دراسة عن الصهيونية وأساطير السياسة الإسرائيلية
بقلم: جيدور حاج بشير.
دراسة تقدمت بها إلى المسابقة الوطنية للمطالعة، المنظمة من طرف جريدتي: "الشروق اليومي" و"البلاد"، في 15 جانفي 2003، وقد حصلت بها على الجائزة الوطنية الثانية، عن فئة الكتب المترجمة.
ليست بالقليلة عددا ولا بالبسيطة تركيبا ولا بالهينة تأثيرا، تلك الدراسات في جوهر الحركة الصهيونية وأصل نشوءها ومصادر تغذيتها وقوة نفوذها داخل مراكز اتخاذ القرار، ومنابر صناعة الرأي العام في العالم، لكن القليل نسبيا هي تلك الدراسات التي تربط البحث بالأسس التاريخية والدعائم الأيديولوجية للصهيونية. فالأساس الأيديولوجي يعتبر أهم دعائم الحركات السياسية أو الأصولية، ويقدم أحيانا على الأساس السياسي والديني، فلم يغب ذلك عن وعي المفكر "غارودي" الذي جعل من كتابه: "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" دراسة ذات قيمة فكرية عالية، لما اعتمد عليه من عدم الفصل في نقده للصهيونية كحركة سياسة عنصرية مؤسسة للسياسة الإسرائيلية، عن المعايير الإيديولوجية والأسس المرجعية التي بنيت عليها.
خطة الدراسـة:
أولا ـ ملخص عام لكتاب "محاكمة الحرية".
تأليف: روجي غارودي.
ترجمة: الدكتور محمد لعقاب.
ثانيا ـ دراسة عن الصهيونية وأساطير السياسة الإسرائيلية.
الفصل الأول: دراسة تقويمية لكتاب "محاكمة الحرية" وإحاطة بما قدمه من جديد.
المبحث الأول: رؤية تقويمية للكتاب.
المبحث الثاني: رؤية فيما قدمه الكتاب من جديد.
الفصل الثاني: مناقشة في أفكار الكتاب ودراسة في قيمته الفكرية:
المبحث الأول: مناقشة أفكار الكتاب:
اللاسامية والهولوكست.
أكذوبة غرف الغاز النازية.
التعاون النازي اليهودي (الصهيوني).
المراجعة التاريخية للماضي الصهيوني.
التعليم الصهيوني.
المبحث الثاني: دراسة قيمة الكتاب الفكرية.
أولا ـ ملخص كتاب "محاكمة الحرية":
كتاب "محاكمة الحرية" يعد من أحدث ما كتب ونشر المفكر الفرنسي المسلم "روجيه غارودي"، بمعية صديقه ومحاميه "جاك فرجاس"، يعرضان فيه سردا لوقائع وتفاصيل محاكمة "روجيه غارودي"، على إثر نشره لكتاب: "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" سنة 1996، وفيه نقد علمي للأسس التي بنيت عليها دولة إسرائيل، وتشكيك في أرقام الضحايا الصادرة عن محكمة "نورمبورغ" لجرائم الحرب. كتاب "محاكمة الحرية" يعد شرحا لأفكار الكتاب المُحَاكم، وفيه ردود على الاتهامات الموجهة لـ: "غارودي". ونتناول في هذا الملخص ترجمة الدكتور محمد لعقاب لهذا الكتاب في طبعته الأولى، والصادرة سنة 1999 عن دار "هومة" للطباعة والنشر والتوزيع، والذي يقع في 143 صفحة.
في مقدمته، يعرض المترجم للأسباب التي دفعته إلى ترجمة الكتاب، معتبرا أن العرب والمسلمين أولى بـ:"غارودي" من غيرهم، لأنه يحمل أفكارهم ويدافع عنها، ويتبنى قضاياهم ويشارك فيها، وفي تتابع لأفكاره عمد المترجم إلى تقديم "روجيه غارودي"، مستوقفا القارئ عند أهم المحطات الفكرية التي تقلب فيها الرجل، والمناصب السياسية التي تقلدها، وأهم المعتقدات الإيديولوجية التي تبناها، كالشيوعية والاشتراكية، وصولا لاعتناقه الإسلام سنة 1982، مما قلب أسس فكره ومبادئ معتقده، وأوضح المترجم كيف كانت كتابات "غارودي" تتأثر بالإيديولوجية التي يتبناها في كل مرة.
فصّل المترجم في أسباب محاكمة "غارودي" التي لخصها في نقده للسياسة الإسرائيلية، وانتقاده لمحكمة "نورمبورغ"، بالإضافة إلى مناقشته لقضايا الهولوكست وأرض الميعاد وحق اليهود في فلسطين، وأَبرزَ التهم الموجهة له وهي: إنكاره وجود غرف الغاز، ومراجعته كتابة تاريخ اليهود. كما أشار المترجم أيضا إلى الأطراف التي اتهِمت "غارودي"، وهي: اللجنة العالمية ضد العنصرية واللاسامية (Licra)، الحركة المعادية للعنصرية من أجل الصداقة بين الشعوب (Mrap)، ومنظمة محامون بلا حدود. بيّن المترجم كيف استندت هذه الأطراف إلى قانون: "فابيوس ـ قايسو" الصادر سنة 1990، والذي يعاقب بالسجن والغرامة كل من يشكك في الأرقام الرسمية لضحايا اليهود على يد الألمان، كما يحضر أي مراجعة لقرارات محكمة "نورمبورغ"، بحيث يعتبرها حقيقة تاريخية لا تجوز مراجعتها.
ومن باب تيسير فهم الكتاب، عمد المترجم إلى التعريف بعدة مصطلحات ومفاهيم قد يرد ذكرها والإشارة إليها في الكتاب، كالهولوكست ومعاداة السامية ومحاكم التفتيش. مشيرا في الوقت نفسه لمنهجيته في ترجمة هذا الكتاب.
في مقدمة الكتاب، يستنكر "غارودي" عودة (Licra) لمقاضاته أمام العدالة الفرنسية معتبرا ما أقدمت عليه "شعوذة سياسية"، في أعقاب إصداره لكتابه: "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية"، الذي نال شهرة واسعة وترجم إلى أكثر من 20 لغة عالمية، وقد أبدى استغرابه من جر فرنسا إلى هذا المستنقع، وهي المعروفة بالدفاع عن حقوق الإنسان. أما عن المحاكمة فقد اعتبرها امتدادا لدعوى (Licra) التي خسرتها ضده سنة 1982، عقب نشره لمقال حول اجتياح لبنان، حين اعتبرت المحكمة القضية نقدا مشروعا لسياسة دولة، غير أن الجديد هو صدور قانون "فابيوس ـ قايسو"، وعليه اعتبرته المحكمة "مذنبا" بتهمة مخالفة هذا القانون ومراجعة قرارات "محكمة نورمبورغ"، إلا أن الكاتب استغرب وجوده في قفص الاتهام وحده، ولم يكن أول من ولج هذا الباب، ولم يكن ليأت بشيء من عنده، وكلما قاله قد نقله من مصادره عن آخرين. في انتقاده لعدالة "محكمة نورمبورغ" أوضح كيف كانت تتعامل مع تقارير الحلفاء المنتصرين في الحرب من دون تبصر، وتبني عليها مقرراتها، وقد أثبت زيف وبطلان الكثير من هذه الأدلة والوثائق بالحجة العلمية أو شهادة الشهود التي لا يرق الشك إليهما، وبهذا فهو يؤسس لحقه في التشكيك في "محكمة نورمبورغ". وعليه فقد طالب بنقاشات علمية حول أدوات الجريمة النازية ـ إن وجدت ـ كغرف الغاز مثلا، والتي شكك في وجودها من خلال دراسته لمذكرات قادة الحرب ووثائقهم، وكتابات المؤرخين وبخاصة اليهود منهم، والذين أنكر الكثير منهم وجودها أو شكك في حجم تأثيرها.
يفضح "غارودي" في مقدمة كتابه أيضا سياسات إسرائيل الداخلية، فيندد بالممارسات العنصرية، وظاهرة الأبارتيد، وتكريس الاستيطان وتعظيم القتلة من أمثال "باروخ غولدشتاين". أما عن سياستها الخارجية، فيعرض لتعاظم نشاط "اللوبيات" اليهودية في العالم، خاصة في الولايات المتحدة وفرنسا، التي تغلغلت هذه اللوبيات في دواليب سلطتها وإعلامها وقضائها، وبيّن كيف اكتسبت قوتها بعد ترسيم الكنيست للمنظمة اليهودية التي تعبر عن سياسة إسرائيل في الخارج، هذه السياسة التي أسس لها مؤسس الصهيونية "تيودور هرتزل" في أفكاره حول شكل دولته المنتظرة.
إن خروج "صمويل هنتجتون" بنبوءته حول "صدام الحضارات" بالإضافة إلى أفكار "تيودور هرتزل" عن شكل دولته المقبلة، كانا دافعين رئيسيين لـ "غارودي" لكتابة مؤلفه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" الذي يحاكم من أجله، إن فرضية "صدام الحضارات" هي حليفة حضارية للغرب، تخطط لحدوث معركة المستقبل الصدامية.
عقدت أولى جلسات محاكمة "غارودي" بتاريخ 07 جانفي 1998، فبدأ نقل وقائعها بملاحظات وجهها إلى رئيس الجلسة القاضي "مونتفور"، أبرز فيها أن (Licra) ارتكزت في دعواها ضد كتابه على جرائم هتلر في حق اليهود وحالة المعسكرات، متجاهلة في ذات الوقت الأفكار الدينية المتعلقة بالسياسة الإسرائيلية الواردة بالكتاب، فتجاهلت بذلك فصلا كاملا عن التعاون الصهيوني النازي إبان الحرب، مستدلا على ذلك باتفاق بين زعماء اليهود وهتلر، يقضي بتبادل مليون يهودي مقابل تزويد ألمانيا بـ 10 آلاف شاحنة للجبهة الشرقية في حربها ضد الحلفاء، ومنه فإن هتلر لم يكن يهدف إلى إبادة اليهود بقدر ما كان يريد تطهير أوروبا منهم وترحيلهم عنها لا غير.
وبالخصوص ذاته، ينتقد إصرارهم على تثبيت الرقم 06 مليون ضحية الذي يصفه "بالذهبي" وطريقة إحصائه، وكيف أصبح لا يمثل غير اليهود، في حين أن التاريخ أثبت أن الكثير من غير اليهود قد تعرضوا للقتل، كما أورد ما يثبت أنه لا هتلر ولا كبار ضباطه قد أصدروا أمرا بالإبادة، فلم يعثر المؤرخون على ما يثبت ذلك، وقد نقل على عدة مؤرخين نفيهم وجود وثائق متعلقة بالإبادة. وعليه فقد وقف متحفظا عند الرقم 02 مليون، مؤكدا أن الأمر لا يعدو كونه استغلالا سياسيا للأكاذيب، وشكلا من أشكال الابتزاز للدول المهزومة، بدليل الاعتراف الصريح لرئيس المؤتمر اليهودي الذي أوضح للكاتب كيف جعلوا لهذه التعويضات سندا قانونيا، وحددوا طرقا لصرفها، والتي كانت تخرج في الغالب على حدودها المرسومة إلى أغراض أخرى، ناهيك عن حرمان المتضررين الحقيقيين منها، ومنه فهو يعرب عن رفضه لجرائم الابتزاز باسم الضحايا واستغلال معاناة اليهود لأغراض سياسية أو اقتصادية.
فضح "غارودي" من خلال قراءته للعديد من مؤلفات ومذكرات القادة الصهاينة أهداف الصهيونية في خضم عمليات الإبادة، فقد آثرت إنقاذ البعض فقط ممن يكون وجودهم ضروريا لدولة المستقبل، وضحت بآلاف الآخرين خدمة لأغراض استيطانية، فالصهاينة يعتبرون في سياستهم إنقاذ ونقل يهودي واحد إلى إسرائيل للمساهمة في بناء الدولة، أولى من إنقاذ أكثر من يهودي لمجرد الإنقاذ.
يعتبر "غارودي" كتابه إنذارا بخطر حرب تكون سياسة إسرائيل الاستعمارية فتيلا لها، هذه السياسة التي يعتبرها امتدادا لأفكار "تيودور هرتزل" مؤسس الصهيونية، مستشهدا برسالة هذا الأخير إلى "سيسل رودس" رئيس شركة الهند البريطانية، رجاه فيها تقديم يد العون في مسعاه لإقامة المشروع الصهيوني، مؤكدا له في ذات الرسالة على وحدة اليهود في العالم كله، ودرجة استعدادهم للتعاون في سبيل هذا "المشروع الاستعماري"، حسب تعبيره.
ثم يعود لنقد سياسات إسرائيل واللوبي اليهودي، متناولا دراسة للمخطط الإستراتيجي الذي يشترط تفتيت الدول العربية المجاورة، كمصر وسوريا والعراق إلى دويلات ومقاطعات تسهل السيطرة عليها، تحقيقا لشعار: "إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات"، ثم تساءل عن سر اتهامه بتوظيف عبارة "اللوبي اليهودي"، في حين أنه يمثل سياسة إسرائيل في الخارج، وموجود فعلا بموجب ترسيم الكنيست للمنظمة الصهيونية العالمية سنة 1952، معربا عن تضايقه من سياسة هذا اللوبي التي طالته شخصيا، حيث ضاق ذرعا بملاحقاتها له، وتهديداتها لدور النشر وبائعو الكتب الذين يتعامل معهم.
عبّر "غارودي" عن انتقاده لمستوى التعليم في إسرائيل، كتدريس كتاب "يوشع" المحشو بأحقاد اليهود على العرب، والمزخرف بتذكية روح العنصرية، وتشجيع الإبادة الجماعية، مشيرا إلى دراسة للأمريكي د. هـ. طامارين من جامعة "تل أبيب" التي استنتج منها أن قطاعا كبيرا من المتمدرسين اليهود (الأطفال خاصة) قد تشبعت أفكارهم بالحقد على العرب وامتلأت نفوسهم رغبة في تدمير كل ما هو غير يهودي، ومنه فـ "غارودي" ينتقد علنا القراءات الأصولية للنصوص التوراتية، لأن فيها تمييزا عنصريا، ودعوة صريحة لإبادة العرب وإخراجهم من أرضهم.
تناول "غارودي" تهمة انتقاد "محكمة نورمبورغ" وأشار أولا إلى خطأ هذه المحكمة من الأساس لأنها محكمة المنتصرين، وبالتالي فهي تفتقد للمصداقية بمخالفتها للإجراءات، وعدم تقيدها بمعاينة الخبرة للسلاح، وتجاهلها للنصوص، فضلا عن غموض وريبة يحيط ببعض وثائقها الرسمية، كاستبدال عبارة "غرف البخار" بعبارة "غرف الغاز" في إحدى هذه الوثائق، وكذا المبالغة في تقدير أرقام الضحايا وتحديد أدوات الجريمة، وعليه فقد طالب بالمراجعة الرسمية للأرقام المقدمة عن عدد الضحايا، ونقاشات علمية حول أدوات الجريمة المفترضة. وفي إشارة غير مباشرة أكد "غارودي" خشيته من أن تؤدي قرارات هذه المحكمة إلى تكرار سيناريو ما بعد الحرب العالمية الأولى في معاهدة فرساي، من خلال تحليله للعلاقة التلازمية بين نتائج مؤتمر الصلح سنة 1919، وظهور هتلر كشخصية "كارزمية" ثم وصوله إلى السلطة، بتغاض من الغرب، الذي كان يرى فيه حائط صد في وجه الاشتراكية.
اعتبر "غارودي" أنه من الخطأ الترويج لأفكار مثل "شعب الله المختار" و"أرض الميعاد" وأسطورة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، حيث دلل على أحقية العرب بأرض فلسطين، معتبرا وجود إسرائيل عليها نوعا من الاحتلال، أملته نصوص توراتية محرفة، وفرضته عقلية صهيونية عنصرية متعجرفة، داعية لاستئصال العنصر العربي من أرض فلسطين، وبالتالي فإن عودة إسرائيل إلى قرارات التقسيم الأممية، وتفكيك المستوطنات والمحميات اليهودية ونزع سلاح المعمرين، ضرورات لابد منها.
وفي نقله لمجريات الجلسة الثانية بعد يوم واحد من الجلسة الأولى، بدأ "غارودي" بلفت انتباه المحكمة إلى نقاط مناقشته في الجلسة الأولى، من خلال طرحه للعبارات المتهمة في كتابه، فاستغرب أن يكون متهما بجنحة استنكار الجرائم ضد الإنسانية، بسبب قراءة خاطئة لكتابه: "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية"، فأكد أنه لم يتهم سوى سياسة إسرائيل العنصرية ومسؤوليها ومنظماتها الصهيونية، وأكد أنه يفرق وبوضوح بين "اليهودي" و"الصهيوني"، مستغربا كيف تم تحويل كتابه إلى استنكار ديني واستنكارا للتاريخ واستصغارا للجرائم النازية، وهو الذي لا ينفي جرائم النازية في حق اليهود، بل يؤكد رفضه قتل بريء واحد، معتبرا ذلك من الجرائم ضد الإنسانية، تبعا لتعريف "سيمون وايل" الذي يعتبر الجريمة ضد الإنسانية عندما يقتل أناس بسبب ما يكونون لا بسبب ما يفعلون.
كما تكلم "غارودي" عن الصهيونية، وهي الحركة التي تهدف إلى عودة الشعب اليهودي إلى أرض إسرائيل، مركزا على رفض أغلبية الأوساط اليهودية لهذه الحركة، ممثلة في عدد من الحاخامات ومسؤولو ومنظرو الحركات اليهودية. الذين عبّر أكثرهم عن رفضه لهذه الحركة "العنصرية" التي أرفق بها مؤسسها "هرتزل" أوصاف القومية والاستعمارية، لأنها كانت تهدف إلى جمع اليهود في "غيتو" واحد، وبناء دولة يهودية صهيونية، وهذه الأهداف هي التي تفسر حسب "غارودي" التعاون النازي ـ والصهيوني بدءً باتفاقيات "هافارا". وفي السياق ذاته أورد كتابات ومقالات ليهود وغير يهود ممن يرفضون أطروحة إسرائيل الكبرى، ويطالبون بمنع المساعدات عنها لانتهاجها سياسة التمييز العنصري والاحتلال والاستيطان، حيث بلغت أعلى درجات الاستهتار بالمعاهدات والاتفاقيات التي ترتبط بها مع جيرانها، خاصة في ظل حكم "نتنياهو".
اعتبر أن محاكمته أمام القضاء الفرنسي، هي "محاكمة النية" لأنها تعتبره يقول "صهيوني" كلما قال "يهودي" متأسفا في ذات الوقت عن تورط فرنسا في محاكمة مهينة لأحد مواطنيها وكتابه المترجم إلى 23 لغة عالمية.
وفي مرافعته تساءل المحامي "جاك فرجاس" عن سر ارتباط كلمة "إنسانية" باليهود، كما فتح النار على السيد "قايسو" وقانونه الذي وصفه بالعنصري، متسائلا عن عدم تساوى البشر جميعهم أمامه، وعن سر تخصصه بمعاناة اليهود فقط. فكيف يقصى من قانونه معاناة ضحايا آخرين كالجزائريين والهنود الحمر والفيتناميين وسكان أستراليا الأصليين، ومن هنا فالقانون ليس إلا قانونا عنصريا، لأنه يتعمد الفرز بين الضحايا حسب الديانة ولون البشرة، وقانون "فاشي" لأنه يمنع إعادة النظر في أحداث تاريخية، وفي نفس الإطار تساؤل "فرجاس" عن ملاحقة هذا القانون لموكله ولم يلاحق غيره، حيث أنه شكك في الرقم "الذهبي" ولم ينفه، ومن قبله كثيرون شككوا في الرقم ولم يلاحقهم "قايسو" وقانونه، فأرجع ذلك لكون "غارودي" مسلما فرنسيا وليس يهوديا كغيره من المشككين أو حتى النفاة. ثم تناول تهمة معاداة السامية، متسائلا عن حدود هذا الوصف، ومن هم الأحق به، وهل كل من ينتقد إسرائيل وسياستها الاستيطانية وتمييزها العنصري يكون معاد للسامية؟ وهل يكون كذلك كل من يحمّل إسرائيل مسؤولية أعمال العنف والقتل؟ أو يرى الحل في إقامة دولتين متجاورتين؟ أو من يكتب أو ينشر أو حتى يقرأ ويطالع كتابا معاد للفكرة الصهيونية؟
وأخيرا توجه "فرجاس" إلى المحكمة مناشدا إياها عدم الانزلاق خلف ما يطلب منها، لأن التاريخ يعني إعادة القراءة الدائمة وهو التشكيك الدائم، ولأن "غارودي" لم يطالب بغير حقه في نقد إسرائيل كغيره، وإلا تصبح المحكمة حارسة على أكذوبة تفرد الألمان بالجرائم ضد الإنسانية، مما يهز من صورة فرنسا المشرفة.
واختتم "غارودي" كتابه بآخر تصريح له، أكد فيه رفضه لجميع أنواع الأصوليات التي يعتبرها من أمراض العصر القاتلة، وذكّر بكتاباته التي انتقد فيها هذه الأصوليات، شيوعية أو اشتراكية أو يهودية أو حتى إسلامية، وما تثيره عادة من جدال طبيعي عادي، لكن من غير الطبيعي اللجوء إلى العدالة عندما يتعلق الأمر بنقد أصولية لا يملك أصحابها حججا للدفاع عنها، كالأصولية اليهودية مثلا. وفي حربه ضدها، كان "غارودي" يؤسس لما يسميه "حوار الثقافات"، معتبرا أن هذا من شأنه أن يعطي دفعا لحوار الأديان، وتوطيد العلاقة فيما بينها، متعرضا لأهم ما أسسه من صروح فكرية في خدمة هذا الهدف النبيل، الذي ظل يناضل من أجله ولا زال ـ حسب تعبيره ـ.
ثانيا ـ دراسة عن الصهيونية وأساطير السياسة الإسرائيلية
ليست بالقليلة عددا ولا بالبسيطة تركيبا ولا بالهينة تأثيرا، تلك الدراسات في جوهر الحركة الصهيونية وأصل نشوءها ومصادر تغذيتها وقوة نفوذها داخل مراكز اتخاذ القرار، ومنابر صناعة الرأي العام في العالم، لكن القليل نسبيا هي تلك الدراسات التي تربط البحث بالأسس التاريخية والدعائم الأيديولوجية للصهيونية. فالأساس الأيديولوجي يعتبر أهم دعائم الحركات السياسية أو الأصولية، ويقدم أحيانا على الأساس السياسي والديني، فلم يغب ذلك عن وعي المفكر "غارودي" الذي جعل من كتابه: "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" دراسة ذات قيمة فكرية عالية، لما اعتمد عليه من عدم الفصل في نقده للصهيونية كحركة سياسة عنصرية مؤسسة للسياسة الإسرائيلية، عن المعايير الإيديولوجية والأسس المرجعية التي بنيت عليها.
الإيديولوجية حسب القاموس السياسي، هي: "مجموعة من الأفكار المتكاملة والمتسقة مع بعضها، تستخدمها جماعة من الناس لتكوين مرجعية لنظرتها إلى العالم، ولتقديم الأجوبة عن التساؤلات المتصلة بالأحداث الجارية في العالم، مسارها، وآفاق تطورها على المدى القريب والبعيد، محليا وإقليميا وعالميا، وأخيرا تقديم المعايير المعرفية وحتى الأخلاقية، للتمييز بين الصحيح والخطأ، الخير والشر، التكتيكي والاستراتيجي، والمرحلي والدائم". وقد تستند الأيديولوجيا في تقديم نظرتها الشاملة للعالم إلى مرتكزات أساسية ترتقي إلى درجة المسلمات البديهية لدى اتباع الأيديولوجيا، وتشمل، ضمن أشياء أخرى الغيبيات: Metaphysics، وما وراء التاريخ Metahistory، وهذا ما شكّل أهم مرتكزين للأيديولوجيا الصهيونية.
سعت النازية لخلق الإنسان المؤمن بالنظرية الآرية، المتفوق على ذاته، المؤمن أن الشعوب الأخرى وجدت لخدمته، والصهيونية سعت أيضا لتحقيق الهدف ذاته، من خلال خلق الإنسان المشبع بالأنا المطلقة للصهيونية ويضعها فوق كل القيم والمبادئ والقوانين، وبالتالي أوجدوا اليهودي الغريب حقا.
تمازج فكري مميز بين أساطير قيام إسرائيل وحجم الأفكار الصهيونية، ذلك الذي قدمه "روجيه غارودي" شيخ مشاغبي العصر وإمامهم، كما وصفه المفكر الإسلامي "فهمي هويدي"، الذي ظل يحارب الصهيونية ولم ترهبه الهجمات الوحشية من الإعلام الغربي الذي تدعمه ويدعمها، ولا يزال يصر على أن مهمة المفكر هي تحطيم الأساطير والأغلال الذي يرزح تحتها العالم، ومنها الخرافات التي صاغت وأوجدت الدولة اليهودية في إسرائيل.
مهمة المفكر هذه التي تبناها جعلت منه ألد أعداء الصهيونية، إن لم نقل أنه العدو رقم واحد لهذه الحركة التي تأسست على أهداف استعمارية وأبعاد عنصرية، تصدى لها بمنطقه وحاربها بفكره، فلم يشأ السكوت حتى يكون جزءً من الحقيقة قد طمس، وغيبته قوى الشر العمياء، وأُدْخِل قسرا غياهب التاريخ المنسي، بفعل سياسة إرهاب القلم الحر، التي تمارسها الصهيونية بشراهة وشراسة.
ولد "غارودي" لأسرة بعيدة عن التدين سنة 1913، ثم بدأ رحلة البحث عن الحقيقة وتلمسها في كل الأفكار والفلسفات والأيديولوجيات، فارتبط بالقيم الدينية المسيحية، وواصل بحثه من حدود قناعاته الفكرية، فاتجه إلى دراسة الفلسفة، فوجد في فكر "ماركس" تحليلاً جيداً للواقع الاقتصادي والسياسي والأخلاقي للمجتمع، مما يحقق مصالحه.
في 17 جوان سنة 1982 أعلن موقفا صريحاً مدوياً برفضه الحاسم للاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان، على صفحة كاملة بصحيفة Le Monde الفرنسية، اشتراها لحسابه الخاص، موجهاً بذلك نقداً لاذعاً لإسرائيل والصهيونية لإقدامها على تغذية غرورها وغطرستها بهذا الاجتياح، فكانت هذه المقالة بمثابة الطلقة الأولى التي خرجت من حنجرته لتعلن بداية حرب ضروس ضده، بدأً بمحاكمته الأولى سنة 1982، وانتهاءً بجره إلى المحاكمة الثانية، سنة 1998م، بسبب آرائه في كتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية"، وقد انتهت المحاكمة إلـى حكم عليه بالسجن لمدة 09 أشهر مع إيقاف التنفيذ، وغرامة مالية.
إن حصاد عمره يتمثل في أفكاره وقناعاته التي أودعها كتبه، فرغم أنه كتب عن "كارل ماركس" و"فكر هيجل" و"النظرية المادية للمعرفة" و"ماركسية ضد العصر" في التقريب بين الوحدوية والشيوعية، فقد كتب أيضا عن "حوار الحضارات" ليكشف كذب ادعاء مقولة صراع الحضارات، وكتب "البديل" و"ملف إسرائيل" و"أحلام الصهيونية وأضاليلها" و"الأساطير المؤسسة للسياسية الإسرائيلية" في نقد الصهيونية، وأخيراً كتاب "أمريكا طليعة الانحطاط".
لقد جاء في مقدمة النسخة العربية لكتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" بقلم الأستاذ "محمد حسنين هيكل": "[…] "غارودي" في عرضه لهذه الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية- ولدولة إسرائيل- لم يؤلف كتابا بالمعنى التقليدي، وإنما حرص على أن يجعل من الوقائع نسيجا للحقائق، وتكون مهمة التأليف في هذه الحالة هي وظيفة "النول" يمد الخيوط طولا وعرضا، ويصنع مساحة من القماش قابلة للنظر وقابلة للفحص وقابلة لاختيار التماسك والمتانة. إن "غارودي" وهو يتعرض لكل أسطورة من الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، لم يشأ أن يناقش بنفسه أو يناقض، وإنما جاء بالوقائع من مصادرها الأولية ومن وثائقها الأصلية ثم تركها تجري في سياقها المنطقي واصلة بنفسها إلى غايتها الطبيعية. والحقيقة أن آخرين- قبل الأستاذ غارودي- حاولوا أن يقتربوا من الموضوع، لكنه تجاوز من سبقوه، بالإحاطة الشاملة بكل الأساطير الإسرائيلية. بمعنى أن كل من سبقوه- وعلى الأقل في حدود ما أعلم- ركزوا على أسطورة واحدة في الغالب، ولعل أكثر التركيز كان على المحرقة النازية Holocaust، التي تقول الأساطير الإسرائيلية أن ضحاياها من اليهود وحدهم وصلوا إلى ستة ملايين، وربما أن الضجة التي دارت حول هذه الأسطورة بالذات كانت مشادة بين الضمير أو الشعور بالذنب الأوروبي، وبين محاولة الضغط عليه وتعذيبه لصالح المشروع الصهيوني، وكان من الطبيعي أن يحاول الضمير الأوروبي أن يبحث عن الحقيقة ويضعها في مكانها من التاريخ الإنساني، كما انه كان طبيعيا من ناحية أخرى أن تحاول الحركة الصهيونية قصارها لكي تضع إسرائيل في الموضع الذي أرادته لها على خريطة الشرق الأوسط!".
وقد يستشف من هذا الجزء من مقدمة الكتاب أن "غارودي" اتبع منهجية المحقق والدارس التاريخي في تحليله، مبتعدا بذلك عن المنحى الأدبي والمنهج السطحي، ليكون بذلك مثالا للمحقق الصادق والمراجع الموضوعي، ويكون كتابه مرجعا أساسيا في نقد الصهيونية وأسسها، بالمنطق السليم المستند إلى العلم والمبتعد عن التزمت والسطحية.
دراسة تقويمية لكتاب "محاكمة الحرية" وإحاطة بما قدمه من جديد.
1. رؤية تقويمية للكتاب:
عملية التقويم لأي عمل أدبي أو علمي أو تقني في أي من أشكاله، سواء أتعلق الأمر بكتاب أو دراسة أو بحث أو عمل إبداعي، ليست عملية انتقاد لأفكار مؤلفه، ولا تعقبا لمواضع النقص ومواطن الزلل، بقدر ما هو وضع للعمل على سكة المناقشة بغرض الكشف عن كنه أفكاره، وإجلاء الغموض عنها، لإعطاء العمل صورته الحقيقية.
لابد من الاعتراف أولا أن كتاب "محاكمة الحرية" قد ابتعد عن دائرة خطر الانتقاد في محتواه، لأن المؤلف والمترجم على السواء قد ابتعدا به عنها، بالنظر إلى دقة الطرح واتزان المنطق، بالإضافة إلى وضوح الأفكار -في الغالب-، وتقديمه إلى القارئ على قاعدة سلسة مرتكزة على أفكار سهلة، رغم أن الكتاب يقترب إلى التحقيق التاريخي، ومحاولة من المؤلف لتأصيل أفكار وقيم، فالكتاب يعتبر دراسة تاريخية سياسية أكثر منه عملا إبداعيا.
ومع ذلك فدراسة الكتاب ببصيرة وتمعن، قد تكشف للقارئ عن مواطن نقص، لكنها لا تفقد العمل موطئ ذبابة من موضوعيته وقيمته الفكرية، ولا تبخس من قدر مؤلفه ومترجمه قيد أنملة، لأنها ليست ثغرات في عمق أفكارهما، ولا نقائص في قيمة ما قدماه، غير أنها قد تصنف في خانة ما قد يسقط سهوا، فلا يمكننا بأي من الأحوال اعتبارها "نقاطا سلبية"، وإلا نكون مجحفين في حق المترجم وقدر المؤلف.
في كتابه، ناقش "غارودي" بمنطق علمي، موضوع غرف الغاز وعدد "الملايين الستة" من اليهود الذين تزعم الصهيونية أنهم قد أبيدوا على يد النازيين، ودعا إلى تصحيح الرقم حسب قراءة الوثائق ودراسة المعطيات المادية، وحسب المراجعات التي أخذ بها المسؤولون عن معسكر "أوشفيتز"، ذاته وغيروا بناء عليها اللوحة التي تشير إلى عدد الضحايا، ويسلط الضوء على الاستغلال السياسي "للمحرقة" من طرف الصهيونية، حتى يبقى اليهود وحدهم في الذاكرة، ويمحى كل من عداهم، فتكونت من ذلك التضخيم أسطورة مرعبة تبتز "إسرائيل" بواسطتها دعماً مالياً وعسكرياً وسياسياً غير محدود، وتستخدمها مع تهمة "معاداة السامية" ضد كل من لا يفكر ولا يتصرف بما يرضي الصهيونية، وتضفي على احتلالها وممارساتها النازية في فلسطين المحتلة مشروعية تاريخية.
فرضت الصهيونية، حالة من الإرهاب الفكري الفظيع على كل من يحاول إعادة قراءة التاريخ وتصحيح وقائعه أو إعادة كتابته، أو مراجعة الوثائق والوقائع التي تمت في ظل محاكمة عسكرية، قامت بعملها في ظل أجواء مشحونة بأجواء الحرب، وتحت تأثير شغف النصر ونشوته، واستناداً إلى معطيات ومعلومات غير مدققة، وبناء على اعترافات انتزعت تحت التعذيب، وفي غياب معلومات مؤكدة وحقائق وشهود.
إن "غارودي"، لم ينف ما تعرض له اليهود من تعذيب وإبادة، ولا ما قامت به النازية من ممارسات وحشية ضد الآخرين، ولكنه أراد أن يساوي بين عذابات البشر، مدققا في حجم الخسائر البشرية من اليهود، كما فحص شهادات وملفات، واستفاد من جهد من قام بفحصها قبله من المراجعين على أسس علمية، فتوصل إلى استنتاجات في ضوء العقل والمنطق والعلم، وقام بمقاربة ومقارنة بين ما جرى لليهود وما قام به النازيون من ممارسات وحشية ضد الآخرين من جهة، وبين ما تقوم به إسرائيل اليوم من ممارسات عنصرية ضد الفلسطينيين من جهة أخرى، وندد بما ترتكبه إسرائيل من مذابح وجرائم ضد الإنسانية في فلسطين، وما تقوم به حركتها الصهيونية من إرهاب للآخرين.
2. رؤية فيما قدمه الكتاب من جديد:
إن أول ملاحظة قد ترصد على كتاب "محاكمة الحرية"، أنه كتاب مترجم للعربية عن اللغة الفرنسية، وبالتالي فأوجه التجديد قد تبدو بارزة وواضحة، إذ يمكن دراستها من وجهين مختلفين، يتعلق الأول بالناحية المنهجية للمترجم في تقديم الكتاب، بينما يتعلق الثاني بالكم المعرفي الوارد، وطريقة تعامل المترجم معه.
ارتكز المترجم على منهجية دقيقة في التعامل مع هذا الكتاب، وتقديمه إلى جمهور القراء، معتمدا على جملة من الرؤى المنهجية والتقنية، مما يساعده على التعامل "الدقيق" مع محتويات الكتاب، وذلك في خطوة منه لتكون ترجمته للكتاب ناجحة، لأن ترجمة الكتاب تختلف عن تأليفه، فهي نقله من لغة إلى لغة، بكل دقة وأمانة وموضوعية.
ظهرت في ترجمة الدكتور "لعقاب" العديد من مواطن التجديد في ميدان الكتب المترجمة:
أولا: يقدم المترجم للقارئ شرحا لعدد من المصطلحات والمفاهيم التي يتتابع ورودها كثيرا في الكتاب، وذلك ما يدخل في اعتبارات نجاح الكتاب، لأن القارئ سيقبل على القراءة، وقد تكونت لديه فكرة عن جل ما قد يكون من الصعب عليه إدراكه بسهولة، فيكون المترجم قد رفع على القارئ حالة ضجر أو ملل قد تعصف به من جراء احتكاكه بمفردات صعبة.
ثانيا: مما تقدم، قد يلاحظ القارئ تزاوجا في الأفكار، بمعنى أن مقدمة المترجم للكتاب، وشروحاته وتحقيقاته، وشرح أسباب إقباله على الترجمة، كانت مع أفكار المؤلف، تنسج جوا من الازدواجية في الطروحات، من عدم تناقض بينهما، ومنه فالمترجم ظاهرة أفكاره بجلاء ووضوح، بعد أن كنا نجد أغلب المترجمين منزوين تحت ظل المؤلفين، حتى لا يكادوا يظهرون.
ثالثا: برزت بعض التجديدات في شكل إشارات تقنية، تمثلت أولا في تفريق المترجم بين إحالاته الشخصية، وإحالات المؤلف، التي خصص لها آخر صفحات الكتاب، فقد كان يشير إلى كل شرح أو إيضاح منه، من باب الأمانة العلمية. ثانيا اعتمد المترجم في الإشارة إلى أغلب عناوين الكتب أو المقالات، وأسماء الأعلام والصحف، على إيرادها بلغتها الأصلية، الواردة في كتاب "غارودي"، وذلك في محاولة منه لتيسير الفهم على القارئ، مما يكون من السهل على هذا الأخير أن يعود للبحث في بعض أفكار الكتاب لاحقا، فسيكون ذلك عليه أسهل من إيرادها بلغة المترجم الأصلية (العربية).
مناقشة في أفكار الكتاب ودراسة في قيمته الفكرية:
في إحدى لقاءاته التليفزيونية عبر إحدى الفضائيات العربية منذ ما يربو على الأربع سنوات، ذكر المفكر"روجيه غارودي" أنه بصدد إعداد كتاب بعنوان "محاكمة الحرية"، يعرض فيه لتفاصيل محاكمته أمام القضاء الفرنسي، وأكد أن هذا الكتاب سيكون شرحا لكتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" الذي يحاكم بسببه، وأكد أنه سيكون ردا وتفنيدا لسيل التهم والمزاعم التي وجد نفسه محاصرا بها من طرف الحركة الصهيونية وأذنابها من المنظمات وأشباه المنظمات.
في حواره مع جريدة "الوطن" السعودية، أوجز "غارودي" أسباب محاكمته بقوله: "لقد تم اتهامي بأنني كتبت أنه لم تكن هناك معسكرات إبادة وغرف غاز، وهذا افتراء، لأنني قلت فقط إن الغاز كان يستخدم في الجيش الألماني منذ عام 1920 م لقتل العسكر المتمردين، وإنه من الممكن أن يكون قد استخدم ضد اليهود ولكن بصورة فردية، ولم يكن هناك قرار رسمي باستخدامه ضدهم، كما أن هتلر لم يكن يريد إبادة اليهود بل طردهم فقط، وإنني قلت إنه لم تكن هناك معسكرات إبادة، لقد قبض علي سنة 1940م بعد هزيمة فرنسا، ووضعت في معسكرات الإبادة 33 شهرا، فكيف أنكر وجودها".
عندما يتعلق الأمر بكتاب كهذا، فإنه من الطبيعي أن يكتسب زخمه وأهميته الكبيرة، لأنه يحمل بين طياته خاصيتين بارزتين: تتعلق الأولى بتناوله لأهم القضايا وأشيكها وأكثرها إثارة للجدل في القرن العشرين، وهي قضايا الصراع العربي الإسرائيلي وإشكالية الحرب العالمية الثانية وتوابعها، أما الخاصية الثانية فهي تقديمه في شكل وثائق عن سير جلسات المحاكمة، واعتماده نقل الأدلة والقرائن من أفواه أصحابها، بكل موضوعية ومصداقية.
1. مناقشة أفكار الكتاب:
يعتبر كتاب "محاكمة الحرية" على صغر حجمه، موسوعة في السياسة والتاريخ، ودائرة معارف مصغرة للوثائق والدراسات والمقالات، وبنك معلومات يقرّب فيه المؤلف إلى ذهن القارئ عددا من المفاهيم، كالصهيونية، والهولوكست، والمراجعة التاريخية وغيرها. وفي الكتاب يجد القارئ نفسه أمام ملفات جديدة، كملف التعاون التاريخي بين الصهاينة والنازيين، ويجد أن مهندسو هذا التقارب والاتفاق، ليسوا إلا رموزا وأعلاما للسياسة في كل من "تل أبيب" و"الرايخ"، وضباطا مخابراتيون من "الموساد" و"الجستابو"، والغريب في الأمر أن الخاص والعام يعلم مقدار ما بينهما من عداء تاريخي مرير، أو هكذا يبدو على الأقل. وفيما يلي محاولة لإثراء أغلب ما جاء في الكتاب من أفكار:
اللاسامية والهولوكست:
مصطلح السامية والساميين يطلق على الشعوب التي يعتقد أنها انحدرت من صلب سام بن نوح، وقد ظهر هذا المصطلح عام 1781، واستخدمه لأول مرة العالم النمساوي "شلوتزر". ولم يكن مصطلح "اللاسامية" معروفا حتى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وقد ظهر لأول مرة في المقالات التي نشرها "هنريخ فون ترتسينج" حول القضية اليهودية"، لتأكد كتابات عدد كبير من الصهاينة، أن اللاسامية ظهرت وترعرعت في ألمانيا في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، ومن بين هؤلاء الكتاب: البروفيسورة "شولاميت فولكوف" أستاذ التاريخ الحديث، والمحاضرة في جامعة "تل أبيب"، وصاحبة: "اللاسامية الألمانية والفكر القومي اليهودي"، وكذلك الكاتب "م. ماسينج فولف" مؤلف كتاب "إعادة التدمير: دراسة في الفكر اللاسامي في الإمبراطورية الألمانية".
المفكر "يهودا لايب بنسكر"، عرّف "اللاسامية" بأنها مرض موروث لدى شعوب العالم، وأن كراهية الشعوب لليهود مسألة نفسية، وأنها مرض لا يمكن علاجه، لأنه ينتقل من الأب إلى الابن، وان التقدم الاجتماعي مهما عظم لن يقتلعه إلا إذا تغير وضع اليهود جذريا.
لقد أطلق "غوبلز" وزير الدعاية الألمانية في عهد هتلر مقولته الشهيرة: "اكذب، اكذب حتى يصدقك الآخرون"، فعمل اليهود للاستفادة منها، وتتحول أساطيرهم إلى حقائق لا تقبل الأخذ والرد حولها، لتقول إحداها أن "هتلر" دفع بستة ملايين يهودي إلى أفران الغاز وأتون المحرقة، ليصنع من جثثهم مساحيق التنظيف والشمع والصابون.
هناك اصطلاحات غالباً ما تستعمل لتعريف المعاملة التي أنزلها النازيون باليهود، كالإبادة الجماعية أو المحرقة أو الهولوكست، هذه الأخيرة تعني في قاموس "لاروس": "تضحية مألوفة لدى اليهود تأكل النار فيها الضحية كاملة"، وفي تعريفه لمصطلح إبادة العنصر يقول د. عبد الوهاب الكيالي: "هو مصطلح ابتدعه "رافاييل لامكين" للتعبير عن التدمير المتعمّد للعنصر كلياً أو جزئياً وذلك بدوافع التعصّب العنصري أو الديني، وتتضمّن هذه الجريمة قتل أفراد جماعة إثنية معينة وتشريدهم والاستيلاء على ممتلكاتهم والاعتداء عليهم جسدياً ومعنوياً وإجبارهم على اتباع طريقة معينة تؤدي إلى انقراضهم كلياً أو جزئياً وفرض تدابير تمنع توالدهم وتكاثرهم واستمرار جنسهم وخطف أطفالهم بشكل جماعي لإذابة شخصيتهم الإثنية".
تعرف كلمة المحرقة في اللغات الأوروبية، خصوصا الإنكليزية بـ "The Holocaust"، وهي "الحرق كليا بالنار، حينما تكون الضحية في وضع تلتهمها النار بشكل تام". وكلمة "الهولوكست" تعبير ديني يهودي. يعني حرق الضحية حتى الرماد، لكي يستجيب الله للتعويض، ولذلك يقول الحاخامات أن إسرائيل هي رد الله على الهولوكست، فالاستغلال يتم على صعيد مالي. يقول "ناحوم جولدمان": "لم يكن لي أن أتصور قيام إسرائيل لولا التعويضات. […].
ويخصص لضحايا الكارثة، "يوم حداد" خاص في 27 أفريل من كل عام، تطلق في صباحه صفارات الإنذار في جميع أنحاء إسرائيل ولمدة دقيقتين، وتتوقف حركة الحياة تماماً، ليجتمع الآلاف في مقابر "يدفاشيم".
يقول الدكتور إبراهيم علوش: إن أسطورة المحرقة لها ثلاثة جوانب: أولاً إدعاء سياسة الإبادة الجماعية النازية ضد اليهود. ثانياً: إدعاء مقتل ستة ملايين يهودي في الحرب العالمية الثانية. ثالثاً: إدعاء غرف الغاز".
أهم جانب في أسطورة المحرقة هو خرافة غرف الغاز، لأن غرف الغاز هي المكان الذي يفترض أن اليهود قد أبيدوا فيه، فإذا أثبتنا عدم وجود غرف غاز، ستنهار أسطورة المحرقة بكاملها، كقضية سياسية وإعلامية راهنة، لأنها تبرر الحاجة لوجود دولة الاحتلال كملجأ آمن، كما تبرر عدم التزامهم بقوانين الأمم المتحدة والشرائع الدينية والدنيوية، وتعتبر وسيلة لابتزاز الدعم المالي والسياسي من الرأي العام تحت تأثير عقدة الذنب الجماعية التي يعيشها الغرب بسبب المحرقة المزعومة.
اختلفت المصادر الصهيونية في تقدير عدد اليهود الذين قتلوا على أيدي النازيين. فقد جاء في كتاب "اللورد راسل" "الصليب المعقوف والعاقبة الوخيمة" أن عددهم لا يقل عن خمسة ملايين. والرقم الذي عددته اللجنة اليهودية المشتركة هو "5.012.000"، وبلغ عدد المطالبين بالتعويضات نحو "3.375.000"، في حين يقدر الصليب الأحمر عدد اليهود وغير اليهود الذين ماتوا في المعتقلات النازية، بما لا يزيد عن 300 ألف شخص.
لم تبق المحرقة قضية أكاديمية فحسب، بل تكتسب أهمية سياسية أيضا، ومن فوائدها السياسية بالنسبة لإسرائيل:
1- الإدعاء القائل أن اليهود أبيدوا بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ البشري برمته، أو "فرادة موت اليهود"، يجعل من موت أي صهيوني اليوم، أكثر أهمية من استشهاد أي فلسطيني أو عربي أو مسلم. فهذه الازدواجية ملاحظة بوضوح في طريقة تعامل الإعلام الغربي مع موت الصهاينة، وطريقته في التعامل مع قتل الصهاينة للعرب.
2- الإدعاء أن بلدان وشعوب الغرب تتحمل مجتمعة ذنباً جماعياً تاريخياً على جريمة "المحرقة" المزعومة، وترسيخ عقدة الذنب الجماعية هذه في أذهان الغربيين من خلال وسائل الإعلام والمناهج المدرسية، يعد جذرا أساسيا لدعم الرأي العام الغربي لدولة "إسرائيل" والحركة الصهيونية.
أكذوبة غرف الغاز النازية:
قال المؤرخ الفرنسي "روبير فوريسون": "إن غرف الغاز المبيدة للبشر لم تكن قط غير كذبة من تلفيقات الحرب، لقد وجدت في معسكرات الاعتقال لحرق الجثث الموبوءة بالتيفوس، الذي انتشر في أوروبا خلال الحرب، والقسم الأكبر من الجثث التي تعرض صورها، هي صور موبوئين بالتيفوس، وتقدم لنا أجهزة التعقيم المستخدمة في الواقع لتعقيم الثياب بالغاز، على أنها أفران لحرق البشر الأحياء".
سحبت الدكتوراه من المؤرخ الفرنسي "هنري روك" الذي تقدم لنيلها من جامعة "نانت" سنة 1977، والتي حاول فيها أن ينفي وجود غرف غاز مخصصة لتعذيب اليهود في معسكرات الاعتقال، ليتعرض لحملة ضارية في وسائل الإعلام، التي اتهمته بالنازية ومعاداة السامية، فأصدر وزير البحث والتعليم العالي الفرنسي "آلان ديفاكيه" قراراً بإلغاء مناقشة رسالته. لقد أوضح "روك" أن هناك فرقا كبيرا بين غرف الغاز والمحارق الموجودة فعلا في جميع المعسكرات النازية، لحرق جثث المسجونين الموبوئين، بعد انتشار التيفوس والتيفويد والملاريا، أما بالنسبة لغرف الغاز، فلا يشك في وجودها، غير أن الغرض منها هو التطهير، فكانت توضع فيها الملابس والأدوات الشخصية لتطهيرها من الجراثيم، في حين يؤكد أنصار نظرية غرف الغاز أن هناك ملايين من اليهود قد أعدموا في المعسكرات النازية داخل هذه الغرف، فإذا كان حرق جثة واحدة يستغرق ساعتان، فكم يستغرق إعدام الملايين.
التعاون النازي اليهودي (الصهيوني):
تتصرف الصهيونية كما كان النازيون يتصرفون تحت زعامة هتلر، حتى أصبحت هذه الحركة أبشع بكثير من النازية في أهدافها ووسائلها، فيمكن أن ندين فيهما: العنصرية، أو الإيمان بتفوق العرق الآري والنسل اليهودي على سائر الأعراق في العالم، وإعطاء الذات القومية الحق في التوسع العسكري على حساب الآخرين.
أيّـد اليهود على لسان حاخاماتهم، قوانين "نورمبرج" لأنها تسهل لهم عملية "الترانسفير" TRANSFERT ، أي "الهافارا"، وهي الاتفاق الاقتصادي الذي عُقد سنة 1933م واستمر حتى عام 1942م لتهجير يهود ألمانيا إلى فلسطين، وذلك عندما وقّع "هيدرج" الألماني اتفاقا مع مسؤول المنظمة الصهيونية العالمية في برلين، وبمقتضاه حصلت عملية الهجرة ونقل "الرساميل" من ألمانيا إلى فلسطين، ليفتح في أكتوبر من سنة 1933، خطا مباشرا بين "هامبورج" و"حيفا" بغرض تهجير اليهود. وفي سنة 1935 صدرت صحيفة "الأجهزة السرية" الألمانية تقول في افتتاحيتها: "لم يعد بعيداً الوقت الذي تصبح فيه فلسطين قادرة على استقبال أبنائها الذين فُصلوا عنها منذ أكثر من ألف عام". وقد ظل خط هامبورج ـ حيفا يعمل حتى سنة 1942، وأنشئ مكتب خاص للهجرة في "الجستابو" نفسها.
وتكلم الكاتب الأمريكي المعروف "ألفريد ليلينتال" عن هذا الاتفاق في كتابه "الجانب الآخر للميدالية" بقوله: "كان الصهاينة في الأشهر الأولى من حياة النظام الهتلري الممثل الوحيد لليهود، وكانوا على اتصال وثيق بالسلطات الألمانية، حتى توصلت الوكالة اليهودية إلى اتفاق مع السلطات النازية، بحيث تدعم هذه الأخيرة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، مقابل زيادة تعاون الوكالة اليهودية مع الجستابو". وهذا ما كشفه أيضا الباحث "كلاوديوس بوكلنه" في أعقاب نشره لبحثه الشهير: "العلاقات السرية بين النازية والصهيونية 1933-1941".
قال الحاخام "إيمانويل رابينوفيتش" في خطاب ألقاه أمام اجتماع سري استثنائي لرجال الدين اليهودي في أوروبا عقد في بودابست في 12 جانفي 1952: "إننا قد نحتاج في سبيل هدفنا النهائي إلى تكرار العملية المؤلمة نفسها التي قمنا بها أيام هتلر. أي ندبر نحن بأنفسنا وقوع حوادث الاضطهاد ضد مجموعات أو أفراد من شعبنا. أو نضحي ببعض أبناء شعبنا في أحداث نثيرها ونوجهها نحن من وراء الستار حتى نحصل على الحجج الكافية لاستدرار عطف ومؤازرة شعوب أوروبا وأمريكا وبقية العالم من جهة، ولتبرير محاكمات نورمبورغ من جهة أخرى".
إن ما يجب لفت النظر إليه هو "عملية الانتفاء" التي كانت هدفاً رئيساً للمنظمة الصهيونية من أجل بناء الدولة اليهودية، وليس هدفها إنقاذ اللاجئين اليهود! فتعمد إلى انتقاء القليل من جموع اليهود لتهجيرهم إلى فلسطين، من الشباب الذين يستطيعون فهم ما يعنيه "الوطن القومي اليهودي"، حس