محمد إقبال اللاهوري .. الشاعر والفيلسوف
1294 – 1357 هـ = 1877 – 1938 - م
مواضيع البحث:
• الدعوة إلى قيام دولة إسلامية.
- وُلد محمد إقبال ببلدة سيالكوت بإقليم البنجاب سنة 1289 هـ = 1873م.
- نشأ في أسرة متوسطة الحال ملتزمة بالدين.
- حفظ إقبال القرآن وتلقى تعليمه الابتدائي في بلدته، والتحق بمدرسة البعثة الأسكتلندية للدراسة الثانوية، ودرس في هذه المدرسة اللغتين العربية والفارسية.
- التحق بجامعة لاهور، واتصل بالمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد.
- سافر إلى لندن وعمل بها فترة سنة "1323 هـ = 1905م" ، ثم سافر إلى ألمانيا وحصل على درجة الدكتوراة "من جامعة ميونخ".
- وبعد عودته إلى بلاده اشتغل بالسياسة والفلسفة، وانتخب عضوًا بالمجلس التشريعي بالنبجاب، وأخيرًا رئيسًا لحزب مسلمي الهند.
- يُعد محمد إقبال أول من نادى بضرورة انفصال المسلمين في الهند عن الهندوس، وتأسيس دولة خاصة بهم.
- دعا محمد إقبال إلى تجديد الفكر الديني وفتح باب الاجتهاد، وتقدير الذات الإنسانية ومحاربة التصوف السلبي الاتكالي.
- ترك محمد إقبال تراثًا فكريًا وأدبيًا، تُرجم معظمة إلى اللغة العربية.
- تُوفي محمد إقبال في "20 من صفر 1357 هـ = 21 من إبريل 1938م".
إذا كان للداعية المصلح أسلحته الحاسمة في ميدان الجهاد ووسائله الصادقة في إقناع الجماهير بما يقول، وفي شدهم إلى الطريق الذي يرجو أن يسلكوه، فقد شاء الله أن يكون الشعر هو أمضى أسلحة محمد إقبال، وأكثرها نفاذًا في القلوب وأعظمها تأثيرًا في النفوس.
صنع بشعره صنيع الأبطال العظماء من القادة والفاتحين، حين أنشأ أمة بقلمه لا بسيفه، وبلسانه لا بجيشه، فقاد الجماهير المسلمة في شبة القارة الهندية إلى إنشاء دولة إسلامية منفصلة عن الهند، لها مثلها الثابتة ودستورها الخاص.. وتحقق الحلم وظهرت باكستان على أرض الإسلام دولة فتية وأمة عزيزة.
وُلد محمد إقبال في بلدة "سيالكوت بإقليم البنجات، أحد أقاليم شبه القارة الهندية في "24 من ذي الحجة 1289 هـ = 22 من فبراير 1873م"، ونشأ في أسرة مسلمة متوسطة الحال، معظم أفرادها يشتغلون بالزراعة، وينتمون إلى سلالة البراهمة، نزلت منذ ثلاثة قرون عن امتيازاتها الوفيرة ومنزلتها المرموقة بين الطبقات الهندوسية واعتنقت الإسلام، وكان والد إقبال رجلاً صالحًا يغلب عليه التصوف.
حفظ إقبال القرآن الكريم في الصغر، وحرص أبوه أن تكون قراءة ابنه للقرآن قراءة وعي وتدبر وفهم تؤدي إلى العمل به والاهتداء بهديه، وكان يقول له: "يا بني اقرأ القرآن كأنه نزل عليك"، ويقول إقبال تعقيبًا علي هذه الوصية العظيمة بقوله : "ومنذ ذلك اليوم بدأت أتفهم القرآن، وأقبل عليه، فكان من أنواره ما اقتبست ومن بحره ما نظمت".
تلقى إقبال مبادئ العلوم في مدرسة إنجليزية ببلدته "سيالكوت"، وبعد أن أنهى دراسته بها التحق بمدرسة البعثة الأسكتلندية للدراسة الثانوية، وتلقى فيها أصول اللغتين الفارسية والعربية على أحد أصدقاء أبيه ويدعى "ميرحسن" وكان أستاذًا متمكنًا في آداب هاتين اللغتين، قام بتشجيع تلميذه على قرض الشعر والكتابة باللغة الأُردية، لما توسم فيه من نجابة وذكاء.
ثم دخل إقبال جامعة لاهور، وأظهر تفوقًا في اللغتين العربية والإنجليزية، ونال درجتي الليسانس والماجستير في الفلسفة، وفي لاهور توثقت صلته بالمستشرق الإنجليزي "السير توماس أرنولد" صاحب كتاب "الدعوة إلى الإسلام"، وكان أرنولد شديد الإعجاب بمواهب تلميذه وإنتاجه الشعري، ولذلك طلب منه أن يقوم بدلاً منه بمهمة التدريس في جامعة لندن في فترة من الدراسة الجامعية سنة "1323 هـ = 1905م".
وهناك اتصل بكثيرين من أهل العلم، ثم رحل إلى ألمانيا، وحصل من جامعة ميونخ على الدكتوراة في الفلسفة برسالة قدمها عن تطور الفكر الفلسفي في إيران، ثم عاد إلى لندن، والتحق بمدرسة الاقتصاد والسياسة بجامعة لندن، ونال درجة في القانون، ثم عاد إلى الهند سنة "1326 هـ = 1908م".
• الدعوة إلى قيام دولة للمسلمين
ولما عاد إقبال إلى وطنه اشتغل بالشعر والفلسفة والسياسة، وانتخب عضوًا بالمجلس التشريعي بالبنجاب سنة "1345 هـ = 1926م"، واختير رئيسًا لحزب مسلمي الهند، ورئيسًا لجمعية حماية الإسلام التي كانت تشرف على عدد من المؤسسات الدينية والاجتماعية، ولبث زمنًا طويلاً يلقي المحاضرات في أرجاء الهند.
ويُعد محمد إقبال أول من نادى بضرورة انفصال المسلمين في الهند عن الهندوس، وتأسيس دولة خاصة بهم يحيون فيها الحياة التي تتمشى مع تعاليم الدين الحنيف، ومنذ أن أعلن إقبال هذه الفكرة سنة "1349 هـ = 1930م" حتى أصبحت الهدف الأول الذي جاهد المسلمون في الهند لتحقيقه، إلى أن تمّ لهم إنشاء دولة باكستان في سنة "1367 هـ = 1947م" بعد نضال متصل وكفاح مستمر، اشترك فيه جميع المسلمين هناك تحت قيادة "محمد علي جناح".
دعا إقبال إلى تجديد الفكر الإسلامي، وذلك في سلسلة من المحاضرات ألقاها باللغة الإنجليزية سنة "1347 هـ 1928م"، ثم نشرها سنة "1353 هـ = 1934م" بعنوان "تجديد بناء الفكر الديني في الإسلام، نادى فيه إلى فتح باب الاجتهاد، للكشف عن الحقائق الأصيلة في الإسلام، مثل الحرية والاتحاد والمساواة والاجتماع، فالاجتهاد هوالوسيلة العملية الملائمة للتوفيق بين أحداث الحياة المتجددة وبين مبادئ الإسلام، حتى لا تسير الحياة الإنسانية في المجتمع الإسلامي منعزلة عن الدين، وكان يرى أن إبطال الاجتهاد كان من أقوى الأسباب التي أدت إلى ضعف المسلمين.
وفي حديث إقبال عن الإجماع باعتباره أصلاً من أصول الشرع الإسلامي يقول: "والأصل الثالث من أصول الشرع الإجماع، وهو عندي أعظم السنن الشرعية، وعجيب أن هذه السنة الرشيدة نالت كثيرًا من بحث المسلمين وجدالهم، ولكنها لم تعدّ التفكير إلى العمل، وقلما صارت سنة عملية في بلد إسلامي، ولعل اتخاذها سنة دائمة ونظامًا محكمًا لم يلائم مطامع المُلك المطلق الذي نشأ في الإسلام بعد الخلفاء الراشدين..، ولعل ترك الاجتهاد لأفراد من المجتهدين كان أقرب إلى منافع الخلفاء من بني أمية وبني العباس من تأليف جماعة دائمة عسى أن تفوقهم قوة..، ومما يبعث على الرضا والأمل أن سيرة الحوادث في هذا العصر وتجارب أمم أوربا أشعرت الفكر الإسلامي الحديث بقيمة الإجماع وعرفته أنه ممكن، وشيوع النزعة الجمهورية ونشوء المجالس التشريعية يمهدان السبيل إلى العمل بسنة الإجماع.
كانت فلسفة إقبال في جوهرها ذات طابع إسلامي عميق، فهي تدعو إلى تمجيد الإسلام وبعث الحياة والقوة في المسلمين، وتبشرهم بمستقبل زاهر ومجد وفخار إذا ساروا في حياتهم علي هُدى دينهم الحنيف، وكان إقبال لا يسأم من الدعوة إلى النهوض والتشمير وحث الخطى على مواصلة السير مع القافلة، "فالغاية القصوى للنشاط الإنساني هي حياة مجيدة فتية مبتهجة، وكل فن إنساني يجب أن يخضع لتلك الغاية، وقيمة كل شيء يجب أن تُحدد بالقياس إلى تلك القوة على إيجاد الحياة وازدهارها، وأعلى فن هو الذي يوقظ قوة الإرادة النائمة فينا، ويستحثنا على مواجهة الحياة في رجولة، وكل ما يجلب إلينا النعاس، ويجعلنا نغمض عيوننا عن الحقيقة الواقعة فيما حولنا إنما هو إنحلال وموت".
وقد تغنى إقبال بعزيمة المسلم فقال:
يبتسم المسلم في سلمه عن دقة الماء ولين الحرير
وتبصر الفولاذ في عزمه إذا دعا الحرب ونادى النفير
ويقول أيضًا:
يمشي على الأشواك والنار والسيف ويمضي ساخرًا بالعذاب
فهو ترابي ولكنه حرٌّ طليق من قيود التراب
ويرفض إقبال أن يكون المسلم المعاصر صورة مكررة من الرجل الأوربي الحديث؛ لأن الأخير قد طغت عليه نتائج نشاطه العقلي الصِّرف، وأعماه ذلك عن توجيه روحه توجيهًا سليمًا إلى حياة تشبع أعماق نفسه وتحقق له التوازن المطلوب، وأصبح ينكر ما هو غيبي ويراه وهمًا، ويجد نفسه في أغلب الأحيان عاجزًا عن ضبط أنانيته وشهواته، ومأخوذًا بسحر المادة، يتكالب عليها تكالبًا لا يعقبه إلا الحسرة والشقاء، وكان إقبال شديد الإيمان بأن للدين الأهمية الكبرى والأثر الفعال في توجيه حياة الفرد والجماعة علي حد سواء.
ورسالة الإسلام عند إقبال رسالة إنسانية ليس لها حدود زمانية أو مكانية، وأن به قوة كامنة تستطيع أن تحرر نفوس البشرية من قيود الأجناس، والألوان والعصبيات، وخلاصة هذه الرسالة هي إقرار الحرية وتدعيم العدالة، وتوطيد المحبة بين البشر.
رأى إقبال أن الصوفية الهندية الحالمة، والصوفية الإسلامية المتواكلة قد كان من أثرهما في المسلمين نشر اليأس والاستسلام، والهروب من الدنيا، والقعود عن العمل والإقدام، فنهض إقبال المصلح لمحاربة هذه الفلسفة التي ترادف الضعف والفناء، وعارضها بفلسفة جديدة تبشر بالقوة والتفاؤل والنماء، أو ما أطلق عليها بتقدير الذات.
والشخصية عند إقبال حالة فريدة من التجلد والجهد أمام المكاره، ولما كانت بهذا هي أثمن ما يحققه الإنسان، فقد وجب عليه أن يدأب علي الصمود للأحداث وركوب الأخطاء، وتجنب مزالق التواكل والاسترخاء، وكل ما يجعلنا نمضي إلى السعي وضبط النفس ومغالبة العوائق والصعاب إنما ييسر لنا الانخراط في سلك الحياة الخالدة.
والحياة حركة دائمة، جوهرها استمرار خلق الرغبات والمثل العليا، وأكبر عقبة تعترض طريق الحياة هي المادة والطبيعة، ومع ذلك فالمادة ليست شرًا، وإنما هي وسيلة لإبراز ما في الحياة من قوىً كامنة، وتصل الذات إلى التحرر والانطلاق بإزالة جميع العوائق التي تعترض سبيلها، وهي تصل إلى حرية أتم وأكمل إذا اقتربت من الفرد الأعلى الذي هو مبرأٌ من كل قيْد وهو الله سبحانه وتعالى.
جاهر إقبال برأيه في الوطنية، وأعلن أنها دخيلة على مبادئ الإسلام، إذ أن الإسلام كله وطن، وأن الهندي أخ المغربي والفارسي والعربي والإفريقي والأوربي إذ جمعتهم عقيدة واحدة، وهي عقيدة الدين، فهي أقوى العقائد، ولن يقوم مقامها ما يصطنعه الناس من حدود جغرافية تسيطر عليها الجبال والصحاري والأنهار أو تفرضها السياسة الغاشمة فرضًا، ويوضح موقفه القاطع من الوطنية بقوله: أنا لا أقبل الوطنية كما تعرفها أوربا، وليس إنكاري إياها خوفًا من أن تضر بمضالح المسلمين في الهند، ولكني أنكرها لأني أرى فيها بذور المادية الملحدة، وهي عندي أعظم خطرًا على الإنسانية في عصرنا، لا ريب أن الوطنية لها مكانها وأثرها في حياة الإنسان الأخلاقية، ولكن العبرة بإيمان الإنسان وثقافته وسننه التاريخية، هذه في رأيي الأشياء التي تستحق أن يعيش لها الإنسان ويموت من أجلها، لا بقعة الأرض التي اتصلت بها روح الإنسان اتفاقًا.
انتقد إقبال حركة كمال أتوتورك في تركيا الحديثة التي أدارت ظهرها للإسلام، وانسلخت تمامًا منه، ومن كل ما يتصل به، فألغت الخلافة ومنصب شيخ الإسلام، والحروف العربية التي كانت تكتب بها اللغة التركية، وعطلت المدارس الإسلامية، وعدَّ إقبال هذه الحركة نوعًا من التجدد القائم على رفض القديم برمته، والأخذ بكل جديد دون وعي، ووصف أتاتورك بأنه محروم من الإبداع والابتكار وأنه مقلد فحسب، وقد عبر عن ذلك بقوله: "إن زعيم تركيا لا يملك أغنية جديدة، وإنما هي أغان مرددة معادة تتغنى بها أوربا من زمان، إن الجديد عنده هو القديم الأوربي الذي أكل عليه الدهر وشرب، ليس في صدره نفس جديد، وليس في ضميره عالم حديث، فاضطر إلى أن يتجاوب مع العالم الأوربي المعاصر.. إنه لم يستطع أن يقاوم وهج العالم الحديث، فذاب مثل الشمعة وفقد شخصيته".
كان إقبال شاعرًا مجيدًا في اللغة الفارسية مع أنها لم تكن لغته، لكنه اختارها لينظم بها أكثر انتاجه الشعري؛ لانتشارها الواسع بين المسلمين في شبه القارة الهندسية وآسيا الوسطى، كما نظم بعض دواوينه باللغة الأردية لغة وطنه..وقد استمد إقبال موضوعات شعره من قضايا أمته، واتسم بشيوع المضامين القائمة على الأفكار الكبرى كالبحث عن الحق والخير والحرية والمساواة مع الالتزام بمبادئ الإسلام.
وقد ترجم الكاتب الكبير عبد الوهاب عزام عددًا من دواوينه إلى العربية، نقلها من الفارسية ونظمها شعرًا، وكذلك فعل محمد الصاوي شعلان، ومن شعره الذي ترجمه الشيخ شعلان:
ملكنا هذه الدنيا القرونا
وأخضعها جدود خالدونا
وسطَّرنا صحائف من ضياء
فما نسي الزمان ولا نسينا
وكنا حين يأخذنا قويٌّ
بطغيان ندوس له الجبينا
تفيض قلوبنا بالهدي بأسًا
فما تغضي عن الظلم الجفونا
ترك محمد إقبال تراثًا أدبيًا وفلسفيًا احتل به مكانة مرموقة بين كبار الشعراء والفلاسفة في النصف الأول من القرن العشرين، ومن أهم مؤلفاته بالإنجليزية:
- تطور الفكر الفلسفي في إيران، وقد ترجمه إلى العربية حسن الشافعي ومحمد السعيد جمال الدين، ونشر بالقاهرة سنة 1989م.
- تجديد الفكر الديني في الإسلام، وترجمه عباس العقاد إلى العربية.
ومن أشهر دواوينه: ديوان أسرار إثبات الذات، وديوان رموز نفي الذات، وديوان: رسالة المشرق، وديوان ضرب الكليم، وقد ترجم عبد الوهاب عزام هذه الدواوين إلى العربية.
وبعد حياة حافلة بالفكر والجهاد تُوفي محمد إقبال في "20 من صفر 1357 هـ = 21 من إبريل 1938م"، ودفن في لاهور، واتخذ أصدقاؤه قبرًا له في فناء المسجد الجامع "شاهي مسجد"، ثم كتبوا على ضريحه: "إن محمد نادر شاه ملك الأفغان أمر بصنع ذلك الضريح اعترافًا منه ومن الأمة الأفغانية بفضل الشاعر الخالد".
* محمد إقبال: ديوان الأسرار والرموز – ترجمة عبد الوهاب عزام – دار المعارف – القاهرة – 1956.
* عثمان أمين: رواد الوعي الإنساني في الشرق الإسلامي – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة – 2001م.
* محمد رجب البيومي: النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين – دار القلم – دمشق – 1415 هـ = 1995م.
* أبو الحسن الندوي: روائع إقبال – دار القلم – الكويت – 1978م.
* معن زيادة: الموسوعة الفلسفية العربية "أعلام الفكر الإنساني" بيروت – 1997م.
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |