من كتاب " أمريكا طليعة الانحطاط " ل روجيه غارودي .....
موعظة طاحونة الشيطان
أقرت حكومة بلد ما ، متطور جدا ، حق الأفراد في حمل السلاح ، استنادا إلى الحرية الفردية. وهكذا شهدت صناعة السلاح ازدهارا لا سابقة له . وتبارى المنتجون المتنافسون ، بما لديهم من قوة مخيلة ، وانتشار ، في إغراق السوق الحرة بأنواع مختلفة وبلا حدود ، من المسدسات والقنابل المنمنمة ِ. وقد تراوحت الأشكال والأنواع بين الممتاز جدا المعقود إلى سلسلة ، وبين النوع المتواضع جدا لصالح الاستخدام اليومي ، ومن المروع كاتم الصوت المكفول في إصابة الهدف إلى السلاح الذي قيل أنه لإثارة الرعب فقط ، إذ تستمر أصوات انفجاراته المروعة لإبعاد المعتدي المحتمل دون التصويب في مسار خاص . وحرية الاختيار عند المستهلك مؤكدة بشكل تام .
ورواج السوق من الناحية العملية ، لا يحده حد ، بسبب العصبية التي تخلقها نزاعات العمل ، وازدحام السير في المدينة ، والنزاع المستمر على القيم " الأكثر قدسية " ، والاثارة الجنسية ، والنزاعات المالية . كل ذلك يجعل المرء ، حتى الاكثر هدوءا ، أو المرأة الاقل جاذبية واغراء ، لا يخاطران في السير في الشارع ، دون أن يحمل أي منهما مسدسا أو مسدسين ، وبعض الذخيرة.
ومن جهة أخرى ، يساعد مستوى المعيشة المرتفع جدا ، والذي تحقق بفضل التوسع في النشاط الاقتصادي ، يساعد فرد على شراء العديد من الأسلحة . إن زمن القحط والبؤس الإنساني قد ولى . وولدت صناعات جديدة ، برهنت على ديناميكية استثنائية ، منها صناعة السترات الواقية من الرصاص ، والخوذات ، والاحذية ذات المشابك المعدنية ، والاقنعة الكاتمة ، والمركبات المصفحة ، وزجاج العربات المضاد للرصاص ، ومصاريع فولاذية للبيوت . ويبرهن ازدهار صناعة الحديد على الوضع الصحي لاقتصاد البلاد ، وروح المبادرة لدى الصناعيين ، وفضائل المؤسسة الحرة ، والفكر الثاقب للحكومات. وفي إطار البهجة التي خلقها هذا الازدهار ، غابت كل مظاهر الكآبة .
وفي الحقيقة ، تتلقى كل قطاعات النشاط الوطني دعما منشاطا . إنه العصر الذهبي لاشكال التامين المختلفة ، والعيادات الخاصة ، والمخابر الدوائية التي تستجيب بشكل محموم ، وبلا انقطاع للحاجة المتزايدة للمهدئات . أما الاستخدام بدوام كامل فهو مضمون تماما ، فطرق العمل مفتوحة للشباب بلا حدود ، وحتى العمال غير المؤهلين ، فهم مطمئنون أنهم سيجدون اعمالا تثيبهم بشرف ، ولا تتطلب إلاّ تأهيلا سريعا ، مثل حمل نقالات الاسعاف لالتقاط الجرحى أو الموتى .
وقد جرت مناقشة الميزانية ، على ضوء التوسع الكامل للاقتصاد الوطني ، وأبرزت ـ وهي محقة في ذلك ـ أن العلم قد استفاد من نتائج السماح بصناعات السلاح ، وبالتسلح الشخصي ، والمتمثلة بالانهاك السريع لمصادر الثروة المعدنية . وقد قادت الابحاث إلى اكتشاف مواد تركيبية اكثر مقاومة لاستخدامها في الدروع ، وسيؤدي ذلك إلى تحقيق تقدم مماثل في صناعة القذائف ، وكما قال واحد من أبلغ خطبائنا البرلمانيين في هذا المجال : " إن لولب التقدم قد انفتح نحو اللانهاية " .
أوجدت الجراحة ، والطب ، والطب النفسي ، منافذ مذهلة في شفاء امراض غير معهودة . لقد جدد ارتداء الدروع المحكمة ، المفاهيم حول الايضية ، كما قاد حمل الأسلحة إلى اكتشافات تتعلق بالقلق والكرب ، والعدوانية ، هذه المواضيع التي تربك مستقبل علم النفس .
أي تجديد تشهده البلاد في ميدان الثقافة ، وخاصة في ميدان العلوم الإنسانية ! لقد انفتح أمام علم الاجتماع الوضعي افق بلا نهاية ، كي يستطيع تطبيق أساليبه . ويلعب هذا العلم دورا رياديا لقيامه بأبحاث مشتركة مع علوم أخرى حول علم " المسدسات " . وعمل رجال الاحصاء على بلوغ تقنيات التقديرات الاستقرائية مبلغ الكمال ، لحساب دقيق ومتوازن للعام الذي سيصبح فيه حجم ووزن الأسلحة معادلا لحجم الأرض ووزنها ، وقد استطاع فيها أحد الاسلاف اللامعين أن يحدد في أي عام ، لن يترك فيه النمو السكاني في كرتنا الأرضية إلا مترا مربعا واحدا لكل فود . ومن جهة أخرى قلب علم السكان الاتجاه ، بالتخلص من القانون اللوغاريتمي للابادة ، مفسحا المجال لامكانية التنبؤ باليوم الذي سيقوم فيه آخر رجل ، بتوجيه طلقة خلاص الاخيرة إلى جاره الذي يقف أمام ناظره .
وتصبح المستقبلية الوضعية ، من هذا المنظور العلمي ملكة العلوم متمتعة بنفس المستوى النظري كالفيزياء أو العلوم اللغوية . ويلعب اتحاد " الرند " " اسم شركة كبرى " ومنافسوه الذين امتلكوا خبرة كبيرة في " نظرية الالعاب " الاستراتيجية ، دورا مدهشا كمستشارين وأنبياء امام مديرين كبار في صناعة الموت ، وقد اقترح باحث ، وربما كان واحدا من أعظم العبقريات في قرننا هذا معتمدين في هذا التقييم على تنبؤاته على المدى الطويل ، طرازا جديدا في الهندسة المعمارية وهندسة المدن ، وللفن بشكل عام ، يستجيب لحاجات العصر " المسدساتي " ، فالشوارع منحنية للحد من سير القذائف ، وانطلاقا من هذا الطراز الجديد فقد تحققت ثورة في عالم الاشكال ، تلبية لهذه الحاجة . واستنادا إلى التماسك الداخلي لهذا النظام ، وهي الخاصة التي تتصف بها كل الحضارات العظيمة ، عندما تصل ذروتها ، فإن البلاد تشهد ازدهار ثقافة جديدة ، وكلاسيكية جديدة .
وفي كل مرة تسترجع الحكومة بفخر مشروع الامكانيات ، تبرز نتائج التوسع الذي حققته : معدل تنمية أعلى من كل المعدلات السابقة ، مع كل ما يحمله من نتائج : عملة صعبة ، فرص استخدم كاملة ، ميزان مدفوعات لمصلحة البلد ، غزو لا ينقطع لاسواق جديدة لتصدير السلاح ، لأن الحجم الداخلي لانتاجنا من المسدسات ، قد أعطى اسعارنا وضعا تنافسيا للغاية .
وقد تضاعف الانتاج الوطني الاجمالي ، في عشر سنوات ، واجتمعت لدينا كل علائم الاقتصاد الصحي والقومي ، كما اكتملت كل أحلام اقتصاد التنمية .
ومن العدالة ، والحالة هذه ، أن نأمل بالهيمنة على العالم ، ليس فقط بسبب غنانا وقوتنا بل بسبب حكمتنا أيضاً .
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |