التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود:
مدخل إلى فكر محيي الدين بن عربي.
بقلم: نهاد خياطة.
إذا قال الصوفي: “لا أرى شيئًا غير الله”، فهو في حال وحدة شهود. وإذا قال: “لا أرى شيئًا إلا وأرى الله فيه”، فهو في حال وحدة وجود. ولعل هذا أوجز تبسيط ممكن لهذين الاصطلاحين اللذين يختزلان التجربة الصوفية في أبعادها كلِّها. فحال وحدة الشهود هي حال الفناء؛ وحال وحدة الوجود هي حال البقاء. والفناء والبقاء متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ وكذلك وحدة الشهود ووحدة الوجود: فإذا كنتَ فانيًا عن شيء، فأنت لا بدَّ باقٍ بغيره؛ أو إذا كنتَ باقيًا في شيء فأنت، لا محالة، فانٍ عن سواه. وهذا أمر طبيعي، بما أن الإنسان عاجز عن جمع همَّته، أو تسليط انتباهه، على أكثر من موضوع واحد في نفس اللحظة. هذه الورقة التي أكتب عليها، إن فكرت فيها (طولها، عرضها، لونها، إلخ)، تعذَّر عليَّ أن أكتب عليها؛ وإن فكرت في الكتابة أو فيما أكتب، تعذَّر عليَّ التفكير في الورقة. في الحالة الأولى، يقال في المصطلح الصوفي: أنا باقٍ بالورقة، فانٍ عن الكتابة؛ وفي الحالة الثانية، يقال: أنا فانٍ عن الورقة، باقٍ بالكتابة.
يقول ابن عجيبة:[1]
إن الفناء هو أن تبدو لك العظمة، فتنسيك كلَّ شيء، وتغيِّبك عن كلِّ شيء، سوى الواحد الذي “ليس كمثله شيء”، وليس معه شيء. أو تقول: هو شهود حقٍّ بلا خلق، كما أن البقاء هو شهود خلق بحق… فمن عرف الحقَّ شهده في كلِّ شيء، ولم يرَ معه شيئًا، لنفوذ بصيرته من شهود عالم الأشباح إلى شهود عالم الأرواح، ومن شهود عالم المُلك إلى شهود فضاء الملكوت. ومن فَنِيَ به وانجذب إلى حضرته غاب في شهود نوره عن كلِّ شيء ولم يُثبِتْ مع الله شيئًا.
ما يهمنا، فيما نحن في صدده من قول ابن عجيبة، قولُه: “[الفناء] هو شهود حقٍّ بلا خلق، كما أن البقاء هو شهود خلق بحق…”. بعبارة أخرى، إن الفناء، أو وحدة الشهود، امتصاص التجلِّيات في مبدئها – المبدأ يمتص تجلِّياته و”يشفطها” – أو هو اختزال الدائرة في نقطة المركز؛ بينما البقاء هو شيوع المبدأ في تجلِّياته، أو هو اندياح نقطة المركز في الدائرة. في الحالة الأولى، يغيب الخلق في الحق؛ وفي الثانية، يتجلَّى الحقُّ في الخلق. والخلق والحقُّ أبدًا ما بين غياب وتجلٍّ.
والمثال الذي كثيرًا ما يسوقه الصوفية تبيانًا لحالي الفناء والبقاء جواب قيس ليلى عندما سئل “أين ليلى”، وقوله: “أنا ليلى!” فقيس، لما قال ما قال، كان فانيًا عن نفسه باقيًا بليلى.
لكن خير مثال يوضح لنا حالي الفناء والبقاء، كونه منتزَعًا من حياتنا المعاصرة، مثال الممثل السينمائي أو المسرحي الذي يؤدي دورًا رَسَمَه له المخرج: الممثل في هذه الحالة يتكلَّم كلامًا غير كلامه هو، ويأتي أفعالاً ليست أفعاله هو، بل كلامه وأفعاله كلام وأفعال الشخصية التي يؤدي دورها. بالتعبير الصوفي نقول: إن الممثل فانٍ عن نفسه باق بدورهٍ.
ووحدة الشهود نوع من التوحيد يختلف عن توحيد الإيمان الذي نصَّتْ عليه الشريعة، من حيث إن التوحيد الشهودي توحيد يقيني، تجريبي أو “ذوقي”، على حدِّ المصطلح الصوفي؛ بينما التوحيد الشرعي إيماني، نقلي، يُلتمَس إليه الدليل بالنظر العقلي. وعلى هذا، فإن التوحيد الشهودي، أو وحدة الشهود، حال أو تجربة، لا فكر واعتقاد. يقول المرحوم د. أبو العلا عفيفي: [2]
هو التوحيد الناشئ عن إدراك مباشر لما يتجلَّى في قلب الصوفي من معاني الوحدة الإلهية في حالٍ تَجِلُّ عن الوصف وتستعصي على العبارة؛ وهي الحال التي يستغرق فيها الصوفي ويفنى عن نفسه وعن كلِّ ميل سوى الحق، فلا يشاهد غيره لاستغراقه فيه بالكلِّية.
ثم يتابع قائلاً:
هذا هو الفناء الصوفي بعينه؛ وهو أيضًا مقام المعرفة الصوفية التي ينكشف فيها للعارف معنى التوحيد الذي أشار إليه ذو النون المصري، إذ يقول: “إنه بمقدار ما يعرف العبد من ربِّه يكون إنكاره لنفسه؛ وتمام المعرفة بالله تمام إنكار الذات.”
ثم يتابع عفيفي: [3]
فإن العبد، إذا انكشف له شمول القدرة والإرادة الإلهية والفعل الإلهي، اضمحلت الرسوم والآثار الكونية في شهوده، وتوارتْ إرادتُه وقدرتُه وفعلُه في إرادة الحقِّ وقدرته وفعله، ووصل إلى الفناء الذي هو عين البقاء: لأنه يفنى عن نفسه وعن الخلق ويبقى بالله وحده.
وينقل عفيفي عن التهانوي قوله: [4]
والتوحيد عند الصوفية معرفةُ وحدانيَّته الثابتة له في الأزل والأبد، وذلك بألا يحضر في شهوده غير الواحد جلَّ جلاله… فيرى صاحب هذا التوحيد كلَّ الذوات والصفات والأفعال متلاشية في أشعة ذاته [أي ذات الحق – التفسير من تدخُّل عفيفي] وصفاته وأفعاله، ويجد نفسَه في جميع المخلوقات كأنها مدبِّرة لها، وهي أعضاؤها.
ثم يقول التهانوي: [5]
ويرشد فهم هذا المعنى إلى تنزيه عقيدة التوحيد عن الحلول والتشبيه والتعطيل، كما طعن فيهم [أي الصوفية] طائفة من الجامدين العاطلين عن المعرفة والذوق، لأنهم إذا لم يُثبِتوا معه غيرَه فكيف يعتقدون حلوله فيه أو تشبيهه به – تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
أقول: نحن هنا أمام نَوْسَة هائلة من نَوْسات النفس البشرية في سعيها إلى نفي العالم من أجل إثبات الألوهة، بعد أن كانت، في “وثنيَّتها”، تنفي الألوهة من أجل إثبات العالم، أو على أعلى اعتبار، تجعل الألوهة شيئًا من أشياء العالم؛ “تشيِّئُها” وتصنعها من التمر، حتى إذا جاع عبادها أكلوها وأخذت طريقها إلى حيث النفايات. إذن، لا بدَّ من مواجهة نَوْسَة نفي الألوهة من أجل إثبات العالم بِنَوْسَة مضادة، وصلت إلى أقصى مدى لها عند صوفية وحدة الشهود الذين قالوا بنفي العالم من أجل إثبات الألوهة.
نعود إلى عبارة التهانوي القائلة إن الصوفية لا يُثبِتون مع الله غيره، ولا مع صفاته صفات أخرى، ولا مع أفعاله أفعالاً أخرى. يعقِّب عفيفي على قول التهانوي بالقول إنه إذا أُخِذَ على إطلاقه، لا يجعل الصوفية من القائلين بالتوحيد، بل بوحدة الوجود؛ وهو معنى للتوحيد كادت أن تقول به المدرسة البغدادية في القرن الثالث الهجري، ومن زعمائها أبو القاسم الجنيد. [6]
نستعرض فيما يلي طرفًا من أقوال كبار ممثِّلي هذه المدرسة، بادئين بأبي القاسم الجنيد. ولشيخ الصوفية أقوال كثيرة في التوحيد أهمها قوله: [7]
أن يرجع العبد إلى أوَّله فيكون كما كان قبل أن يكون.
يشير الجنيد بهذا إلى قوله تعالى:
وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريَّتهم وأشهدتهم على أنفسهم: ألست بربِّكم؟ قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنَّا كنَّا عن هذا غافلين. (الأعراف 172).
أي أن شهادة الخلق للحقِّ بوحدانيته وربوبيَّته قد أخذها الله تعالى من بني آدم في الميثاق الأول، وهم بعدُ في عالم الغيب قبل أن يوجدوا في عالم الشهادة، عندما كانوا مجرد إمكانية وجود، أو وجود بالقوة، وقبل أن ينتقلوا إلى وجود بالفعل في هذا العالم. فإذا فَنِيَ الصوفي عن نفسه وعن الخلق كان في حال مماثلة لحاله في عالم الذرِّ؛ أو إن شئت قلت: في نفس الحال إياها، لأن كلَّ خروج من عالم الزمان والمكان هو التقاء بلحظة الميثاق التي قيلت فيها كلمة “بلى”!
وقد غلا الشبلي في توحيده غلوًّا أدى به إلى تكفير الموحِّد بقوله: [8]
من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن أشار إليه فهو ثنوي، ومن سكت عنه فهو جاهل، ومن وهم أنه واصل فليس له حاصل، ومن أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نطق فيه فهو غافل، ومن ظنَّ أنه قريب فهو بعيد، ومن تواجد فهو فاقد؛ وكلُّ ما ميَّزتموه بأوهامكم وأدركتموه بعقولكم من إثم معانيكم فهو مصروف مردود إليكم، مُحدَث مصنوع مثلكم.
مفتاح توحيد الشبلي هو العبارة الأخيرة التي تفيد استحالة توحيد الخلق الحادث للحقِّ القديم، لأن توحيد “الحادث” حادث مثله؛ فهو بهذا الاعتبار عدم، أو بحكم العدم؛ وإثباتُ وجودٍ آخر مع الله الذي له وحدة الوجود إنما هو شرك أو إلحاد به – وهذا ما أدى ببعضهم إلى القول: ما وحَّد الله غير الله! [9]
وكان الحلاج يقول:
إن العبد إذا وحَّد الله تعالى فقد أثبت نفسه؛ ومن أثبت نفسه فقد أتى بالشرك الخفي. وإنما الله تعالى هو الذي وحَّد نفسه على لسان من شاء من خلقه.
وقد أوفى الهروي على الغاية عندما قال:
ما وحَّد الواحد من واحـد * إذ كلُّ من وحَّده جـاحد
توحيد من ينطق عن نعته * عارية أبْطَلَـها الـواحد
توحيـده إيِّــاه تـوحيده * ونعت من ينـعته لاحـد
يلاحظ عفيفي أن بعض الدارسين من المستشرقين خَلُصَ من هذه الأقوال، بل من هذه المواقف، إلى أن السمة الغالبة على التصوف الإسلامي هي سمة “وحدة الوجود”. لكن ما هي وحدة الوجود؟ ليس من اليسير إيجاد تعريف دقيق لهذه النظرية أو العقيدة، لأنها كثيرًا ما تلتبس بالحلول الذي يتنافى مع العقيدة الإسلامية، وربما غير الإسلامية. لكن ما يعنينا منها هنا هو وحدة الوجود التي يقول بها الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي.
فالحلول Pantheism معناه امتصاص المبدأ في تجلِّياته، بحيث يصير الخالقُ أسيرَ مخلوقاته؛ فهي هو من كلِّ وجه، وهو هي من كلِّ وجه. على حين أن وحدة الوجود Unity of Being (أو بالفرنسية Unicité de l’Être)، أو على الأقل وحدة الوجود التي يقول بها ابن عربي، تختلف اختلافًا بيِّنًا عن عقيدة الحلول، وإن كانت تتقاطع معها في بعض النقاط لكي تتفارق عنها في بعض النقاط الأخرى، أو حتى في نفس النقاط.
ولكي نوضح ذلك، نذكِّر بما قلناه في مطلع كلامنا من أن ثمة تلازمًا بين الفناء والبقاء، بحيث لا فناء بلا بقاء، ولا بقاء بلا فناء؛ بل إن الفناء هو عين البقاء، وإنهما حقيقة واحدة، ولا فرق بينهما إلا في الاعتبار؛ أو قل إنهما مظهران من حقيقة واحدة: أحدهما سلبي (الفناء)، وثانيهما إيجابي (البقاء). كما تبيَّن معنا أن وحدة الشهود تسمية أخرى للفناء، ووحدة الوجود تسمية أخرى للبقاء. وكلتا التسميتين – وشأنهما في هذا كشأن الفناء والبقاء – تعبِّر عن حقيقة واحدة، ولا فرق بينهما إلا في الاعتبار؛ حتى ليمكننا القول إن وحدة الشهود هي عين وحدة الوجود، قياسًا على القول إن الفناء هو عين البقاء.
ولو عدنا إلى مثال الممثل السينمائي أو المسرحي الذي يؤدي دور شخصية معينة، لأمكننا التمييز بين ثلاثة أحوال: أولها، فناء الممثل عن نفسه؛ ثانيهما، بقاؤه في الشخصية التي يلعب دورها؛ وثالثها، بقاء الشخصية التي يلعب دورها في الممثل: فهي التي تنطق بلسانه فيما هو ينطق بلسانها، وهي التي تفعل من خلاله فيما هو يفعل من خلالها. وعلى هذا فقد يعني بقاء الصوفي في الحقِّ بقاءَ الحقِّ في الخلق أيضًا. ومن هنا قال الحلاج: “ما في الجبة غير الله!”
ويمكننا أن نلاحظ هذه الأطوار الثلاثة في وصف عفيفي للتجربة الصوفية إذ يقول: [10]
ولكن العبد الفاني عن نفسه، الباقي بربه، ليس في حالة سلبية محضة، كما قد يسبق إلى الأوهام، لأن بقاءه بالله يُشعِره بنوع من “الفاعلية” لا عهد له به، إذ يرى نفسه وكأنه منفِّذ للإرادة الإلهية، مدبِّر كلِّ ما يجري في الوجود، محرِّك للأفلاك، قطب الوجود الذي يدور عليه كلُّ شيء.
لكن أين تتقاطع وحدة الوجود والحلول وأين تتفارقان؟
النظريتان تتقاطعان عند اعتبارهما أن الله والعالم كينونة واحدة؛ وتتفارقان من حيث إن عقيدة الحلول تنفي ثنائية الحقِّ والخلق، على حين أن وحدة الوجود التي قال بها الشيخ الأكبر تعترف بثنائية الحقِّ والخلق وتنفيها في نفس الوقت. فهي تحافظ على الثنائية فيما تقول بالوحدة، وتحافظ على الوحدة فيما تقول بالثنائية. أي أنها ثنائية في وحدة، أو وحدة في ثنائية؛ لكنها تمنح الوحدة قيمة مطلقة والثنائية قيمة نسبية. والسبب في ذلك قِدَمُ الحقِّ وحَدَثُ الخلق. فالخلق، أو العالم، مُحدَث غير قديم، ووجوده بهذه الصفة، ليس إلا وجودًا عابرًا بما هو صائر إلى زوال؛ بينما الحقُّ تعالى موجود أزلاً، وموجود أبدًا، لا بل هو الوجود بامتياز. وبذلك يكون وجود الخلق، قياسًا على وجود الحق، وجودًا كالعدم، أو هو اللاوجود. فكلُّ ما له بداية ونهاية فهو محدَث، لا حظَّ له في قِدَم. وهو، بهذه الصفة، لا وجود له إلا ما بين بدايته ونهايته؛ أما قبل البداية وبعد النهاية فعدم محض على صعيد الخلق بما هو خلق. إذن، فثنائية الحقِّ والخلق معترَف بها بمقدار “وجود” الخلق ما بين نشأته ومآله؛ وإلا فالوجود للحقِّ تعالى وحده، لأنه هو الوجود بامتياز، كما قلنا. وعلى هذا تكون ثنائية الحقِّ والخلق ذات قيمة نسبية، ويكون وجود الحقِّ وحده ذا قيمة مطلقة. أو تقول إن ثنائية الحقِّ والخلق شأن عابر، بينما وجود الحقِّ وحده هو الثابت والدائم. أو تقول إن وجود الحقِّ وجود حقيقي، ووجود الخلق وجود اعتباري. فوجود الخلق، بهذا الاعتبار، أمر معترَف به لدى الشيخ الأكبر.
ثمة معيار آخر للتمييز بين الحلول ووحدة الوجود، أعني به التنزيه والتشبيه، أو المباينة والمحايثة، على حدِّ تعبير الإمام ابن قيِّم الجوزية، [11] أو التقييد والإطلاق، على حدِّ قول الشيخ الأكبر. [12]
تلتقي عقيدة الحلول مع عقيدة وحدة الوجود في أن الاثنتين تقولان بالمحايثة – محايثة الألوهة للعالم؛ وتفترقان من حيث إن الحلول يقول بالمحايثة المطلقة، على حين أن وحدة الوجود تقول بالمحايثة النسبية. فالحقُّ ليس مباينًا للخلق مباينة مطلقة، لأنه لو كان كذلك لكان الخلق موجودًا بذاته، ولم يكن حادثًا، وكان حدًّا للألوهة. ويؤدي بنا إلى نتيجة مشابهة القول بأن الحقَّ محايث للخلق محايثة مطلقة بلا مباينة، فيكون الله تعالى، في هذه الحالة، محدودًا بحدود العالم، متناهيًا كتناهي العالم، نسبيًّا كنسبيَّته. إذن لا بدَّ من الاعتراف بكلتا صفتي التنزيه والتشبيه، أو المباينة والمحايثة، أو المفارقة Transcendence والكمون Immanence. وقد جمع ابن عربي بين التنزيه والتشبيه في قوله: [13]
… وبالجملة فالقلوب به هائمة والعقول فيه حائرة، يريد العارفون أن يفصِّلوه تعالى بالكلِّية عن العالم من شدة التنزيه فلا يقدرون، ويريدون أن يجعلوه عين العالم من شدة القرب فلا يتحقق لهم؛ فهم على الدوام متحيِّرون: فتارة يقولون “هو”، وتارة يقولون “ما هو”، وتارة يقولون “هو ما هو” – وبذلك ظهرت عظمته تعالى.
ويقول أيضًا: [14]
التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد. فالمنزِّه إما جاهل أو صاحب سوء أدب… وكذلك من شبَّهه وما نزَّهه فقد قيَّده وحدَّده وما عرفه. ومن جمع معرفته بين التنزيه والتشبيه بالوضعين على الإجمال – لأنه يستحيل ذلك على التفصيل لعدم الإحاطة بما في العالم من الصور – فقد عرفه مجملاً لا على التفصيل، كما عرف نفسه مجملاً لا على التفصيل.
ثمة معيار ثالث هو الإقرار بأن الله تعالى واجب الوجود بذاته، وأن العالم واجب الوجود بغيره. يترتَّب على هذا القول أن الله تعالى مطلق – لا بل هو المطلق – وأن العالم نسبي، وأن النسبي تابع للمطلق وخاضع له. وعند ابن عربي أن الخلق يشترك مع الحقِّ في كلِّ صفة واسم، إلا الوجوب بالذات. يقول الشيخ الأكبر: [15]
ولا شكَّ أن المُحدَث قد ثبت حدوثُه وافتقارُه إلى مُحدِث أحْدَثَه لإمكانه لنفسه. فوجوده من غيره؛ فهو مرتبط به ارتباط افتقار. ولا بدَّ أن يكون المستنَد إليه واجب الوجود بذاته، غنيًّا في وجوده بنفسه غير مفتقر؛ وهو الذي أعطى الوجود بذاته لهذا الحادث فانتسب إليه. ولما اقتضاه لذاته كان واجبًا به. ولما كان استناده إلى مَن ظهر عنه لذاته، اقتضى أن يكون على صورته فيما يُنسَب إليه من كلِّ شيء من اسم وصفة، ما عدا الوجوب الذاتي؛ فإن ذلك لا يصح في الحادث، وإن كان واجب الوجود، ولكن وجوبه بغيره لا بذاته.
ثمة معيار رابع هو طبيعة الارتباط بين الحقِّ والخلق. وهي رابطة معنوية لا جسمانية أو مادية. وفي هذا يقول الشيخ الأكبر: [16]
أما الارتباط الجسماني فلا يصح بين العبد والرب [أو بين الخلق والحق] لأنه تعالى “ليس كمثله شيء”، فلا يصح به ارتباط من هذا الوجه أبدًا لأن “الذات” له الغنى عن العالمين؛ بخلاف الارتباط المعنوي، فإنه من جهة مرتبة الألوهية. وهذا واقع بلا شك لتوجُّه الألوهية على إيجاد جميع العالم بأحكامها ونسبتها وإضافتها.
لكن الشيخ الأكبر لا يتوقف عند قوله “لتوجُّه الألوهية على إيجاد جميع العالم بأحكامها ونسبتها وإضافتها”، بل يصف هذا التوجُّه من قِبَل مرتبة الألوهية بالافتقار؛ والأمر قد يبدو اختراقًا لمعيار “الوجوب الذاتي”. لكنه يبيِّن طبيعة هذا الافتقار، فيقول: [17]
وهي [أي الألوهية] التي استدعت الآثار: فإن قاهرًا بلا مقهور، وقادرًا بلا مقدور، وخالقًا بلا مخلوق، وراحمًا بلا مرحوم، صلاحيةً ووجودًا وفعلاً، محال. ولو زال سرُّ هذا الارتباط لبطلت أحكام الألوهية لعدم وجود مَن يتأثر. فالعالم يطلب الألوهية وهي تطلبه. والذات المقدس غني عن هذا كلِّه.
أقول: إن هذا نوع من الضرورة الميتافيزيقية اقتضتْها طبيعةُ كون الخالق خالقًا؛ أو هو نوع من تحقيق الذات بدونه تظل الألوهية إمكانية وجود، وليست وجودًا فاعلاً ومؤثرًا. وهو أدْخَلُ في باب الغاية من الخلق، في مثل قوله تعالى: “وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون” (الذاريات 56)، وفي تفسير ابن عباس “إلا ليعرفون”؛ أو قوله تعالى في الحديث القدسي: “كنت كنزًا مخفيًا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبه – أو فبي – عرفوني” [18] . أو هو من قبيل “حاجة” المحسِن الكريم إلى الإحسان وإلى من يتقبَّل منه إحسانه؛ إذ بدون المتقبِّل لا يمكن أن يُسمَّى المحسِن محسنًا.
بقي أن نعرف أن الشيخ الأكبر يميِّز بين الذات الإلهية وبين مرتبة الألوهية: فالأولى مجردة عن الصفات والأسماء، وهي الغنية عن العالمين؛ أما الثانية، وهي الذات متصفة بالصفات والأسماء، فتحتاج إلى خلق الأشياء لكي ترى ذاتها فيها. أي أن فعل الخلق حاصل من مرتبة الألوهية التي تتوجَّه على إيجاد العالم بأحكامها ونسبتها وإضافتها. فصفة العلم مثلاً تتطلَّب، لكي تتحقق، معلومًا يتعيَّن فيه العلم، وعالمًا تقوم به هذه الصفة؛ أي تتطلَّب ذاتًا عالمة وموضوعًا معلومًا. فمن أسمائه تعالى “العالِم” (عالِم الغيب والشهادة)، ومن صفاته “العلم”؛ فذاته التي تتصف بالعلم، وهي مرتبة الألوهية من ذاته تعالى، تنعكس على مرآة صورة المعلوم، فترى الذات نفسها في صورة المعلوم، من حيث إن الخلق ما هو إلا “امتداد” للذات، تصير به الذات موضوعًا. أي أن الموضوع هو “الذات” في العالم الخارجي، أو “الذات خارج الذات” – مع التأكيد أن تعبيري “العالم الخارجي”، و”خارج الذات”، تعبيران اصطلاحيان اعتمدناهما بغية التوضيح. هذه الصورة المنعكسة، أي صورة المعلوم، يسميها ابن عربي بـ”القابِل”، كما يسميها أيضًا بـ”العين الثابتة”. [19]
نُجمِل ما تقدَّم في النقاط التالية:
أولاً: تقول عقيدة وحدة الوجود بقِدَم الحقِّ تعالى وحدث العالم، وتقول بأن الحقَّ قديم بإطلاق. لكنها تقول أيضًا بأن العالم ليس حادثًا من كلِّ وجه: فهو قديم باعتبار “وجوده” في علم الله القديم. وعلى هذا يمكننا القول إن الحق حق والعالم حق وخلق.
ثانيًا: تعترف عقيدة وحدة الوجود بالمباينة إلى جانب المحايثة، وبالتنزيه مع التشبيه، والإطلاق مع التقييد، والمفارقة مع الكمون، وتقرِّر أن الصلة بين الحق والخلق معنوية أو جوهرية، غير مادية.
ثالثًا: الحق واجب الوجود بذاته، والخلق واجب الوجود بغيره. والخلق مفتقر إلى الحق من كلِّ وجه، والحق له الغنى عن العالمين. وإن كان ثمة افتقار من جانب الحق فهو من “مرتبة الألوهية”، لا من “الذات”. مع البيان أن افتقار الموجِد إلى “الإيجاد” هو من غير طبيعة افتقار الموجَد إلى “الوجود”.
رابعًا: تميِّز عقيدة وحدة الوجود بين “الذات الإلهية” العارية عن الأسماء، وبين “الذات الإلهية” متَّصفة بالصفات والأسماء – وهي مرتبة الألوهية، وهي الوسيط بين الذات والعالم: تفصل الذات عن العالم، وتعقد الصلة بينهما في نفس الوقت.
خامسًا: الوجود بحق هو لله تعالى وحده؛ وليس للخلق إلا وجود اعتباري. يترتب على ذلك أن ثنائية الحق والخلق، مادام هناك خلق، ذات قيمة نسبية؛ على حين أن الوحدة، وحدة وجود الحق، ذات قيمة مطلقة. تبعًا لذلك يمكننا القول: لا وجود إلا للحق تعالى وحده! وهذا هو المؤدَّى العميق الذي تنطوي عليه شهادة الإسلام الأولى بقولنا “أشهد أن لا إله إلا الله”، من حيث إن الوجود الحق هو الذي لا تسري عليه نواميس السببية؛ أي “واجب الوجود بذاته”. أما الشهادة الثانية فتشير إلى “واجب الوجود بغيره”، مرموزًا إليه بأسمى مظهر له من المنظور الإسلامي، وهو محمد بن عبد الله (ص)، كما يؤكد ذلك العلامة السيد سيد حسين نصر.
وما ينطبق على حالي الفناء والبقاء من حيث تلازمهما، أو ما ينطبق، على حالي وحدتي الشهود والوجود من حيث اعتبارهما مظهرين لحقيقة واحدة، ينطبق أيضًا على شهادتي الإسلام، من حيث إن الشهادة الأولى تنفي الوجود عن “السوى” وتُثبِته لله تعالى وحده. فقول المسلم العادي: “أشهد أن لا إله إلا الله” قريب جدًّا من قول الصوفي: “لا أرى شيئًا غير الله”. والشهادة الثانية، إذ تعترف بوجود العالم مرتبطًا بالله تعالى في قولنا “رسول الله”، إنما تثبت العالم موجودًا بالله غير منفصل عنه؛ إذ هو منه قوام وجوده. ولذلك كان الإسلام هو وعي هذه العلاقة القائمة على أساس ألا وجود لغير الحقِّ إلا بالحق؛ وهو ما يعبِّر عنه قول الصوفي “لا أرى شيئًا إلا وأرى الله فيه”.
ولئن كان د. يواكيم مبارك يقول إن وحدة الشهود هي الإسلام بامتياز، أفلا يحق لنا أيضًا أن نقول إن وحدة الوجود هي الإسلام بامتياز؟
الهوامش:
[1] أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني، إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ط 2، مصر 1972؛ ص 296.
[2] أبو العلا عفيفي، التصوف – الثورة الروحية في الإسلام، دار الشعب، بيروت، بلا تاريخ؛ ص 151.
[7] الرسالة القشيرية، بتحقيق عبد الحليم محمود ومحمود بن الشريف، مصر، بلا تاريخ، ج 2؛ ص 584.
[8] الرسالة القشيرية، ج 2؛ ص 586-587.
[9] أبو نصر السراج الطوسي، اللمع في التصوف، بتحقيق عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور، مصر 1960؛ ص 52.
[10] أبو العلا عفيفي، التصوف…؛ ص 164.
[11] ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين، بتحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت 1972، ج 1؛ ص 61.
[12] ابن عربي، فصوص الحكم، بتحقيق أبو العلا عفيفي، دار الكتاب العربي، بيروت، بلا تاريخ؛ “فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية”، ص 68-69.
[13] ابن عربي، نقله الشعراني إلى اليواقيت والجواهر، مصر 1959، ج 1؛ ص 65.
[14] ابن عربي، فصوص الحكم؛ ص 68-69.
[15] نفس المصدر، “فص حكمة إلهية في كلمة آدمية”، ص 53.
[16] ابن عربي، نقله الشعراني إلى اليواقيت والجواهر؛ ص 38.
[17] نفس المصدر السابق ونفس الصفحة.
[18] هذا الحديث لا سند له، وأغلب الظن أنه من إشارات الصوفية.
[19] أبو العلا عفيفي، شرح فصوص الحكم؛ ص 31 وما بعدها.
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |