* الإصلاح السياسي عند الشيخ رشيد رضا بين بناء دولة إسلامية نموذجية وإقامة جامعة إسلامية
مقدمة:
ثلاث شخصيات مسلمة كبرى كان لها أكبر الأثر في حركة الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا. فقد مثلت حركتهم رد فعل متوازن للتحدي المزدوج الذي كان على العالم الإسلامي أن يواجهه منذ القرن التاسع عشر,ألا وهو تدهور المجتمعات والدول الإسلامية ـ بل والحضارة الإسلامية ككلـ من جانب والهيمنة المتزايدة للغرب على العالم الإسلامي عسكرياً وتكنولوجياً من جانب آخر. فبينما دعا بعض المصلحين المسلمين ـ مثل دعاة الحركة الوهابية في الجزيرة العربية ودعاة الحركة المهدية في السودان ـ إلى إصلاح يقوم فقط على القرآن والسنة وبعض التقاليد الإسلامية, نادى آخرون من دعاة الإصلاح ـ مثل زعماء حركة التنظيمات في الدولة العثمانية ـ إلى إصلاح يستند فقط على القيم الغربية. أما الجماعة الوسط من دعاة الإصلاح المسلمين ـوالتي تزعمها الأفغاني وعبده ورضاـ فقد نادت بإصلاح يقوم على كل من الوحي الإسلامي وبعض ما أنتجته الحضارة الغربية (1) .
ويُعرف الشيخ محمد رشيد رضا عادة بأنه تلميذ مخلص لمحمد عبده, وقد كان كذلك بالفعل. إلا أن ذلك ليس كل الحقيقة,فقد كان لرضا رؤيته وإسهاماته الإصلاحية الخاصة. كما كان أيضاً مجاهداً لتحقيق المشروع السياسي الإصلاحي الذي وضعه الأفغاني من قبل, رغم أنه لم يفعل ذلك عن قصد في بعض الأحيان. وبينما ينُظر إلى رضا بعين الإجلال والإكبار للدور الذي قام به في نشر وإثراء تعاليم عبده في الإصلاح الديني والتعليمي, فإنه نادراً ما يُحمَد على مشروعه السياسي الذي استوحاه من الأفغاني ثم طوره وجاهد في سبيل تحقيقه. وبناء عليه فإن هذه الورقة تهدف أولاً إلى بيان الأثر الكبير لمشروع الأفغاني للإصلاح السياسي على الفكر والحركة السياسية الإصلاحية للشيخ رشيد رضا. كما تهدف الورقة ثانياً إلى إبراز معالم المشروع السياسي الإصلاحي الذي وضعه وجاهد في سبيل تحقيقه الشيخ رشيد رضا.
وتأتي أهمية هذا الموضوع في ضوء عدم اهتمام كثير ممن كتب عن الشيخ رشيد رضا وجهوده الإصلاحية بمشروعه السياسي الإصلاحي, ولاسيما تأثره بالسيد جمال الدين الأفغاني في هذا الصدد. فرغم أهمية الدور الذي لعبه الشيخ رشيد رضا في حركة الإصلاح السياسي على أساس إسلامي في العصر الحديث, فإن المكتبة العربية لم تحتف به احتفاءها بأستاذيه السيد جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده. فلا يقع الباحث إلا على بضعة عشر كتاباً هي كل الأدبيات العربية عن الشيخ رشيد رضا. أما ما كتب عنه باللغة الإنجليزية فلا يتجاوز عدده أصابع اليد الواحدة.
ولاتتناول جميع هذه الكتب المشروع السياسي الإصلاحي للشيخ رشيد رضا, كما أن بعضاً ممن تناول هذا الموضوع لم يلتزم الشمول أو الموضوعية أو التحليل العلمي. فترى على سبيل المثال من يهتم بالجانب الفكري للمشروع دون جانبه الحركي أو العكس. بل إن بعض أولئك الذين ركزوا على الجانب الفكري اهتموا بأحد أبعاده فقط كموقف الشيخ رشيد رضا من الغرب أو رؤيته للحداثة. أما موضوع تتلمذ الشيخ رشيد رضا على السيد جمال الدين الأفغاني فيما يتعلق بقضايا الإصلاح السياسي فلا تجده في معظم الدراسات عن المشروع الاصلاحي للشيخ رشيد رضا. كما تجد من يحاول ربط المشروع الإصلاحي السياسي للشيخ رشيد رضا طوعاً أو كرهاً بأيديولوجية معينة كالقومية العربية أو الدعوة السلفية الوهابية, أو بحاكم بعينه كالشريف حسين بن علي أو الملك عبد العزيز آل سعود. وقد غلب على بعض هذه الكتابات الطابع القصصي من العرض والسرد دون البعد التحليلي من حيث المناقشة والنقد. ولانعتقد أن تناول البحث لواحد فقط من الجوانب المتعددة للمشروع الإصلاحي السياسي للشيخ رشيد رضا يقدح في قيمته العلمية ما التزم الباحث بالتحليل والنقد البعيدين عن الهوى. أما البحث المتحيز الذي يحاول لي اعناق الحقائق فلا ينفعه شمول أو تحليل. وهنا نميز بين الباحث المتحيز والباحث الملتزم بمنظور معين أو الذي يقدم رؤية جديدة أو يدرس أبعاداً غير مطروقة في موضوع بحثه.
ولاندعي الشمول لهذه الورقة التي بين أيدينا, وإنما قصدنا منها إبراز تأثر الشيخ رشيد رضا بالسيد جمال الدين الأفغاني ومدرسته في الإصلاح السياسي الإسلامي, وجهاد الشيخ رشيد رضا لتحقيق غايتين لهذا الإصلاح, ألا وهما بناء دولة إسلامية نموذجية وإقامة جامعة إسلامية. كما لاندعي العصمة من الزلل, سواء زلل الخطأ أو زلل التحيز, وإنما نطلب من الله الصفح والهداية,ومن القارئ النقد والتمحيص, والله أعلم.
المبحث الأول: تأثر رشيد رضا بمواقف أستاذيه من الإصلاح السياسي
رغم أنه عادة ما ينظر إلى رشيد رضا على أنه داعية للإصلاح الديني والتربوي على نحو ما كان عليه الإمام محمد عبده, وليس داعية للإصلاح السياسي على نحو ما كان عليه السيد جمال الدين الأفغاني, فإن رضا كان مفكراً سياسياً من الدرجة الأولى ومحترفاً للعمل السياسي من أجل الإصلاح تماماً كما كان مصلحاً دينياً وتربوياً . فقد وضع رضا رسالة في إحياء الخلافة على أساس إسلامي أصيل يتناسب مع حالة العالم الإسلامي في العصر الحديث (2) . وقد تناولت الرسالة موضوعين أحدهما نظري والآخر عملي. فأما شقها النظري فقد اعتُبر أفضل ما كتب في النظرية الإسلامية للحكم من حيث التأصيل والتنظيم منذ الكتاب الذي وضعه الماوردي في «الأحكام السلطانية» في القرن الرابع الهجري (3) . وأما الشق العملي فقد تناول المشاكل التي ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى والتي أثرت في مصير الخلافة. وكسياسي محترف ساهم رضا في إنشاء وقيادة عدة تنظيمات سياسية, كما دعا إلى إصلاح سياسي على أساس إسلامي في الدولة العثمانية والجزيرة العربية وسوريا وجاهد من أجل تحقيق ذلك الإصلاح, وذلك على نحو ما ستفصله هذه الورقة لاحقاً .
تتلمذ رضا على افكار الأفغاني
قبل الشروع في تناول المشروع السياسي الإصلاحي للشيخ رشيد رضا يجدر بنا إزالة بعض الشبهات عن حقيقة تتلمذه على يد السيد جمال الدين الأفغاني, رغم نظرة كثير من الباحثين للشيخ رضا على أنه تلميذ للإمام محمد عبده دون السيد الأفغاني. ويمكن تفسير تلك النظرة بعاملين رئيسيين. فأولاً لم يسبق لرشيد رضا أن التقى الأفغاني لقاءً شخصياً . وثانياً فإن رشيد رضا لم يعتبر نفسه تلميذاً للأفغاني بينما ردد كثيراً أنه الوريث الفكري لعبده. ففي كتابه «تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده» كما في سيرته الذاتية التي دوّنها قبل فترة قصيرة من وفاته أكد رشيد رضا أنه كان لعبده كالمريد الصوفي لشيخه, وذلك مع فرق واحد هو أن رضا كان يصر على فهم تعاليم عبده ويتبع منها ما يعتقد صوابه (4) . إلا أن كلاً من هذين العاملين يمكن الرد عليه بما يدحضه.
فأولاً صحيح أن رشيد رضا لم يلقَ الأفغاني شخصياً , ولكن ليس من الضروري أن يلقَ التلميذ معلمه شخصياً لكي يتأثر بأفكاره وتعاليمه. ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك في العصر الحديث هو علاقة الزعيم الشيوعي الروسي لينين بالمفكر الشيوعي الألماني كارل ماركس. فبينما لم يلتق لينين بماركس قطعاً فإنه ما من شك في أن لينين كان زعيماً ماركسياً . ولاتقلل من ماركسية لينين إسهاماته الخاصة في الفكر والحركة الشيوعيتين. ومن جانب آخر, فرغم أن رضا لم يلقَ الأفغاني شخصياً , إلا أنه قد بعث إليه برسالة مثنياً على أفكاره وجهوده الإصلاحية وسائلاً إياه أن يقبله في طائفة مريديه. لكن الأفغاني لم يتمكن من الرد على تلك الرسالة, إذ كان آنذاك في سجنه الذهبي في أحد القصور السلطانية بالآستانة محروماً من استعمال القلم والحبر والورق مخافة إثارته للجماهير ضد حكامها (5) .
وثانياً , رغم أن رضا لم يعتبر نفسه تلميذاً مباشراً للأفغاني, فإن إعجابه بالأفغاني واضح وجلي. فكثيراً ما امتدح رضا الأفغاني واصفاً إياه بحكيم الشرق وموقظه. كما أنه فضّله ضمنياً على معلمه المباشر محمد عبده, حيث لقب رضا الأفغاني بالمعلم الأول بينما لقب عبده بالمعلم الثاني. وربما أهم من ذلك وذاك هو ما صرح به رضا من أن خطته الأصلية كانت اللحاق بالأفغاني وأتباعه, وأنه لم يفكر في الهجرة إلى مصر لمصاحبة عبده إلا بعد فشل خطته الأصلية بوفاة الأفغاني في سجنه. بل إنه صرحَّ أيضاً بأن أحد دوافعه للحاق بعبده كانت رغبته في الاستفادة من خبرة عبده مع الافغاني (6) . فلو أن رشيد رضا التحق بالأفغاني, أو لو أن الأفغاني رد على رسالة رشيد رضا رداً إيجابياً , لكان من المحتمل أن تتغير حياته تغييراً جذرياً وأن تتخذ مساراً غير الذي أخدته بالفعل, ولكانت إحدى حجتينا في هذه الورقة غير موضع شك أو جدل.
إذن كان رضا معجباً بالأفغاني, فهل كان عضواً في تنظيمه السري «العروة الوثقى»؟ فمن المعلوم أن الأفغاني أنشأ منظمة سرية في باريس في حوالي منتصف العقد التاسع من القرن التاسع عشر وأطلق عليه «تنظيم العروة الوثقى». وتشير المعلومات القليلة المتاحة لدينا عن ذلك التنظيم أن هدفه الرئيسي كان إثارة المسلمين وتحريضهم على الثورة ضد الحكم الاستعماري لبلادهم. وقد تشكل التنظيم من خلايا سرية كانت تعمل أساساً في مصر والهند (7) . وفي الواقع لايوجد دليل على أن رشيد رضا كان عضواً في ذلك التنظيم, ولكن ما تتعدد أدلته هو أن رضا كان متأثراً بأفكار الأفغاني كما عرضها في المجلة التي أصدرتها قيادة ذلك التنظيم عام 1884 وحملت اسمه: العروة الوثقى. ورغم أن المجلة لم تستمر سوى بضعة أشهر, فإنها كانت واسعة الانتشار والتأثير في العالم الإسلامي ولاسيما في مصر والهند.
«كانت المجلة تدعو إلى الوحدة الإسلامية وتحث المسلمين في كل أصقاع الأرض على الوحدة واستعادة أمجاد الإسلام الضائعة. وقد هدفت على نحو خاص إلى تحرير مصر من الاحتلال البريطاني عن طريق إثارة الرأي العام في مصر والهند. ويمكن تلخيص الأفكار التي عرضتها المجلة في فكرتين رئيسيتين. الأولى هي أن الإسلام الصحيح قد أفسده الجهل ومن ثم يجب إصلاحه وإلا فسيواجه العالم الإسلامي انهياراً تاماً . والثانية هي أن حكام المسلمين قد خانوا شعوبهم واتبعوا أهواءهم وما تمليه عليهم دوافعهم الشخصية من الجشع والتكبر في الأرض, فجعلوا بلادهم مرتعاً خصباً للأجانب. وكانت عاقبة ذلك أن تداعى الأوروبيون على بلاد المسلمين منتهزين فرصة عدم التزام المسلمين بدينهم, ومن ثم سعوا إلى تدمير الوحدة الدينية للشعوب المسلمة» (8) .
لقد كانت مجلة العروة الوثقى ثورية المحتوى والنبرة. ورغم أن الأفغاني كان رئيساً لتنظيم العروة الوثقى ومسؤولاً عن إصدار مجلته, فإنه لم يكن رئيساً لتحرير المجلة,إذ كان يتولى هذا المنصب تلميذ الأفغاني المقرب إليه آنذاك الشيخ محمد عبده. ومع ذلك فإننا لانشك في أن الأفكار التي عبرت عنها المجلة كانت أفكار الأفغاني, بل وهذا ما أكده الشيخ محمد عبده نفسه (9) . وقد أدى الحظر الذي فرضه الاستعمار البريطاني على المجلة في مصر والهند إلى توقفها نهائياً . ورغم الحظر الذي فرضته السلطات العثمانية على المجلة, فإن رشيد رضا لم يكن فقط حريصاً على اقتناء المجلة وشغوفاً بقراءة جميع أعدادها, بل إنه نسخ كثيراً من مقالاتها وسعى لنشرها بين الناس في بلدته بالشام (10) . وقد أكد رضا لاحقاً في مجلته «المنار» أن مجلة العروة الوثقى كانت تعمل فيه عمل السحر (11) , وأنها غيرت مجرى حياته (12) . كما أعاد رضا نشر كثير من مقالاتها في «المنار» تحت عنوان «المقالات الجمالية» (13) .
بين «العروة الوثقى» و«المنار»
وفي الواقع فإن تأسيس مجلة «المنار» في حد ذاته لدليل على تأثر رضا بأفكار الأفغاني الإصلاحية وحركته السياسية. فقد ذكر رضا أنه أنشأ «المنار» لكي تخلف «العروة الوثقى» وتنشر رسالتها, وخاصة فيما يتعلق بالجامعة الإسلامية (14) . فإلى أي حد نجحت «المنار» في هذا الشأن؟ وإلى أي حد كانت «المنار» تشبه «العروة الوثقى»؟ فبينما عبرت «العروة الوثقى» عن أفكار الأفغاني بكلمات عبده, عبرت «المنار» في سنواتها الأولى عن أفكار عبده بكلمات رضا. وكما كان من المحتمل أن يغير عبده من وجهة «العروة الوثقى» نحو التركيز على الإصلاح الديني والتربوي دون السياسي لو أنه واصل إصدار المجلة بعد فراق الأفغاني ولاسيما بعد عودته إلى مصر, فإن رشيد رضا قد غير بالفعل من وجهة «المنار» بعد وفاة عبده لكي تصبح أكثر اهتماماً بالإصلاح السياسي. وقد كانت المجلتان سلفيتي النزعة, بمعنى أنهما حرصا على تدعيم حججهما بأسانيد من القرآن والسنة (15) . كما كانت كلتاهما حرباً على التقليد الأعمى في المسائل الدينية الذي كان متفشياً بين المسلمين, إذ دعتا إلى فتح باب الاجتهاد بل ومارستاه بالفعل في المسائل الفقهية التي تعرضتا إليها.
وبينما هاجمت «العروة الوثقى» قوة استعمارية بعينها هي بريطانيا, أدانت «المنار» الاحتلال الأجنبي لأقاليم مسلمة بعينها وهي الولايات العربية في الدولة العثمانية (16) . وكما كان مقر «العروة الوثقى» بعيداً عن أيدي أعدائها السياسيين وهم بريطانيا وبدرجة أقل حكام المسلمين, فإن مقر «المنار» كان بعيداً أيضاً عن أيدي أعدائها السياسيين وهم الحكومة العثمانية وبعض حكام العرب. وبينما حظرت «العروة الوثقى» في البلاد الإسلامية الخاضعة للاحتلال البريطاني وفي الدولة العثمانية, فإن «المنار» حظرت أيضاً في الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (17) . ومع ذلك فقد تمتعت كل من المجلتين بنفوذ واسع وتأثير كبير في معظم البلاد الإسلامية,وأسست كل منهما مدرسة فكرية وحركة إصلاحية (18) .
تعارض مواقف أستاذي رضا من الاصلاح السياسي
لم يكن رشيد رضا من الآباء الأوائل لفكرة إقامة دولة إسلامية نموذجية حديثة, أو فكرة إقامة جامعة بين الدول الإسلامية, كما أنه لم يلتق بأول المتحمسين للدعوة إلى تلك الفكرتين وهو السيد جمال الدين الأفغاني. إذ وصلت إليه هذه الأفكار عن طريق مجلة العروة الوثقى وبعض المصلحين الذين تلقوا الفكرة من الأفغاني ومن بينهم عبد الرحمن الكواكبي.
ولكن النهاية غير المشجعة لمشروع الأفغاني في الاصلاح السياسي ربما أحبطت تفكير رضا المبكر في ذلك الإصلاح. إذ لم يتحقق في حياة الأفغاني أي من أهدافه الثلاثة للإصلاح السياسي. فقد سعى الأفغاني أولاً لبناء دولة إسلامية نموذجية في كبرى الدول الإسلامية التي لم تكن قد خضعت بعد للإستعمار في ذلك الوقت. كما جاهد ثانياً لحشد وتعبئة المسلمين ضد الاستعمار الغربي, ولاسيما البريطاني. ودعا ثالثاً الدول الإسلامية المستقلة إلى الاتحاد لحماية استقلالها والمساعدة في تحرير البلاد الإسلامية المستعمرة (19) . وقد تطورت هذه الدعوة لاحقاً لتصبح فكرة الجامعة الإسلامية. إلا أن الأهداف الإصلاحية الثلاثة للأفغاني لم تكن دائماً متسقة مع بعضها البعض. فعلى سبيل المثال, تطلب السعي نحو توحيد الدول الإسلامية المستقلة أن يتعاون الأفغاني مع حكام تلك الدول, بينما تطلب السعي نحو إصلاح النظم السياسية في الدول الإسلامية أن ينبه الأفغاني الجماهير المسلمة إلى فساد حكامها. وكذلك فإن السعي نحو تحرير البلاد الإسلامية المحتلة تطلب أن يتعاون الأفغاني مع حكام الدول الإسلامية المستقلة وأن يعبئ الجماهير المسلمة ضد الاستعمار تحت راية الخلافة الإسلامية العثمانية. ولذلك كان على الأفغاني في كثير من الأحيان أن يفاضل بين أهدافه الثلاثة وأن يعدل وسائل تحقيقها.
غير أن أشد ما أثر في موقف رضا سلباً من العمل السياسي في بداية مشروعه الإصلاحي كان توجيه أستاذه محمد عبده له نحو الجهاد من أجل الإصلاح الديني والتربوي دون السياسي. وفي الواقع فإن آراء محمد عبده لم تكن تشجع على ممارسة العمل السياسي على الإطلاق, وهذا ما ميز حركته الإصلاحية عن حركة أستاذه الأفغاني, رغم أن عبده كان يوماً ما من أقرب تلاميذ الأفغاني إليه. فبينما اجتمع الأفغاني وعبده على تحقيق هدف نهائي مشترك هو نهضة الأمة الإسلامية باتباع القرآن والسنة والاستفادة ببعض منجزات الحضارات الأخرى, وعلى الأخص الحضارة الغربية, فإنهما اختلفا حول الجوانب الأكثر أهمية والمناهج الأولى بالاتباع لإصلاح أحوال المسلمين. بعبارة أخرى اختلف الأفغاني وعبده حول الأهداف والوسائل المرحلية المناسبة للإصلاح. فرغم ما للأفغاني من اسهامات إصلاحية في مجالات العقيدة والفلسفة (20) . إلا أنه كرس معظم حياته للإصلاح السياسي في العالم الإسلامي, وكانت دعوة الجامعة الإسلامية جانباً من ذلك الإصلاح. وفي المقابل ناضل عبده من أجل الإصلاح الديني والتعليمي مقللاً من أهمية السياسة في العمل الإصلاحي في العالم الإسلامي. ولعل أهم ما ميز بين حركتي الأفغاني وعبده فيما يتعلق بالإصلاح السياسي هو تباين مواقفهما من إصلاح النظم السياسية في الدول الإسلامية والتحرر من الإستعمار والوحدة الإسلامية.
الإصلاح الدستوري وإقامة دولة إسلامية نموذجية
فقد كان أول ما دعا إليه الأفغاني من مشروعه الإصلاحي السياسي وعمل من أجله هو إقامة دولة إسلامية نموذجية في بلد إسلامي مهيأ لذلك (21) . والدولة الإسلامية النموذجية عند الأفغاني هي دولة مستقلة تلتزم بالقرآن والسنة والشورى والمبادئ الدستورية (22) . وقد وقع اختيار الأفغاني على مصر في سبعينات القرن التاسع عشر لكي تكون هدف مشروعه الإصلاحي السياسي, فطالما اعتبر الأفغاني مصر أصلح الدول الإسلامية لهذا الغرض (23) . وفي مصر واجه الأفغاني النظام المستبد للخديوي إسماعيل واعتبره العقبة الرئيسية أمام الإصلاح السياسي وإقامة الدولة الإسلامية النموذجية, كما اعتبر جهل المصريين وغياب وعيهم السياسي من أهم عوامل ازدهار ذلك النظام الاستبدادي الحاكم (24) . ولذلك جعل الأفغاني هدف حركته الإصلاحية الأساسي هو التخلص من الحكم التسلطي للخديوي إسماعيل, وذلك بالاعتماد أساساً على الشعب المصري وليس الفئة الحاكمة الدخيلة عليه. كما جعل منهجه الرئيسي لتحقيق ذلك الهدف هو توعية الجماهير بفساد النظام الحاكم وذلك بتقويمه بالمعايير الإسلامية والغربية الحديثة.
وقد برع الأفغاني في استخدام مهاراته التنظيمية العالية وقدراته الفائقة على مخاطبة وتعبئة الجماهير وذلك من أجل بناء قاعدة شعبية عريضة مطالبة بالإصلاح, فخاطب فئات ذات خلفيات ثقافية واجتماعية وتعليمية ومهنية مختلفة. فقد عبَّأ العوام وحثهم على الثورة ضد الحكومة التسلطية. كما حصل على دعم قطاع هام من الطبقة الوسطى الناشئة آنذاك, بل وبدا ولي العهد الأمير توفيق مقتنعاً بآرائه الإصلاحية السياسية. وكانت أفكار الأفغاني حول الإصلاح السياسي مقنعة أيضاً للأفندية ذوي الخلفيات التعليمية الغربية العصرية والمشايخ ذوي الخلفيات التعليمية التقليدية. ونجح الأفغاني أيضاً في تجنيد بعض كبار ضباط الجيش بمن فيهم أولئك الذين قادوا الثورة العرابية فيما بعد. والتحق الأفغاني لفترة قصيرة بالمحفل الماسوني الشرقي وذلك للدعوة إلى أفكاره الإصلاحية بين الأجانب والمنبهرين بالغرب. وتتويجاً لتلك الجهود أسس الأفغاني منظمة سياسية سرية هي الحزب الوطني الحر. وقد لعب هذا الحزب دوراً هاماً في الإطاحة بالخديوي إسماعيل عام 1879 (25) .
إلا أن الأفغاني لم يحقق هدفه الإصلاحي السياسي, إذ سرعان ما انقلب عليه الأمير توفيق بعد أن أصبح خديوي مصر. فقد اعتبر الخديوي نجاح الأفغاني خطراً على حكمه, ولذلك قرر طرده من البلاد. وبالفعل فقد خرج الأفغاني من مصر منفياً إلى الهند التي كانت آنذاك مستمرة بريطانية, حيث خضع للإقامة الجبرية وانقطعت صلته بالعالم الخارجي. إلا أن أتباعه في مصر سعوا إلى انجاز مهمته الإصلاحية السياسية. ففي عام 1881 قاد مجموعة من الضباط المصريين بزعامة أحمد عرابي عصياناً عسكرياً سرعان ما تحول إلى ثورة بتأييد الجماهير والطبقة الوسطى والأفندية والمشايخ. ونجحت الثورة في تحقيق الهدف السياسي الرئيسي للأفغاني, ألا وهو إقامة نظام ملكي دستوري يخضع لمراقبة مجلس نيابي منتخب شعبياً . ولكن الثورة ونظامها السياسي الوليد أُجهضا على يد القوات البريطانية التي غزت مصر عام 1882 باسم الدفاع عن الخديوي والأجانب.
أما محمد عبده فلم يحبذ الإنشغال بإصلاح النظم السياسية في الدول الإسلامية. فعقب رحيل الأفغاني عن مصر وتولي عبده رئاسة تحرير صحيفة «الوقائع المصرية» الرسمية, كتب عبده فيها منتقداً الدعوة إلى الإصلاح الدستوري. إذ رأى عبده أن الشعب المصري ـ الذي كان قد اعتمد عليه الأفغاني سابقاً لإقامة دولة إسلامية نموذجية ـ لم يكن على درجة كافية من التعليم والنضج تسمح بإقامة نظام حكم دستوري (26) . ورغم أن عبده أعاد النظر في ذلك الرأي أثناء الثورة العرابية (1881ـ1882), حيث رأى أن الشعب المصري قد اصبح مؤهلاً للحكم الدستوري ومن ثم تعاون عبده مع زعماء الثورة, إلا أن أفكاره لم تبلغ درجة ثورية أفكار القادة العسكريين والزعماء الشعبيين للثورة (27) . وعلى أية حال فإن عبده عاد إلى أفكاره القديمة المرغبة عن الإصلاح السياسي بعد فشل الثورة العرابية والإحتلال البريطاني لمصر. إذ خلص إلى أن الشرق لاينهض به إلا مستبد عادل (28) , وهي الفكرة التي انتقدها الأفغاني بشدة, إذ رأى أن القائد يجب أن يكون عادلاً وقوياً وليس مستبداً (29) .
محاربة الاستعمار وإقامة جامعة إسلامية
وبالمثل اختلف عبده مع الأفغاني فيما يتعلق بقضيتي التحرر من الاستعمار والوحدة الإسلامية. فقد كان الاستعمار البريطاني لمصر نقطة تحول في فكر الأفغاني وحياته, ليس فقط لأن السلطات الاستعمارية البريطانية في الهند أطلقت سراحه وسمحت له بالسفر إلى أوروبا بعد أن ثبَّت الاستعمار البريطاني أقدامه في مصر, وإنماأيضاً لأن الأفغاني أعاد النظر في أفكاره الإصلاحية السياسية بما فيها أراؤه حول معوقات الإصلاح السياسي في العالم الإسلامي وأهداف ووسائل تحقيق ذلك الإصلاح. فلم تعد النظم الاستبدادية في الدول الإسلامية بالنسبة للأفغاني هي العقبة الكبرى الوحيدة أمام الإصلاح السياسي, وإنما أصبح الإستعمار الغربي عقبة كبرى أخرى بنفس درجة خطورة النظم الاستبدادية. وبينما اعتبر الأفغاني جهل المسلمين وغياب وعيهم السياسي أهم عوامل ازدهار النظم الاستبدادية,فإنه اعتبر انقسامات المسلمين وتمزق وحدتهم السياسية أهم العوامل التي مهدت الطريق لاستعمار العالم الإسلامي (30) . ولذلك جاهد الأفغاني لتحرير البلاد الإسلامية المستعمرة وإقامة جامعة إسلامية بين الدول الإسلامية المستقلة.
ورغم جهود الأفغاني في محاربة الاستعمار إلا أنه من غير الواضح ما إذا كانت مواقفه المعادية للاستعمار متعلقة فقط بالاستعمار البريطاني. فحقيقة أن تنظيم العروة الوثقى كان مقره باريس وأن مجلته لم تدن بشكل صريح الاحتلال الفرنسي في شمال البلاد مع ذلك فإنها توحي بأن الأفغاني ربما سعى لاستغلال الصراع الاستعماري بين فرنسا وبريطانيا لصالح تحرير البلاد الإسلامية الخاضعة للاستعمار البريطاني. كما أنه اقترح ذات مرة أن تتعاون روسيا وإيران وأفغانستان لتحرير الهند المسلمة من الاستعمار البريطاني مقابل تقسيمها بينهم (31) .
أما عبده فقد تخلى عن أفكار أستاذه الأفغاني حول محاربة الاستعمار والوحدة الإسلامية, وذلك بعد أن سمحت له سلطات الإحتلال البريطاني بالعودة إلى مصر من منفاه في بيروت شريطة عدم قيامه بأي نشاط سياسي (32) . فلم يتعاون عبده قط مع الحركة الوطنية المصرية التي كانت تناضل في ذلك الوقت من أجل تحرير مصر من الاحتلال البريطاني. بل إن عبده اعتبر الزعيم الوطني مصطفى كامل مجرد محرض على إثارة الجماهير (33) . وقد بلغ رفض عبده تحدي سلطات الإحتلال البريطاني حدَّاً أنه رأى أن على المصريين الاهتمام بالإصلاح التربوي دون السياسي حتى لو أدى ذلك إلى انتظارهم قروناً قبل تحرير بلادهم من الاستعمار (34) . وبالطبع فقد كان هذا الموقف مبعث اطمئنان ورضا سلطات الاحتلال, حتى أنها قبلت تعيين عبده مفتياً للديار المصرية (1899ـ1905) وأيدته في صراعه مع مشايخ الأزهر ذوي الاتجاه المحافظ الذين اعتبرهم عبده أحد أخطر معوقات الإصلاح الديني والتربوي. وفي الواقع فإن موقف عبده المهادن للاستعمار لم يكن متعلقاً فقط بمصر, بل كان موقفاً مبدئياً . إذ نصح عبده الشعبين التونسي والجزائري بالاهتمام بالإصلاح الديني والتربوي وعدم الانخراط في العمل السياسي أو الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي (35) .
أما عن موقف عبده من فكرة الجامعة الإسلامية,فلا يعرف عن عبده أنه طور نظريةýأو برنامجاً للوحدة الإسلامية على غرار مشروع الأفغاني الذي سنتناوله لاحقاً , إلا أنه رأى أن المسلمين لم يعد لهم إمام إلا القرآن (36) . كما لايعرف عن عبده أنه عمل على إنجاز فكرة الجامعة الإسلامية بعد أن فارق أستاذه الأفغاني نتيجة انهيار تنظيم العروة الوثقى وتوقف مجلته عن الصدور (37) . وكذلك فإن رؤية عبده للدولة العثمانية تبدو مضطربة. فبينما كان عبده يمتدحها ويمتدح سلانها عبد الحميد حين يكون في أقاليمها, على نحو ما فعل حين كان منفياً في بيروت وحين زار الآستانة عام 1903 (38) , فإنه ذكر لرشيد رضا في مصر أنه يمقت الدولة العثمانية وسلطانها الذي وصفه بالجبن والفشل (39) .
ولعل الاختلاف الكبير بين الآراء الإصلاحية لكل من الأفغاني وعبده يتضح أكثر بذكر الحادثة التالية. فبينما كان الأفغاني وعبده في باريس لقيادة تنظيم العروة الوثقى وإصدار مجلته اقترح عبده على الأفغاني اعتزال العمل السياسي وأن يرحلا إلى منطقة نائية لاتصل إليها يد الاستبداد أو الاستعمار, وذلك لتعليم مجموعة منتقاة من نابغة النشء المسلم وإعدادهم لقيادة بلادهم ومجتمعاتهم نحو الإصلاح. وقد رفض الأفغاني هذه الفكرة كلياً وقال لعبده «إنما أنت مثبط» (40) .
المبحث الثاني: نحو دولة إسلامية نموذجية: دولة عثمانية على أساس إسلامي دستوري
يعود انخراط رشيد رضا في العمل السياسي إلى ما قبل وفاة أستاذه محمد عبده, بل إلى ما قبل هجرته من سورية إلى مصر. إذ كانت هذه الهجرة ذاتها حركة سياسية قصد بها رضا الخروج من قبضة الحكم العثماني التسلطي في سورية واستغلال مناخ الحرية النسبي في مصر للتعبير عن أفكاره الإصلاحية (41) . إلا أن النشاط السياسي لم يكن من أولويات رضا في ذلك الوقت, إذ كان معنياً بإصلاح ذاته قبل إصلاح مجتمعه وبلده (42) . كما أن آراء عبده غير المشجعة على الإصلاح السياسي أثرت في رؤية رضا الإصلاحية في فترة مبكرة من إقامته بمصر. فقد وافق عبده على أن يكون مرشداً للمجلة التي عزم رضا على تأسيسها شريطة ألا تلتزم بموقف سياسي أو تتعرض لقضايا سياسية (43) . ورغم أن رضا قد وافق على مضض على تلك الشروط (44) , إلا أنه لم يلتزم بها حرفياً . فقد تعرض لمناقشة بعض القضايا السياسية المتعلقة بالدولة العثمانية في الأعداد الأولى من «المنار». إذ دافع عن الدولة وانتقد أعداءها (45) , كما دعا إلى إصلاح إدارتها (46) . ولعل أبرز الأعمال السياسية التي نشرها رضا في «المنار» في سنواتها الأولى هو كتاب «أم القرى» الذي دعا فيه عبد الرحمن الكواكبي إلى إصلاح سياسي جذري في العالم الإسلامي, رغم أن رضا لم ينشر بعض فقرات الكتاب التي اعتبرها مسيئة للدولة العثمانية (47) .
وعلى أية حال فإن التزام رشيد رضا بآراء عبده غير المشجعة على الإصلاح السياسي لم يدم طويلاً ولم يستمر عقب وفاة عبده عام 1905. إذ سعى رضا إلى الجمع بين الآراء الإصلاحية لأستاذيه الأفغاني وعبده, وذلك بالعمل في سبيل الإصلاح الديني والتربوي على نهج الإمام محمد عبده, والجهاد في سبيل الإصلاح السياسي على نهج السيد الأفغاني. ولعل أهم ما سعى رضا لتحقيقه من مشروع الأفغاني للإصلاح السياسي هو محاولة بناء دولة إسلامية نموذجية وإقامة جامعة إسلامية.
إصلاح الحكومة المركزية العثمانية عندما توفي الإمام محمد عبده كان رضا قد بلور بالفعل رؤية للإصلاح السياسي في الدولة العثمانية وإقامة دولة إسلامية نموذجية فيها. فقد دعا رضا مثلما دعا الأفغاني من قبل إلى إقامة نظام سياسي إسلامي دستوري يلتزم بمبادئ الشورى والعدل والحرية, يشارك فيه الشعب في الحياة السياسية, ويلتزم فيه السلطان باستشارة زعماء الشعب وممثليه وتخضع الحكومة لمساءلتهم (48) . وبعبارة أخرى, فإن رضا رأى أن النظام السياسي الفاسد في الدولة العثمانية هو الأولى بالإصلاح.
وقبل الانقلاب العثماني الأول عام 1908 تشابهت أساليب رضا في الدعوة إلى ذلك الإصلاح السياسي إلى حد كبير مع الأساليب التي اتبعها الأفغاني من قبل لتحقيق ذات الغاية. فقد فضل رضا استخدام وسائل الإعلام وقيادة أنشطة سرية لإنجاز هدفه. إذ خصص رضا أولاً مساحة متزايدة من مجلة «المنار» لمناقشة قضايا الإصلاح السياسي في الدولة العثمانية. وعمل ثانياً مع غيره من الرعايا العثمانيين في مصر لإنشاء منظمة سرية هي جمعية الشورى العثمانية,التي ضمت ممثلين عن معظم الجماعات العرقية والدينية في الدولة العثمانية,وكانت نشطة في الدعوة إلى إصلاح الدولة العثمانية في مصر وبعض الولايات العثمانية وبعض الدول الغربية. وقد ترأس رشيد رضا هذه الجمعية عام 1906 (49) . وكانت الجمعية تشبه إلى حد كبير الحزب الوطني الحر الذي أنشأه الأفغاني في مصر قبل ترحيله منها, وذلك مع فرق بنيوي واحد هو أن مقر جمعية الشورى العثمانية كانت في إقليم لايخضع للحكم العثماني فعلياً .
وبينما فشل الحزب الوطني الحر في تحقيق الإصلاح السياسي الجذري الذي كان ينشده, والذي كان يشمل إقامة نظام جمهوري في مصر, تحقق جزئياً الهدف الإصلاحي الأكثر اعتدالاً الذي كانت تسعى إليه جمعية الشورى العثمانية حين أجبر السلطان عبد الحميد الثاني عام 1908 على إعادة العمل بالدستور العثماني الذي كان قد عطله قبل ثلاثة عقود من الزمان. وفي الواقع فلم تكن جمعية الشورى العثمانية ذات التوجه الإسلامي هي التي قامت بالدور الرئيسي في إجبار السلطان على ذلك, بل أجبرته لجنة الاتحاد والترقي ذات التوجه الغربي والإيديولوجية القومية التركية على إحداث ذلك التغيير, رغم تأكيد رشيد رضا أن جمعيته ساهمت في ذلك التغيير (50) . وفي البداية لم يعر رضا إهتماماً كبيراً لاختلاف التوجه بين جمعيته ولجنة الاتحاد والترقي, فرحب بالتغييرات السياسية التي فرضتها اللجنة.
وبتحقيق ذلك الهدف, أي إعادة العمل بالدستور, انحلت جمعية الشورى العثمانية وانضم كثير من أعضائها إلى لجنة الاتحاد والترقي. أما رضا فقد عدّل بعض أساليبه في العمل على إقامة دولة إسلامية عثمانية نموذجية. فبينما استمر في استخدام مجلته كمنبر للدعوة إلى الإصلاح السياسي, قام رضا لأول مرة منذ وصوله مصر بزيارة وطنه سوريا حيث ألقى عدة خطب في منتديات سياسية وثقافية واجتماعية حاثاً أهالي الشام على دعم الحكومة العثمانية الجديدة والمشاركة في الإصلاح السياسي (51) . وهنا نشير إلى أن رشيد رضا كان خطيباً مُفوَّهاً تماماً كما كان الأفغاني.
كما شرع رضا في التعاون مع الحكومة العثمانية الجديدة لتحقيق ما ظنه هدفاً مشتركاً . وعلى خلاف الأفغاني الذي اضطر للتعاون مع السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذي النزعة المحافظة, فقد تعاون رضا مع حكومة ظنها أكثر انفتاحاً للإصلاح الإسلامي رغم توجهها القومي. فبعد توقف مجلة العروة الوثقى عن الصدور اختار الأفغاني ان يتعاون مع الحكام المسلمين ليس فقط من أجل توحيد بلادهم والمساعدة في تحرير البلاد المسلمة المستعمَرة, بل وأيضاً من أجل إقامة دولة إسلامية نموذجية في البلاد التي يحكمونها. ومع ذلك فإن خبرة الأفغاني في التعامل مع حكام إيران والدولة العثمانية تشير إلى عدم جدوى هذا الأسلوب في تحقيق أي من الأهداف الإصلاحية الثلاثة للأفغاني.
فحين اختار الأفغاني إيران لتكون بؤرة مشروعه الإصلاحي السياسي وانتقل للإقامة فيها في الفترة من 1889 إلى 1891 لم يسع للإطاحة بالشاه ناصر الدين كما سعى من قبل في مصر للإطاحة بالخديوي إسماعيل, وإنما حاول إقناع الشاه الإيراني بمزايا إقامة نظام سياسي يرتكز على دستور إسلامي ومجلس نيابي منتخب شعبياً (52) , كما دعا الفرس والأفغان لإقامة وحدة بينهما (53) . إلا أن العلاقة بين الأفغاني والشاه وصلت إلى نهاية مأساوية, إذ خلص الأفغاني إلى أن الشاه يتلاعب به لتحقيق مصالحه الشخصية, وأنه مُرَحِّب بالنفوذ المتزايد للشركات البريطانية في بلاده. ولذلك تحول الأفغاني ضد الشاه, فقام الشاه بطرد الأفغاني من البلاد بطريقة مهينة للغاية ظل الأفغاني يتذكرها بألم وغضب ومرارة حتى وفاته (54) . وفي المقابل نجح الأفغاني في إقناع المرجع الشيعي الأعلى الميرزا محمد حسن الشيرازي بإصدار فتوى بتحريم التعامل مع شركة التبغ البريطانية ذات الامتيازات الخاصة في إيران (55) . وبالفعل أصدر الشيرازي تلك الفتوى, وكانت استجابة الشعب الإيراني لها شبه إجماعية. وأخيراً فقد اغتيل الشاه ناصر الدين على يد رجل يُعتَقَد أنه من المتأثرين بالأفغاني (56) .
وحين أعاد الأفغاني النظر في اختيار الدولة التي يجب أن تكون بؤرة مشروعه الإصلاحي السياسي رأى أن الدولة العثمانية هي الأصلح لهذا الغرض. فقد كان الأفغاني يعتبرها أقوى الدول الإسلامية المستقلة آنذاك وأكثرها ندية للدول الأوروبية, وبالتالي فهي الأقدر على حماية الإسلام وتوحيد بلاده ومواجهة الاستعمار في أراضيه. ولذلك أعلن الأفغاني ذات مرة مبايعته للسلطان عبد الحميد خليفة للمسلمين, ودعاه لإصلاح النظام السياسي في الدولة العثمانية وتبني فكرة الجامعة الإسلامية كسياسة رسمية في علاقاتها الخارجية. كما وصفه ذات مرة بأنه حاكم ذكي وشجاع, إذ كان الأفغاني يأمل أن يمارس السلطان نفوذه على جميع المسلمين من أجل تحقيق الإصلاح المنشود. إلا أن السلطان انتهز إجابة الأفغاني لدعوته بزيارة الآستانة لمناقشة بعض قضايا الإصلاح السياسي وفرض عليه الإقامة الجبرية في أحد القصور السلطانية مخافة إثارته للجماهير, ولم يسمح له بالسفر مرة أخرى. أما الأفغاني فقد أصابه الإحباط من خداع السلطان له وتلاعبه به وعدم رغبته في إقامة نظام سياسي دستوري قائم على الشورى وعدم جديته في إقامة جامعة إسلامية. ولذلك تحول الأفغاني ضد السلطان وانتقده بشدة وأعلن براءته من مبايعته خليفة للمسلمين لأنه لم يعد في نظر الأفغاني يستحق ذلك اللقب (57) .
ورغم تغير نظام الحكم العثماني بعد انقلاب عام 1908, إلا أن رشيد رضا لم يكن أسعد حظاً من الأفغاني في التعاون مع السلطة العثمانية. فقد زار رضا الآستانة وقضى فيها عاماً كاملاً (1909ـ1910) يناقش مشروعين إصلاحيين: الأول هو إنشاء «مدرسة الدعوة والإرشاد», والثاني هو جسر الفجوة بين العرب والأتراك التي أحدثتها سياسة التتريك في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. وخلال هذه الزيارة التقى رضا كبار المسؤولين في الحكومة العثمانية الجديدة ولجنة الاتحاد والترقي, ومن بينهم الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) وشيخ الإسلام (مفتي الديار) وبعض كبار الضباط (58) . ومع ذلك فقد كانت الحكومة العثمانية الجديدة شديدة الإلتزام بالمبادئ القومية التركية على نحو أصم آذانها عن الاستماع إلى مقترحات رضا حول الإصلاح الإسلامي. فقد كانت سياساتها قائمة على إعلاء العنصر التركي والحط من شأن العناصر العثمانية الأخرى. فبدلاً من إصلاح ما أفسدته سياسة السلطان عبد الحميد الثاني, تمادت الحكومة الجديدة في سياسة تتريك الشعوب العثمانية غير التركية, بل واتخذت في هذا السبيل خطوات غير مسبوقة,مثل إعلان اللغة التركية لغة رسمية وحيدة في كافة أرجاء السلطنة العثمانية وفي كافة مجالات الحياة العامة من تعليم وإعلام وقضاء وغير ذلك. كما سعت الحكومة الجديدة إلى تقوية روابط الدولة العثمانية بالشعوب التركية في وسط آسيا غير الخاضعة للسيادة العثمانية, وذلك من أجل إقامة جامعة طورانية تضم جميع الأتراك (59) . وفي المقابل فإن الحكومة الجديدة لم تهتم بمصالح الشعوب العثمانية غير التركية ولم تبال بالأخطار التي كانوا يتعرضون لها من الخارج. ولعل أوضح مثال على ذلك هو انسحاب الوحدات العسكرية العثمانية من ليبيا دون قتال يذكر فور غزو الطليان لها عام 1911 (60) .
عارض رضا بشدة سياسات الحكومة العثمانية الجديدة التي تميز بين الرعايا العثمانيين,وهاجم بعنف لجنة الاتحاد والترقي التي تحكم البلاد, إذ رأى رضا أن تلك السياسات تهدد وحدة الدولة العثمانية المتعددة الأعراق (61) . وقد أدان رضا على وجه خاص السياسات المعادية للعرب واللغة العربية والتي زرعت العداوة والبغضاء بين أكبر وأهم شعبين عثمانيين,أي العرب والأتراك (62) . وكان على رضا أن يختار بين هدفين لحركته الإصلاحية السياسية في تلك المرحلة: الأول هو إقامة نظام سياسي إسلامي بإصلاح الحكومة العثمانية المركزية,والثاني هو حماية الدولة العثمانية من انهيار متوقع بإصلاح هيكل الدولة ذاته, وقد اختار رضا الهدف الثاني.
المبحث الثالث: نحو جامعة إسلامية: جامعة عثمانية إسلامية الأساس والوجهة
لعل من أبرز مظاهر تأثير الأفغاني في آراء رشيد رضا السياسية واتساق جهودهما في سبيل الإصلاح السياسي هو تبني رشيد رضا لفكرة الجامعة الإسلامية التي نادى بها الأفغاني. ومع ذلك فبينما كانت هذه الفكرة ذروة المشروع السياسي عند الأفغاني, فإنها مثلت مرحلة وسطى في المشروع الإصلاحي السياسي عند رشيد رضا. وبينما كانت فكرة الجامعة الإسلامية عند الأفغاني أكثر شمولاً من حيث الهدف والمضمون, فإن فكرة رشيد رضا حول الجامعة الإسلامية كانت أكثر واقعية وقابلية للتطبيق بالنظر إلى ظروف العالم الإسلامي في عصره. ورغم صعوبة تحديد أول من أطلق هذه الدعوة,إلا أننا لانشك أن الأفغاني كان أول مفكر وسياسي مسلم يطور مشروعاً متماسكاً لإنجاز هذه الفكرة, ويدعو لها متحمساً سواء لدى الزعماء المسلمين أو الجماهير المسلمة, ولذلك فإن فكرة الجامعة الإسلامية عادة ما تنسب إليه.
وقد سعى الأفغاني بدعوته إلى الجامعة الإسلامية إلى معالجة ثلاثة انقسامات رئيسية بين المسلمين. فقد سعى أولاً إلى ردم الهوة التي تفصل بين المسلمين السنة وإخوانهم المسلمين الشيعة. إذ اعتبر الأفغاني أن الاختلاف بين التيار السني الرئيسي ونظيره الشيعي اختلافاً هامشياً , وأن هذا الانقسام لايفيد أي من الطائفتين ولايخدم إلا مصالح الحكام المستبدين الذين سعوا تاريخياً للتهويل من ذلك الانقسام لاستغلاله في تعزيز حكمهم الاستبدادي. كما انتقد الأفغاني المواقف العدائية التي يتخذها متطرفو كل من الطائفتين تجاه الطائفة الأخرى. وإذ أدان الأفغاني الاتجاه السائد بين المسلمين نحو التقليد الأعمى لأئمة المذاهب, فقد رفض أن يلزم نفسه بمذهب أو إمام بعينه, مؤكداً على أنه مسلم بلا مذهب وعالم له اجتهاده الخاص في الإسلام. ولعل ذلك الموقف من أسباب عدم يقيننا مما إذا كان الأفغاني في الأصل سنياً أم شيعياً . ولاشك أيضاً أن ذلك الموقف قد ساعد الأفغاني على التعامل بكفاءة مع كل من السنة والشيعة (63) .
وسعى الأفغاني ثانياً بدعوته إلى الجامعة الإسلامية إلى ردم الهوة بين الجماعات القومية المسلمة المختلفة. فقد أدان الأفغاني الأيديولوجية القومية الصاعدة آنذاك, وذلك انطلاقاً من منظور إسلامي يؤكد على أن الإسلام هو الجنسية الوحيدة للمسلمينن وأن المسلمين لم يعرفوا في تاريخهم جنسية سوى دينهم, فكان العربي يخضع لسلطة التركي, والفارسي يذعن لسلطة العربي,والهندي يخضع لحكم الأفغاني, طالما التزم الحكام بالتعاليم الإسلامية. ومن هذا المنطلق دعا الأفغاني جميع المسلمين لتأسيس جامعة إسلامية الأساس والوجهة (64) . ومن جانب آخر هاجم الأفغاني السياسة العثمانية الرسمية التي تقضي بتتريك جميع الشعوب العثمانية غير التركية. بل ودعا جميع المسلمين ـولاسيما العثمانيين منهم ـ إلى استخدام لغة واحدة هي اللغة العربية. وقد عزا الأفغاني هذه الفكرة إلى السلطانين العثمانيين محمد الفاتح وسليم الأول رغم فشلهما في تحقيقها. ويجب ملاحظة أن دافع الأفغاني الوحيد وراء تشجيع استخدام اللغة العربية هو علاقتها الفريدة بالإسلام (65) .
وثالثاً فإن دعوة الأفغاني إلى الجامعة الإسلامية هدفت إلى ردم الهوة السياسية بين الدول الإسلامية المستقلة. ولكنه كان واقعياً بدرجة كافية للتحقق من الصعوبة البالغة لإخضاع جميع الدول الإسلامية لحكومة واحدة وحاكم واحد. ولذلك قدم الأفغاني بديلين خلاقين لتوحيد الدول الإسلامية المستقلة. فقد اقترح أولاً إقامة نوع من الاتحاد الفيدرالي أو الكومنولث تتمتع الدول المنضمة إليه بالاستقلال في إدارة شؤونها الداخلية (66) . كما اقترح إقامة جامعة إسلامية على أساس التزام جميع الدول الإسلامية المنضمة إليها بذات القيم والشريعة المستمدة من القرآن والسنة (67) .
ويشير هذا الإقتراح إلى أن وحدة المسلمين كانت أولى عند الأفغاني من وجود خلافة إسلامية قوية. وقد جذبت فكرة الدولة الإسلامية الفيدرالية كوسيلة لإقامة جامعة إسلامية عدداً من دعاة الإصلاح الإسلامي فيما بعد,ومن بينهم عبد الرحمن الكواكبي (68) , والشيخ رشيد رضا.
إصلاح بنية الدولة العثمانية
فقد رأى رضا أن الصدع المتزايد بين العثمانيين لايرأبه إلا إقامة جامعة عثمانية حقيقية. فبينما خضعت للدولة العثمانية جماعات عرقية ودينية مختلفة لايجمعها سوى الرابطة العثمانية,فإن هذه الرابطة لم تكن تعني في الواقع أكثر من الخضوع لحكم سلاطين آل عثمان. أما رشيد رضا فقد رأى أن الدولة العثمانية يجب أن تصبح وطناً لجميع الشعوب المنضوية تحت لوائها بغض النظر عن أعراقها ودينها, ومن ثم يصبح لدى رعاياها هوية وطنية عثمانية لاتتعلق بشخص حاكمها, وتتمتع جميع شعوبها بحقوق وواجبات متساوية. وهذا لايمنع أن تظل الدولة العثمانية دولة الخلافة الإسلامية وأن يظل السلطان العثماني خليفة لجميع المسلمين عثمانيين وغير عثمانيين (69) . كما لايتعارض ذلك مع إقامة النظام السياسي العثماني على أساس المبادئ الإسلامية في الحكم (70) . وبعبارة أخرى, فإن فكرة الجامعة العثمانية كانت تعني صبغ الهوية العثمانية بالصبغة الوطنية والمساواة بين جميع الشعوب العثمانية دون أن تصبح الدولة العثمانية دولة قومية تهتم فقط برعاياها أو علمانية لاتلتزم بالإسلام. ويبدو أن هذه الفكرة كانت حلاً وسطاً بين الأيديولوجية القومية التي ابتدعها الأوروبيون والعلاقة الإسلامية الفريدة بين الأمة وقيادتها ممثلة في مؤسسة الخلافة.
ولكن لماذا كانت فكرة رشيد رضا عن الجامعة الإسلامية محدودة بالدولة العثمانية, وذلك على خلاف أستاذه الأفغاني؟ في الواقع فإن رضا سعى بدوره إلى جسر الفجوة بين المسلمين السنة والشيعة, وكذلك بين المدارس الفكرية والفقهية السنية المختلفة, وذلك بالدعوة إلى فتح باب الاجتهاد وإعمال العقل لفهم الدين (71) . إلا أن الهدف الرئيسي لفكرته عن الجامعة الإسلامية كان بالفعل هو إصلاح علاقة العرب والأتراك في إطار الدولة العثمانية (72) . وربما يعود ذلك