ندوة: السيد جمال الدين الأفغاني العطاء الفكري والجهد الإصلاحي
عمان (الأردن) في 19/11/1998م.
بقلم: محمد دكير.
«إن الأمم الشرقية جمعاء، مدينة بنهضتها السياسية والفكرية، إلى الزعيم الكبير والفيلسوف الشهير السيد جمال الدين الأفغاني..»
عبد الرحمن الرافعي.
يعتبر السيد جمال الدين (الأسد آبادي) المعروف بالأفغاني، من بين الشخصيات الإسلامية الإصلاحية في العصر الحديث، التي اختلف حولها المؤرخون المعاصرون والباحثون العرب والمسلمون وكذا بعض المستشرقين، وقد طال الإختلاف والغموض جميع مراحل حياته، مولده ونشأته، تحصيله العلمي، انتمائه المذهبي، رحلاته المتعددة والمناصب السياسية والعلمية التي حصل عليها، وعلاقاته بالدول الإسلامية والأوروبية.
في المقابل هناك إجماع شبه تام بين كل من أرخ له أو تعرض لتفاصيل حياته وأنشطته العلمية والسياسية، في إطار التأريخ للأحداث التي دارت رحاها خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إجماع على أن السيد جمال الدين، قد شارك بشكل مباشر أو غير مباشر في أحداث كثيرة ومهمة، غيرت مجرى التاريخ داخل دول الشرق الإسلامي الكبرى، أي إيران وتركيا ومصر، فالمؤرخون الإيرانيون والعراقيون، يتحدثون عن مشاركته في التحريض وإشعال فتيل الثورة ضد الإنجليز، ومساهمته كذلك في تنضيج وتعميق الوعي السياسي داخل الأوساط الفكرية والعلمائية الإيرانية، مما ساعد على تسريع تحقيق المطالب السياسية المتمثلة في ما سمي بالمشروطية، أو المطالبة بالدستور والنظام النيابي، في الجهة الأخرى نجد المؤرخين المصريين يتحدثون عنه باعتباره من المؤثرين الفاعلين والأساسيين في حركة النهضة والإصلاح المصرية، على المستويين الفكري والسياسي. كما تحدثوا عن أثره في إشعال ثورات الشعب المصري منذ ثورة عرابي سنة 1882م، وحتى ثورة تموز (يوليو) 1952م، كما يؤكد ذلك أستاذ الفلسفة المصري الدكتور حسن حنفي.
وإذا كان الإختلاف حول مولده وأصله وانتمائه المذهبي، لم يحسم بعد، وقد دخل في إطار نقاشات ومماحكات لها خلفياتها الأيديولوجية الواضحة، فإن الجميع متفقون على كونه ـ كما يقول الباحث صادق العبادي ـ من أبرز مؤسسي النهضة الإسلامية في الشرق العربي والاسلامي، فهو كما أطلق عليه، باعث نهضة الشرق، و«العامل الجوهري في إحياء حركة التجديد في مصر» كما يقول المستشرق تشارلز آدم، وموقظ النفوس، والمحرض الكبير على مقاومة الإستعمار البريطاني، وغيرها من الألقاب والنعوت والأوصاف. لذلك فلا عجب أن تعقد المؤتمرات والندوات حول فكره ونشاطه، للكشف عن مساهمته في حركة الإصلاح والتجديد والنهضة، التي انطلقت قبله واستمرت بعده. لذلك واحتفاء بذكراه المئوية، نظمت وعقدت في عدد من العواصم الإسلامية والعربية، ندوات ومؤتمرات حول شخصيته وفكره ومساهماته في النهضة الإسلامية.
ففي طهران نظم المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، «المؤتمر العالمي للسيد جمال الدين الأسد آبادي المعروف بالأفغاني»، وذلك في شهر آذار (مارس) 1997م، وقد شارك في المؤتمر إثنان من الباحثين الذين ساهما في جمع وتدوين تراث الأفغاني، الأول السيد هادي الخسروشاهي من إيران، وقد كرس هذا الباحث قرابة الأربعين سنة للبحث والتنقيب وجمع الوثائق المتعلقة بحياة الأفغاني، ونشاطه وإنتاجه الفكري، أما الثاني فهو صاحب كتاب: «الأعمال الكاملة: الله والعالم والإنسان» حول فكر الأفغاني، ونقصد به الدكتور محمد عمارة الباحث المصري الذي تعتبر كتاباته عن الأفغاني وما جمعه حوله من أهم المصادر التي اعتمدها الباحثون المشاركون في هذه المؤتمرات والندوات.
المؤتمر الثاني حول الأفغاني نظمه المجلس الأعلى المصري للثقافة، خلال النصف الأول من شهر أيلول (سبتمبر) 1997م، وقد شارك فيه مجموعة من الباحثين وأساتذة الجامعات المصرية والمختصين في الفلسفة والفكر الإسلامي المعاصر، على رأسهم.
الدكتور حسن حنفي وأخيراً نظم المعهد العالمي للفكر الإسلامي مكتب الأردن، بالتعاون مع الجامعة الأردنية، وبالتنسيق مع المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسسكو)، في العاصمة الأردنية عمان، ندوة بمناسبة هذه الذكرى المئوية تحت عنوان: «السيد جمال الدين الأفغاني: العطاء الفكري والجهد الإصلاحي» وذلك في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 1998م. بمشاركة نخبة من المفكرين والباحثين من العالم العربي والإسلامي.
عقدت خلال هذه الندوة ثلاث جلسات علمية، بالإضافة إلى جلسة الإفتتاح، التي تحدث فيها كل من رئيس المجلس العلمي/ عضو مجلس الأمناء للمعهدالعالمي للفكر الاسلامي، الدكتور اسحاق الفرحان، وممثل المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة في الأردن الأستاذ فواز الحموري، ورئيس الجامعة الأردنية الدكتور وليد المعاني وقد انطلقت الجلسات تباعاًبإدارة الدكتور فتحي ملكاوي المدير التنفيذي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي، على مدرج كلية التربية بالجامعة الأردنية فيما يلي قراءة في أوراق وبحوث هذه الندوة، وما توصلت إليه من نتائج، وما أثارته من تساؤلات.
