الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
كيف نحضر للقرن الحادي والعشرين
بقلم: روجيه غارودي.
نقله إلى العربية: مروان حموي.
( إضغط هنا لقراءة الفصل الثامن والتاسع )
الفصل العاشر
برنامج عملي
أولا : مؤتمر باندونغ جديد .. للعالم الثالث .
هذا هو البديل الذي نقترحه ، كي يتمكن القرن الحادي والعشرون أن يرسم نهاية لحيوانية الإنسان في عصور ما قبل التاريخ . إن غنى أقلية صغيرة ، في عالم مقهور ، يقود إلى التبعية والاستغلال ، أو موت القسم الاعظم من الإنسانية .
1ـ لا يمكن لإحياء الوحدة الإنسانية أن يتحقق يتحقق بالطريقة التي تمزقت بها : بالعف والسلاح ، إنما بواسطة تضافر كل القوى الإنسانية ، وبشكل خاص قوى الاقتصاد والثقافة والايمان .
2ـ يعود القسم الاعظم من ضعف الشعوب المعاصرة المضطهدة ، إلى انقساماتها ، بسبب العقبات والحروب التي أثارها وغذاها سادة العالم الفعليون . ويجب أن ينصب الجهد الاساسي المطلوب على المفاوضات الهادئة لوضع نهاية لكل الصراعات التي هي لعبة الطغاة .
3ـ لابد من رفض جماعي لتسديد الديون المزعومة إلى صندوق النقد الدولي . ولهذا الموقف ثلاثة أسباب :
أ ـ من هو الطرف الدائن ؟
إن الغرب هو المدين للعالم الثالث بدين مرعب .
ـ من يدفع للبيرو " قيمة 185000 " كيلو غرام من الذهب " 16 " مليون كيلو غرام من الفضة التي اعترفت شركة " كازا كونتر كاسيون " في سيفيل أنها نقلتها ما بين عامي 1503 و 1660؟
ـ وبشمولية اكثر ، من دفع للهنود ثمن قارتهم باكملها والتي اغتصبها الغزاة ؟
ـ من سيعيد ترميم الهند القدية ، أعظم مصدر عالمي للنسيج ، اثمان ملايين الاطنان من الاقطان اخذت من المنتجين بأسعار تماثل الابتزاز بالعنف ، ومن سيعوض تدمير مشاغل النساجين الهنود لصالح المصانع الكبرى في لانكشاير ؟
ـ من يعيد لافريقيا حياة الملايين من أبنائها الاقوياء الذين نقلوا إلى أمريكا عبيدا ، بواسطة تجار الرقيق الغربيين وعلى مدى ثلاثة قرون ؟
2ـ ما هو سبب هذه المديونية ؟
دمرت بلدان الاستعمار القديم ، الاقتصاد الوطني في البلاد التي استعمرتها ، وبشكل خاص زراعاتها الحيوية لصالح زراعة نوع واحد أو إنتاج واحد ، ليشكل زائدة أو ملحقا باقتصاد الدولة المستعمرة ، ولمصلحتها بشكل مطلق . ولم يستطع هذا الشكل من الاقتصاد ، المحافظة على استقلال هذه البلدان ، ولا على كفايتها الذاتية من الغذاء ، ولا على اليد العاملة في صناعات لا تحتاجها البلاد .
وهكذا تواصلت التبعية ، وأصبحت القروض امرا لا مفر منه .
3ـ لقد جرى تسديد هذه القروض منذ زمن طويل عن طريق الفوائد الربوية التي دفعت للمقرضين الاجانب ، فقد دفعت الجزائر مثلا 6 مليار دولار سنويا فوائد قروض بلغت 26 مليار دولار . ومن المستحيل بهذا الشكل الوصول إلى أي تصحيح لهذا الوضع ، وهنا يكمن المصدر الاساسي لفكرة اكتمال سداد هذه القروض .
لقد تجاوزت المبالغ التي دفعناها فوائد للقروض ، ومنذ زمن طويل القيمة الاصلية لها . أما المساعدات المزعومة فهي أقل بكثير مما سدد من هذه القروض .
ـ لذلك نحن نرفض أن نخضع للابتزاز ، وأن ندفع إلى صندوق النقد الدولي هذه الديون المزيفة ، وما ترتب عليها من فوائد ربوية .
ـ كما نرفض المساعدات الزهيدة ، والهادفة لتمويه هذا الظلم المميت عبر مئات السنين .
ـ وسوف نؤسس مع إلغاء الديون وفوائدها ، صندوق تضامن ودعم ، يعوضنا بشكل واسع عن (المساعدات) المزعومة التي يقدمها مستغلونا .
4ـ نحن نعارض كل أشكال المقاطعة المفروضة بشكل تعسفي من قبل سادة العالم المؤقتين ، على البلدان التي ترفض هيمنتهم .
ولن نقيم لها بعد اليوم وزنا ، وسنبدأ التعامل بحرية مع إخوة لنا تأثروا بهذه المقاطعة .
5ـ ونقرر ، وبشكل أكثر شمولية ، ايجاد سوق مشتركة لشعوبنا ، ومضاعفة التبادل بين الجنوب والجنوب ، والذي تحتفظ بلدانه بـ 80 % من المصادر الطبيعية في العالم .
وسوف نتعامل في ميدان التبادل ، على قاعدة المقايضة كي نتجنب تماما النقد الشمالي ، وبشكل خاص الدولار ، ساهرين على ذلك ، كي نضع بشكل تدريجي نهاية للمضاربات ، إذ لا مكان لها في بلداننا ، وبانتظار أن نوجد نحن عملة مشتركة .
6 ـ ويتطلب هذا الموقف مقاطعة منهجية للولايات المتحدة وأتباعها ، وبشكل خاصة إسرائيل ، الدولة المرتزقة لدى الغرب ، والتي يستخدمها ضد ثقافاتنا وضد السلام .
فنحن نريد أن نضع حدا للسيطرة الاقتصادية ونها ية للعدوان الثقافي .
وسنناضل أيضاً ضد " اللاثقافة " التي تعززها مسلسلات الديناصورات الطفاة ، و" قتلة " هوليود وكذلك لعبهم الفارغة ، وكل الظواهر الاخلاقية والمادية لانحطاطهم .
7 ـ ويتطلب هذا الموقف ، سياسيا ، الانسحاب الجماعي من كل المنظمات المزعوم أنها عالمية ، والتي اصبحت اداة بيد دولة واحدة مهيمنة ، لتغطية اعتداءاتها العسكرية والاقتصادية والثقافية : الأمم المتحدة ، صندوق النقد الدولي ، البنك الدولي ، منظمة التجارة العالمية " الغات سابقا " ، وكذلك الانسحاب من المنظمات التي انبثقت عنها ، لانها أصبحت مثلها أداة تآمر لفرض الهيمنة على العالم ، وتحمل مفاهيم تحط من قدر الإنسان ، إذ تنظر إليه كمستهلك ومنتج فقط ، لا تحركه إلا مصالحه الخاصة ، وترفض أن تعطيه معنى آخر غير العمل كرقيق ، من أجل أن يستهلك اكثر ، عندما لا يكون عاطلا عن العمل أو مستعمرا ، أو معزولا .
8 ـ سوف نقاوم معا أي اعتداء أو تهديد على أي منا . سنقاوم بكل الوسائل ، وبالمجتمع الدولي كله .
9ـ لا تطبق هذه الجماعة الإنسانية ، المتطلعة لانشاء عالم بوجه إنساني ، أي عزل ديني ، أو سياسي ، لانها تهدف اساسا إلى خلق وحدة غير استعمارية ، ولكنها منسجمة في انسانيتها . وسيحمل كل شعب ، وكل جماعة إلى هذه الوحدة غناه الخاص في أرضه وثقافته وايمانه .
والباب مفتوح أمام الرسميين في الدول ، الذين يشاطروننا فكرتنا الإنسانية ، كما هو مفتوح أمام الاقليات المضطهدة ، بشرط الاعتراف لكل بلد بوحدته على اساس مبادئنا العامة .
كان الهدف الرئيسي لمؤتمر باندونغ الأول ، رفض عالم ثنائي القطبين ورفض الانحياز لاحد المعسكرين ، وحماية استقلال كل بلد من بلدان عدم الانحياز وسيبقى هذا الهدف هدفنا .
ولكن الظروف التاريخية تبدلت ، فنحن اليوم نعيش عالما احادي القطب ، وعلينا بذلك أن ندافع عن هوياتنا وثقافاتنا واقتصادنا ضد التكاملية التي توطئ للطامعين بالهيمنة على العالم من خلال وحدانية السوق ، أي حرية الاقوى في التهام الاضعف ، ليجعلوا من السوق ، أي من المال ، الناظم الوحيد للعلاقات الاجتماعية .
نحن نرفض النظر إلى العالم بدون الإنسان ، والى الحياة بدون مشروع انساني وبلا معنى ، وسوف نتوحد لنبني عالما من " الأمم المتحدة " غنيا بتنوعه ، مطمئنا لمستقبله ، من خلال امتزاج الشعوب والثقافات في ايمان واحد ، نغذيه بتجربة كل شعب وحضارته ، تتفتح فيه الحياة باستمرار وفق مشروع شامل يعطي كل طفل وكل امرأة وكل رجل مهما كان أصله ، وتقاليده الخاصة ، كل الوسائل لتبرز بشكل كامل كل إمكانياته الإنسانية التي يحملها بين جنبيه .
* * *
ثانيا : وحدة عالمية متناغمة ومنسجمة ـ مشروع لأوروبا .
إن السياسة الوحيدة اليوم التي يمكن أن يكون لها مستقبل هي التي ستحل المشاكل الاساسية المطروحة أمامنا :
ـ البطالة .
ـ الهجرة .
ـ الجوع في العالم .
ـ مع كل التبعات الاخلاقية الناتجة عنها !
ـ ويجب ملاحظة :
ـ أن هذه المشكلات لا تعمل إلاّ متضافرة ، وكأنها مشكلة واحدة .
ـ أنهم لا يقدمون لنا إلاّ الحلول الخاطئة .
إن القولين الاكثر خداعا هما :
ـ قولهم أن هذه المشاكل ستحل عن طريق التنمية .
ـ قولهم أن هذه المشاكل ستحل عن طريق أوروبا .
إنها الاكاذيب الاشد قتلا .
1ـ لن تحل التنمية أيا من مشاكلنا الحياتية :
فالولايات المتحدة ، والاحزاب السياسية في البلدان الغربية لا تلامس هذه المشكلات أبدا ، لانها مأخوذة منذ خمسة قرون بأوهام التنمية ، أي تحقيق إنتاج أكبر واكبر ، وبسرعة أشد وأشد ، لاي شيء ، مفيدا كان أو غير مفيد بل أحيانا يكون مميتا " كالسلاح والمخدرات " .
وتقدم لنا هذه التنمية عبر وسائل الاعلام ودروب السياسة وكأنها الترياق من الازمة ، ومن البطالة . لكن التنمية التي تحققت منذ عام 1975، ومن خلال زيادة الانتاجية بفضل التطور العلمي والتقني ، لم تخلق فرص عمل جديدة ، وإنما فعلت العكس ، أي أنقصت فرص العمل عندما استبدلت عمل الإنسان بعمل الآلة . لنذكر مثالا على ذلك : أنتجت بلجيكا عام 1980 / 10 / مليون طن من الفولاذ، عمل فيها 40000 عامل ، وأنتجت عام 1992 ، 5 , 12 مليون طن بـ 22000 عامل فقط .
لقد دفعت التنمية إلى الامام بسبب زيادة الانتاجية ، بفضل العلم والتنمية الذين سمحا باستبدال قسم كبير من العمل الانساني بالآلة . والآن ، سيستبدل قسم آخر ، وربما أكبر عن طريق تطور المعلوماتية والانسان الآلي " الروبوت " .
مثلا : لقد زادت الانتاجية بسبب هذين الاكتشافين 89 % وهي فرصة للانسان لتوفير الجهود الاكثر تكرارا . ولكن ما بقي سيئا أن ساعات العمل لم تنخفض وتضاعفت البطالة عشر مرات .
وهذا يدل أن التنمية الانتاجية لم تخدم مجموع البشرية ، وإنما خدمت فقط مالكي وسائل الانتاج .
إذن ، ولكي تكون هذه التنمية مفيدة للجميع ، لابد من ربط ساعات العمل تطور الانتاج .
وسيكون عملا خيرا ، إذا لم نربط الزيادة في أوقات الفراغ ، " بسوق أوقات الفراغ " ، الذي يحول وقت الفراغ إلى وقت " فارغ " ، فارغ من الإنسانية من خلال ألهيات يقدمونها لنا ، لا تؤدي إلى ازدهار ثقافي أو مادي .
وبدلا من أن يساعد هذا الحيز من الحياة الإنسان كي يكون إنسانا أي مبدعا وخلاقا، يتجه ـ بفضل نظام السوق ـ لجعله عاطلا عن العمل ، وفي أحسن الحالات مستهلكا .
ليس هناك صلة بين التنمية والبطالة .
ففي فرنسا مثلا :
العام | معدل النمو | عدد العمال العاطلين عن العمل | نسبتهم إلى القوة العاملة |
1991 | 7 , 0 % | 2348000 | 4 , 9 % |
1992 | 1,4 % | 2500000 | 4 , 10 % |
1993 | 1 % | 2900000 | 6 , 11 % |
1994 | حتى نيسان | 3200000 | - |
وهي أرقام صادرة عن جهات رسمية .
ولا يفهم من ذلك ، أننا معادون للتنمية ، أو لتقدم العلوم والتقنيات ، مادامت تعمل على تخفيض جهد الرجال والنساء ولا تقود إلى عبوديتهم أو انحرافهم، مثلما حدث في " الاعلام السريع " الذي يسخر للتلاعب بالرأي العام خدمة للهيمنة الأمريكية .
ولكن التنمية ، وزيادة الانتاج ، حتى مع التدابير التي نقترحها لن تحل مشاكل البطالة . حتى ولو حاولنا أن نوفق فيما بينها ، عن طريق ضغط الاجور ونفقات الضمان الاجتماعي ، كما تريد الحكومة وأصحاب العمل ، فقد نستطيع ـ على الاكثر ـ أن نكسب بعض أجزاء السوق من خلال المنافسة الاوربية والامريكية واليابانية . ومع ذلك سيبقى هناك ذرائع أخرى تدعو للسخرية .
2ـ الكذبة الاخرى ـ بعد ترياق التنمية ترياق أوروبا .
لن تحل أي من المشاكل الحيوية في إطار اوروبا .
لقد وعدونا أنه مع " أوروبا " سيكون لدينا سوق تلبي حاجات 300 مليون زبون ، وتناسوا القول أن ذلك سيستدعي وجود 300 مليون متنافس في " سوق " العمالة ، لأن الاقتصاديات الاوروبية ليست متكاملة وإنما متنافسة ، إلى جانب منافسة الاقتصادين الأمريكي والياباني .
أيعني هذا أن البديل الوحيد لأوروبا ، هو الانكفاء الوطني ، لفرنسا مثلا ، لتغلق على نفسها أسوار الحماية ؟
والعكس ، لأن ذلك سيكون الاختناق بعينه .
إن الحل الوحيد المحتمل ، هو الانفتاح على العالم في شموليته . لقد مضي 500 عام على الاستعمار وخمسون عاما من تأسيس صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ومازال العالم ينوء كثيرا تحت عبء اقتصاد مشوه ، بعد أن نهب الغرب ثروات ثلثي سكان العالم ، فتركهم في فقر مدقع ، وسيبقون متاخمين لحدود المجاعة والبطالة . وبين الاثنين ستبقى الهجرة طريق العالم من المجاعة إلى البطالة . حتى لو قسنا الامور بمعايير السوق فقط ، فكيف نأمل أن نوفر العمل لأفراد بينما ملايين البشر لا يملكون الحد الأدنى لشراء غذائهم .
إن الحل الوحيد الممكن للاستجابة لجوع البعض ، وبطالة الآخر ، والرد على هجرة الجياع في بحثهم الخادع عن عمل ، يكمن في التغيير الجذري في علاقاتنا مع العالم الثالث ووضعنا نهاية لسيطرة الغرب ، وتبعية الجنوب ، لأن هذه التبعية هي التي تولد التخلف .
نحن نعيش في عالم مجزأ ، بين الشمال والجنوب ، وبين الذين يملكون والذين لا يمكون في الشمال نفسه ، وكذلك في الجنوب . ويسيطر 30 % من سكان الأرض على 80 % من المصادر الطبيعية في هذا الكوكب ، ويستولون على 83 % من عائدات العالم . أما 20 % من سكان العالم الاكثر فقرا فلا يتجاوز نصيبهم من العائدات 4 , 1 % فقط .
ويموت بسبب هذا الانقسام ، 40 ألف إنسان يوميا ، نتيجة سوء التغذية أو الجوع . ويكلف نمط التنمية الغربي العالم من الاموات ، كل يومين ، ما يعادل ضحايا قنبلة هيروشيما .
وتتسع الهوة يوما بعد يوم ، إذ ارتفعت نسبة التباعد بين الدول الغنية والدول الفقيرة ، خلال ثلاثين عاما ، من واحد إلى ثلاثين ، لتصبح واحدا إلى مئة وخمسين .
وبعد أن تمكن الاستعمار خلال 500 عام ، ونظام بويتون وودز خلال 50 عاما ، من خلق هوات لا قرار لها من عدم المساواة بين الشعوب ، أصبح نظام التبادل كافيا لتعميق الهيمنات والتبعيات .
كيف نقلب الانحرافات الحالية ؟
أولا : عن طريق تحطيم الاسطورة التي تعمد " ديمقراطية " حرية السوق ، لأن السوق الحرة تقتل الديمقراطية بسبب تراكم الثروة في قطب واحد ، والبؤس في قطب آخر .
ويتطلب هذا الأمر مجموعة من القرارات السياسية الهادفة إلى التحرر من خدعة عولمة الاقتصاد ، أي من الادارة الأمريكية التي تعمل على جعل فرنسا ، وكذلك أوروبا ، وكذلك بقية العالم ، مستعمرة تفتح الطرق للاقتصاد الأمريكي في كل القطاعات : من الزراعة الغذائية إلى الملاحة الجوية ، ومن الاعلام إلى السينما .
وفي كل يوم تزداد وضوحا حقيقة أن معاهدة مايستريخ هي سبب رئيسي للشرور ، ليس فقط للمزارعين " إذ تطالب المعاهدة بترك مساحات غير مزروعة " ، وإنما لكل العاملين ، فتشجع بذلك تحت زعم المنافسة الاوروبية ، على الوصول إلى تسوية عن طريق تعديل شروط العمل ، باسم المرونة . وهي تريد بذلك أن تلغي كل صناعاتنا ، من الطيران إلى المعلوماتية ، وأن تهين ثقافتنا بغزو تقوده السينما الأمريكية والتلفزيون الأمريكي .
كما تريد أن تجعل من جيشنا ملحقا بجيشها يشاركه التدخل في البلدان الاخرى . وتدعي معاهدة ما يستريح في ثلاثة مواضع من نصوصها ، أن أوروبا لا تستطيع إلاّ أن يكون " الركيزة الاوربية لحلف الاطلسي ".
أما ما يتعلق بالاقتصاد فقد نصت المادة 301 من القانون الأمريكي على حق أمريكا بحماية منتجاتها الوطنية ، بينما تفرض اتفاقية الجات (المسماة فيما بعد بالمنظمة العالمية للتجارة) ، التبادل الحر على كل البلدان الاخرى ، والذي يفسح المجال لكل المنتجات الأمريكية .
وجاء قانون هلمز ـ بورتون 1996 ، وقانون أماتو ـ كنيدي الذين أقرهما نفس الكونغرس الأمريكي ، طمعا في منع كل المجتمع الدولي من المتاجرة مع بلدان يحددها الكونغرس وحده . ووحدها أصبحت الولايات المتحدة تشرع للعالم كله .
ولا بد من بروز مقاومة جديدة ، لا للتخلي عن مايستريخ فقط ، ولكن للانسحاب أيضاً من صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ، وكل المنظمات الاخرى التي تستخدم أداة في يد الارادة الأمريكية في الهيمنة على العالم .
وانطلاقا من ذلك كله ، لا بد من استعادة حريتنا لبناء علاقات جديدة كل الجدة مع العالم الثالث ، بالاضافة إلى هدف محدد وهو تشجيع الشعوب الاوربية الاخرى لسلوك نفس الطريق .
ويتطلب بناء العلاقة الجديدة :
1 ـ إلغاء تام للقروض ، إذ ليست واقعية ولا مبررة .
2 ـ إلغاء كل المساعدات المالية لحكومات العالم الثالث .
مثلا :
يبلغ حجم ميزانية التنمية / 40 / مليار فرنك فرنسي ، وهو حجم ميزانية المساعدة العامة في فرنسا ، الهادفة رسميا إلى دعم البلدان الاكثر فقرا في العالم . والواقع أن 95 % من هذا المبلغ الضخم لا يشكل مساعدة فعلية لهذه البلدان ، ولا يحقق تنمية فيها، ولكنه في أحسن أحواله ، يفرغ جيوب المكلفين الفرنسيين بالضريبة ، ليملأ جيوب بضعة من المستفيدين الحكوميين (في الشمال وفي الجنوب ) . والأسوأ من ذلك أن توجه هذه المساعدات للقتل .
ونورد هنا أمثلة حديثة عن الكيفية التي تستخدم بها المساعدات :
ـ رواندا : جرى تمويل حكومة القتلة هناك إلى الحد الذي مكنها من الاستمرار ، ثم تم تمويل عملية توركواز ، لتسهيل وصول القتلة إلى زائير في محاولة لتحضير عمليتهم الثأرية .
ـ الجزائر : قدم لحكومة الجزائر التي نصبت نفسها وألغت الانتخابات بشكل غير شرعي ، ستة مليارات فرنك فرنسي . وقد بيع للحكومة نفسها طائرات هيلو كوبتر ( وهي السلاح الأمضى ضد حرب الغوار ) .
3ـ لهذا يجب أن لا تقدم القروض الحكومية والخاصة ، إلى الحكومات ، وإنما مباشرة للمنظمات القاعدية ( مثل الاتحادات التعاونية ، النقابات ، والمجموعات الانتاجية ، وأحيانا تأسيسها ) ، ولمشاريع محددة وذات نفع عام ، مع تفضيل الاقاليم الزراعية لتحقيق الاكتفاء الغذائي الذاتي ( أجهزة زراعية ، حفر آبار ، بناء طرق ومستثفيات ومدارس … الخ) .
4 ـ قبول سداد القروض بالعملة المحلية لتشجيع إعادة الاستثمار في البلد نفسه ، بدلا من عودة رؤوس الاموال المستثمرة إلى الوطن .
5 ـ العمل على تحقيق مقايسة شريفة بين أسعار المنتجات المباعة من دول الجنوب ، مع أسعار المنتجات المباعة إليها من دول الشمال .
6 ـ الوقوف في وجه عملقة المشاريع ، التي تسعى إليها الشركات الكبرى . ثم احترام التاريخ ، وثقافات كل الشعوب ، والاستخدام الاوسع للتقنيات الوطنية التي غالبا ما تكون فاعلة لملاءمتها للاحتياجات المحلية . سيكون التطور بهذه الشكل داخليا بدل أن يكون تصفحا من الخارج لا صلة له بالبلد أو حاجاته الحقيقية ، أو أن يكون على النمط الغربي اتت به الشركات الاجنبية الكبرى خدمة لمصالحها .
وقد يؤدي هذا التكيف الضروري في الصناعة استجابة للحاجات الحقيقية للجنوب ، إلى تحقيق تكييف لعقلياتنا نحن أيضاً ، استجابة لمصالحنا الحقيقية ، لا للسلاح أو ألهيات قتل الفراغ بلا جدوى .
7 ـ أما ما يتعلق بمصادر الطاقة فيجب أن نعطي الافضلية دوما (إلا في حالة الاستحالة المطلقة) لمصادر الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية وغيرها .
أنستطيع أن نتحدث عن السوق العالمية ، وأمامنا ثلاثة مليارات من اصل خمسة مليارات ، لا يستطيعون تأمين قوتهم اليومي.
أيمكننا ، نتحدث عن سوق عالمية تلبي فقط احتياجات الغرب ، وتنسجم مع ثقافته ، الغرب الذي لا يفعل سوى أن يصدر فائض منتجاته إلى العالم الثالث ؟
هل علينا أن نقبل بحتمية استمرار عدم التوازن في علاقات العالم باعتباره واقعا لا يمكن تجاوزه ، واقعا يؤدي إلى مظاهر العنف ، والتعصب القومي والاصولية ، دون أن نتساءل عن المسببات الحقيقية لهذه الفوضى العالمية ؟ .
1ـ علينا أن نعمل على خلق عولمة حقيقية بدلا من العولمة الاقتصادية الكاذبة التي ليست إلاّ إرثا خلفته الهيمنة الاستعمارية بقيادة الولايات المتحدة .
2ـ وضد أوهام التنمية العمياء التي تنبثق من اقتصاد السوق الذي يتحكم بكل العلاقات الاجتماعية ، لابد من العمل بالتصحيح الضروري الذي يسمح لنا بالوصول إلى الاشتراكية كما عرفها ماركس : إعطاء كل الأطفال ، كل النساء ، كل الرجال الوسائل الاقتصادية والسياسية والثقافية لتحقيق تنمية حقيقية ، وبشكل كامل ، لكل الغنى يحملونه بين حناياهم .
الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
الخاتمة
الخاتمة
تهدف هذه الافكارالمبعثرة إلى التحضير للقرن الحادي والعشرين كي يمكن العيش فيه حتى النهاية ، إذ لو تابعنا العيش حسب الانحرافات القائمة ، نكون قد بدأنا تدمير البشر : مليارات من الناس ستموت جوعا في جنوب الكوكب ، حيث يكلفنا نمط التنمية الغربية كل يومين ما يعادل ضحايا هيروشيما .
وفي بلادنا ـ أوروبا ـ سنشاهد أحياء بلا هدف ، وحياة بلا أفق ، إذا لم نضع حدا لهذا الانفصام الذي يشهده العالم بسبب تزايد البطالة والتسريح ، والعنف والمخدرات .
ويعتبر هذا الكتاب دعوة لمقاومة اللامعنى، ولبناء عالم من الأمم المتحدة ، مبنيا على مبادئ أخرى ، غير المبادئ التي قادت الغرب بكامله إلى الانحطاط ، وقادت العالم إلى المعاناة .
في النصف الثاني من هذا القرن ماتت الآمال ، بعد حربين قتلتا 80 مليون إنسان ، وبعد فشل ثورة ، أعطت ، فوق خرائب الحرب الأولى ، بوادر أمل للبشر ، وقدمت خلال الحرب الثانية اكبر نصيب من البطولة والتضحية بغية قهر الوحش النازي . ولكنها خانت الاشتراكية عن طريق تقليد نمط التنمية في الغرب ، ومركزية بيروقراطية جنونية.
والوهم المئوي " بحلم أمريكي " ، قد تحول إلى " كابوس أمريكي " بسبب رغبة القادة الأمريكيين في الهيمنة على العالم ، والافراط البربري في إنتاج السلاح وامتلاكه ، وخبث مبدأ الليبرالية الاقتصادية المفروضة على كل الشعوب .
وكذلك بإسباغ صفة الشيطانية على ما أسموه " امبراطوريات الشر" المتتابعة ، كي يبرروا تحت زعم الصراع ضد الارهاب ، إرهاب الخاص ، وجرائمهم ضد الإنسانية : بحق الهنود ، والافارقة ، وفيتنام ، وكذلك الحصار المفروض على كوبا وليبيا وايران والعراق ، العراق الذي تحمل وفاة 250 ألف طفل ، حسب أرقام الصليب الاحمر الدولي .
وفي الولايات المتحدة ، يموت طفل من كل ثمانية ، جوعا لأنه لا يجد ما يأكله . هؤلاء المدافعون عن حقوق الإنسان ، بالاضافة إلى الجرائم ضد البشرية في الخارج ، يحتفظون لانفسهم باكثر الارقام العالمية مدعاة للحزن في استهلاك المخدرات ، وانتحار المراهقين ، والجريمة ، والفساد . أما السينما لديهم فتتستر على كل ذلك ، فتقدم لنا في ظل ديكور حالم ، ضراوة أسماك القرش في مسلسلات دالاس وواقع العنف لدى الديناصورات ، والترمنيتور الماحق .
أما وسائل الاعلام ، والتلفزيون والاعلام السريع ، فهي شعاع الموت الذي يدمر على مستوى العالم ، الفكر النقدي ، وثقافة الايمان ، والامل والحب لدى خمسة مليارات انسان .
ويقصد هذا الكتاب إلى التدليل على أن نهضة الإنسانية أو على الاقل استمرارها يتطلب بناء المستقبل على أسس أخرى .
يجب أن لا يتضمن كشف الحساب كشف حساب هذا القرن ، فشلا لماركس الذي خانوا اشتراكيته ، إنما فشل آدم سميث الذي تهددنا ليبراليته التي دفعت إلى أقصى مدى لها ، تهددنا بانتحار كوني.
كيف نستطيع فتح أفق جديد ، مستقبل جديد بوجه انساني من خلال ساحات الدمار الذي أنتجته حيوانية ما قبل التاريخ مع نهاية هذا القرن ؟
لابد لنا من البحث عن الخطأ في توجه عقارب التاريخ .
كان الانفصال الأول للغرب ، مع سقراط (الذي ابتدأ معه الانحطاط كما يقول نيتشه ) ، وتلميذيه أفلاطون وارسطو . الذين أفسدوا ، خلال ألفين وخمسمائة عام التاريخ الثقافي للغرب من خلال " فلسفة الكائن " أساس كل الهيمنات .
وقد جربنا أن نستعيد مسيرة فلسفة " الفعل " ، وهي مسيرة باقي الإنسانية برمتها منذ اكتشاف الادوات الاولى ، ومنذ حفر القبر الأول ، ومنذ الحلم الأول بحياة خلاقة متحدة .
وكان الانفصال الثاني للغرب ، أيام الصليبين ، وفتوحاتهم المتكررة ومحاكم التفتيش ضد كل حكمة الشرق .
وكان الانفصال الثالث ، بدءا مما سمي بعصر النهضة ، حيث استخدموا الاكتشافات العلمية والتقنية التي حققها الشرق ( مثل البوصلة ، والدفة المحورية في السفن ، والبارود والطباعة) ، وجعلوا منها أدوات لغزو الشعوب والنفوس . وابتدأ عام 1492 ، بعد الاستبعاد الاخير لثقافات الشرق ، بالاستيلاء على غرناطة ، وغزو وتدمير ثقافات أمريكا الهندية ، تعطشا للذهب بدءا من كريستوف كولومبوس .
هذه هي مسيرة 2500 سنة من فلسفة الهيمنة التي تدعونا لأن نطرح مسألة فتح آفاق جديدة للانسان ، ونقترح بديلا للوحدة الاستعمارية للعالم : وحدة متناسقة ، داعين حكمة العالم الثالث وثقافته لوضع الإنسانية من جديد في الدرب الواسع للاخصاب المتبادل بين كل الثقافات، وللانتهاء من الاهداف القاتلة للمركزية الاثنية الاوروبية ، ومن الهيمنة .
استدعى ذلك أن نجد معايير أخرى للتقدم غير القوة التقنية ، وقوة الثروة ، والناتج الوطني الاجمالي ، لنتمكن أن نحدد من خلال هذه التعابير، لا من خلال النمو الاقتصادي ، وإنما من خلال ازدهار الإنسان .
كما استدعى الأمر ، في المستوى اللاهوتي ، أن نعيد للانسان بعده الاساسي : التعالي ، منظورا إليه ، كالظاهر من إله ملك ، يدير من الخارج ومن الاعلى مصير البشر والامبراطوريات ، إنما كانبثاق جديد جذريا ، بفعل خالق الإنسان ، مع الوعي ( ونستخدم إلها . ويجب أن نتوقف عن الاحكام المسبقة التي تقول بأن التاريخ المقدس ، هو تاريخ قبيلة واحدة ، بينما يكشف هذا التاريخ عن جذوره لدى كل عائلات الأرض ، وفي كل الثقافات والحضارات من أمريكا الهندية إلى أفريقيا إلى آسيا .
وعلى المستوى الاخلاقي افترضنا ضرورة ، إجراء قلب عميق ، في دراستنا للعمل الانساني الخلاق . لم نقصد أن نقلل من جمال النمط الغربي لانجازات اليونان أو عصر النهضة في القرن السادس عشر، وإنما اردنا أن نخرج من متاحف الاجناس ، أقنعة البولونيز وأفريقيا ، والاعمال النحتية والفن المعماري لهنود أمريكا ، وأن نتعرف من جديد على الابعاد النبوية للوحات الصيد في عهد سونغ ، والنداءات الداخلية لبوذا أو بوديساتغلس في جنوب آسيا .
هكذا فقط تستطيع الفنون أن تخرج من " أخاديد المحاكاة " التي وضعها فيها أرسطو، والتي لم تقيم من خلال معايير المنظور والتشريح منذ عصر النهضة (ولا الحذلقة التي تعاقبت لدى الاساتذة خلال ثلاثة قرون) . وكذلك الخروج من الاخدود الآخر وهو الرفض لمجرد الرفض والتمرد اللذين قادا إلى انحطاط فن وصفوه " بالمعاصر" ، وهو فن ظنوا أنه يكون حديثا بقدر ما يكون جاهلا بالماضي. وقد وصل بهم الأمر أن يطلقوا اسم لوحة أو منحوتة على ما يشبه أرضا بور تلقى فيها القمامة، وأن يستبدلوا تاريخ الموسيقى بالضجيج ، والرقص بحركات هستيرية فارغة من كل دلالة انسانية .
قال جوان جري ، وهو أحد الرسامين الاكثر تجديدا في عصرنا ، ورائد من رواد المدرسة التكعيبية : " تعتمد عظمة الفنان على قوة الماضي الذي يحمله في داخله : ليس بغرض محاكاة القدماء ، وحفظ تقاليدهم ، بل كي تستمر الشعلة النبوية التي حملها العظماء منهم لانارة الامكانيات المتجددة دائما في إنسانية الإنسان " .
ويستدعى ذلك أيضاً ، في المستويين الاقتصادي والسياسي ، تحطيم أصنام زعم أنها " علوم إنسانية " ، التي نسخ أسلوبها عن أسلوب علوم الطبيعة ، فنتج عن ذلك مفهوم مهين للانسان: " الإنسان كائن اقتصادي " . فهو بذلك لن يكون إلا منتجا أو مستهلكا ، تحركه مصالحه الخاصة . إنها مسألة قاتلة ، شأنها شأن " الاقتصاديين " الذين يحاولون من خلال حاشية أو تعليق رياضي خداع وعويص ، إعطاء المظهر العلمي ، لايديولوجيا مهمتها استمرار النظام القائم .
ويعني قلب المنظور ، إعادة البحث ، كي نتعلم من كل المفاهيم الاخرى للانسان ، التي ولدت في أحضان الثقافات الاخرى ، الوسائل كيف نخلق شروطا تقنية واقتصادية وسياسية وروحية ، تلائم الجميع ، وتسمح لكل كائن إنساني (رجل أو امرأة) أن يصبح اكثر انسانية ، أي " شاعرا " ، بأعمق معاني الكلمة ، أي خلاقا لإمكانيات جديدة للمستقبل .
هذه هو الهدف الذي سعينا لتثبيته ، وهو يتجاوز بهذا الشكل امكانياتنا ، لأنه ليس حتى الآن إلا اقتراحات متناثرة ، ليس لها من طموح إلا المساهمة في نشر نظرتنا إلى العالم ، إلى أن تتمكن نفوس أرحب مدى ، وتعمل من خلال تفاعل الحبث والايمان ، على بناء عالم إنساني .
في نهاية كشف الحساب هذا ، وفي نهاية هذه الدراسة التي تجمع بين العرض والاقتراحات المستقبلية ، وصية لحياة ، حاولت أن تتمائل مع حياة القرن الآفل، من خلال " فلسفة الفعل " التي قادني البحث فيها لأن اشق طريقي عبر " الفعل " المسيحي عند موريس بلوندل ، والجهد الجبار لماركس ، والرؤية الديناميكية للعالم في القرآن الكريم ، وما يسيطر على من الاحساس باقتراب حياتي الشخصية من النهاية هو أقل بكثير من شعوري بالسعادة التي تغمرني لأني استشف الملامح الأولى لحياة جديدة للقرن الذي سيولد والذي ربما لن أراه .
30 ـ آب ـ 1996
روجيه غارودي
ملاحظة
ليس هذا الكتاب خطاب تأبين ورثاء ، ولا صلاة جنائزية بسيطة على حضارة قضت نحبها ، حضارة الغرب الذي يوحي اسمه ، ببلاد تغرب فيها الشمس ، بلاد الغسق الآفلة .
وفي الشرق ، في البلاد التي تشرق فيها الشمس ، بلاد الفجر التي بدأ النهار فيها يبزغ . إنه السابع من أيار 1996 في بكين . وسصف المجلد الثاني من هذه السلسلة venre du large، ورشة العمل التي افتتحت منذ ثلاث سنوات ، من أجل هذا الامل بوحدة متناسقة للعالم ، انطلاقا من طريق الحرير الجديد الممتد من شنغهاي إلى نوتردام ، انطلاقا من حضارة استوائية نلمسها في الامازون ، ومن " الصحراء " التي كانت قبل عشرة الاف عام غابات ومراع ، والتي يمكن أن ترتدي حلة خضراء في عشر سنوات .
لم يخصص سطر واحد في صحفنا ومجلاتنا ، واذاعاتنا ، ومحطاتنا التلفزيونية ، لهذه الولادة ، ولادة " عالم جديد " حقيقي .
وسيكون الكتاب الثاني من مجموعتنا عمل جماعي وضعه (صينيون وايرانيون واتراك ، وهنود وماليزيون وغيرهم ) وسيكون عنوانه :
لقد بدأ المستقبل.
هوامش الفصل العاشر
ـ قانون هلمز ـ بورتون :
ـ يجيز قانون هلمز ـ بورتون الذي فرض الحصار والمقاطعة على كوبا ، يجيز لكل الأمريكيين ، والكوبيين المتجنسين ، والذي صودرت ممتلكاتهم من قبل الحكومة الكوبية ، أن يقاضوها أم القضاء ، وكذلك يحق لهم مقاضاة أي أو مؤسسة أو شخص كائنا ما كان ، يتعامل مع المشاريع المصادرة أو أن يشارك فيها .
ـ قانون أمادو ـ كينيدي : يحرم القانون الشركات التي تستثمر أكثر من أربعين مليون دولار من كل ضمانة مصرفية في ميداني الاستيراد والتصدير ومن إجازات استيراد بضائع للشركة المعاقبة ، ومن كل قروض أو اعتمادات تزيد عن عشرة ملايين دولار ، تفتح لدى المؤسسات المصرفية الأمريكية ، ومن كل احتمالات اجراء عقود مع الحكومة الأمريكية ومن كل استيراد إلى الولايات المتحدة … الخ .
ـ أثار تطبيق هذا القانون مؤخرا أزمة بين الولايات المتحدة وفرنسا ، وذلك عندما قامت شركة توتال بتوقيع عقد شراكه مع إيران .
ـ وأكدت وزارة الخارجية الأمريكية أن موقف فرنسا في القضية غير مفهوم ، وأعربت عن خيبة أملها لرؤية شركاء الولايات المتحدة يرفضون فساتدتها في الجهود التي تبذلها ضد إيران ، مشيرة أن ضيج أموال في إيران إجراء لا يساعد الولايات المتحدة . واعلنت أو لبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية عن خيبة أملها إزاء قدرة الولايات المتحدة في إقناع الدول الاخرى لصحة وجهة نظرها بشأن (الدول الخارجية عن القانون) .
ـ وكان هذا العقد قد اعتبر انتصار لإيران واوروبا وضربه للهيمنة الأمريكية .
الدولار والإنسان
بقلم أناتول فرانس
في بداية هذا القرن ، وبالتحديد عام 1908 ، كشف أناتول فرانس في كتابه " جزيرة البطريق" عن الروح التي تقاس فيها السياسة الأمريكية واصفها اياها أنها بلا روح . يصور المقطع التالي البروفيسور أوبنوبيل الذي يزور الولايات المتحدة ويحضر جلسة للكونغرس الأمريكي ويقدم لنا التحليل التالي :
رئيس الجلسة ـ : انتهت الحرب التي أشعلت لفتح اسواق زيلاند الثالثة ، بشكل يرضي الولايات المتحدة . وأقترح عليكم أن نرسل الحساب إلى مفوض الادارة المالية .
ـ هل من معارض ؟
حسن ، فاز الاقتراح .
ـ وسأل البروفيسور اوبنوبيل مترجمه المرافق له :
هل سمعت جيدا ؟ ماذا ! أنتم الشعب الصناعي تشغلون أنفسكم بكل هذه الحروب .
ـ أجاب المترجم :
بلا شك . فهذه الحروب ، حروب صناعية ، والشعوب التي لا تمتلك صناعة ولا تجارة غير ملزمة بخوض الحرب . أما الشعوب التي لديها أعمال . فهي مرغمة على سياسة الغزو ، ولهذا ارتفع بالضرورة عدد الحروب التي اشعلناها ، مع ازدياد نشاطنا الانتاجي . عندما تجد صناعة من صناعاتنا أنها لن تستطيع تصريف منتجاتها ، فلا بد من اشعال حرب ما كي نفتح سوقا جديدة . وهذا ما فعلناه هذا العام في حرب الكربون وحرب النحاس ، وحرب زيلاندا الثالثة ، قتلنا ثلثي السكان لنجبر الثلث الباقي على شراء المظلات والقمصان الداخلية .
وفي هذه اللحظة صعد إلى المنصة رجل ضخم كان يجلس على كرسي في وسط المجتمعين وقال:
أطالب بإعلان الحرب على حكومة جمهورية ايميرود ، التي تنازع خنازيرنا بوقاحة ، السيطرة على تجارة الجامبون والسحق في كل اسواق العالم .
ـ فسأل الدكتور أو بنوبيل :
من هو هذا المشرع ؟
ـ فأجاب المترجم :
إنه تاجر خنازير .
ـ قال رئيس الجلسة :
هل من معارض ؟ … إذن اطرح هذا الاقتراح على التصويت .
وهكذا جرى التصويت برفع الايدي على اشهار حرب ضد جمهورية ايميرود وفاز الاقتراح بالاغلبية الساحقة .
ـ قال أوبنوبيل :
ولكن كيف ؟ ابهذه السرعة واللامبالاة تقرون أشعال الحرب ؟
ـ أجاب المترجم :
أوه ! إنها حرب لا أهمية لها ، إذ لن تكلف اكثر من 8 مليون دولار .
ـ والرجال ؟
ـ الرجال ؟ إنهم ضمن ال 8 مليون دولار .
أناتول فرانس " جزيرة البطريق " 1908
* أناتول فرانس (1844 ـ 1924) كاتب وروائي فرنسي منح جائزة نوبل للآداب عام 1921.
رمز طاحونة الشيطان
سنحاور أن نشرح هذا النظام الذي يختلط فيه التطورالاقتصادي مع تطور الإنسان ، من خلال أمثولة يوحي بها كتاب ميشان ، بعنوان " ثمن التنمية " أما نحن فندعوه :
" أمثولة طاحونة الشيطان "
أقرت حكومة بلد ما ، متطور جدا ، حق الافراد في حمل السلاح ، استنادا إلى الحرية الفردية . وهكذا شهدت صناعة السلاح ازدهارا لا سابقة له . وتبارى المنتجون المتنافسون ، بما لديهم من قوة مخيلة ، وانتشار ، في اغراق السوق الحرة بانواع مختلفة وبلا حدود ، من المسدسات والقنابل المنمنمة ِ. وقد تراوحت الاشكال والانواع بين الممتاز جدا المعقود إلى سلسلة ، وبين النوع المتواضع جدا لصالح الاستخدام اليومي ، ومن المروع كاتم الصوت المكفول في اصابة الهدف إلى السلاح الذي قيل أنه لاثارة الرعب فقط ، إذ تستمر اصوات انفجاراته المروعة لابعاد المعتدي المحتمل دون التصويب في مسار خاص . وحرية الاختيار عند المستهلك مؤكدة بشكل تام .
ورواج السوق من الناحية العملية ، لا يحده حد ، بسبب العصبية التي تخلقها نزاعات العمل ، وازدحام السير في المدينة ، والتراع المستمر على القيم " الاكثر قدسية " ، والاثارة الجنسية ، والنزاعات المالية . كل ذلك يجعل المرء ، حتى الاكثر هدوءا ، أو المرأة الاقل جاذبية واغراء ، لا يخاطران في السير في الشارع ، دون أن يحمل أي منهما مسدسا أو مسدسين ، وبعض الذخيرة.
ومن جهة أخرى ، يساعد مستوى المعيشة المرتفع جدا ، والذي تحقق بفضل التوسع في النشاط الاقتصادي ، يساعد فرد على شراء العديد من الأسلحة . إن زمن القحط والبؤس الإنساني قد ولى . وولدت صناعات جديدة ، برهنت على ديناميكية استثنائية ، منها صناعة السترات الواقية من الرصاص ، والخوذات ، والاحذية ذات المشابك المعدنية ، والاقنعة الكاتمة ، والمركبات المصفحة ، وزجاج العربات المضاد للرصاص ، ومصاريع فولاذية للبيوت . ويبرهن ازدهار صناعة الحديد على الوضع الصحي لاقتصاد البلاد ، وروح المبادرة لدى الصناعيين ، وفضائل المؤسسة الحرة ، والفكر الثاقب للحكومات. وفي إطار البهجة التي خلقها هذا الازدهار ، غابت كل مظاهر الكآبة .
وفي الحقيقة ، تتلقى كل قطاعات النشاط الوطني دعما منشاطا . إنه العصر الذهبي لاشكال التامين المختلفة ، والعيادات الخاصة ، والمخابر الدوائية التي تستجيب بشكل محموم ، وبلا انقطاع للحاجة المتزايدة للمهدئات . أما الاستخدام بدوام كامل فهو مضمون تماما ، فطرق العمل مفتوحة للشباب بلا حدود ، وحتى العمال غير المؤهلين ، فهم مطمئنون أنهم سيجدون اعمالا تثيبهم بشرف ، ولا تتطلب إلاّ تأهيلا سريعا ، مثل حمل نقالات الاسعاف لالتقاط الجرحى أو الموتى .
وقد جرت مناقشة الميزانية ، على ضوء التوسع الكامل للاقتصاد الوطني ، وأبرزت ـ وهي محقة في ذلك ـ أن العلم قد استفاد من نتائج السماح بصناعات السلاح ، وبالتسلح الشخصي ، والمتمثلة بالانهاك السريع لمصادر الثروة المعدنية . وقد قادت الابحاث إلى اكتشاف مواد تركيبية اكثر مقاومة لاستخدامها في الدروع ، وسيؤدي ذلك إلى تحقيق تقدم مماثل في صناعة القذائف ، وكما قال واحد من أبلغ خطبائنا البرلمانيين في هذا المجال : " إن لولب التقدم قد انفتح نحو اللانهاية " .
أوجدت الجراحة ، والطب ، والطب النفسي ، منافذ مذهلة في شفاء امراض غير معهودة . لقد جدد ارتداء الدروع المحكمة ، المفاهيم حول الايضية ، كما قاد حمل الأسلحة إلى اكتشافات تتعلق بالقلق والكرب ، والعدوانية ، هذه المواضيع التي تربك مستقبل علم النفس .
أي تجديد تشهده البلاد في ميدان الثقافة ، وخاصة في ميدان العلوم الإنسانية ! لقد انفتح أمام علم الاجتماع الوضعي افق بلا نهاية ، كي يستطيع تطبيق أساليبه . ويلعب هذا العلم دورا رياديا لقيامه بأبحاث مشتركة مع علوم أخرى حول علم " المسدسات " . وعمل رجال الاحصاء على بلوغ تقنيات التقديرات الاستقرائية مبلغ الكمال ، لحساب دقيق ومتوازن للعام الذي سيصبح فيه حجم ووزن الأسلحة معادلا لحجم الأرض ووزنها ، وقد استطاع فيها أحد الاسلاف اللامعين أن يحدد في أي عام ، لن يترك فيه النمو السكاني في كرتنا الأرضية إلا مترا مربعا واحدا لكل فود . ومن جهة أخرى قلب علم السكان الاتجاه ، بالتخلص من القانون اللوغاريتمي للابادة ، مفسحا المجال لامكانية التنبؤ باليوم الذي سيقوم فيه آخر رجل ، بتوجيه طلقة خلاص الاخيرة إلى جاره الذي يقف أمام ناظره .
وتصبح المستقبلية الوضعية ، من هذا المنظور العلمي ملكة العلوم متمتعة بنفس المستوى النظري كالفيزياء أو العلوم اللغوية . ويلعب اتحاد " الرند " " اسم شركة كبرى " ومنافسوه الذين امتلكوا خبرة كبيرة في " نظرية الالعاب " الاستراتيجية ، دورا مدهشا كمستشارين وأنبياء امام مديرين كبار في صناعة الموت ، وقد اقترح باحث ، وربما كان واحدا من أعظم العبقريات في قرننا هذا معتمدين في هذا التقييم على تنبؤاته على المدى الطويل ، طرازا جديدا في الهندسة المعمارية وهندسة المدن ، وللفن بشكل عام ، يستجيب لحاجات العصر " المسدساتي " ، فالشوارع منحنية للحد من سير القذائف ، وانطلاقا من هذا الطراز الجديد فقد تحققت ثورة في عالم الاشكال ، تلبية لهذه الحاجة . واستنادا إلى التماسك الداخلي لهذا النظام ، وهي الخاصة التي تتصف بها كل الحضارات العظيمة ، عندما تصل ذروتها ، فإن البلاد تشهد ازدهار ثقافة جديدة ، وكلاسيكية جديدة .
وفي كل مرة تسترجع الحكومة بفخر مشروع الامكانيات ، تبرز نتائج التوسع الذي حققته : معدل تنمية أعلى من كل المعدلات السابقة ، مع كل ما يحمله من نتائج : عملة صعبة ، فرص استخدم كاملة ، ميزان مدفوعات لمصلحة البلد ، غزو لا ينقطع لاسواق جديدة لتصدير السلاح ، لأن الحجم الداخلي لانتاجنا من المسدسات ، قد أعطى اسعارنا وضعا تنافسيا للغاية .
وقد تضاعف الانتاج الوطني الاجمالي ، في عشر سنوات ، واجتمعت لدينا كل علائم الاقتصاد الصحي والقومي ، كما اكتملت كل أحلام اقتصاد التنمية .
ومن العدالة ، والحالة هذه ، أن نأمل بالهيمنة على العالم ، ليس فقط بسبب غنانا وقوتنا بل بسبب حكمتنا أيضاً .
ما وراء حملة كلينتون
ضد الارهاب
في 5 أب 1996 ، وقع الرئيس كلينتون ، قانون أماتو ـ كينيدي معلنا استثناء إيران وليبيا من القانون الدولي . وكان حريصا أن يقف أمام عدسات التلفزيون ، محيطا نفسه بطريقة تبدو طبيعية بأسر وأقرباء ضحايا لوكربي ، في العملية التي جرت ضد طائرة عائدة لشركة البان أمريكان في 20 كانون الأول 1988 ، حيث حملت الحكومة الأمريكية ليبيا مسؤولية العملية ، على الرغم من التحقيقات المتوازية التي كذبت هذه الرواية .
كان الاحتفال الرمزي ، ذو دلالة كبيرة على السياسة التي تنوي واشنطن وضعها موضع التنفيذ : الارهاب هو العدو الاكبر . وقد جرى تعبئة الرأي العام حول هذا الموضوع ، واعتبرت البلدان المعنية أعداء للولايات المتحدة . وكبداية ، ستكون العقوبات الاقتصادية هي السلاح الذي اشهر في وجه هذه البلدان ، وإن أمكن الحصار الاقتصادي .
وتتضمن قرارات واشنطن ، والتي اتخذتها منفردة انتهاكا صريحا للمبادئ الاساسية لمنظمة التجارة العالمية ، وتشكل تنكرا من الولايات المتحدة لالتزاماتها الدولية . وتعتبر المعركة ضد ما يسمى بالارهاب ، احد المحاور الرئيسية في السياسة الخارجية لرئيس الولايات المتحدة ، وسيكون هذا الموضوع جاهزا باستمرار ، لاثارته كلما احتاجته الدبلوماسية الأمريكية .
اهو اختيار انتخابي ، حدث على ضوء التصويت للرئاسة في نوفمبر 1996 ؟
نعم بالتأكيد . فقانون هلمز ـ بورتون الذي صدر في 12 آذار 1996 ، والذي يشدد الحصار على كوبا ، استطاع أن يخلق صدى كبيرا بين 400 ألف امريكي من اصل كوبي ، سيدلون باصواتهم في ولاية فلوريدا . ولكن يفوت روبرت دول ، المرشح الجمهوري للرئاسة الفرصة على كلينتون ، زاود على مواقف خصمه من الارهاب . واصفا " بالهش " مسلك الادارة الديمقراطية تجاه كوبا وايران .
وتعطي الحكومة الأمريكية اليوم لقهر الارهاب واهدافه بغية القضاء عليه ، حضورا عالميا منهجيا ، ولكنه بسيط بشكل مذهل ومتعمد . " سيكون الارهاب اكثر التهديدات خطورة ، والمواجهة ضد أمتنا في القرن الحادي والعشرين " .
هذا ما قاله كلينتون عشية الاجتماع الذي عقده في 30 تموز 1996 وزراء خارجية الدول السبع ، الذين كرسوا مقولة كلينتون . وطور الأمر مرحليا في تقرير نشرته وزارة الخارجية ، عددت فيه النشاطات الارهابية في العالم ، وحددت معالم السياسةالامريكية بهذا الخصوص .
وتبرز من قراءة هذا التقرير ثلاث نقاط :
ـ لا نرى في الارهابيين إلا مجرمين ، وبالتالي لا يجوز أن يعقد معهم أي اتفاق من أي نوع . وتجب ملاحقتهم ، بغية الحصول على ادانات ملموسة اكثر .
ـ يجب ممارسة ضغط كبير ومستمر على الدول التي تتعامل معهم وتمدهم بالسلاح ، والمعونات المالية ، وتستخدمهم .
سيكون الضغط باتخاذ اجراءات سياسية دبلوماسية واقتصادية فعالة . واذا فشلت هذه الاجراءات ، اتخاذ اجراءات أخرى .
لم يتضمن هذا التوجه الحاسم ، أي مضمون سياسي أو قومي أو اقليمي أو حتى سياسي وعسكري ، ولم يأخذ بالحسبان أي جواب تطرحه هذه المسألة التي طرحتها مجلة الايكونوميست في آذار 1996 ، فقالت : ليس الارهاب ظاهرة بسيطة ومحسومة ، وليس عمل عصبة من الشبان الاشقياء ، كما نحب نحن أن ندعوهم . من هو الارهابي ؟ هل هو حامل القنبلة الانتحاري ؟ أم الثوري المتمرد هل هو جبهة التحرير ، أم ال