محاكمة الحرية لروجي غارودي *
قـــراءة و نقــد
بقلم: زقاوة أحمد/ كاتب جزائري.
تمهيــد:
يعتبر روجي غارودي، الفيلسوف والمفكر العالمي الشيوعي سابقا والمسلم حاليا. من اشهر كتاب النصف الثاني من القرن العشرين. وما يميز هذا الرجل ليس ما يكتبه فقط إنما قوة المواقف التي يبديها إزاء القضايا العادلة لمناصرتها، وحيال الظلم وتزييف الوعي الإنساني لمحاربته وكشف حقيقته. وتلقى في مقابل ذلك كل العواصف،من اتهامات وترصد للاغتيال والدعوى لمحاكماته ومع ذلك واجه غارودي أعداءه بالصمود والثبات.
ولد روجي غارودي عام 1913 من أبوين ملحدين، ونشا في بيئة عمالية بسيطة إلا انه اعتنق البروتستانتية سنة 1927 ثم انضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي 1933. في هذه الفترة انكب غارودي على قراءة كل مؤلفات كارل ماركس. و في عام 1937 انتخب عضوا في المكتب الفدرالي في فدرالية تاون الشيوعية. وفي سنة 1940 اعتقل بسبب نشاطاته السياسية وأفكاره المناوئة للحكومة. لبث غارودي في المعتقل مدة عامين بولاية الجلفة الجزائرية ،و يعتبر هذا أول لقاء له بروح الإسلام عندما رفض جنود الحراسة وهم مسلمون جزائريون إطلاق النار عليه وعلى مجموعته التي قامت بالتظاهر والاعتصام تضامنا مع قدامى المتطوعين في الفرقة الدولية الإسبانية.
في عام 1944 التقى الشيخ البشير الإبراهيمي و دارت بينهما محادثات تركت فيه أثرا كبيرا. في هذه الفترة نشر غارودي دراسة مهمة بعنوان :"إسهام الحضارة العربية التاريخي في الحضارة العالمية" و تلاها بمجموعة من المقالات النقدية للاستعمار و الإمبريالية مما جلب له المتاعب و المضايقات.
* محاكمة الحرية، روجي غارودي والمحامي جاك فرجاس ،ترجمة محمد لعقاب، دار هومه، الجزائر 1998
في عام 1960 اصدر كتابه "أسئلة موجهة إلى سارتر" وجرت محاورة علنية عام1961 بينه و بين سارتر حول الديالكتيكية هاجم غارودي خلالها تأويل سارتر لها . استقال عام 1962 من منصبه في البرلمان ليتفرغ للتدريس كأستاذ للفلسفة بجامعة كليرمون. وبعد ذلك بجامعة بواتييه POITIER وكانت مناقشاته حول تفنيد الفكر الماركسي فيما يخص مسالة الدين اصدر على إثرها كتابه المهم والجريء " ماركسية القرن العشرين" عام1966.
امتدت شهرة غارودي داخل الأوساط الفكرية في العالم العربي والإسلامي جلبت له الاحترام و التقدير نتيجة التحول الأيديولوجي – الذي لم يكن سهلا على الآخرين فعله و الماركسية في عز تألقها- والوقوف بشدة أمام الدعاية الاستعمارية والالتزام بالحقيقة والنقد الموضوعي.
في سنة 1969 التقى مجموعة من علماء الأزهر، وكانت هذه بداية لسلسلة من حوارات و مناقشات موسعة. تم فصل غارودي من الحزب الشيوعي الفرنسي سنة 1970 واصدر كتابه " الحقيقة كلها TOUTE LA VERITE "وهو سرد لأحداث عصره مع عرض وجهة نظره الخاصة، واتبعه بكتاب آخر اسمه " البديل L’ALTERNATIVE " يطرح فيه رؤية جديدة وبديلة للفكر الماركسي.
تعتبر فكرة الحوار بين الحضارات جوهر النضال الذي بدأه غارودي نظريا و جسده فعليا سنة 1976 بتأسيس المعهد الدولي لحوار الحضارات في جنيف، واصدر كتابه الرائع "من اجل حوار بين الحضارات" POUR UN DIALOGUE DES CIVILISATION 1977" أكد فيه حقيقة الغرب الذي يدعي العلو والتسامي على الثقافات الأخرى ، بينما هو لا يعدو أن يكون حادثة L’OCCCIDENT EST UN ACCIDENT . واصل غارودي مساره في البحث عن الحقيقة. فتعمق في دراسة الكتب المقدسة :التوراة و الإنجيل والقران إلى جانب كتب التعاليم البوذية، ويعتبر كتابه " نداء إلى الأحياءAPPEL AUX VIVANTS 1979 " ثمرة هذه الجهود . حاول غارودي في هذا المؤلف رسم مخرج للإنسانية من العصبية و الهيمنة و ادعاء التفرد ، كما انتقد فيه بشدة مفهوم الإله في الديانة اليهودية التي جعلته قاسيا لا يعرف إلا القتل الأعمى لشعوب الجوييم GOYIM (الاسم الذي يطلقه اليهود على جميع الشعوب الأخرى ، و التي تعني حسب العديد من الدراسات العربية أميين) و هو بذلك –الإله- ينتصر للشعب اليهودي على باقي الشعوب التي هي أدنى منه في الدم و الدين و الحضارة.
ومنذ أن أحس روجي غارودي بالخطر المحدق بالإنسانية، اجتهد في بلورة شبكة من المفاهيم الجديدة المؤهلة لإخراج البشرية من المأزق والقادرة على صناعة نموذج قابل للتعايش بين جميع الشعوب والثقافات، ويأتي كتابه " مبشرات الإسلام PROMESSES DE L’ISLAM1981 " ليبرز هذه المعاني من خلال العقيدة الإسلامية و ما أنجزته من حضارة راقية ما زالت آثارها إلى اليوم تنبئ بعظمة وارتقاء أخلاقياتها، وبقدرتها على إحداث التعايش والاندماج والتداخل مع باقي الثقافات الأخرى.
استمرت جهود روجي غارودي في العطاء والإبداع وصناعة المواقف المثيرة للجدل مع نهاية القرن العشرين وخصوصا في العشرية الأخيرة منه. فالمطلع على كتاباته في هذه الفترة يجدها اكثر توقدا من ذي قبل، تنطلق من إثارة السؤال و تلتزم بالنقد الموضوعي كمنهج في البحث مع كم غزير من الشواهد والبيانات الإحصائية. كما نكتشف فيها جرأة المثقف الناقد دون تردد أو خوف في جميع الطروحات سياسية كانت أم ثقافية أم تاريخية.نجد في طليعة هذه الكتابات "أمريكا طليعة الانحطاط" " كيف نصنع المستقبل "، "الإرهاب الغربي" و" الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية". ويعتبر الكتاب الأخير هو اكثر الكتب المثيرة للجدل و التساؤلات ،إذ استقبله المثقفون في العالم بكل أطيافهم و الهيئات الرسمية و غير الرسمية باهتمام بالغ و كبير ،نظرا لطبيعة المواضيع التي يعالجها والشجاعة التي أبداها في تكسير الطابوهات الموضوعة أمام الباحث.
إن تزييف الوعي و الكذب على الشعوب و استغلال أوضاع مأساوية عاشها بعض اليهود إبان الحرب العالمية الثانية واستمرار تفاقم مأساة الشعب الفلسطيني هو ما دفع غارودي لكتابة" الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" . فإذا كانت الحرية و التعايش بين الثقافات شرط ضروري لتواصل البشرية في ظل التنوع و العدالة بين أفرادها ، فان القطيعة مع الأسطورة و تفنيدها باتت تشكل اكثر من أهمية في فلسفة روجي غارودي.فالمهمة الأساسية لهذا الكتاب هو تقويض مزاعم الحركات الصهيونية القائمة على اختلاق الأساطير و تلفيق الأحداث و تأويل النصوص القديمة. اعتمد غارودي في أطروحته على منهج النقد التاريخي من خلال إثارة السؤال و بعث الشك .
لم يترك لهذا الكتاب أن يمر بهدوء وسط النقاش العلمي و الأكاديمي الذي طالب به غارودي ،بل تعرض لهجمة لا مثيل لها من قبل منظمات صهيونية على رأسها في فرنسا منظمة ليكرا LICRA وبصحبتها كل الترسانة الإعلامية في أوربا و أمريكا. و كانت نهايتها ان رفعت دعوى قضائية ضده تتضمن مجموعة من التهم ،كلها تنضوي تحت جريمة:
1. إنكار( NEGATION) وجود غرف الغاز في الحرب العالمية الثانية .
2. الشك في أحداث تاريخية متعلقة باليهود و الدعوة إلى مراجعة و نقد الكتابات التاريخية.
لقد تابع الرأي العام العالمي و معه الوسائل الإعلامية فصول المحاكمة بجدية و اهتمام بالغين.ووسط كل هذه الأعاصير كان الفيلسوف يقف أمام القضاة في شموخ يرد على السؤال و يدحض التهمة من جهة كما ينتقد و يناقش من جهة أخرى بكل حكمة و بعد نظر و قوة الحجة.و لا عجب في ذلك ، فهو المفكر و الفيلسوف الماركسي الذي تعلم الجدل و إرباك الخصم بالبرهان و المنطق السليم ،و هو كذلك المفكر الذي أعطى لحياته ميلادا جديدا بانفتاحه على الإسلام روحا و عقلا ، فشرب من معينه و ارتوى من عقيدته السمحة . دافع غارودي عن نفسه التهم و معه الأستاذ جاك فيرجاس – محامي الثورة الجزائرية – و استطاع أن يفشل المخطط الصهيوني و يكشف وسائله الخسيسة و دعاياته المضللة.
إنها بحق "محاكمة للحرية" هكذا سماها روجي غارودي .و تحت هذا العنوان سجل مجريات المحاكمة بكل تفاصيلها و حيثياتها. و الآن ماذا يمكننا أن نقرأ من هذا الكتاب ؟ و ماهي القيم الإنسانية و الفكرية و العلمية التي يبرزها الكتاب؟ ثم كيف تبدو لنا شخصية غارودي ككاتب و كمثقف ناقد و مناهض للتعسف و الظلم و التزييف؟.
ملخـص الكتاب :
يتعرض غارودي في مقدمة الكتاب إلى الحديث عن امتثاله كمتهم في محاكمة كتاب لم يكتبه أبدا ، حيث وجهت له التهم التالية : استنكار الجرائم النازية ، المجاهرة بمناهضة السامية و التمييز العنصري . وصف غارودي هذه التهم بالشعوذة السياسية ، الشيء الذي أثار استنكارا عالميا لأنه نوع من المساس بحرية التعبير و حقوق الإنسان . إن نقد السياسة الإسرائيلية في فرنسا ليس بالشيء الجديد ، فقد حدث ذلك سنة 1982 أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان ، وحكمت محكمة النقض لصالح غارودي و الأب لولو نغ و الباستور ماثيور .
يقول غارودي أن السبب الرئيسي لتأليف الكتاب هو المخطط الإستراتيجي الأمريكي الذي نظر له هنتيغتون ، وكان هرتزل قد حدد قبل مائة عام موقع دولة إسرائيل في الصراع الحضاري . بعدما ينفي غارودي احتقاره للديانة اليهودية و معاداتها ، ينتقل إلى توضيح أمام القضاة أهداف كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية " كالتالي : نقد الصهيونية كحركة قومية و استعمارية ، التنديد بكل الذرائع الخاطئة سواء أكانت إلهية أو تاريخية و الاستغلال السياسي و المالي لكل الخرافات المضخمة.
يعلق غارودي بشيء من التفصيل على بعض التهم و فيما يخص قضية غرف الغاز فإنه يدعو إلى فتح نقاش علمي بين المختصين. كما يشير إلى قانون قايسو و خطورته على حق البحث و النقد التاريخي. و يندد بسياسة إسرائيل البلد الوحيد الذي ما زال يحافظ على نظام الأبارتايد في المنطقة ، و في نفس السياق يحذر من الدعاية الصهيونية الموشكة على خلق موجة مناهضة للسامية في العالم بأسره ، لهذه الأسباب – يقول غارودي - كان استنكارنا للصهيونية جزءا لا يتجزأ من نضالنا ضد اللاسامية . إن رهان المحاكمة هو بين خيار الحرب و الصراع و بين خيار السلم و حوار الثقافات .
الجلسـة الأولى ( 07 يناير 1998) :
يستهــــل غارودي حديثه بتقديم بعض الملاحظات يعتبرها ثغرات في قرار الاتهام حيث أن هذا القرار لم يشر إلى مجموعة الأفكار التي تناولت التذرعات الدينية للسياسة الإسرائيلية و لا إلى تعاون المسؤولين الصهاينة مع هتـلر. .و مع ذلك فهو جد مرتاح بقوله "إن كتابي يستهدف سياسة إسرائيل" لا غير . إن نقاط الاتهام المرفوعة هي الاستخفاف بجرائم هتلر و التمييـز العنصري، بالنسبة للتهمة الأولى فإن كتابه لم يأت بشيء جديد فهو متداول عند المؤرخين، و بالنسبة للتهمة الثانية فإن المحكمة حكمت لصالحه سنة 1984 و اعتبرت أن" النقد الشرعي لسياسة دولة و الإيديولوجية التي تقوم عليها لا علاقة لها بالتمييز العنصري" و يرفع غارودي تحديا للجميع في أن يجدوا في كتابه عبارة تستحقر يهوديا أو نفي جرائم النازية . إن هذه السياسة موجودة عند اللوبي الصهيوني من خلال رسالة هرتزل إلى سيل رودس . بكفـاءة فائقة يناقش غارودي قانـون قاسيـو الذي جعل من محكمــة نورمبورغ معيارا للحقيقة التاريخية في رأيه . هذه المحكمــــة التي ولدت في ظروف استثنائية و قانونها ظرفي لا يتلاءم مع القوانين الفرنسية . يحفر غارودي في ذاكرة التاريخ ليفند مزاعم محكمة نورمبورغ حول غرف النار و حرق الجثث و خرافة 6 ملايين باستشهاد كيميائيين و علماء آثار . يعتقد غارودي أن المحكمة استغلت هذه الأكاذيب سياسيا و لأغراض تتعلق بالابتزاز المالي لتجسيد الدولة الإسرائيلية في فلسطين . إن هذه الادعاءات لم تكن لها أي علاقة بإنقاذ يهود الشتات و هذا ما يفرض نظرية الفصل بين الصهيونية و اليهودية . يذكر غارودي في هذا السياق تحالف الصهاينة مع هتلر ، كانت نتيجتها حرمان اليهود من الإسهام في ثقافات العالم . و الذين يحركون هذه الأكاذيب هم الذين صنعوا الوجه الآخر للنازية في فلسطين ممثلة في شارون و غيره. فكانوا رواد القتل و المجازر و التفكير في مخطط لتفتيت الدولة المجاورة . يشيرغارودي إلى دور المدارس في تغذية روح الانتقام و الحقد لكل ما هو غربي . إن سبب البلاء هو هذا اللوبي الصهيوني و سيطرته على الولايات المتحدة بقوة عجيبة و هو ما يراد فعله في فرنسا من خلال الضغط و التهديد و الإقصاء. ووصل الأمر إلى تنصيب محاكم تفتيش تتابع كل مراجع و ناقد. كل هذا يتم تحت حماية محكمة نورمبورغ التي لا تملك هي نفسها أي نصوص أو وثائق رسمية في دعاويها التي تعتمــد على :
أولا - شهادة الضحايا التي كانت تحت التعذيب و التهديد .
ثانيا - شهادة الجلادين .
ثالثا - الأقلام المركبة على التزوير و الخيال. وهذا العنصـر الأخيراستغل كثيرا في التأويل الصهيوني للكتب التاريخية و هنا يعلن غارودي خطر القراءة الصهيونية للتوراة و البديـــل هو القراءة النبوية حسب (لابي بيار) و يذهب غارودي إلى أكثر من ذلك فيطلب تطبيق قرارات الأمم المتحـدة وخصوصا القرار 242 لتفادي الحرب و إرساء ثقافة السلم و التعايش . و يخلص غارودي في نهاية الجلسة إلى أن التاريخ الإسرائيلي لا يحتوي على أرشيف موثق و رسمي بل هو عبارة عن مجموعة من التأويلات و الخرافات ذات الطابع الإيتولوجي لتبرير السياسة العنصرية، و في المقابل صناعة صورة متفردة لليهود بأنهم الشعب المضطهد في التاريخ و لتغطية مجازر أخرى أكثر بشاعة تقع اليوم في فلسطيــن.
الجلسة الثانية (08 يناير ) 1998:
في البداية يقدم غارودي ملاحظة جد مهمة و هي تحويل ليكرا الكتاب كله إلى استنكار ديني وللتاريخ . و اقتطعت العبارة التالية من الكتاب "الأصوليات مولدات للعنف و الحروب و هي أمراض عصرنــا القاتلة" لتجعل منها جنحة استنكار الجرائم ضد الإنسانية . يدافع غارودي بكل موضوعية عن كتابه ليقول انه كان يستهدف سيــاسة المسؤوليــن الإسرائيليين . و يؤكـد على التمييـز بين اليهوديـة و الصهيونية الذي عمد مدعي الحق المدني الخلط بينهما ، و هي نصيحة قدمها له قس كاثوليكي حتى يتجاوز التعسف اللغوي المستعمل من قبل من يسميهم بالوشاة. و فــي تعريفه للصهيونيــة يستند غارودي على نصوص ووثائق متعددة لكبار الصهاينة و المؤرخين الإسرائليين و مجمل مــا وصـل أليه هو أن الصهيونية حركة قومية قائمة على العرق و الأرض و بهذا فهو يفرق بينهمــا و بيــن اليهودية كدين بحجة أن الصهيونية لم تكن لها أي نية في إنقاذ يهود الشتات بل تعاونت مع النــازيين منذ إتفاقية HAAVARC و كانت مركز اهتمامها إقامة دولة إسرائيلية في فلسطين وهو ما يمثــل بالنسبة لهرتزل الأسطورة القوية.
يــذكر غارودي أنه لا فرق بين صهيونية الأمس و صهيونية اليوم التي تجلت اكثر كقومية عدوانية ، استعمارية , متسببة في تفاقم الصراعــات في العالـــم وفق تنظيرات الأمريكـــي "هتنغتون" الذي يبشر لفكــرة صراع الحضــارات وأطرافها الحضارة اليهوديــة- المسيحيــة و الحضــارة الإسلاميــة - الكونفشيوسيـــة و تحتل دولة إسرائيل في هذا الصراع حصن الغرب المتقدم في آسيا. لقد ثــار اليهود علــى هذه السياسة الصهيونيــة و اعتبروها خيانــة للعقيدة النبويـــة اليهودية و قرعوا أجراس التحذير من خطر ما بعد الصهيونية التي تريد تحويل المنطقة إلى دماء. يشير غارودي نقلا عن البروفيسور يشاياهو أن اليـــد الخفية وراء كل هذا هو الإدارة الأمريكية من خلال الدعم المالي و العسكري لإسرائيل , الأمر الذي خلق ردود فعل إسرائيلية و أوربية مناوئة للسياسة العنصرية ودفع بالانتفــاضة الفلسطينية إلى اعتمـاد أسلوب العمليــات الإستشهادية داخل القدس و خارجها مـــما أضفى جوا من الرعب و الهلع بين المستوطنين . هذه الأجواء دفعت الفكر المعتدل إلى فرض حلوله كان نتيجتها اتفاق أوسلو الذي سانده 55 % من الإسرائيلييــن . أمام هذه الظروف أصيبت منظمة ليكرا بالإحباط جراء تقلص منخر طيها , و لم يكـــن أمامها غير شن حملة ضد كتاب غارودي و كل ما يمت بصلــة إلــى الكاتب كان من ضمنها سحب حوالي 50 كتابـــا من مكتبـة إحدى ثانويــات باريس .
بالنسبــة للشهود يــرى غارودي أن أداءهم يشبه كثيرا أداء السينمائيين في ممارستهــم للتزوير و التلفيق و التشويه , في هذا الإطار قام غارودي بالكشف عن تناقضات تصريحاتهم و هشاشتهــا ، ليخلص في النهاية إلى التحسر على الإهانة التي تلقتها فرنسا – بلده – جراء تلاعب القوى الأجنبية بها .فمن غير المعقول أن يلقى الكتاب كل الدعم في أنحاء واسعة من العالم و يترجم إلى 23 لغــــــة بينما يحاكم في فرنسا بلد الحريات و التعددية ، و هي لا تخرج عن محاكمة النوايا و المشاعر و سو الفهم الأخر.
مرافعــة الأستــاذ جـاك فيرجاس:
كــان تدخــل الأستــاذ فيرجاس يتعلق بانتقاد قانون فابيوس الذي و ضعه قايسو ، لخدمة فئة معينة و إقصاء كل الآخرين ضحايا المجازر و الجرائم المختلفة نتيجة العبوديــة أو الحـروب أو بسبــب الاضطهاد الدينــي و العرقــي . فـــي هذا الشأن يورد الأستــاذ المحامي مجموعــــة من الأمثلــة تثبت ذلك ، و بهذه الصيغة يكــون "قايسو" قد جرد مفهوم الإنسانية و حدده داخل قومية و ديانة اسمها اليهودية فقط. ووصف المحامــــي قانون فابيوس بالفــاشية لأنه يذهب إلى أبعد الحدود في تحريـم من يمـــارس حق النقــد و البحث. يذكر فيرجاس أن خطورة هذا القانون دفعت بالكثير من الوجوه السياسية و الفكرية داخل البرلمان و خارجه للاعتراض عليه و اعتبرته انحرافا قانونيا . تســاءل فيرجــاس عن وجود الكثير من الباحثيـن شككــوا في قضيــة المحـــرقة و غــرف النــار و كذا أرقام الضحايا ومع ذلك فهم آمنون , بينمـا جرم و هدد غارودي عندما تساءل فقط عن وقائع و سياسات أصولية . إن الكاتب في نظر ليكرا LICRAله عيبان : فهو فرنسي و مسلم و منبع التجريم ليس في طرحه للتساؤلات حول أرقــام الضحايــا و إنما في نقده للدولة الإسرائيلية القائمة علــى الخرافة و الأساطير، و سياستها العنصرية داخل فلسطين كشفت زيف ما تدعيــه من انفرادهــا بالديموقراطيــة في المنطقة . يحـذر فيرجاس ان الموافقــة علـى ما تطلبه ليكراLICRA هو خطوة في اختــــراق فرنســا لحقوق الإنسـان و مبادئ الحريـــة و البحث العلمــي . إنهم ينتظرون الإقرار بالقمــع و التجريم و شن حملة ضد العقــل و النقد في فرنسا حتى يجعلوا منها أضحوكة فيما بينهم.
في نهــاية مرافعتــه ثمن جاك فيرجاس ثــلاث شهــادات تخص الموضوع و هي توضيحـات الأستاذ بيتييو PETILLAUD و شهادة المحامي المصري علي الغطيط و توضيحات الأستاذ خالد السوفياني.
آخــر تصريــح لـروجي غـارودي :
فـي آخر تصريح له ، أعـاد غارودي التذكير بخطورة مرض العصر الذي أصيبت به الإنسانية و يعني به الأصوليات ، و قد كرس حياته لمحاربة هذا النوع من الأمراض و ما تطرحــــه من كذب و تزوير و تأويل ، تحمل من أجل ذلك كل أنواع التهديد و الطرد و المتابعة. بالنسبة لغارودي ، كان الأمر عاديا في نقد الأصولية المسيحيـــة و الإسلاميــة ، غير أن الأمــر أخذ مجرى آخر عند نقدالاصوليـة اليهوديـة و كانت نتيجتها اللجوء إلى العدالة و الشرطة تحت ضغط اللوبي الصهيوني المتجذر في فرنسا.
إن التحـدي الذي يطرحه غارودي أمام هذه المنظمات هو الـحوار و النقاش العلمي و التحول من أسلوب التسليم إلى أسلوب المراجعـة للتاريــخ تماما كما وضعا غاليلي و أنشتاين التحدي في إثبات بطلان المسلمات المتعلقة بالكون. غير أن ليكرا تعترض و تدعي أن هذا أسلوبــا عنصريـا و معــاد للسامية لأنه يهضم حقوق اليهود و ينفي الجرائم الواقعة عليهم ،و في المقابل تغض الطرف عــن السيــاسة الإسرائيليـة و نتائجها على الشعب الفلسطيني ممثلة في المجازر و احتلال أراضى الدول المجاورة و سياسة الإبعاد و التعذيب .
يـواصل غارودي تحذيره من خطر توسع الحركة القومية الصهيونية في أرجاء أوروبا و أمريكـا و السيطرة التي تضربها على وسائل الإعلام، و ممارستها لكل أنواع الإرهاب و القمع لكل من يشير من قريب أو بعيد إلى المراجعة التاريخية أو نقد السياسة الإسرائيلية الراهنة، و طموح اللوبي الصهيوني في هذه المحاكمة بأخذ تزكية بقرار قضائي ضد غارودي . و بثقة الفيلسوف و المناضل الضليع , يختم غارودي أمام قاضي المحكمة كلمته مؤكدا دعوته إلى الحريـــة و السلم التــي ناضل طوال حياته من اجل إرسائـهما إلى حد التضحية و المخاطرة ليترك القاضي أمام سؤال رئيسي ينتظر الحل: من هو المذنب؟ هل من يرتكب الجريمة ؟ أو الذي يندد بها ؟ من هو المذنب ؟ هل من يندد بالجريمة؟ أو من يحاول تكميمه؟
مـلاحظـات حـول ترجمة الكتـاب:
في الواقع لا يمكن إغفال نوعية الترجمة و المضامين التي أضافها المترجم للكتاب ، و هو ما أعطى صورة لأفكار الكاتب و سهولة في فهم النسق العام لمجريات المحاكمة. بالنسبة للترجمة كانت في متناول أي قارئ متخصص أو بعيد عن التخصص من حيث اختيار المفردات الملائمة و المعبرة عن المعاني التي كثيرا ما استعملها غارودي في سياق متعدد و أكثر عمقا . لقد وفق المترجم كذلك في و ضع الكلمة الاصلية (الفرنسية) لأماكن الأحداث ، الأسماء , المدن و المصطلحات و بجانبها الترجمة العربية . و هذا حتى يسهل النطق السليم للعبارة و يعطي للقارئ القدرة على التمييز و التدقيق في المعاني المتضمنة لها.
و ما يستحق الثناء في هذه الترجمة كذلك هو قيمة العناصر و العناوين التي أضافها في الصفحات الأولى للكتاب ، فبالنسبة للقارئ غير الملم بمسيرة الكاتب (غارودي) و التحديات التي واجهتها أفكاره و كتاباتـه ، يتعسر عليه فهم نصوص الكتــــاب بحكم أن هذا الكتاب (المحاكمــــة) هو نتيجة و خلاصة لمعارك فكرية وسياسية تعرض لها روجي غارودي , دون أن ننسى كذلك الأحداث التي يشير إليها الكاتب في المحاكمة و كذا العبارات و المفاهيم التي تشكل الأساس و البنى المحركة لنصوص المحاكمة ، على سبيل المثال: قانون فابيوس – غايسو , صناعة الهولوكوست، معادا ة السامية وغيرها . ونفس الملاحظة تنطبق على الفقرات و العناصر المخصصة لاسباب المحاكمة و التهم الموجهة للكاتب.
الجدير بالتسجيل في هذا الشان هو ملاحظة أعتقد أنها مهمة جدا و لست أدري كيف نسي أو تحاشا المترجم عن تخصيص فقرات لها و هي متعلقة بكتاب المؤلف الشهير " الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية". فمما لا شك فيه ، أن ما تعرض له الفيلسوف روجي غارودي من مضايقات و حصار إعلامي ثم تلفيق التهم ليجد نفسه في النهاية أمام محاكمة خاصة , كانت بسبب الأفكار النقدية التي احتواها "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" و من هذا الكتاب استلت العبارات و المفردات التي أعادت منظمة ليكرا صياغتها و تأويلها لتصنع منها تهما و جرائم جاهزة لإدانة الفيلسوف . أعتقد أنه كان من الأجدر و الأفضل أن يقدم الأستاذ محمد لعقاب عرضا شاملا و موجزا للكتاب، حتى يسمح للقارئ الذي لم يسعفه الحظ في الإطلاع عليه من أجل استحضار المشهد كاملا و الإحاطـة بالسياق العـام للأفكـار و كذا ظروف و ملابسات المحاكمة.
إبراز القيــم :
ليس من قبيل المبالغة القول أن كتاب –محاكمة الحرية- هو شديد الإثارة للجدل، و يظهر هذا الطابع المثير للجدل على ثلاثة أصعدة :
أولا: موضوع الكتاب ذاته , فالكتاب يحتوي على وقائع المحاكمة التي جرت بفرنسا , أتهم فيها غارودي من طرف منظمة ليكرا بالمعاداة للسامية و العنصرية , و بالتالي فالكتاب (المحاكمة) يتضمن أفكارا تثير جدلا ساخنا عند السياسيين و المؤرخين خصوصا ما تعلق بالصهيونية و محرقة اليهود و النازية.
ثانيا: المنظور الذي يتناول منه الكاتب موضوعه , إن غارودي يقدم نفسه إلى القارئ باعتباره ناقدا باحثا من جهة و فيلسوفا فرنسيا مسلما متعلقا بمثل الحرية و السلم و التسامح، أمضى حياته مناضلا ضد الهيمنة و التزوير داعيا بالقول و الفعل إلى حوار بين ثقافات و حضارات شعوب الأرض.
ثالثا: السياق الذي جرت فيه هذه المحاكمة , فهو سياق خاص يرتبط بالتجاوزات الإسرائيلية و كل أشكال الإرهاب و العنف و المجازر ضد الفلسطينيين داخل أراضيهم نتيجة الدعم المالي و العسكري الأمريكي . و سياق عام يتعلق بالنشاطات الصهيونية في العالم - خصوصا في أوروبا و أمريكا- و ما تمارسه من تضليل و تزوير للحقائق و" تكتيم أنفاس التحاور و النقاش و النقد بفضل الجبناء و العملاء الذين ينفذون مطالبها داخل فلسطين و خارجها المشجوبة أصلا" عل حد تعبير إدوارد سعيد. إن القــراءة المتأنيـة و المتابعة الدقيقة لمجريـات المحاكمة تسمح لنا باكتشاف قوة الشخصية و قوة الفكرة و قوة الحجة ،حيث تظهر لنا شخصية روجـي غـارودي كفيلسوف فرنسي مسلم يناهز الخامسة و الثمانين سنة أمضى حياته مناضلا و مدافعا عن القيم الإنسانية بدون تردد و لا تراجع رغم الاضطهاد و التهديد الذي تعرض له مرارا و في كل مراحل تطور منحناه الفكـــري و العقائدي ,إنها الثقة بالنفس , الاقتناع بالفكرة , التسامح و الإيمان العميق بالله , تلك هي سمات الفيلسوف المسلم نستشفها من كتاباته و نلمحها و هو واقف أمام منصة محكمة باريس. بينــما تتجلى القوة الثانية في الأفكار التي يشير لها و يدعو إليها ، و هل هناك شيئا أفضل من فكرة الحوار و التعايش و أسمى من فكرة النقد و التساؤل و أصدق من قول كلمة الحق . من أجل كل هذه الأفكار قدم غـارودي حياتــــه قربانا لها و ضحى بوقته و جهده لتجسيد هذه المعاني و القيم بين بني الإنسان .
أمـا القوة الثالثة فهي قوة الحجة التي تجلت بكل وضوح و مكاشفة في إثبات مـا يقولـه و يصر عليه و هنا يبدو غارودي كفيلسوف واسع الإطلاع و خبير في الاستدلال , دقيق في الملاحظات إلى جانب القدرة على إبراز التناقضات و الأكاذيب و لاعجب في ذلك , فهو رجل التقلبات الكبرى في القرن العشرين . كان مسيحيا ملتزما ثم إنتقل الى الماركسية الأوروبية ثم تحول عنها بطريقة نجومية , و بعدها أعلن إسلامه لما وجد فيه الإجابات الكبرى للكون و العقيدة . لقد جعلت منه هذه التجارب الفكرية حجة في عصره قلما نجدها في غيره . إن كتـاب محاكمة الحرية يقدم مجموعة من القيم المتنوعة السامية نجدها في كل عبارة و كل فقرة كتبها و صرح بها أمام القضاة و خصومه داخل المحكمة ، يمكن إيجازها فيما يلي:
1-القيم العلميـة : تنصب أفكار غارودي في إثراء ميدان البحث التاريخي أو ما يعرف بالمراجعة التاريخية . لقد أضحى هذا الموضوع ميدانا واسعا ضم إليه الكثير من الباحثين و المؤرخين ، يعرفون بالمؤرخين المراجعون , ينتمون إلى ديانات مختلفة و إيديولوجيات متباينة , همهم هو البحث في قضية تاريخية محددة هي الحرب العالمية و إرهاصاتها و على رأسها ما يسمى بالمحرقة اليهودية معتمدين على منهج في التحليل تدعمه الأدلة و الأساليب العلمية , و يرتكز بحثهم خصوصا حول ثلاثة جوانب محددة هي:
- عدد اليهود الذين ماتوا خلال الحرب العالمية الثانية .
- الطريقة التي مات بها هؤلاء اليهود .
- التمييز المزعوم و فرادة موت اليهود فقط.
حسب الدكتـور ناجـي علـوش فإن غارودي لم يقدم جديدا في مجال المراجعة لكنه يبقى شخصية مهمة في حركة المراجعة التاريخية لأنه أولا قام بتلخيص و تبسيط كتابات المراجعين الأكاديمية المعقدة الموجودة في مجلداتهم الضخمة و ثانيا سمح من خلال هذا التبسيط و التلخيص بتعريف القارئ العربي و المسلم بالمراجعة التاريخية. لقد عبر مارك وبر MARK WEBER مدير معهد المراجعة التاريخية بكاليفورنيا عن رأيه في كتاب "الأساطير المؤسسة " بقوله "الكتاب حجة و كشف دامغ حظي بالمديح بأرجاء العالم العربي" . غير أن ما يميز غارودي عن غيره من المراجعين هو تأكيده في النقاش التاريخي على نظرية التدعيم المالي و العسكري الذي تمده الولايات المتحدة لإسرائيل و هذا هو الجديد في نقده للأساطير و الادعاءات الصهيونية ،حيث لا يفصل النقاش التاريخي عن السياسة الحالية التي تنتهجها إسرائيل في فلسطين و التدعيم الأمريكي لها . يوضح ذلك في الجلسة الأولى بقوله "إن أغلبية الانتقادات لا تحتج على اطروحاتي و أفكاري حول التذرعات الدينية للسياسة الإسرائيلية (مع أن هذه السياسة الحالية هي الموضوع الرئيسي في كتابي).يحاول غارودي كفيلسوف و أكاديمي أن يحدد الإطار النظري الذي يجب أن تتحرك فيه مهمة المراجعين حيث لا تقتصر على نقد الماضي بل هي التحضير المشترك و الأخوي لمستقبل السلم و هذا رهان تاريخي حيوي أمام المؤرخين.
إن المؤلفـات التي صدرت في السنين الأخيرة و التقارير البحثية في أوروبا و أمريكا و إسرائيل و كذا تصريحات المسؤولين السياسيين و العلميين نثبت القيمة العلمية لتصريحات و مواقف غارودي , نذكر على سبيل المثال كتاب اختلاق إسرائيل القديمة للباحث كيث وايتلام KEITH WHITELAM الذي يعتبر مرجعا مهما فيما يسمى كذبا بتاريخ إسرائيل القديمة ،قال عنه" إدوارد سعيد أنه عمل أكاديمي من الطراز الأول وهو يتمتع بجرأة كبيرة في نقده للعديد من الفرضيات حول تاريخ إسرائيل التوراتي "،يفند كيث في هذا الكتاب أسطورة مملكة إسرائيل القديمة و يراها مجرد اختلاق قام به باحثون مغرضون تحركهم دوافع سياسية و مصالح ذاتية. و في باريس صدر كتاب تحت عنوان "صناعة الهلوكوست تأملات في استغلال عذاب اليهود" و مؤلفه مثقف يهودي أمريكي يدعى نورمان فينكلشتاين NORMAN FILKOLSTEIN و فيه يواجه بشجاعة ما يسميه توظيف مأساة الهلوكوست لتبرير العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وبإعانة من الولايات المتحدة الأمريكية ,و يقدم لنا نورمان العديد من أسماء المثقفين اليهود الأحرار الذين اختاروا الانحياز للحقيقة ضد التشويه الإعلامي و التزوير السياسي أمثال بيتر نوفيكPETER NOVICK صاحب كتاب شعب تحت المحك و كذلك الفريد كازين ALFRED KAZIN و غيرهم الكثير. إضافة إلى هذا فإن التقارير الأوروبية التي قام بها باحثون مختصون في الكيمياء و الآثار فندت كل الادعاءات الصهيونية . لقد توصل المهندس لوشتر إلى نفس النتيجة حيث أكد بعد بحث مضن استمر عدة سنوات أن معسكرات الاعتقال في إشفيتز و ميدانيك - و هي المعسكرات المفترض أن اليهود أحرقوا فيها- خالية من أية رواسب غازية أو كيميائية و مخلفات بشرية محروقة .إن تقارير الباحثين هي استرجاع و تأكيد للقيمة العلمية لمواقف غارودي التي حوكم من أجلها. و يصف لنا المعارض الأمريكي نعوم تشومسكي في دراسته القيمة " المثلث المحتوم .. الولايات المتحدة الأمريكية، فلسطين, إسرائيل" العـلاقة العضوية التي تربط الولايات المتحدة الأمريكية و إسرائيل بأنها علاقة الجسد بالذراع و يقول في موقع أخر « المبدأ إن الولايات المتحدة تملك حق الإرهاب و الحق يستخدمه من يشتغلون وكلاء لها، و لا يهم من هم، و بما أن إسرائيل و كيل للولايات المتحدة لذا تملك حق الإرهاب" .هذه هي الحقيقة التي يريد غارودي إيصالها و هي إعطاء الحق لإسرائيل لإبادة شعب أعزل . بينما يذهب المفكر اليساري جيمس تبراس أستاذ علم الاجتماع بجامعة (بنجهاميتون) في إحدى مقالاته الرائعة إلى ابعد حد ، حيث يصف فيها العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية و إسرائيل بأنها فريدة من نوعها و يضيف قائلا « إن إسرائيل هي التي تضغط من أجل ، و تؤمن ، تحويلات مالية كبيرة (2,8 مليار دولار في السنة , 84 دولار خلال 30 سنة), كما تؤمن إسرائيل انتقال أحدث الأسلحة و التكنولوجيا إليها, دخول أسواق الولايات المتحدة دون قيود ، الدخول المجاني للمهاجرين ، الدعم غير المشروط في حالة الحرب و القمع ضد الشعوب المستعمرة، و فيتوات أمريكية مضمونة ضد أي قرار للأمم المتحدة » و في موقع آخر يستنتج بتراس انه « بسبب الدعم المالي و العسكري الخارجي غير المشروط و الذي يوفره بشكل أساسي اليهود الأقوياء في الولايات المتحدة و المسيحيين الأصوليون و المجتمع الصناعي الحربي و متطرفي البنتاغون و قيادات النقابات العمالية الأمريكية الفاسدة فإن إسرائيل قادرة على تحدي الرأي العام العالمي و تشويه سمعة المنظمات الإنسانية و قياديي حقوق الإنسان ، و تستمر بصفاقة بتطبيق سياسات الإبادة الجماعية ». إن هذه الشهادات و التصريحات تثبت صدق مواقف غارودي و علمية طروحاته ، حيث كان في تدخلاته أثناء الجلسات يعتمد المنهج العلمي في إثبات أو نفي أي قضية من خلال المقارنة و الاستنتاج و التحقق من الفرضيات و لا غرابة في ذلك ففيلسوف كروجي غارودي لا يمكنه أن يجهل قيمة الروح العلمية في البحث و التساؤل. و في نفس الاتجاه نلاحظ جدية وروح البحث العلمي لدى غارودي في قدرته و جهوده المضنية في تجميع الكم الهائل من الوثائق و النصوص القديمة و الحديثة و كل ما يمت لموضوعه بصلة لاثبات قضية أو نفي أخري ، و هو لا يكتفي بذلك بل عمل على إعادة تأويل النصوص المقدسة التي اسيئ فهمها أو حرفت – في معظمها – عن مدلولها الحقيقي.
2-القيم الفكريــة: إن المتابع و القارئ للمحاكمة يجد نفسه أمام نموذج أكاديمي و مثقف جرئ في طرح التساؤلات و توجيه النقد بدقة و ذكاء إلى معارضيه.
ابرز تجليات هذه القيمة هي النقاش الموسع لنظرية صراع الحضارات للأمريكي صمويل هنتغتونSAMUEL HUNTIGTON حيث برهن غارودي في سياق الحديث عن الأهداف الصهيونية ،على التجسيد الفعلي للنظرية في الشرق الأوسط , بهذا التحليل يضع غارودي نظرية هنتغتون في موقعها المناسب حيث تظهر حقيقتـــــــها و أبعادها الجيوسياسية في المنطقة ليستنتج غارودي في النهاية : أن إسرائيل تمثل الذرع الواقي للحضارة الغربية (المسيحية و اليهودية) في الشرق الأوسط ضد التحالف الإسلامي - الكونفوشيوسي . وما يثبت صدق هذه النظرية هو قيام الكيان الصهيوني بما أوكل إليه في العدوان الثلاثي عام 1956 بالتعاون مع فرنسا و إنجليترا ، و في عدوان 1967 بالإعتماد على أمريكا . ومازال هذا الكيان منذ حرب الخليج يسعى لامتلاك أسلحة الدمار الشامل ربما يستعملها ضد سوريا أو إيران أو أي بلد آخر يرى فيه خطرا على المشروع الإستراتيجي الأمريكي الذي نظر له هنتغتون . إن المشارب الثقافية و الفكرية مختلفة و متباعدة بين هتنغتون و غارودي فالأول داعية صدام و الثاني داعية حوار ,فصاحب الصدام مغرم بالجيولوجيا ,فهو يتحدث عن الحضارات و كأنها كتل أرضية مستعدة للتصادم في أي لحظة بناءا على تزحزح الطبقات الأرضية . هذه الرؤية التي تسيطر على موضوع صدام الحضارات تتنبأ بالصدام القائم على أساس التغاير الثقافي و الديني و الآني .إن هذه العوامل تتضافر و تتجمع لتشكل نقطة توتر و صدام على أرض فلسطين. أما صاحب أطروحة الحوار فيرى أن الطبقات الثقافية لا تقود بالضرورة إلى حدوث تصدعات كما هو الحال في الجيولوجيا فمثلما هناك جهاز راصد للهزات يجب أن يكون هناك جهاز راصد للمكونات الثقافية و العنصر الأساسي في كل هذا هو الوعي .ذلك هو التحدي الذي رفعه غارودي في محاكمته : إنه حق الوعي و التساؤل و النقد. إن القيمة الفكرية تبدو اكثر تألقا من خلال شعار الحوار و الجدل العلمي الذي يطرحه غارودي في كل منازلة . وهي ميزته طوال نضاله الفكري و السياسي. الشيء الذي سمح له بكشف التناقض الذي تقع فيه الحركة الصهيونية و المجتمع اليهودي عامة .يصف غارودي هذه الحالة بالنفاق الإسرائيلي إذ لا يعقل أن نجد 15 % من يهود إسرائيل متدينون بينما 85 % من اليهود يؤمنون بان هذه الأرض أهديت لهم من اله لا يؤمنون به. و مند 1877 كتب الروائي و الأديب اليهودي ديستويفسكي يقول " انه لأمر غريب : يهودي من دون رب ، شيء ما غير مفهوم ، يهودي من دون رب ، أمر يستحيل تصوره "كتب ديستويفسكي هذه العبارة في رده على فئة من الصهاينة الروسيين الذين ليست لهم أي علاقة باليهود كديانة ، فهم لا يؤدون الطقوس الدينية مثل الآخرين من اليهود البسطاء ، و يرون ذلك أدنى من مستوى ثقافتهم ، فضلا عن زعمهم بأنهم لا يؤمنون بالرب. لقد كانت جلسات المحاكمة فرصة ليطرح فيها الوضعية الخطيرة التي آلت إليها الحضارة الغربية في نهاية القرن العشرين. و لا يخفى على أحد أن الغرب يكتسي أهمية بالغة في المشروع الفكري و السياسي لروجي غارودي و خصوصا في مجال نقد الأسس الفكرية والفلسفية التي قامت عليها المدنية في الغرب معتمدا في دلك على الفاعلية و التميز و متجاوزا الأساليب الانفعالية و ردود الأفعال الحماسية .
حسب غارودي ومحاميه فان الغرب هو المتسبب الرئيسي في ماسي و معاناة الإنسانية اليوم و في مقدمتها الشعوب المستضعفة ، من خلال القمع الاستعماري و احتلال أراضيه و الهيمنة على ثرواته لنقلها إلى أوربا و أمريكا و توسيع الإمبريالية الثقافية. إن الآلاف الفيتناميين و ما فعله نظام الابارتايد في جنوب أفريقيا و مجازر منطقة البحيرات الكبرى و شهداء الصومال و الجزائر كل هؤلاء هم ضحايا الاستكبار الغربي ، ولا يقعون - حسب فرجاس – تحت قانون قايسو ، لأنهم لاينتمون إلى منظمة مصرح بها على أنها إجرامية بنورمبورغ . إن المتابعة القضائية و التهديد الذي لحق بغارودي يكاد يجعل الديموقراطية المزعومة و حرية الإعلام و التعبير خرافات الحضارة الغربية . إن أهم شيء في نظر الغرب بعد الحرب العالمية الثانية هو أن أي حل لمشاكله يكون على حساب الشعوب الأخرى المستعمرة. في هذا الصدد يعرض المحامي فيرجاس ( ص 119) أمثلة عن تبريرات الأطباء الأمريكيين المختلقة في استخدامهم من سنة 1932 إلى 1972 مئات السود المصابين بالسفليس كتجارب مخبرية ، ونفس العمل قام به الأطباء الأستراليون حيث استخدموا اليتامى لاختبار لقاح جديد ضد الديفتيريا و مرض القباء H ERPES ، يطلق مؤرخ الطب و الأمراض البريطاني دافيد أرنولد DAVID ARNOLD على هذه الحالة بالطب الإمبريالي IMPERIAL MEDICINE . على المستوى القومي كان الغرب يفكر في إيجاد حل نهائي للمسألة اليهودية ، اهتدى إلى دفع اليهود للهجرة إلى خارج أوربا و إستقر بهم الأمر في النهاية إلى أرض فلسطين حيث كانت الإبادة و المجازر هي عنوان هجرتهم و كان تواطأ زعماء الإمبراطوريات الغربية آنذاك مع الصهاينة باختلاق خرافات دينية و سياسية لتثبيت مشروعهم الإستطاني ، يقول كيث وايتلام "تظافرت الدوافع الدينية و السياسية وراء بحث الغرب و إسرائيل على إنكار حق الشعب الأصلي في أن يكون ممثلا في التاريخ ، إن تاريخ فلسطين القديم هو موضوع تم استبعاده بواسطة اللاهوت كما تجاهله التاريخ .
3-القيـم الإنسانيـة : لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نغض الطرف عن الجانب الإنساني في الكتاب (المحاكمة) و كما أشرنا من قبل فإن التسامح و الانفتاح و الدعوة الى السلم هي أكثر السمات التي تميز محطات حياة الفيلسوف غارودي. يمكن للقارئ أن يتتبع البعد الإنساني في صوره المتعددة و تجلياته من فكرة لأخرى خلال الجلستين و في آخر تصريح له . و لتسهيل تحديد عناصر هذا البعد يمكن سرده في النقاط التالية:
أ- إنكاره للجريمة و الإبادة مهما كانت دوافعها و غطاءها و يعتقد أن اليهود كانوا إحدى أهداف هتلر المفضلة و لذلك « فإن قتل أي بريء, سواء أكان يهوديا أو لا يعتبر جريمة ضد الإنسانية » .
ب- تأكيده على حقوق الإنسان و عليه كانت معارضته لقانون قايسو عام 1990 لأنه يشدد الخناق على حرية التعبير .
جـ- دعمه لفكرة السلم و التعايش بين الشعب الفلسطيني و الإسرائيلي في إطار الحقوق المتبادلة بين الشعبين و التشجيع على تطبيق قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالتقسيم .
د- احترامه للأديان السماوية الثلاثة و محاربة الأصوليات لأنها مولدة للعنف و الحروب و في حالة الديانة اليهودية ألح على التمييز بينها و بين الصهيونية كما يرفض غارودي القراءة الصهيونية للتوراة و للأسفار التاريخية و يرى أنها القراءة التي تستخلص الفكرة الأكثر شرا في تاريخ الإنسان و البديل هو القراءة النبوية للتوراة.
هـ- وقوفه بجانب الشعب الفلسطيني الذي يعاني من نيل الاحتلال و سائر الشعوب المظطهدة لسبب أو لأخر في العالم. يعد عرض القيم التي تضمنها الكتاب يمكن أن نستنتج أن ما يعزز أحقبة و صدق القيم العلمية و الفكرية و الإنسانية لأفكار و تصريحات روجي غارودي هو سلسلة الاضطهادات و أنواع الضغوطات و التهديدات التي تعرض لها كما يتعرض لها آباء المراجعة التاريخية و مختلف الفعاليات العلمية و الفكرية في أوروبا و أمريكا و حتى داخل إسرائيل فلا يمكن أن نفصل محاكمة غارودي عن ما لحق بالمفكرين الآخرين .إن المنطق السائد اليوم في الغرب هو تحريم و اتهام بالخيانة كل من سولت له نفسه بتجاوز الخطوط الحمراء في التساؤل و البحث.
يقول إدوارد سعيد « لقد نشرت كتاباتي ووزعت في كل أنحاء العالم و عبر 35 لغة على الأقل و عليه فإن رسالتي واضحة بينة و مواقفي معروفة لدى الجميع غير أن الحركة الصهيونية بعد أن وجدت أنه من العبث أن تتصدى لتفنيد الحقائق الناصعة و الحجج العادلة و بعد أن فشلت أيضا في الحيلولة بين كتاباتي و بين وصولها إلى أكبر عدد من القراء و المتابعين لجأت الى أساليب دفينة بغية إسكاتي و إيقافي عن الكتابة ».
لقد نظمت حملة للعمل على طرد الراحل إدوارد سعيد من الجامعة التي قام بالتدريس فيها منذ 38 سنة ،استعملوا كل وسائل الشتم و التهديد بالقتل و منعه حتى من إلقاء محاضراته كما حدث مع معهد فرويد بفيينا .
كما تعرض أستاذ الأدب الدكتور روبرت فورسيون و هو النبع الذي نهل منه غارودي و ينهل منه العديد من المراجعين إلى اضطهاد حقيقي بسبب مواقفه في فرنسا كالطرد من العمل و الحرمان من راتبه التقاعدي و لاعتداءات جسدية كادت تودي به. و حكم على الكاتب النمساوي "جيرو هونسيك" بالسجن 18 شهرا لكتابته عدة مقالات في مجلة HULT نفي فيها وجود غرف الغاز السام في معسكرات الاعتقال النازية. وأصدرت محكمة ألمانية عام 1994 حكما على المؤرخ البريطاني "ديفيد ايفرينج" بتغريمه 10 آلاف مارك لأنه شك في حدوث جرائم ضد الإنسانية. كما قضى المفكر الإسلامي احمد رامي المقيم في السويد 6 أشهر داخل السجن عام 1990 بتهمة المعاداة للسامية ، و كان أحمد رامي قد بث عدة تقارير و برامج من خلال الإذا