ملابسات السيرة الذاتية ومعالم المنهج الإسلامي
الورقة الأولى التي قدمت في الجلسة الأولى كانت لأستاذ التاريخ الحديث في جامعة آل البيت (الأردن) د.«سيار الجميل» «العراق»، وحملت عنوان: «الصورة الأخرى: قراءة تحليلية وحفريات معرفية في الصيرورية التاريخية للسيد جمال الدين الأفغاني»،
ينطلق الباحث من مسلمة تاريخية، وهي أن السيد جمال الدين الأفغاني «قد كسب سمعة وشهرة وألقاباً لامعاً، وأنتج فكراًوخطاباً وموقفاً مؤثراً.. لم يتفوق بذلك عليه أحد في عموم العالم الإسلامي الحديث قاطبة..» لذلك فقد أثارت حياته جدلاً واسعاً ومشكلات، ومباعدات، واتفاقات واختلافات.. في التاريخ العربي والإسلامي النهضوي الحديث والمعاصر، لكن ومع كثرة الكتابات حوله، إلا أن الدراسات التحليلية العلمية ظلت قليلة ونادرة، لقد جاءت القراءات التوثيقية لمجالات تفكيره وخطابه ومواقفه ـ كما يقول الباحث ـ مبتسرة، وعليه فقد ندرت الرؤية الحقيقية للموضوع الذي سيبقى الرجل محوره الذي وصف بغرابة الأطوار.. كما كشفت هذه الكتابات والقراءات عن صور مختلفة ومتناقضة، «فإذا كان هناك من يرى فيه رجل إصلاح فإن آخرين يجدون فيه رجل نهضة، وبين الإصلاح والنهضة بون كبير كما يرى الدكتور الجميل، وإذا كان هناك من يثمن عمله من أجل نهضة المسلمين ووحدتهم، فإن آخرين يستغلون إضطراب وغموض انتمائه المذهبي لإتهامه بالعمالة للغرب وانخراطه في مشروع مشبوه لا أحد يعرف تفاصيله»؟!
هذه المعطيات المختلفة جعلت الباحث يطالب بالمزيد من الدراسات والبحوث العلمية الجادة حول الأفغاني، حيث يعتبر هذا البحث محاولة منه لإثراء تاريخ ما أسماه «بظاهرة السيد جمال الدين الأفغاني في التاريخ الإسلامي الحديث» في محاولة لإنتاج رؤية تشخيصية للصورة الأخرى التي أزعم ـ كما يقول ـ أنني قد نجحت في رسم الملامح التاريخية القريبة للرجل، بالإعتماد على أهم وأبرز المصادر الأساسية والمراجع الأصلية..
ومن خلال هذه المحاولة نستطيع أن نتتبع أهم المراحل التاريخية التي عايشها الأفغاني، مقسمة إلى: المنظور الأول: الحوزة، تلميذ غريب في صحون العتبات العراقية المقدسة، المنظور الثاني: المعلم الجديد، دار الفنون ومقهى البوسطة: من استانبول إلى القاهرة. المنظور الثالث: المنفى البعيد: حيدر آباد: نقد جمال الدين للدهريين والداروينيين. المنظور الرابع: العروة الوثقى: في باريس، معممان وترجمان وأرنست رينان. المنظور الخامس: العنفوان: مناضل معارض في إيران والعراق. المنظور الأخير: الإنكفاء والإنتهاء: خمس سنوات في نيشان طاش قرب يلدز باستانبول.
إن ما قدمته هذه الورقة التي استطاعت أن تحيط بمجمل حياة الأفغاني، لايكاد يختلف عما سنجده في باقي الأوراق من تفاصيل وتركيز على بعض الجوانب دون أخرى، لكن أهم جديد في هذه المحاولة التأريخية، كان طرح الأسئلة بجرءة لم توجد في باقي الأوراق التي سلكت منهج التقرير والنقل عن المصادر المختلفة. فالباحث يشكك في سنة مولده أي (1838م) ويرى أن ولادته ربما كانت قبل ذلك بعشر سنوات؟ كما يقدم مجموعة من التساؤلات حول المرحلة التكوينية العلمية للأفغاني، وكيف وجد في العراق داخل الحوزة العلمية؟ هل كانت له علاقة سياسية بالإنجليز في الهند؟ كيف استطاع أن يربط علاقات سياسية متميزة مع النخب الحاكمة في كل من أفغانستان وإيران وتركيا ومصر؟ مخالفته لبنية التفكير الدينية التقليدية السائدة آنذاك؟ وغيرها من الأسئلة الكثيرة التي ستمكن الإجابة، عنها من إعادة كتابة تاريخ هذا الرجل الغامض والمحير. وقد قدم الباحث بعض الإجابات ضمن تساؤلاته الكثيرة، هذه الإجابات التي سنجدها متفرقة في البحوث المعروضة، انطلاقاًمن وحدة المصادر المعتمدة لدى الباحثين، لكن أهم ما ميز هذه الورقة كما قلنا، أنها لم تأت لتقرر شيئاً متفقاًعليه، بقدر ما طرحت وفجرت الأسئلة الكثيرة حول شخصية الأفغاني، ومن خلال هذه الأسئلة يمكن صياغة رؤية جديدة حول تاريخه، ونعتقد أن الباحث قد استطاع أن يشكل ملامح هذه الرؤية بتساؤلاته.
الورقة الثانية في هذه الجلسة كانت للدكتور «محسن عبد الحميد» ـ أستاذ التفسير والدراسات الإسلامية ـ (جامعة بغداد) وحملت عنوان «عقيدة الأفغاني»،
أولاً يجب الإشارة إلى أن الدكتور عبد الحميد كان قد ألف كتاباً حول الأفغاني سماه: «جمال الدين الأفغاني المصلح المفترى عليه» وذلك للرد على التهم الموجهة للأفغاني والطاعنة في عقيدته وانتمائه المذهبي، وقد ذكر الدكتور عبد الحميد في ورقته النتيجة التي كان أحد الطلبة الدارسين قد توصل إليها بخصوص الأفغاني وهي أن السيد جمال الدين: «إيراني شيعيـ ماسوني، بهائي، ملحد زنديق» وهذه الإستنتاجات المتهافتة والبعيدة عن الموضوعية، هي التي جعلت الدكتور يقوم بهذه الدراسة لإستجلاء حقيقة معتقده. ليصل في نهاية المطاف، سواء في كتابه أو في ورقته المقدمة لهذه الندوة، إلى أن الأفغاني كان مؤمناً موحداً داعياًلعقيدة التوحيد من خلال خطبه وكتاباته وقد ظهرت عقيدته الإسلامية في ما كتبه في العروة الوثقى وكذا في رده على الدهريين، أما بخصوص انتمائه المذهبي وأنه كان «يظهر التسنن ويبطن التشيع» فقد نفى الدكتور عبد الحميد أن يكون شيعياً لأن عقائد التشيع لم تظهر في كتاباته أو خطبه. وأن الإدعاء بكونه إيرانياًيستند أصحابه على ما جاء في كتاب «منحول؟»، عنونته المخابرات الإيرانية القاجارية بـ «جمال الدين الأسد آبادي»، وادعت أن مؤلفه ابن أخت الأفغاني بلا دليل ولا برهان، كما يقول الدكتور عبد الحميد. وعليه فالسيد جمال الدين كان أفغانياً مؤمناً«حنيفياً حنفياًيميل إلى مذهب السادة الصوفية».. كما يقول عنه تلميذه محمد عبده.
إن ما توصل إليه الدكتور عبد الحميد سواء في كتابه عن الأفغاني أو في ورقته هذه، كان يمكن أن يطمأن إليه، لولا الإعترافات التي يقدمها المؤرخون الإيرانيون والعراقيون، الذين يرسمون صورة أخرى ويقدمون تحليلاً يختلف عما دافع عنه الدكتور عبد الحميد. طبعاًلن ننجر في هذه القراءة للمماحكات الأيديولوجية التي كانت تقف وراء الدفاع عن انتمائه السياسي والمذهبي، وظهر بعضها في الأوراق المقدمة في هذه الندوة، وإنما سنحاول أن نقدم صورة موجزة لهذه الإشكال الذي لم يحسم بعد مادام لكل طرف أدلته المعتمدة، إن أهم الاعترافات الوجيهة الناقدة لما توصل إليه الدكتور عبد الحميد، وكان الدكتور يسار الجميل قد أشار إلى بعضها، وهي تدعم الرأي المخالف، فنذكر منها، دراسته في الحوزة في النجف حيث يتلقى ويدرس الطلبة الشيعة المذهب الإمامي في العقائد والفقه، ومما يؤكد أنه تلقى علومه الأولى في المدارس الشيعة الإمامية، ولعه بالفلسفة واهتمامه بها واختلاف بنيته التفكيرية الدينية عند البنية الدينية السنية، وهذا ما ظهر بوضوح في فكره وخطبه التي ميزته عن غيره في مصر، وجعلت فكره غريباً إلى حد كبير عن الأوساط السنية داخل الأزهر. لم يكن هناك أي مبرر لإخفاء انتمائه المذهبي السني وقد عاش داخل الأوساط الدينية والسياسية السنية، ثم بإمكانه إعلان احترامه لعقائد الشيعة، انطلاقاًمن إيمانه بالوحدة الإسلامية، بالإضافة إلى اعترافات أخرى ستذكرها بعض الأوراق التي ستتحدث عن علاقاته الوطيدة بكبار العلماء الإمامية في كل من العراق وايران، ومساهمته في الأحداث السياسية في إيران خصوصاً.
والصورة التي يقدمها المؤرخون الشيعة حول عقيدة الأفغاني، لاتتحدث عن إظهاره للتسنن وإخفائه للتشيع، انطلاقاً من مفهوم التقية الشيعي، الذي استفاد منه الأفغاني، بغية تحقيق أغراض سيئة أو باطنية كما ادعي.. ولكن يمكن الحديث عن عاملين مهمين، الأول مرتبط بالظروف السياسية القاسية التي أحاطت بنشاطاته وهذا ما يؤكده المستشرق جولد زيهر في دائرة المعارف الإسلامية الذي قال بأن الأفغاني انتحل الجنسية الأفغانية للتخلص من الإستبداد الفارسي، العامل الثاني إيمانه بمشروع الوحدة والجامعة الإسلامية، وتشخيصه للصراع المذهبي والطائفي كعنصر أساسي يعمق التشرذم والاختلاف بين المسلمين، ومن ثم قدم نفسه كنموذج عملي واقعي، عندما استطاع أن يتحرر من هذه الثنائية التي كانت تلقي بظلالها السلبية على العلاقة بين المسلمين خصوصاًبين إيران وتركيا.
إن المؤرخين الإيرانيين يؤكدون أنه من اسرة إيرانية تسكن في مدينة «أسد آباد» في محافظة همدان، وأن عدداً من أفراد هذه الأسرة مازال موجوداً هناك، وقد قام المشاركون في مؤتمر طهران حول الأفغاني الذي سبقت الإشارةýإليه، برحلة لهذه المدينة للإطلاع على حقيقة ذلك. لكن هؤلاء المؤرخين رغم قناعتهم ومعرفتهم بالملابسات التي جعلت السيد جمال الدين الأفغاني ينتحل الجنسية الأفغانية ويخفي إنتماؤه المذهبي، إلا أنهم توصلوا إلى قناعة مهمة، مفادها أن البحث في جنسية الرجل واختياره المذهبي لاطائل من ورائه، لأن الصفة الإسلامية المتفق والمجمع عليها والأهداف النبيلة التي عاش وعمل من أجل تحقيقها، وما حققه فعلاً، جعلت منه شخصية تاريخية إسلامية عالمية، لايمكن تأطيرها ضمن أي إطار سياسي أو مذهبي ضيق. ومن الأجدى أن يتم الإهتمام بآثاره ومتابعة طريقه في الإصلاح والتجديد بدل الإنشغال في نقاشات ومماحكات لاطائلة من ورائها. لذلك نعتقد أن ما قاله الباحث السيد هادي خسروشاهي في مقدمة كتابه العروة الوثقى (طبع في إيران 1997م)، ـ وهو ممن يعتقد بإيرانية السيد جمال الدين وانتمائه الشيعي ـ، يمكن أن يوقف النقاش حول هذه القضية لأنه يوجهها لخدمة بُعد آخر، هو أهم من البحث لتأكيد إيرانيته أو أفغانيته أو تركيته. يقول السيد هادي: «هناك مؤامرة وهجمة حديثة ضد السيد جمال الدين، حيث يقولون للمسلمين العرب والأفغان، بأن السيد كان شيعياً إيرانياً غامضاً، ويقولون للإيرانيين بأن السيد كان أفغانياً سنياً؟ ولكن السيد الحسيني لم يكن إيرانياً ولا أفغانياً ولا مصرياً ولا عراقياً.. بل كان عالماًمجاهداً أسد آبادياًوكابلياً وإسلامبولياًـ كما جاء في تواقيعه المتعددةـ لأنه وقف ضد الطغاة في كل مكان، وطالب بإقامة الحكم الإسلامي والوحدة الإسلامية، ودعا لنصرة المسلمين في أفغانستان والهند ومصر والسودان، وكان مصرياًوسودانياًايضاً حيث واجه الاحتلال البريطاني لمصر والسودان..وفي هذا السبيل نسي السيد جمال الدين، كل انتساب قومي أو عرقي أو نسبي أو أرضي، ليحقق امتداده في العالم، وثار على التقاليد البالية التي منعت رجل العلم الديني من الخوض في غمار السياسة، لينغمس كلياً في عالمها، باعتبارها أحد الميادين الرئيسة التي يجب أن يجاهد فيها العلماء، وراح يعلنها بالتالي دعوة كريمة، وصرخة مدوية تدعو إلى «الإصلاح» و«الوحدة» وهما مفهومان يتلاحمان في شخصيته وسيرته ودعوته العالمية..»
أما بخصوص ماسونية الأفغاني وانخراطه في أنشطة المحافل الماسونية في مصر، فقد أكدت ورقة الدكتور عبد الحميد كما أكد غيره بأن الأفغاني لم يكن يعرف عن حقائق الماسونية شيئاً، فكيف وهو عالم مسلم، ينظم على علم ومعرفة إلى جمعية لادينية؟ إن انخراطه في إحدى المحافل المصرية، كان في إطار بحثه وركوبه جميع الوسائل التي تمكنه من تحقيق أهدافه في الإصلاح والنهضة والدفاع عن العالم الإسلامي في وجه الإستعمار، وقد كتب بنفسه أسباب دخوله هذا المحفل قائلاً: «وأول ما شوقني في بناية الأحرار عنوان كبير خطير، حرية وإخاء ومساواة، ومنفعة الإنسان وسعي وراء دك صروح الظلم، وتشييد معالم العدل المطلق»، ولا شك أن هذه الأهداف هي ما يحلم بتحقيقه كل مصلح...
الورقة الثالثة التي قدمها الدكتور «أحمد مفلح القضاة» ـ الأستاذ بجامعة الزرقاء الأهلية ـ كلية الشريعة (الأردن)، كانت تحت عنوان: «جمال الدين الأفغاني ومنهجه في الإصلاح»
حيث سعى الباحث للوقوف على جهود الأفغاني في الإصلاح والنهضة وأثره في المجتمع الإسلامي عامة والمصري خاصة. وموقفه من نصرة الدين والدفاع عن الإسلام. كما تحدث عن جمعية العروة الوثقى، نشأتها وأثرها، وعن فكر الأفغاني وثقافته وشخصيته، وأخيراًعن منهجه في الدعوة والإصلاح، وأساليبه في العمل لتحقيق أهدافه، كما تحدث عن الجامعة الإسلامية ودعوته إليها، وموقفه من الحضارة الغربية، بالإضافةýإلى دعواته لنبذ التعصب وفتح باب الإجتهاد، بعدما أدرك ـ كما يقول د. القضاة ـ بثاقب فكره، «أن التقليد والجمود سبب أساسي في تخلف المسلمين وضعفهم..».
أما منهج الأفغاني في الإصلاح والتجديد فقد عرضه الباحث على الشكل التالي:
1ـ الدعوة إلى طلب العلم، 2ـ الحث على التفكير وإعمال العقل، 3ـ نبذ التعصب المذهبي، 4ـ الدعوة إلى فتح باب الإجتهاد، 5ـ الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، وبعث فكرتها لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، 6ـ محاربة الإستعمار وتعريف الناس بخطره وأثره في تخلف المسلمين.
أما وسائل الافغاني لتحقيق هذه الأهداف، فتمثلت في: الصحافة والكتابة بشكل عام، الإشتغال بالتدريس، ونشر الأفكار الإصلاحية عبر الدروس وفي المجالس الخاصة والعامة، ممارسة النشاط السياسي والاجتماعي من خلال الجمعيات والأحزاب (وقد تمكن من إنشاء الحزب الوطني الحر أوائل سنة 1879م)، الإستفادة من الرحلات والأسفار الكثيرة لعدد من الدول، وإقامة العلاقات مع الشخصيات العلمية والسياسية النافذة، لدعم أو للوصول إلى تحقيق هذه الأهداف المرجوة..
الورقة الرابعة في هذه الجلسة جاءت في إطار السياق نفسه، أي:«الأفغاني ومنهجه من خلال مشروع الإصلاح» وقد قدمها الأستاذ «خالد الفهداوي» من العراق،
حيث تضمنت ورقته ثلاثة مباحث أساسية، المبحث الأول اعتبره الفهداوي كمدخل تحدث فيه عن «الإصلاح والتغيير من حيث هما مصطلح وآلية»، أما المبحث الثاني فقد خصصه للحديث عن ثوابت التغيير والمتغيرات وذلك ضمن مجمل الأصول الفكرية للعمل الإسلامي عموماً، وضمن تجربة السيد جمال الدين الأفغاني خصوصاً، كما يقول المؤلف. والمقصود هنا، مرجعية الوحي، ثبات الغايات، تغير الوسائل..إلخ.
وأخيراًعرض باقتضاب أساليب التغيير التي ركبها الأفغاني للوصول إلى أهدافه، وأهمها الدعوة والتبليغ والإهتمام بالتدريس، وغيرها من الوسائل التي ذكرت من قبل. كما قام الباحث الفهداوي بتسليط الضوء على بعض الأحداث السياسية المهمة التي عاصرها الأفغاني، مثل هزيمة الدولة العثمانية على يد الروس، ومؤتمر برلين سنة (1878م)، وثورة عرابي سنة (1882م). وغيرها من الأحداث المهمة. وقد ركز الفهداوي بحثه حول مشروع الجامعة الإسلامية، متتبعاً جذورها في القرآن والسنة، كما تحدث عن الآلية العملية للجامعة الإسلامية، مستعرضاً موقف الأفغاني من القومية التي كان «يشعر أنها مرحلة من مراحل الصعود والإرتقاء نحو الجامعة الإسلامية»، وكذا موقفه المتميز من اللغة العربية، وقد استعرض الفهداوي كذلك بعض الأسباب التي رأى أنها كانت وراء فشل وانهيار مشروع فكرة الجامعة الإسلامية.
ملامح المنهج الفكري عند الأفغاني
انطلقت الجلسة الثانية بالإستماع لورقة الأستاذ «إبراهيم العجلوني»، الباحث في المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن، وهي بعنوان: «منهج الأفغاني في التعامل مع التراث»،
مرة أخرى كما وقع في مجمل البحوث هناك عرض للملابسات التاريخية المتعلقة بحياة الأفغاني وما أثارته من تساؤلات وردود في محاولة لاستجلاء الرؤية، وتقرير مقدمات للإنطلاق من ثم لمعالجة الموضوع الرئيسي وهو هنا موقف الأفغاني من التراث، يعرف الباحث أولاً كلا من المنهج والتراث والتعامل، فالمنهج هو الأسلوب أو الكيفية التي تعامل بها الأفغاني مع التراث، أما التراث فقد اعتبره متمثلاً في «قراءة لوحي الله ولتمثل الإنسان فيýآن»، وعندما نرجع لتحديد مفهوم التعامل، نجده موزع الدلالة في اتجاهين:
تشخيصي وذرائعي، وكلا الإتجاهين المتداخلين في رأي الباحث «مخفق مقترباًونتائج، وغير قادر على التماس حقائق تراثنا وجوانيته، على حين نقترح «التمثل» أسلوباً لذلك، من حيث هو استبطان معرفي وذوقي، واكتناه داخلي يملك من يقدر عليه أن يحقق ما نسميه«الموضوعية الشفيفة» كما يقول الباحث.
وقد قدم العجلوني كنموذج لتعامل الأفغاني مع التراث، تعليقاته على العقائد العضدية «ولاسيما وقفته أمام حديث الفرقة الناجية» التي يمكن أن يستشف من خلالها منهج الأفغاني الذي تميز بالتمثل «لحديث الفرقة الناجية وشرحه، حيث يمتزج التحليل اللغوي بالمحاججة الكلامية، بالتحقيق الدقيق للمعاني، وحيث يتشقق الكلام عن مباحث عميقة تؤكد طول باع المعلق وشدة مراسه لقضايا اصول الدين أو علم الكلام..».
إن ما يلاحظ هنا هو أن المدعى أكبر بكثير من الموضوع، لأن الأفغاني لم يعتن أو يهتم يوماً ما وهو منشغل بالملابسات السياسية، بإشكالية التعامل مع التراث، لأن هذه الإشكالية لم تكن قد طرحت أو تبلورت بعد بشكل علمي دقيق على عهده، كما هي عليه الآن، لذلك فاعتماد تعليقه على شرح الدواني لكتاب الإيجي ليس كافياً لمعرفة أسلوبه أو منهجه في التعامل مع التراث ككل، ومما لاشك فيه أن التراث لم يشكل هماً معرفياً لدى الأفغاني، لذلك فقراءته لكتاب الدواني يمكن اعتبارها ملاحظات استفادت من اطلاعه الواسع على مباحث الكلام والفلسفة، أما أن ننطلق من هذه التعليقات للكشف عن «منهج» في التعامل مع التراث، فهذا يحتاج إلى قراءة أوسع وأشمل في أمهات المصادر التراثية؟!
الورقة الثانية في هذه الجلسة، كانت للدكتور «سعيد شبار» من كلية الآداب (بني ملالـ المغرب) حول: «الأفغاني ومنهجه في التعامل مع الآخر»،
ينطلق الباحث من تحديد الواجهة الأولى «الأنا» المحددة للذات العربية والإسلامية ـ كما يقول ـ والأرضية الفكرية والسياسية والدعوية لحركته، كما تشكل الثانية «الآخر» المخالف لتلك المرجعية والمناقض لها، وقد يتسع معنى «الآخر» عند الأفغاني ليشمل عناصر ومكونات إيجابية في التجربة الغربية، ولايقتصر على الوجه الاستعماري في الحضارة الغربية.. كما قد يتسع عنده معنى «الأنا» ـ كما يرى الباحث ـ ليشمل المخالف من داخل الذات العربية والإسلامية..
ومن خلال جدلية الأنا والآخر يكتشف الباحث منهج الأفغاني في التعامل مع الغرب، لقد زار الأفغاني عدد من الدول الأوروبية واطلع على الحياة الغربية وتعلم بعض اللغات الأوروبية، ودرس العلوم الحديثة عندما كان في الهند، هذه المعطيات جعلته «يحدد بدقة طبيعة هذه الحضارة وأسسها ومبادئها وجوانبها الإيجابية والسلبية معاً». لقد «وقف من هذه الحضارة وقفة إسلامية صحيحة دون تعصب وانغلاق، ودون رفض تام لها أو قبول كامل لمبادئها»، لقد استطاع أن يكتشف محاسن الغرب الحضاري العلمي المتقدم، ومساوئه الإستعمارية ورغبته في استعباد الشعوب ونهب ثرواتها. فدعى للإستفادة منه علمياًوحضارياً، وحرض على مناهضته ومحاربته لإخراجه من الأراضي الإسلامية والتحرر من هيمنته العسكرية..
ثم تحدث بعد ذلك الدكتور «ناصر أحمد الخوالدة» من الجامعة الأردنية حول: «فلسفة التربية عند جمال الدين الأفغاني»، حيث نجد خطاباًتربوياً «موجهاً إلى الإنسان في محاولة لتوعيته بقضاياه، وحياته وحضارته، ومستقبله» في إطار رؤية متكاملة تهتم بالأخلاق، وتدعو لإعمال العقل في مجالات الحياة المختلفة، كل ذلك انطلاقاً من قاعدة دينية واعية ومنفتحة على المستجدات، أما أساسيات الفكر التربوي عند الأفغاني فقد «تمثلت في الجمع بين الفكر والعمل، والطرح المباشر لموضوعاته الفكرية لتبصير العلماء والعامة بحقيقة الأوضاع السائدة..» معتمداًالمنهج العملي الحركي في فكره، متطلعاً باستمرار نحو قطف ثمار هذه التربية النظرية والعلمية.
وقد حث الأفغاني على تربية الأطفال، وضرورة توفير الأجواء التربوية المناسبة لهم، والإهتمام بتلقينهم العلوم المفيدة، وترغيبهم في العمل. أما خلاصة مذهبه التربوي وفلسفته في هذا المجال، فيلخصها تلميذه محمد عبده قائلاً: «قد وضعت علوم التربية والتهذيب لتحفظ على النفس فضائلها وتردها عليها إن اعتلت وانحرفت عنها إلى جانب النقص والإعوجاج..»
وقد استعرض الدكتور الخوالدة أهم ما ركز عليه الأفغاني في فلسفته التربوية مثل: التربية الدينية والوطنية، التربية الأممية وتربية الجماهير، التربية الخلقية والقيمية، وصولاً للتربية والإعداد لحركة إسلامية عالمية.
«ملامح التجديد في فكر الأفغاني في التعامل مع القرآن الكريم» هو عنوان الورقة الأخيرة التي تقدم بها الدكتور «زياد الدغامين» ـ أستاذ قسم الدراسات الفقهية «جامعة آل البيت (الأردن)». أولاً يجب أن نعرف بأن الأفغاني لم يترك أي أثر أو تأليف خاص بالتفسير، يمكن من خلاله معرفة منهجه في التفسير، لكن الباحث ينطلق من أن الأفغاني كان قد انطلق في دعوته للإصلاح والتجديد من القرآن الكريم، فأعماله ونشاطاته، إنما هي ترجمة لهذه المنطلقات، فالقرآن كان بالنسبة له، منهج حياة، ومن خلال النظر فيýآياته، يمكن إيجاد حلول لقضايا الأمة، فالدعوة إلى الوحدة، ونبذ الفرقة، هي دعوة من صميم القرآن، والإهتمام بالعقل والنظر في الطبيعة والخلق، مما دعا القرآن إليه كذلك، وإذا كان القرآن قد اهتم بالقضايا الكلية والجوهرية في حياة الإنسان والأمم، فإن الأفغاني قد سلك المنهج نفسه. ومن خلال دفاعه عن اللغة العربية وحرصه على الاستشهاد بالسنة النبوية الصحيحة، واهتمامه بالبحث عن البراهين العقلية والنقلية القوية، واعتبار السنن الإلهية في الخلق، يمكن أن نرسم ملامح منهجه في التفسير للقرآن. هذا التفسير الذي ظهر في أعماله وتحركاته واستفاد منه تلميذه محمد عبده، وظهرت ملامحه في تعاطيه مع القرآن، وقد استفاد رشيد رضا كذلك من هذا المنهج.
إن استجابته لقيم القرآن وتعاليمه، هي التي جعلته يضع يده على الأمراض الحقيقية التي تعاني منها الأمة، ومن خلال هذه القيم استطاع أن يوجه الأمة نحو الحلول التي استوحاها من القرآن كذلك. ومن خلال هذه العملية، نلاحظ بأن منهجه في التفسير يتلخص في إعادة العلاقة بين النص والواقع، فالمفسر يحمل هموم ومشاكل عصره ليعرضها على القرآن، ومن خلال تثوير النص القرآني ـ كما يقول الباحث ـ يستطيع القرآن الإجابة على جميع الأسئلة التي يطرحها العصر، وهذا ما قام به الأفغاني.
الجامعة الإسلامية وتطور الفكر الإسلامي الحديث
افتتحت الجلسة الثالثة والأخيرة أعمالها بقراءة ورقة الدكتور «أحمد الشوابكة» ـ عميد كلية المجتمع الإسلامي (الأردن)، حول: «جمال الدين الأفغاني ومشروع الجامعة الإسلامية»،
يعتبر الباحث الشوابكة أن الأفغاني كان رائداً للتيار التوفيقي، الذي يدعو «إلى الحفاظ على أصول الإسلام والإستفادة مما يلائم أحوال الشرق من منجزات الحضارة الغربية العلمية والحياتية العامة..» لذلك فقد استبعد المحاولات الجزئية للإصلاح «كأن تكون بإصلاح الجانب التعليمي أو باقتباس ما عند الغرب من نظم وأساليب.. أما الوسيلة الشافية فهي تقوم علىýأساس إنهاض دولة إسلامية من حالة الضعف وتنبيهها للقيام على شؤونها، وإيصالها إلى مصاف الدولة القوية، ولم تكن هناك غير الدولة العثمانية مؤهلة لهذا الدور، باعتبارها أقوى وأكبر دولة إسلامية، ومقر الخلافة الإسلامية، لذلك اقترح الأفغاني على السلطان عبد الحميد محاولة «إقامة دولة إسلامية اتحادية على غرار خديوية مصر، من كافة ولايات الدولة العثمانية، مستقلة ذاتياًومرتبطة بعاصمة الدولة في شؤونها العامة. ثم بعد ذلك تنضم الممالك الإسلامية الأخرى مثل إيران وأفغانستان والهند»، لكن هذا المشروع كان صعب التنفيذ، بل مستحيلاً في تلك الظروف السياسية والإجتماعية».
وقد تعرضت هذه الفكرة للنقد والرفض، فالبعض كان يرى فيها محاولة من طرف السلطان عبد الحميد «لتشديد قبضة الدولة على ما تبقى من ولاياتها أمام الخطر الأوروبي الزاحف»، كما أثارت مخاوف وهواجس البعض الآخر الذي كان يرى في الخلافة نظاماً استبدادياً يجب أن يعدل أو يلغى تماماً؟! لكن مهما قيل حول هذه الفكرة، فإن دوافع الأفغاني نحوها وتركيزه على الجانب السياسي كان يرمي من خلاله «إلى إيجاد حد أدنى من التضامن بين المسلمين، لإستعادة ما فقد من ديارهم، والحفاظ على ما تبقى بأيديهم فيها..».
الورقة الثانية في هذه الجلسة تقدم بها الأستاذ «زكي الميلاد» ـ رئيس تحرير مجلة الكلمة (السعودية). تحت عنوان: «السيد جمال الدين الأفغاني وتطور الفكر الإسلامي الحديث».
مما لاشك فيه أن تطور الفكر الإسلامي الحديث قد ساهمت فيه عدة معطيات، سياسية، واجتماعية وحضارية بشكل عام. لكن دور الأفغاني كان مهماًفي انبعاث وتطور هذا الفكر و«تشكيل ملامحه العامة واتجاهاته الرئيسية» كما يقول الميلاد.
إلا أن أهم ما يتناوله الميلاد هو الإنطلاق من إشارة إلى فكرة كان الدكتور رضوان السيد (أستاذ جامعي من لبنان) قد أشار إليها في إحدى كتبه، وهي: «إن هناك قطيعة بين الفكرين الإسلاميين الحديث والمعاصر». فالإشكايات الرئيسية في الفكر الإسلامي الحديث، كانت تتمحور حول قضايا النهوض والتقدم، بينما يعالج الفكر الإسلامي المعاصر قضايا وإشكاليات أخرى مثل: «الهوية ومقتضياتها وأساليب ووسائل حفظها». وبالتالي فقد وقع نوع من النكوص في نظره، في هذه المعالجات والإشتغالات الفكرية. وعليه فمحمد عبده متقدم على رشيد رضا والأفغاني متقدم عليهما معاً.
ومن خلال المقارنة بين انشغالات الفكرين الإسلاميين الحديث والمعاصر، يقدم الميلاد المواضيع والإشكالات الفكرية: السياسية والإجتماعية التي تظهر حجم التراجع الذي أصاب العقل الإسلامي في معالجته لهذه المواضيع التي تحدث عنها الميلاد ضمن خمسة محاور هي:
1ـ ارتباط الفكر الإسلامي الحديث بواقع المجتمع والدولة بصورة وثيقة، مع رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وكذلك مع الأفغاني الذي كان ارتباطه واضحاً بعدد من الدول والمجتمعات الإسلامية التي زارها أو عاش داخل أوساطها السياسية والفكرية.
2ـ البيئات التي انطلق منها الفكر الإسلامي الحديث، كانت حواضر لها عراقة تاريخية في المجال الحضاري بشكل عام (مصر، العراق، إيران، تركيا).
3ـ الموقف من الغرب كان أكثر موضوعية، فالأفغاني والطهطاوي، كلاهما زار الغرب وتعرف على الحياة هناك. وقد تعامل الأفغاني مع عدد من الدول الأوروبية من خلال نخبها السياسية والفكرية.
4ـ تعاطى الفكر الإسلامي الحديث مع مسائل مهمة مثل: المواطنة، علاقة المجتمع بالدولة، الدستور، الجامعة الإسلامية، تجديد الفكر الديني، إصلاح مناهج التعليم، مشاركة المرأة في المجالات العامة، «بمنهجية تتجاوز منطق الثنائية الجدلية، وطريقة السجال الإحتجاجي»، كما يقول الميلاد. في المقابل نجد الفكر الإسلامي المعاصر يتعامل مع هذه القضايا «بصورة جدلية سجالية»، كما غاب الإهتمام لديه بقضايا مثل (الجامعة الإسلامية)، وتوقف التفكير في مثل (المواطنة)، و«تراجع في قضايا مثل النظر في شؤون المرأة في علاقتها بالشأن العام».
5ـ في مرحلة الفكر الإسلامي الحديث كان هناك نوع من التواصل بين «النخب والجماعات الفكرية والدينية، كان على درجة من الإيجابية والإنفتاح والحيوية»، أما حال الفكر الإسلامي المعاصر فالصورة يغلب عليها التصادم والقطيعة. أما ما يتوصل إليه الميلاد فهو أن الفكر الإسلامي الحديث «كان متميزاًومتقدماً»، وأكثر نضجاًفي موقفه في عدد من القضايا والإشكاليات، هذا التقدم والتميز كان السيد جمال الدين الأفغاني في قلبه، وقد ساهم في بلورته بشكل كبير، يشهد له بالفرادة والتميز عن غيره من رواد الفكر الإسلامي الحديث.
الورقة ما قبل الأخيرة تقدم بها الباحث الإيراني الأستاذ «صادق العبادي»، حول: «جمال الدين الأفغاني و دوره في ايران»،
يتساءل الباحث العبادي في بداية بحثه عن أسباب إهمال الكتاب العرب للحديث عن نشاط الأفغاني السياسي في ايران و مشاركته في الأحداث الكبرى التي عرفتها إيران خلال نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين، ان أهم ما ميز الحياة السياسية الإيرانية خلال هذه الفترة هو الاستبداد السياسي في ظل ظروف دولية شديدة التعقيد، حيث الصراع مع الروس من جهة، و المنافسة المريرة مع الدولة العثمانية من جهة أخرى، وتردي الأوضاع الداخلية على جميع الأصعدة. لذلك فقدركز الأفغاني و خصوصاًفي آخر حياته على «إيجاد تغير سياسي في إيران»، مع تسجيل حضوره الدائم في الساحة السياسية الإيرانية، عبر علاقاته مع علماء الدين في كل من طهران و العراق(النجف الأشرف)، حيث لم يتوقف عن تحريضهم باتجاه محاربة الإستعممار البريطاني من جهة، ودعوة الحكام القاجار الى الإبتعاد عن الأساليب الإستبدادية في الحكم.
إن أهم إنجاز سياسي قام به الأفغاني في ايران كما يقول المؤلف، هو كشف الستار عن الوجه الحقيقي للاستبداد«الداخلي» و «التدخل الأجنبي»، و قد قام بعملين في هذا المجال و نجحا مرحلياً: «انتفاضة التبغ ضد الأجنبي، والحركة الدستورية ضد الستبداد الداخلي» وقد أكد المؤرخون مشاركته المباشرة والغير مباشرة في هذه الأحداث، ولا يكاد يصدر كتاب تحليلي عن جذور الحركة الدستورية، إلا و اعتبر الأفغاني من مؤسسي هذه الحركة. بل تعد امتداد تأثيره إلى قيام الثورة الإسلامية المعاصرة، يقول العبادي:«فعندما نراجع أدبيات الثورة نرى عدم خلو أي مقال أو كتاب من الاستشهاد بالإفغاني كمصلح، و قائد للحركة الإسلامية و الإستشهاد بحياته و تضحياته، و هذا إنما يدل بوضوح على مدى توظيف شخصية الأفغاني لبناء جيل الثورة، ودعم الحركة الإسلامية» و هذا ما أكده الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني عندما قال: «إننا بدأنا حركتنا الإسلامية بتأثير من أفكاره».
الورقة الأخيرة التي قدمت في هذه الحلقة الدراسية حول حياة الأفغاني و عطائه كانت من طرف الدكتور «مصطفى منجود» ـ «مصر» أستاذ بجامعة القاهرة و جامعة آل البيت، وحملت عنوان: «الأبعاد السياسية لمفهوم العدل في فكر جمال الدين الأفغاني»،
لقد كان نشدان العدل هو ما رجاه الأفغاني و عمل على تحقيقه «داخلياًمن حكام المسلمين و علمائهم و شعوبهم، و في علاقاتهم مع غيرهم، و خارجياًمن ذلك المستعمر الذي احتل أراضي المسلمين و اقتسم ديارهم، كما يقول الباحث منجود، فالعدل بوجهيه الداخلي و الخارجي كان الباب الذي آثر الأفغاني أن يدخل منه، و هو يؤسس لقواعد النهوض الإسلامي، فظلمهم لأنفسهم هو سبب أزمتهم في كل أبعادها، و ظلم غيرهم لهم هو سبب هزيمتهم بفعل أزمتهم».
يطرح الباحث عدة أسئلة مثل: هل ثمة تعريف محدد للعدل في فكر الأفغاني؟ و هل يشكل الأفغاني اتساقاً مع الفكر السياسي الإسلامي في محورية العدل و سبقه قيماًأخرى؟ وما علاقة العدل بفهوم السياسة و أنماطها في تصوره؟ وكيف يتجسد العدل في نظم الحكم؟ وغيرها من الأسئلة التي يجيب عنها ضمن محاور و نقاط حددها في ستة نقاط هي: 1ـ في الخطوط المنهاجية العامة لتناول الأفغاني لمفهوم العدل، 2ـ تعريف مفهوم العدل ودلالته كمفهوم سياسي في فكر الأفغاني، 3ـ موقع العدل في رؤية الأفغاني للسياسة و أقسامها، 4ـ العدل بين القيم السياسية و مضاداتها في فكر الأفغاني، 5ـ مسؤولية عناصر الرابطة السياسية في إقامة العدل لدى الأفغاني، 6ـ العدل ونقيضه و الظاهرة الإستعماريةفي فكر الأفغاني كذلك.
و بعد استعراض و تفصيل لهذه النقاط يتوصل الباحث إلى أن «العدل في فكر الأفغاني حقيقة حضارية شاملة، تجسد المضمون الحضاري للتشريع الإسلامي كعقيدة و شريعة».. فالأفغاني هو القائل: «إن العدل أساس الكون و به قوامه، و لا نجاة لقوم يزدرون العدل بينهم..».
المصدر:العدد (22) ـ السنة السادسة، شتاء 1999م ـ 1420هـ (مجلة الكلمة)
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |