عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب
( الجزء الثاني )
بقلم: د. ماجدة حمود
(إضغط هنا لقراءة الجزء الأول )
المقالة والموروث الشعبي:
إلى جانب لغة الموروث الديني في مقالاته برزت لغة الموروث الشعبي، وإن كانت بنسبة أقل من لغة الموروث الديني، فقد لاحظنا استخدامه بعض العبارات الشعبية (التناص الشعبي) في مقالاته إذ يعتمد المباشرة في القول ("إذا أردت الأمر أن يمشي ارش" "من لـه فم لابد أن يأكل" "لا تؤكل العشرة حتى تطعم التسعة"…) والكناية ("نزل الميدان" "سحب رجله"…) كناية عن الوالي في العصر العثماني الذي لا يمكن إلا أن يمر بميدان الفساد ويسحب رجله باتجاهه!!
إنه يريد بهذا الاستخدام للغة الشعبية أن يجسّد الداء بلغة أهله الذين يعانون منه، كما يسعى إلى تقديم الدواء باللغة نفسها، لهذا بدا حريصا على تقديم العبارة الشعبية بلغة فصيحة بسيطة، يستطيع الصحفي أن يتواصل عبرها مع القارئ العادي، فتصله الرسالة الإصلاحية التي يراها الكواكبي وسيلة إنقاذ للإنسان الذي غيّبه الاستبداد في ظلمات الجهل.
استخدم في مقالاته أيضا الحكمة التي هي ضمير الشعب وخلاصة تجاربه، بالإضافة إلى أنها بدت جزءا من تجارب الكواكبي مع الاستبداد الذي أرّقه في كل لحظة من لحظات حياته، لهذا كانت رؤيته الخاصة صدى لرؤية الحكماء الذين سبقوه في المعاناة فشكلوا وجدان الناس، وبذلك وضع يده على الحكمة المتوارثة التي شكلت وعيه ووعي الآخرين، فقد تعلّم منها تداعيات الاستبداد وامتداد ظلاله ليشمل الحاكم وعامة الناس معا، لذلك لن يحمل سيف الاستبداد شخص واحد هو السلطان، وإنما يحمله كثير من الناس في وجه بعضهم بعضا لأن "الناس على دين ملوكهم" .
ويبدو لنا أن معظم المقولات الشعبية التي قدّمها الكواكبي ذات صلة بما يقال عن الفساد أو الاستغلال، نجده يقول في افتتاحية الشهباء (العدد العاشر، كانون الثاني 1877) "وقد قالت الحكماء إذا ظهر الاختلال في أحد أطراف المملكة فعلى أهلها أن يبادروا لإصلاحه حالا، وإلا فإذا دام عشر سنين يعزّ استدراكه وينقطع الأمل من ملاقاته، وحينئذ يتعين الاجتهاد في منع امتداده إلى سائر الأطراف بإبدال جميع مباشري إدارته بغيرهم، وأما إذا ترك الأمر فلا يلبث أن ينتشر في المملكة عموما، وحينئذ لا يبقى فيها من لم تفسد أخلاقهم ليستعان بهم، وإذا فلينتظر لهذه المملكة ما ينتظر للبدر في عجز الشهر"(1).
حين نتأمل الحكمة التي أوردها في هذا المقال نلاحظ أنها حكمة عملية، تمس حياة الدولة وموتها، إذ يجعلنا نحس أنها على صلة حميمة بحياة الناس وصحتهم! فإن أي خلل في الدولة إذا لم يسارع لتداركه وعلاجه استفحل أمره وصعب شفاؤه، كالداء الذي يصيب الجسد، لذلك يرى ضرورة الإسراع بالعلاج، بعزل المفسدين في الدولة، خشية أن يمتدّ الفساد في أرجائها كلها، ويستشري فلا نجد رجلا صالحا شريفا يتولى أمورها!
يتخذ الكواكبي من حكماء لا يسميهم قناعا يقول عبره أفكارا تنويرية، تعلن خطورة إهمال الإصلاح وضرورة معالجة الفساد قبل استفحاله، وذلك بتنظيف الدولة من الفاسدين سواء أكانوا ولاة أم موظفين، وهو لا يكتفي بالتعبير المباشر ، وإنما يلجأ إلى التلميح أيضا عبر التشبيه، لذلك لم يقل: إذا لم يعالج الفساد في الدولة بأسرع وقت انهارت الدولة، وإنما شبّه مآلها إلى الغياب المؤكد بغياب القمر آخر الشهر عن صفحة السماء، ولاشك أن مثل هذا الكلام الخطير لا يستطيع أن يقوله بشكل مباشر لذلك يلجأ إلى التشبيه، كما لا يستطيع أن ينسبه لنفسه صراحة، لذلك يتوارى وراء أقوال الحكماء! التي تكتسب أهمية خاصة في المخيال الشعبي والرسمي.
وبذلك يؤدي التناص الشعبي دورين أساسيين: الأول إضفاء مصداقية واقعية، تجعل الأفكار التنويرية امتدادا للوعي الجمعي واللغة اليومية المتداولة بين عامة الناس، وبالتالي تبدو الحكمة مكونا أساسيا من مكونات شخصيتهم، مما يجعلها أقرب إلى لغتهم الخاصة وبالتالي أكثر تأثيرا في وجدانهم.
أما الدور الثاني للحكمة الشعبية فيتمثل في كونه وسيلة فنية تتيح للكواكبي حرية التعبير عن أفكار خطيرة، سيحاسب عليها فيما لو أتت على لسانه بشكل مباشر، لذلك يقدّمها للمتلقي الرقيب على لسان الحكماء المجهولين، وهو يحرص على جمالية التعبير لذلك يلجأ إلى التشبيه الذي يمنحه حرية تجسيد الفكرة مهما كانت خطيرة، كما يزوّد النص بجمالية خاصة، تجعله أكثر قربا من المتلقي.
يلفت نظرنا التنوع الكبير في ثقافة الكواكبي، وهذا ما وجدناه في كتابيه "أم القرى" و"طبائع الاستبداد" ومقالاته الصحفية، وخير دليل على ذلك تنوع التناص لديه:
1. التناص التراثي: التناص الديني (قرآن كريم، أحاديث شريفة، أقوال آل البيت والخلفاء الراشدين…) والتناص الشعبي (حكمة، مثل، عبارات شعبية… ) كما وجدناه قد اطلع على الكتب التراثية الهامة، ليستفيد منها استفادة واعية (مقدمة ابن خلدون…).
2. التناص الغربي: استمد من التاريخ الغربي القديم (نيرون) والتاريخ الحديث ورجال السياسة(مكماهون) كما وجدناه قد اطلع على مؤلفات غربية ليستفيد منها استفادة مبدعة (كتاب "ما هو الاستبداد" لفيتوريو الفييري….).
جماليات المقالة لدى الكواكبي:
لكن حين نتأمل لغة الموروث التراثي ولغة الثقافة الغربية نلاحظ سيطرة التناص التراثي على خطاب الكواكبي وخاصة التناص الديني، نظرا لأهميته ودلالاته المقدسة، وفعالية لغته في التواصل مع العامة والتأثير فيهم، كما لاحظنا سابقا.
وبناء على ذلك يمكننا القول بأن السمة الأساسية من سمات أسلوب الكواكبي، التي منحت مقالاته جمالية خاصة هي اللغة الدينية، فكان التعبير بمفردات وجمل ذات دلالات دينية فاعلة وحيوية إحدى خصائص التعبير الأدبي لديه، لنتأمل فقط هذه الجملة التي يختم بها افتتاحية العدد الرابع من "الشهباء" "لا نقول هيهات أن يوجد في صلصال الشرق إبريز بل نقول وما شيء على الله بعزيز" .
وقد جاءت هذه الخاتمة بعد أن تحدث عن شيخوخة الدولة وانهيارها، لهذا يختار خاتمة ينعش عبرها الأمل، ويرد على أولئك المحبطين من أبناء الشرق الذين لا يرون حولهم سوى الوحل الذي يغطي حياتهم، ويبيّن لهم أن الذهب قد يختبئ في هذا الوحل! وهو يستغل كون المتلقي إنسانا مؤمنا، فيبيّن أن الله قادر على صنع المعجزات، مما يبعث الأمل في الصدور، لذلك تبدو حالة الضعف التي يعيشها الشرق حالة آنية لابد أن تتغير، المهم أن يمتلك الإنسان الإيمان بالله والعمل والأمل.
يبدو لنا الكواكبي في مقالات مفكرا أديبا يهمه التغيير، لذلك يبدأ من أعماق الإنسان الذي يعاني من الاستبداد والفساد فينظر إلى الحياة نظرة سوداوية، فيحاول أن يهزّ قناعاته ويبيّن إمكانية تغيير هذا البؤس والانحطاط، فرأى في الكتابة الصحفية إحدى وسائل المثقف التي تدل أولئك المحبطين على بداية الطريق.
صحيح أن الكواكبي لم يستطع أن يتخلص من بعض السمات الأسلوبية الشائعة في عصره كالمحسنات البديعية، فقد لحظنا، في الجملة السابقة على سبيل المثال، الجناس (إبريز/ عزيز) والطباق (صلصال/ إبريز) لكن هذه المحسنات لم تشكل عبأً، باعتقادنا، على اللغة الصحفية لدى الكواكبي، بل زادت لغته وضوحا في التعبير وجمالا في التصوير والإيقاع، ويمكن القول أن هذه المحسنات لم تكن سمة أساسية تكبل أسلوبه، وإنما تأتي أحيانا لتزيد أسلوبه تألقا وحيوية.
كما يمكننا القول بأن اللغة الأدبية كانت مكونا أساسيا من مكونات لغته الصحفية، وقد برزت لنا شخصية الكواكبي الأديب منذ أول مقال استطاع جان دايه العثور عليه في جريدة النجاح (ع 33، 27 آذار 1872 المأخوذ عن جريدة الفرات) فها هو ذا يصف حفلة مدرسية في حلب، قام طالب فيها "بالثناء ببلاغة على ما فاز به هذا العصر المأنوس من نصرة العلوم وافتتاح معاقل الآداب التي طالما حاصرتها جيوش التعصب و العدوان وحجبت سطوع أنوارها على الأمة…فيا ليت مكاتب[مدارس] الولاية كلها كانت تنحو هذا النحو، فكم في تشخيص الحوادث القديمة من الإفادات التي تحرّر العزيمة وتنبّه الفضيلة، وتؤنّب الرذيلة، وترفع عقول التلاميذ…وأين ذلك كله من تشاغل الأكثرين عن بذل الجهد والعناية في تأديب الأولاد إذ يتركونهم عرضة لافتراس وحوش الخشنية والبربرية عندما يقطعونهم عن المكاتب ويصدونهم عن أسباب التعلم والتأدب..ويا للمصيبة حين يغدو الوالدون عثرة لأولادهم بالمثل والعمل"(2).
تمتاز اللغة الأدبية عادة بالانزياح عن سياقاتها المألوفة (نصرة العلوم، افتتاح معاقل الأدب، جيوش التعصب، تحرّر العزيمة، تنبّه الفضيلة، تؤنّب الرذيلة…) فهي لغة تعتمد جمال التعبير والتخييل متجاوزة بذلك الاستعمال اليومي للغة، والكواكبي يتعمّد استخدامها كي يستطيع التأثير في المتلقي بشكل أقوى، لنتأمل هذه الصورة التي تبيّن حالة إهمال تعليم الآباء لأبنائهم فيضيّعهم الجهل، يشبهها الصحفي بصورة مؤثرة: إنها تشبه حالة ترك الأولاد في غابة تفترسهم فيها الوحوش، وهكذا يبدو الجهل لدى الكواكبي معادلا فنيا للوحوش التي تقضي على الحياة الإنسانية!
لاحظنا مع بدايات ممارسة الكواكبي للكتابة الصحفية طغيان اللغة الأدبية على لغة اليومي المعيش، دون أن يعني هذا القول اهتمامه بالصنعة الأدبية على حساب الهم المعرفي والتنويري، لكن مع تطور ممارسته الصحفية ستخف هذه الظاهرة، وسنجد سطوع لغة الفكر ومرونتها في مرحلة النضج، دون أن يتخلى عن جمال التعبير والاستعانة بلغة الأدب، التي تبدو منسجمة مع لغة الحياة اليومية للكواكبي أي لغة الهم السياسي.
لنتأمل هذا التطور في مقالة له في جريدة "العرب" (1900) وهي آخر جريدة أصدرها الكواكبي يهاجم فيها أولئك الذين "يدعون بطول العمر وبقاء الحياة لقوم هم أبعد الناس عن شروط الخلافة، وقد انتحلوا لقب الخلافة بهتانا وزورا، وأقبلوا على المناهي والمنكرات، وجعلوا يخرّبون ملكهم ويهدمون ديارهم بما لم يأتِ بمثله الزمان من المظالم وقبايح الأعمال ويسلمونهم إلى أعدائهم، ويجتهدون في تبديد ما بقي لهم من المنعة والسلطان، ويهتكون أعراضهم، ويسلبون أموالهم بجميع ما تصل أيديهم الأثيمة من الوسائط، ويكيدون لهم كل يوم مكائد شنيعة ويغتالونهم اغتيالا تقشعر عند استماعه الأبدان وتتفتت الأكباد، بل تتصدع له الجبال والصخور لو كانت تسمع كما يسمع الذين يدعون لأولئك الغاشمين بالبقاء في مساجدهم التي هي لله تعالى وتبارك …فيا أيها المسلمون متى تتنبهون من سباتكم الثقيل، وترتدعون عن غيكم الوبيل، فتنصبون خليفة من القرشيين، يصلح للخلافة ويملك شروطها؟" (3).
تبدو لنا لغة الكواكبي الصحفية، هنا، أكثر سلاسة وحيوية، صحيح أنها لم تخلُ من المترادفات والسجع، لكنها بدت أكثر مرونة من مرحلة البدايات، إذ قلّت اللغة التصويرية، واستعاض عنها بالأفعال الحركية التي تزيد المعنى تألقا وفعالية (انتحلوا، أقبلوا، جعلوا يخربون، يسلمون، يغتالون، …).
وحين أراد أن يجسّد هول أفعال وأقوال تصدر عن أعوان السلطة العثمانية المنافقون (منها الدعاء للسلطان في المساجد، مع أن هذه المساجد خصصت لله تعالى!) نجده يستخدم أسلوب المبالغة التي تبرز فظاعة ما يرتكبه هؤلاء المنافقون من إثم، تتفتّت له الأكباد، وتتصدّع له الجبال والصخور، إذ قدّسوا الطغاة، مع أن التقديس في الإسلام لا يكون إلا لله تعالى!!
لكنه في خاتمة المقال حين يتوجه بالخطاب إلى عامة المسلمين غاضبا، نجده يكثف لغته الانفعالية عبر إيقاع قوي, فيلجأ إلى جملتين متوازنتين يؤطرهما السجع "فيا أيها المسلمون متى تتنبهون من سباتكم الثقيل، وترتدعون عن غيكم الوبيل" وقد اختار لغة تحريضية ذات دلالات قوية، لذلك جعل للسجع أحرفا ذات إيقاع قوي (الميم، واللام والنون المسبوقان بحرف المدّ) ليرن جرسها في أعماق المتلقي لعلها توقظه من سباته! فلا يقبل التعظيم والتقديس إلا لله تعالى.
وهكذا لم يستخدم الكواكبي هذه المحسنات للزينة كما كان شائعا في عصره، وإنما استطاع أن يوظّفها لتصبح منسجمة مع فكرته، مما يجعلها أكثر رسوخا وتأثيرا، ليضمن تفاعل المتلقي مع رسالته التنويرية، لذلك بإمكاننا أن نلاحظ أن هذه اللغة استطاعت أن تضفي حيوية تعبيرية على المقالة الصحفية، ولم تكن قيدا يكبلها، وقد كان للممارسة الدائمة للغة أثر في تطويرها (سواء في الكتابة الصحفية أم في تأليف الكتب، أم في كتابة شكاوي الناس ضد ولاة الأمر الفاسدين) حتى يمكننا القول بأن معاناة الكواكبي اليومية للاستبداد كانت تتجلى لديه عبر الكتابة التنويرية، فهو أحد الذين نقلوا اللغة من قوالبها الجامدة إلى نبضّ الحياة وهمومها.
لذلك كان الكواكبي، إلى جانب رواد النهضة الآخرين، قد أسهم بالإصلاح الفكري واللغوي معا، فإذا كنا لم نجده يصرح بهذا، فإننا رأينا غيره من روّاد النهضة، كالإمام محمد عبده الذي يقول "ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين، الأول: تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف…
أما الأمر الثاني فهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير، سواء كان في المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها، أو فيما تنشره الجرائد على الكافة … كانت أساليب الكتابة في مصر (وغيرها من البلدان العربية) تنحصر في نوعين، كلاهما يمجه الذوق في لغة العرب…الأول ما كان مستعملا في مصالح الحكومة ومما يشبهها، وهو ضرب من ضروب التأليف بين الكلمات رثّ خبيث غير مفهوم، ولا يمكن ردّه إلى لغة من لغات العالم لا في صورته ولا في مادته…والنوع الثاني ما كان يستعمله الأدباء والمتخرجون من الجامع الأزهر، وهو ما كان يراعى فيه السجع وإن كان باردا، وتلاحظ فيه الفواصل وأنواع الجناس وإن كان رديئا في الذوق لا ينطبق على اللغة العربية…" (4) .
إن أي تجديد فكري لا يمكن للغة تقليدية أن تعبّر عنه، لذلك وجدنا روّاد النهضة روّادا في اللغة العربية الجديدة التي خلعت عنها ثوب الجمود لتعبر عن توق للحياة الناهضة.
بناء على ذلك يعدّ الكواكبي أديبا ومفكرا أسهم في تجديد اللغة العربية عبر المقالة الصحفية إلى جانب رواد أدباء ومفكرين عاصروه أو سبقوه في هذا المجال في بلاد الشام ومصر، فمعظم الأدباء البارزين والمصلحين مع بداية النهضة كانوا صحفيين، أسسوا صحفا خاصة بهم أو أسهموا في تحريرها ("التقدم" لأديب اسحاق "الجوائب" لأحمد فارس الشدياق، "الجنة" لبطرس البستاني (أوكل رئاسة تحريرها لابنه سليم البستاني) "المنار" محمد رشيد رضا، "العروة الوثقى" جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده…) بل وجدنا بعضهم صديقا للكواكبي، ما إن تغلق السلطة العثمانية جريدته، حتى يفسح له المجال ليكتب في صحيفته متحديا السلطة العثمانية، لذلك نجده يراسل ("النجاح" "النحلة" "الأهرام" "المصباح" "لسان العرب" "التقدم"…).
يلفت نظرنا هذا التواضع الجم الذي لحظناه لديه، رغم مواهبه المتعددة وإنجازاته، لذلك استطاع أن يقدم ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، فمثلا يختم افتتاحية العدد الأول من جريدة "الشهباء" بقوله "نرجو من مطالعي صحيفتنا هذه أن يغضّوا الطرف عن ذلك القلم الفاتر وخلل الخاطر الضعيف القاصر، وينظر بعين السماحة والرضاء، فيستروا ما يبدو من أخطاء ونقصان، فإننا مشاة بين فرسان هذا الميدان، ومبتدئون بما لم نأتلف عليه ولا بلغ مقامنا بعد إليه، ولكن حكم الدهر والزمان على أوطاننا بالخلو والحرمان سوّغ لنا اقتحام هذا المضمار مع قصور في الصناعة والبضاعة والأفكار، فنرجو العذر، فإن قبوله من شيّم الكرام" (5) .
لابد أن يتأثر المرء بهذا التواضع الجم، الذي يوحي لنا برؤية موضوعية للذات، وبمقدرة على النقد الذاتي قلّ أن نجدها لدى المثقف العربي! من هو الكاتب العربي اليوم الذي نجده يصف كتاباته بمثل هذه الصفات؟ (القلم الفاتر، خلل الخاطر وضعفه، أخطاء ونقصان، كاتب مبتدئ، قصور في البضاعة والصناعة!!) .
كما نلمس لديه شعورا بالامتنان لمن سبقه من الكتاب، فنجده يصفهم بالفرسان ويعدّ نفسه من المشاة قياسا لما أنجزوه في ميدان الصحافة!! ومثل هذا الشعور يحفزّ المرء على تقديم أفضل ما لديه، فلا يكتفي أن يتبع الآخرين بل يحاول بذل جهده كي يصل إلى سويتهم بل يتجاوزهم أيضا.
نلاحظ هنا كما لحظنا في مقالاته السابقة كيف طغى إحساس المسؤولية تجاه الوطن المهان، فكان دافعا للكتابة لديه، فقد آلمه ما يعانيه من تخلف وضعف، لذا بدا راغبا في المشاركة بالنهضة، فجنّد قلمه وسيلة تنويرية، يقاوم عبرها الاستبداد، ويسهم في نشر الوعي لدى الناس كافة.
* دراسة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001
الحواشي:
1. صحافة الكواكبي، ج1، ص158.
2. المصدر السابق، ص169_170.
3. صحافة الكواكبي، ج2، ص46.
4. طاهر الطناجي (عرض وتحقيق وتعليق) "مذكرات الإمام محمد عبده" سيرة ذاتية، سلسلة كتاب الهلال، ع 507، رمضان، مارس، 1993، ص26_27 .
5. صحافة الكواكبي، ج1، ص140.
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |