الواقع الملموس يقول: إن ممارسات كثير ممن ينسبون أنفسهم للصوفية مثيرة للجدل، لن أتكلم عن المهازل التي تحدث في الموالد؛ لأني لا أريد أن أفتح جرحا غائرا، وسأحاول إقناع نفسي أن هؤلاء من حقهم أن يحتفلوا ويفرحوا مثلما يحدث في شم النسيم، أي أنها مناسبة شعبية وليست دينية.
في النهاية نحن بحاجة ماسة إلى الصوفية خصوصًا في عصر الماديات، الصوفية التي تكرس سلطان الروح وتعادل سطوة العقل وتعيد التوازن للنفس الإنسانية ولكنها لا تقبل الخرافات، نريدها خالصة من الشوائب، نحن نحب التراث الصوفي ونجله ونحترمه؛ لكننا أيضا نريد منه أن يحترم عقولنا وألا يجعلنا في موقف الاختيار بين العقل والروح لأننا بحاجة لكليهما.
باختصار نريد الفقيه علي جمعة خالصًا لنا في مقام الفتوى، أما الصوفي علي جمعة فنترك له خلوته مع ربه وسجادة الصلاة.
* د. أيمن محمد الجندي: طبيب وكاتب .
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |