روجيه غاردوي في الميزان ..
من كتاب (شخصيات استوقفتني )
بقلم: د. محمد سعيد رمضان البوطي.
متى عرفت غارودي..
عرفت غارودي و هو في أوج عنجهيته ، زعيما ماركسيا ، ورسول تجديد للإشتراكية المادية ، لا في فرنسا وحدها ، بل في أوربا كلها ..كان ذلك في الملتقى الفكري الذي عقد بتمراست في جنوب الجزائر ..
لقد ضاق يومها ذرعا بالنقاش الذي توجه إليه من كل صوب ، بسائق من أمل التغلب على أفكاره المادية ..وقطع دابر مناقشاتهم ، معنا أنه ماركسي النزعة و التفكير ، فلا يطمعن أحد منه بأكثر مما قد ألزم نفسه به ، ألا وهو تجديد الفكر الماركسي و دفعه إلى مسايرة الحضارة الأوربية الحديثة ، ثم إنه فارق جلسات الملتقى صباح اليوم التالي و سافر مستنكرا غاضبا .!..
ثم عرفته و رأيته ، و هو في أبرز مظاهر تبتله و عبوديته لله عز و جل، مستسلما لشرعته و سلطانه ..! و كان ذلك في الملتقى الفكري الذي عقد في قسنطينة بالجزائر أيضا . لقد أتبعته بصري يومها ، و قد خرج ضيوف الملتقى مع الغروب من قاعة المحاضرات في جامعة قسنطينة في اعقاب يوم حافل و رأيته انفرد عنهم و قد اتجهوا جميعا مسرعين إلى الحافلات التي تنتظرهم لتعود بهم إلى مقرهم في الفندق الذي يقيمون فيه . وتلفت هو ، يبحث عن المسجد الذي يجتمع فيه الطلاب للصلاة ..! و اندمج الرجل في فلول الطلاب متجها معهم إلى المصلى الكبير المواضع لأداء صلاة المغرب...
وفي المصلى ، وقع نظري عليه ، وكان يتقدمني بصف . و أخذت أرقبه و أتأمل صلاته ، وهو بين ذلك الحشد من الطلاب ..استزاد بعد الفريضة من النوافل ما شاء و راح يطيل القيام و الركوع ، ولما هوى ساجدا ، لبث في سجوده طويلا لا يرفع رأسه ..ونظرت إلى وجهه بعد أن استقر جالسا و قد تضرج بحمرة قانية ..! لقد كان واضحا أنه لم يكن يحفل بشيء مما حوله ، وأنه مندمج في صلاته لله عز وجل أكثر من أكثر الذين كانوا يصلون حوله ، ولعلي واحد منهم .
كان هذا المشهد المتبتل بعد تلك العنجهية المتعجرفة – و قد رأيت المشهدين وليس بينهما أكثر من عامين – ذا دلالة كبيرة في عقلي وتأثير عظيم في نفسي ..! و مهما استعنت بالقلم و البيان ، فلن أبلغ إلى التعبير عن معشار هذا التأثر الذي أخذ بمجامع كياني كله ...! ثم إني رأيت هذا المشهد دليلا لا يقبل الريب عندي على أن الرجل صادق مع نفسه في الإسلام الذي اعتنقه ، بمقدار ما كان صادقا مع نفسه من قبل في العنجهية التي كان مأخوذا بها .
ثم إننا تعارفنا و تلاقينا بعد ذلك ، في عدد من المؤتمرات و الملتقيات . وتباحثنا في أمور الدين و مشكلات الحضارة ، دون أن أفاجأ خلال ذلك بما يريبني منه أو يشككني في إسلامه .
اهتم روجيه غارودي في السنوات التي تلت إسلامه ، بالسعي إلى بعث فكرة الوحدة الدينية المتمثلة في الحنيفيه السمحة التي بعث بها أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة و السلام ، وجذب العقلية الأوربية من خلال ذلك إلى الإسلام.
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |