يؤلف كتابه ال 52 والأخير: روجيه غارودي : وصيتي إلى القرن ال 21: انتحار كوني أم انبعاث؟!
أجرى الحوار في منزله بباريس : شاكر نوري.
كانت آخر زيارة لي للمفكر الفرنسي روجيه غارودي قبل قرابة العام وقد تدهورت صحته وعلى الرغم من ذلك لم يكن يتوقف عن التأليف حيث سرعان ما اخرج لي مخطوطة كتابه الجديد المعنون الإرهاب الغربي ‘وسلمني نسخة إلكترونية منه ـــ مطبوعة على الفلوبي ــ حيث قرأت أجزاء منه . وكان حائرا في نشره كعادته مع كتبه الأخيرة لأن دور النشر الفرنسية لا تريد نشرها أو الالتزام بترويجها فهو في عداد (الكتاب المغضوب عليهم) لأنه وببساطة لا يشارك الطروحات الفكرية الرسمية التي تعلنها وسائل الإعلام بجميع أشكالها. هكذا قاطعته كبريات دور النشر الفرنسية بعد أن أصدرت له نحو 40 كتابا في شتى ميادين المعرفة . ومن المعروف أن صدور كتبه الأخيرة مثل (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) و (الولايات المتحدة : طليعة الانحطاط) وضعته على قائمة الممنوعات . وكان غارودي في زيارتي تلك يعاني من جلطة دماغية أقعدته الفراش. وعند وصولي في بداية شهر آب / أغسطس 2004م إلى باريس أول ما قمت به هو الاتصال به للاطمئنان على صحته التي تضاربت بشأنها الأخبار . وهذا أمر طبيعي لأنه الآن في عمر ال 91 عاما وللعمر استحقاقاته . ومن الطرف الثاني من السماعة جاءني صوته ليخبرني بأنه بخير على الرغم من أنه لا يزال يعاني الجلطة الدماغية . هنأته على صدور كتابه ثم طلبت منه الموافقة على زيارته إذا كانت صحته تسمح بذلك ‘ فرحب ووافق على الفور . وقبل الذهاب تحدثت عن اللقاء الموعود للصديق غسان الرفاعي ‘ فأبدى حماسة شديدة لرؤيته فترافقنا الطريق الذي يصل إلى الضاحية التي يسكن فيها (شيفنيير سور سين) . ومن هناك طلبنا سيارة أجرة بالهاتف لعدم توفر سيارات الأجرة في تلك المنطقة للذهاب إلى منزله .
وفي الطريق إليه ‘ على متن القطار السريع RER ‘ توالت في ذهني أعماله الضخمة : (المصادر الفرنسية للاشتراكية العلمية) 1949 (مات الإله)- دراسة عن هيغل 1962، لينين 1964 (النظرية المادية في المعرفة 1953، (الحرية) 1955 (آفاق الإنسان) 1969، (ماركسية القرن العشرين) 1971 من أجل نموذج فرنسي للاشتراكية 1964، (هل يمكن أن نكون شيوعيين اليوم؟) 1964، (المنعطف الكبير للاشتراكية) 1969 (الماركسية والوجودية) 1962 (أسئلة جان بول سارتر) 1960 براغ 1964(الحرية المؤجلة) (1964 الحقيقية كلها) 1970 (التاريخ القصير للاتحاد السوفيتي) 1998، (من اللعنة إلى الحوار) 1965 (عدم حتمية التاريخ 1973)، (نحن بحاجة إلى الله)1987، (نحو حرب دينية) 1995، (عظمة وانحلال الإسلام)1997، (الماركسية والأخلاق)1976،(ما هي الأخلاق الماركسية) 1973،(نحو واقعية القرن العشرين - دراسة حول يرناند ليجير) و(واقعة بلا ضفاف) 1973،(مساهمة تاريخية في الحضارة العربية الإسلامية) (من أجل حوار الحضارات) 1988 (عودة الإسلام) (قضية إسرائيل)1983، (فلسطين أرض الرسالات المقدسة) 1982 (إسلام الغرب: قرطبة عاصمة روحية) 1987، (المساجد، مرآة الإسلام) وغيرها من الكتب والمقالات التي لا تعد ولا تحصى.
ولابد من الإشارة إلى أن هذا المفكر الكبير الذي نشر أكثر من أربعين عملا فكريا في كبريات دور النشر مثل (غاليمار) و (سوي) وغيرهما قرابة نصف قرن، هاهو ينشر كتابه القيم الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية على نفقته الخاصة وتحت اسم Sami Zdad. الذي يعني بالروسية طبع على نفقته الخاصة وسرعان ما ترجم الكتاب إلى لغات عديدة لأهميته في الولايات المتحدة وإيطاليا ولبنان وتركيا والبرازيل وألمانيا وروسيا.
استقبلتنا زوجته بوليت وسرعان ما سألناها عن حالة غارودي الصحية في حين كان ينتظرنا في الطابق الأول من منزله . فقالت لي زوجته : (لم نكن نصدق بأنه سيفيق من غيبوبته التي دامت شهرا ونصف الشهر .. حياته معجزة).
كان يجلس على أريكة جلدية يتأمل الأشجار الظاهرة من مكتبه الزجاجي . ففي غضون عام واحد تغيرت ملامح وجهه كليا وكانت آثار الجلطة الدماغية واضحة على محياه . وعندما رآنا نهض ‘ مرحبا بنا ‘ ثم عاد للجلوس على أريكته معتذرا وهو محوط بالكتب المبعثرة هنا وهناك . تتوزع في منزله بعض التحف العربية والإسلامية قلت له : (سيد غارودي هل تعلم إننا كنا نعرف كتبك منذ أكثر من عشرين عاما وكنا نقرؤها بالعربية مثل كتابي (النظرية المادية في المعرفة) و(واقعية بلا ضفاف) فقال لي: والآن تترجم كتبي إلى اللغة التركية فقلت له: ( لكننا كنا نقرأ كتبك في سنوات الغليان الماركسي في السبعينيات) ، فضحك قائلا: (ولكن من العجيب أن الترجمات في العالم العربي تتم من دون حقوق نشر) . فقلت له: (أجل هذه حقيقة مؤلمة بالنسبة لكثير من الأدباء الأجانب الذين أعرفهم) ، ثم أضاف : (المؤسف في عمليات قرصنة الترجمة أن دور النشر لا تجهد نفسها حتى لإرسال نسخة من الترجمة لمؤلفيها ؟ لكنه سرعان ما ابتسم قائلا: (ولكني لا أعير أي اهتمام لحقوق النشر المهم أن يطلع القراء العرب على ما اكتبه، كما هو الحال مع كتابي ، (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) التي كما علمت نشرته صحف عربية عديدة بشكل متسلسل.
ثم أضاف، (وكما ترى أنني طبعت كتابي الأخير على نفقتي الخاصة لأن العديد من دور النشر رفضت نشره) فقلت له : (لم أكن أتصور أن ثمة اضطهادا فكريا في بلد يعتبر لحرية الفكر. فأجابني : (حرية الفكر موجودة إذا كانت تصب في منهج السلطة بأنواعها).
المعروف أن كتابه (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) آثار ضجة كبيرة في الوسط الثقافي والفكري الفرنسي، بعضهم قدم هذا الكتاب على أنه عمل من أعمال (الشيطان) أو مستوحٍ من (هتلر) . وبعض الصحف اعتبرت هذا الكتاب بمثابة انتحار رجل كان من الممكن أن يكون شاهدا على عصره وبعضهم الآخر اتهمه بمعاداة السامية وصحيفة رصينة مثل (اللوموند) قالت بأن هذا الأحمر القديم انتقل إلى الضفة الأخرى من المرآة: ويقصد بذلك انتقل إلى اعتناق النازية، وآخرون وصفوه (بالنازي الجديد)، كما أدى نشر هذا الكتاب إلى محاكمته وتغريمه 300 ألف فرنك فرنسي أي ما يعادل 50 ألف دولار لا شيء إلا لأنه كشف أكاذيب الأسطورة التي تستند إليها إسرائيل، ولأنه أيضا كشف عن اللوبي الصهيوني الذي يحرك خيوط السياسة العالمية والفرنسية . لقد كان غارودي وما يزال يعتبر الفلسفة والتاريخ واللاهوت صراعا ضد كل أشكال التزمت integrisme فقد دافع عن ماركس ضد الاتحاد السوفيتي وناضل ضد التحجر حتى تم فصله من الحزب الشيوعي عام 1980، ودافع عن المسيح ضد كل لاهوت الهيمنة، ودافع عن الإسلام ضد الإسلاميين من جهة وخيانة السلطات له من جهة أخرى ، كما دافع أيضا عن كبار الأنبياء اليهود ضد الصهيونية القبلية.
وقد أثير كل هذه الضجة المفتعلة ضد غارودي على الرغم من أن هذا المفكر كرر مرارا أنه يدين الصهيونية وليس المعتقد اليهودي، وقد أكد دوماً أن المرض القاتل لنهاية عصرنا الحالي هو التزمت سواء كان في الإسلام (الإسلاموية هي مرض الإسلام) وفي المسيحية قال أن (مسيح جان بول ليس هو المسيح) ودان الهرطقة الصهيونية التي تريد استبدال اله إسرائيل بدولة إسرائيل.
في عمر ال 91 عاما ، يتميز بروح متقدة من الفكاهة والنكتة الساخرة، ولم أر مفكرا يتحلى بهذا التواضع وبهذا الأدب الجم الذي ينم عن روح إنسانية كبيرة كما تجسده أعماله الفكرية.
اللقاء بالمفكر الفرنسي روجيه غارودي ليس بالأمر السهل، إذ أن المرء سرعان ما يجد نفسه أمام رجل إشكالي، ترك بصماته الواضحة على عصره. حوارات عديدة أجريت مع هذا المفكر إلا أننا من هذا الحوار الذي أن يكون صريحا للغاية، من دون التفكير بالممنوعات والخطوط الحمر والضغوطات الأخرى .وكان بودنا أن نلقي عليه أسئلة شخصية حول حياته الحميمة طيلة يومين لكنه سرعان ما أخرج كتابه (طوافي المتوحد حول العصر) وقال لي : (بإمكانك أن تترجم هذا الكتاب لأنه يتضمن جميع تفاصيل حياتي كما أنه لم يترجم بعد إلى اللغة العربية). رأيت في غارودي هذا الكاهن الذي لا يفترق عن الكتب والقضايا الساخنة التي انطلق بنقاشها انطلاقا من منزله هذا . وبعد أن تجاذبنا أطراف دردشة ودية، شعرت بأن هذا المفكر اللامع بدأ يفتح قلبه وفكره وبدأ يتدفق بحديث متواصل ولتكريم مجلتنا أعطانا صورا شخصية نادرة سمح لنا بتصوير منزله وشخصه بصورة تلقائية . وانطلق حوارنا بالسؤال عن آخر مؤلفاته (الإرهاب الغربي) ومبيعاته في فرنسا:
أجابني : بعت من هذا الكتاب 30 ألف نسخة بطريقة سرية لأن غالبية المكتبات كما تعلم ترفض عرضه وبيعه في واجهاتها . ولعلك تتذكر كيف كسروا واجهة المكتبة الكائنة في الحي اللاتيني لأنها عرضت كتاب (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية).
* كيف تقضي يومك ؟
ـ كما تراني بعد تعرضي للجلطة الدماغية لا أخرج من المنزل ولا أسافر وأكرس جل وقتي لإنجاز كتابي الجديد فلم تعد لي مشاريع طويلة الأمد وأنا في عمر ال 91 عاما .
* وما هو كتابك الجديد ؟
ـ قبل كل شيء أود أن أقول لك بأنه الكتاب الأخير الذي أقوم بتأليفه وهو الكتاب الـ 52. أما خلاصته فأنني أريد أن أقول فيه إننا لو استمرينا على الطريق ذاتها فإننا سنذهب إلى انتحار كوني مؤكد . والعصر يحمل لنا نتائج كارثية . لا يمكن للأحزاب الوطنية السياسية أن تقدم لنا الحلول لأن المسألة تكمن في جوهر العلاقات الدولية. هذه هي الأزمة الحالية التي لا يمكن حلها إلا عن طريق الثورة. يعني ذلك أنها تتطلب وسائل السلطة بجميع أشكالها من أجل إيقاف ما يحدث . وانبعاث الجنس البشري يأتي من خلال معركته الكبيرة في العصر . وأعتقد أن الدين سيكون له دور كبير في هذا المجال . ولعل وصيتي تكمن في إيجاد تحالف بين العالم الإسلامي والغرب الأوروبي من أجل إحلال السلام العالمي . كما أنني أريد أن أقول كل شيء في هذا الكتاب وأشرح أبعاد النظام العالمي وعلى الخصوص الأميركي وفي نظري أن أوروبا لا تجد مصالحها إلا في هذا التحالف لكن أوروبا حاليا أميركية وليست أوروبا التي نحلم بها .
* أما زلت تكتب باليد ؟
أجل كنت وما أزال أكتب باليد لكن زوجتي تقوم بطباعة مخطوطاتي ونصوصي على الكومبيوتر بعد إنجازها .
كانت زوجته ما زالت تجلس بجوارنا أثناء الحديث . وكان يطلب منها تارة كأس ماء أو صورة أو كتاب أو فنجان قهوة تارة أخرى. فهو لا يستطيع العيش من دونها فقلت لها :
* متى تعرفت على غارودي؟
ـ عرفته في عام 1952 عندما كنت أرملة . ثم انتقلنا إلى باريس . ولم يتعرف ابني الأول على أبيه لأنه أعدم في الحرب العالمية الثانية وتبناه غارودي وأصبح ابنه المدلل بل والأكثر دلالا بين أبنائه وبناته . والان يملأ الأحفاد دنيانا بالبهجة .
* كيف كانت حياتك مع غارودي ؟
- حياة مثيرة ومتعبة في آن واحد . كنت أعمل في مجال التعليم واستمريت بعملي لأن غارودي لم يكن يتقاضى سوى راتب عامل ماهر في الحزب الشيوعي . كنت أعمل من أجل أن أعينه على الحياة ولم أتوقف عن العمل حتى سن التقاعد . وبالإضافة إلى عملي ‘ كنت أساعده حين يحتاج إلى وثيقة أو مصدر أو كتاب. كنت وما أزال ذاكرته الحية لأن لا أحد يعرفه مثلي . وفي نهاية المقابلة اقترحت علي أن أرى المكتبة الكبيرة التي يمتلكها في الطابق السفلي من منزلهما ‘ وقد رأيت هذه المكتبة للمرة الأولى على الرغم من زياراتي المتكررة له طيلة أكثر من عشرين عاما . وفضلا عن مكتبته في الطابق الأول ‘ فهذه المكتبة تتوفر على كتب هائلة جمعها طيلة رحلته . وقد زودها بمدفئات خاصة حتى لا تتعفن في منزله الذي يبلغ عمره أكثر من مائتي سنة .
وبعد الدردشة مع زوجته عدت إليه لأناقشه بما يحدث حاليا في العالم العربي والإسلامي الذي كرس نفسه له.
* وما هي يا سيد غارودي أبعاد ما يحصل من تدخل أميركي خطير في الشرق الأوسط وهل يمكن أن تخلق أميركا الشرق الأوسط الكبير ؟
ـ كان ذلك ممكنا في عهد شاه إيران . والآن أصبحت إسرائيل البيدق الأساسي في السياسة الأميركية . على أية حال ‘ يجب ألا نقف مكتوفي الأيدي أمام هذا الطوفان الأميركي لأن الأمر يعتمد على ما نفعله نحن أيضا . أنا لا أفهم لماذا لا نضرب الأميركيين في نقاط ضعفهم مثل الميزان التجاري الذي يدعون بأنه الأقوى في العالم لكنهم في حقيقة الأمر ‘ ومهما جاءوا من إحصائيات وأرقام ‘ لا يقدرون على خسارة مليار زبون . والوسيلة الوحيدة لمحاربتهم هي مقاطعتها وإسرائيل في آن واحد . والأخيرة لا تتمكن من الاستمرار ستة أشهر بدون دعم الولايات المتحدة . أما ما يخص التكنولوجيا الأميركية فيمكن أن يعوضها اليابانيون .
* ألا تعتقد أن فرنسا تنتهج سياسة مغايرة عن السياسة الأميركية لأنها ما زالت تؤمن بنظرية (الاستثناء الثقافي) الذي لم تتوقف عن الحديث عنه ؟
- هذا صحيح إلى حد ما لأن الضغوطات الأميركية كبيرة على فرنسا . ومعروف أن فرنسا خسرت في حرب العراق حيث حصلت الولايات المتحدة على 90 بالمائة من عقود ما يسمى ب (اعمار العراق) وتمت إقالة وزير الخارجية الفرنسي السابق دومنيك دوفيلبان الذي رفض إرسال قوات عسكرية إلى العراق وقام بتهزئة كولن باول في اجتماع الأمم المتحدة . إن الضغوطات الأميركية على فرنسا تترجم من خلال السعي لتحطيم الزراعة الفرنسية لأن الأميركيين يمنحون الدعم الضخم لزارعة القمح من أجل تمكينهم من منافسة المزارعين الفرنسيين مما حدا أحد قادتهم إلى القول بأن منافسة الأميركيين أمر مستحيل .
من إمبراطورية الشر إلى محور الشر
* بعد مرور ثلاثة أعوام على أحداث ال 11 من أيلول/ سبتمبر كيف تقيم هذا الحدث ؟
- من المعروف أن مركز التجارة العالمي والبنتاغون هما من الأهداف الإشكالية التي ترمز إلى خمسين عاما من الهيمنة الأميركية على العالم . ومنذ اندحار هتلر حتى الوقت الحاضر يسعى الأميركيون إلى أن يثبتوا قوتهم الجديدة للتدمير والقضاء على أي منافس لهم في مجال فرض هيمنتهم . ومنذ تلك الفترة ‘ اقترفت الولايات المتحدة جرائم عديدة بحق الإنسانية نذكر منها جرائم في هيروشيما وناكازاكي وفيتنام والعراق .
* ثمة نظرة أميركية إلى العالم وهي نظرة أحادية الجانب ذات أبعاد دينية قومية ؟
- كانت الولايات المتحدة تدعم حرب بن لادن ضد (عدو الله) - الذي كان يتمثل بالاتحاد السوفيتي سابقا ‘ ولهذا أقام الأميركيون علاقات تحالفية مع الطالبان . وهذه المرة اقتنع الطالبان مع ذات الذريعة الدينية الدخول في حرب ضد عدو الله من نوع آخر هي الولايات المتحدة . وعن النظرة ذات الأبعاد الدينية للولايات المتحدة ‘ يمكن أن نذكر بوش الابن الذي غير لهجته منذ شباط / فبراير من عام 2002 وبدأ ينذر كل من العراق وكوريا الشمالية وإيران بالحرب . ومنذ تشرين الأول أكتوبر كان بوش يتحدث عن (حرب صليبية حقيقية) مستوحيا ذلك من نظرية هانتنغتون في (اصطدام الحضارات) وحسب هذه النظرة أن الحضارة الغربية اليهودية - المسيحية مهددة من قبل (التحالف الإسلامي - الكونفوشيوسي). وفي لغة المؤلف (يعني ذلك إيران والصين أعداء أساسيين. على أية حال) قدم بوش هذه السياسة على أنها (حرب صليبية) التي من شأنها أن تجمع حول الولايات المتحدة جميع القادة الأوروبيين من المستعمرين القدماء . ولكن هذه الحرب الصليبية استثنت الدول المسلمة التي تحتوي على احتياطات البترول التي تحتاجها الولايات المتحدة . لذلك سرعان ما قام بوش بتغيير تسمية (الحرب الصليبية) إلى (الحرب ضد الإرهاب) . واصبح اضطهاد المعارضين من قبل جميع الحكومات يأخذ شكل (الصراع ضد الإرهاب) . أما الدول التي رفضت الانصياع إلى سياسة الهيمنة) سرعان ما بدأ بوش بتهديدها مثل العراق وإيران وكوريا الشمالية التي وصفها أنها دول (إرهابية). وبعد مرور اشهر على ذلك (إلى درجة) قام بتهديد بعض هذه الدول بتوجيه ضربة نووية إليها.
الولايات المتحدة ... طليعة الانحطاط
* ما الذي تقصده بـ (الانحطاط).. وعلى أي الأصعدة التكنولوجية أم الاقتصادية أم المالية تستخدم هذا المصطلح في كتابك (الولايات المتحدة طليعة الانحطاط) ؟
- ما زال (حتى الآن) يقاس التطور والنمو الحاصل في البشر بالمقاييس العلمية والتقنية.. وهذا ما أتاح للغرب أن تمنحه الهيمنة الكولونيالية أولا ومن ثم الكولونيالية الأميركية الموحدة. وكان لا بد من نقل هذا التوسع الغربي أن يعتمد على الاكتشافات الصينية. وما يتعلق بالثقافة وعصر النهضة ينبغي ألا ننسى أن روادها كانوا هم العرب في أوروبا وحتى من الصينيين قبل قرنين من تحليلات السيد غوتنبرغ. وكذلك حضارة بغداد التي قدمت للبشرية أكبر مكتبة وهي التي حددت ثقافة العالم من خلال الفتوحات العربية الإسلامية.
الحالة الثانية التي أتحدث بها عن الانحطاط لا تتعلق بالتطور التقني. المشكلة أننا لا نتكلم عن التطور بالمعنى ذاته. إذا ما أعتبرها جوهر التطور هو العلاقة بين الطوائف البشرية فإن هناك حضارات إنسانية أخرى متقدمة على الغرب كثيرا. إذا نظرنا إلى الاقتصاد الأميركي فهو رائع ظاهريا وفي جوهره كارثي لان الولايات المتحدة هي من اكثر البلدان مديونية في العالم. وتعيش فوق مستوى إمكانياتها من خلال استغلال بقية بقاع العالم. كما ان الفردية من جهة أخرى تذكر بانحطاط الرومان حيث القصور كانت تنافس المعابد وهذا اليوم النظام ذاته يتكرر، في عالم يموت فيه 40 ألف إنسان نتيجة سوء التغذية والمجاعة.. ويكلف التطور الأميركي والأوروبي العالم الثالث ما يعادل قيمة قنبلة هيروشيما كل يومين، هذا هو الانحطاط من وجهة النظر الإنسانية. علاوة على ذلك هناك انحطاط على الصعيد الفني: نرى ذلك في الموسيقى والرسم والفنون الأخرى. أنني لا أتهم هنا الشعب الأميركي لأنه لا يمكن أن ننسى الشعراء والكتاب الكبار الأميركيين.
* ألا تعتقد أن هناك ثقافة أميركية متماسكة لا علاقة لها بالأنظمة الأميركية؟
- لا أعتقد أن هناك ثقافة أميركية متجانسة وموحدة وهنا لا يأتي من خطأ سكان هذه القارة. فأميركا بلد بدأ بالجريمة، بإبادة الهنود الحمر عن بكرة أبيهم ومن ثم استعباد الزنوج السود.. إنها من الخطايا الكبرى. وكل الذين رحلوا إلى أميركا حملوا معهم بذور ثقافتهم . عندما تزور أحياء نيويورك ترى أحياء كاملة تتعامل باليونانية، وإلى جانبها أحياء تتعامل بالألمانية والصينية. هناك إذن ثقافات ليست ثقافة وكل نازح حمل تقاليده إلى هذه القارة . وبما أنه لا توجد ثقافة واحدة متجانسة لذلك لا تأثير لها في السياسة. والعلاقة بين المواطن وبلده مثل علاقة العامل بشركته وهذا ما يميز العقيلة الأميركية. أما في أوروبا فإننا ندافع عن ثقافتنا لأنها لعبت على الدوام دورا في السياسة.على سبيل المثال الثقافة المسيحية التي لعبت دورا لقرون عديدة أو عصر التنوير في أثناء الثورة الفرنسية أو الماركسية التي لعبت دورا كبيرا في بعض البلدان رغم إنها أفلست في النهاية. فالأيدلوجيا لعبت دورا كبيرا أما في السياسة الأميركية فلم تلعب أي دور يذكر. المشكلة الأساسية التي تروج لها أميركا في الوقت الحاضر هي (التبادل الحر) الذي كانت تمارسه بريطانيا عندما كانت إمبراطورية كبيرة. وأريد أن أكرر أنني لا أتهم شعبا.. فليس هناك شعب سيئ بل هناك حكام سيئين، وليس هناك شعب ملعون.
* هل يمكن أن توضح لنا علاقة المقاطعة والتوتر والعداء الموجودة بين دور النشر والصحافة الفرنسية وبينك.. وهل تأسيس دار نشر خاصة بك يعود إلى ذلك ؟
- هناك مثال نموذجي فيها حصل مع كتابي الأخير تؤكد القوانين الفرنسية أنه عندما تتعرض إلى الإساءة وتشويه السمعة يكون لك الحق في الرد على ذلك. وحق الرد هذا لم تتيحه لي أية صحيفة فرنسية، باستثناء صحيفة (لوفيغاروا) التي نشرت اسطر ضئيلة من مقالتي فقط، وجميع الصحف الأخرى التي بعث إليها. بحق الرد لم تنشره.
* ومن هو وراء هذا الضغط في نظرك ؟
- ثمة ضغوطات رسمية على فكري.. وهناك لوبي كبير، ذات اللوبي الذي يمارس تأثيراته في الولايات المتحدة . على سبيل المثال وليس الحصر فإن كتابي (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) ترجم إلى ثماني عشرة لغة.. وإذا كان ما أطرحه يقع ضمن الإطار الفرنسي الضيق لما جذب اهتمام اليابانيين والصينيين والألمان والإنكليز.. وترجم كتابي حتى في الولايات المتحدة. وقد تحدثت عن هذا اللوبي الكبير الذي هو اللوبي الصهيوني بلا شك، وفي هذا المجال يتحدث هانتنغتون عن صدام الحضارات، الحضارة اليهودية – المسيحية في مواجهة التحالف الإسلامي –الكونفشيوسي وقد سبق لمؤسس الدولة العبرية تيودور هيرتزل أن طور هذا المفهوم في كتابه (الدولة اليهودية) الذي يؤكد أن الدولة اليهودية التي يؤسسها هي عبارة عن الشغف المتقدم للحضارة الغربية في مواجهة بربرية الشرق كما قلت قبل قليل .
* هل فكرة الانحطاط التي طرحتها في كتابك تتلخص في تغييب الأميركيين للثقافات الأخرى ؟
- أجل .. الانحطاط في الثقافة الأميركية يتجسد في تغييب الثقافات الأخرى وإبادة ثقافات المواطنين الأصليين. وهذا ينطبق على إسرائيل واليهود لعبوا دورا كبيرا في الخارج . وهكذا فإن الولايات المتحدة وإسرائيل تشتركان في السمات ذاتها، حيث تستخدمان إما إبادة الآخرين وإما طردهم ويأتيان بثقافة كوزموبوليتية لا علاقة لها بالثقافة العالمية التي تنتمي إلى الديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية الكبرى.
* كثيرا ما نعتتك الصحافة الفرنسية بأنك مفكر استفزازي ؟
- المفكر الاستفزازي هو الذي لا يشترك مع ذوي الفكر احادي الجانب.عندما كنت في الحزب الشيوعي الفرنسي وقلت في عام 1968 . إن الاتحاد السوفييتي ليس دولة اشتراكية، فقد اعتبروا ذلك عبارة عن استفزاز يستحق الطرد من الحزب.
* هل يعني ذلك أن المشكلة الموجودة حاليا في فرنسا هي عدم تقبل الآخر ؟
- أعتقد هذا هو صحيح، رفض الآخر، وحتى كراهية الآخر. عندما تقرأ كتاب بيرنار –هنري ليفي حول الأيدلوجية الفرنسية يحاول شرح ما يطلق عليه ثقافتنا، ويضع ضمن ذلك اتجاه فوليتر وبيغي كمن يؤسس (الاتجاه القومي الاشتراكي).
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |