الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
كيف نحضر للقرن الحادي والعشرين
بقلم: روجيه غارودي.
نقله إلى العربية: مروان حموي.
( إضغط هنا لقراءة الفصل السادس والسابع )
الفصل الثامن
كيف الخروج من المأزق ؟
انطلاقا من كشف حساب الثقافة الغريبة الذي نستنتج منه الخسارة والفشل ، ومن هذا الحج إلى الايمان وثقافة الآخرين " ونعني بذلك ايمان وثقافة أربعة أخماس سكان الكرة الارضية " يتوجب علينا أن نبرز الرؤى التالية :
ـ كيف الخروج من التناقضات والطرق المسدودة لنظام لا يستطيع قيادتنا إلا إلى الموت ؟
ـ أية استراتيجية يمكن أن تسمح لنا ببناء عالم بوجه إنساني ، نواجه به القرن الحادي والعشرين؟
يجب علينا ، من منظور " فلسفة الفعل " التي تحررنا من اشكال الهيمنة وليدة فلسفات الكائن الغربي على امتداد خمسة وعشرين قرنا ، الخروج من قياس أقرن ـ حسب تعبير المناطقة ـ كل حد من حديه خاطئ ، فحد يقول : يجب تغيير الإنسان بغية تغيير العالم ، وحد يقول : إذا غيرنا البنى ، فسيبزغ بالضرورة إنسان جديد .
لم ينجح الاخلاقيون ، وبشكل خاص المسيحيون أتباع بولس ، والمؤمنون بالطريق الاولى أي تحرير الإنسان من الهيمنات والعزل والحروب ، عن طريق الموعظة . لقد استمر هذا الفشل ألفي عام .
أما الآخرون فقد سلكوا الطريق الثاني معتقدين أنهم أكثر واقعية . وقد حملت " المسيحية " السوفيتية خلال ثلثي قرن وهما شبيها بأوهام الأولين : إذا بدلنا في بنى الاقتصاد ، ووضعنا نهاية للملكية الخاصة لوسائل الانتاج ، وألحقناها بالدولة ، فسيؤدي ذلك إلى ولادة الإنسان الجديد .
ولكنه لم يولد . أما عودة الرأسمالية ، فقد سمحت بولادة المافيا ، ونشوء ثروات مصارية وطفيلية بسرعة نمو الفطر السام ، رافقها البؤس والفساد والبغاء والمخدرات ، وكل الرذائل التي يتسم بها الانحطاط الليبيرالي .
وأصبح واضحا أننا لا نستطيع الفصل بين الخيارين : هذا الذي تأسس على تعالي الفعل الخلاق ، وذاك الذي يطلب من المبدع أن يحدد تخومه ، في هداية بعض الأرواح حتى ولو صاروا قديسين ، ولكنهم لا يملكون من الخيارات إلا الانعزال في " صومعة " أو العيش على هامش المجتمع .
في فلسفة الفعل لا يمكن فصل هاتين الصيغتين ، فليس الايمان والفعل إلا الظاهر والباطن للإنسان الكامل . فالايمان المنفصل عن الفعل سيتبخر إلى تقوى صافية ، إنما شخصية . أما الفعل المنفصل عن الايمان فيقود الإنسان إلى حيوانيته الأولى .
تنصهر الروحانية في الصراع من أجل تغيير البنى وتتشابك معه ، ولكنها لا تفقد أيا من أبعادها الباطنية .
وفي العودة اليومية للتأمل في الغايات الاخيرة لفعلنا ، ولوحدتنا الصوفية " مع الكل " ، نحمي عملنا من أن يختزل إلى البحث عن الوسائل والانتاجية والكفاية ، وسنعي أن الطبيعية بأكملها هي أجسادنا، وبأن روحنا مسكونة بكل الثقافات الإنسانية في تاريخها الكلي ، لا بـ " أنا " معزولة ، وبأن إيماني الذي يعبر عن نفسه بالثقافة يلتقي مع إيمان الآخرين الذين يعيشونه عبر ثقافاتهم ، دون رغبة " بهداية الآخر " ، أعني دون رغبة أن أختزل الايمان الاساسي للآخر ، إلى طريقتي في الحياة .
وغالبا ما يفسرون ويشوهون الصيغة التي اختصر بها لوكيه ، هذه الرؤية للإنسان : " يعمل ، ويتصرف بما عمل ، ولن يكون شيئا آخر غير ما عمله ".
ولن تشوه هذه الصيغة ، إلا عندما يحرم الفعل من بعده الباطني أو فاعليته .
واذا ما بدأت معركة بناء عالم آخر ـ وليس عالما آخر من الشطحات أو أحلام المدن الفاضلة ـ فإن عليها أن تتطور في ثلاثة مستويات : التربية ، والفن ، والسياسة ، وبطريقة ينصهر فيها فعل الايمان وفعل الخلق الفني ، والفعل السياسي ، في حركة فاعلة واحدة .
ـ قلب التربية :
ليس المطلوب اقتراحا " لإصلاح " النظام التربوي ، لأن محتوى وبنى التعليم القائم لا يحتاج إلى مجرد إصلاح ، بل إلى قلب جذري .
ولا نريد هنا أن نكتب تاريخا للتربية ، بل لنسجل فقط أنها لا تهدف حتى الآن ، إلا إلى إعادة إنتاج النظام القائم .
وينطلق نظامنا القائم من مفهوم نابليون الذي كان أول من وضع تصويبا لمجمل الدور التربوي ، بعد الثورة الفرنسية . كان همه الأول من تأسيس المدارس ، ايجاد الكوادر لجيشه ، وإداراته ، وإعادة إنتاج التعليم .
ومنذ ذلك الحين ، وبدءا من المونسينور فاتيمسنيل حتى وزراء التربية الحاليين ، جرت إصلاحات متعددة للاستجابة الافضل لاحتياجات النظام ، آخذين بالحسبان تطوره والمتطلبات الجديدة . فمع تطور الصناعة مثلا ، ازدادت الحاجة إلى تقنيين من كل المستويات ، وادى ذلك إلى ديمقراطية التعليم : الابتدائي أولا لمن لا يستطيعون أن يرتقوا إلى اكثر من ذلك بسبب ازدياد تعقيدات التنمية ، وتأهيل الآخرين ليصبحوا كوادر أو مهندسين . وقادت هذه الحاجة إلى إصلاح محتوى التعليم ، فأنزلت اللاتينية عن عرشها ، وكانت حتى ذلك الحين بطاقة المثقف ، واستبدلت بالرياضيات والعلوم الاساسية للتقنيات الجديدة .
ولكن هذا التكييف التربوي المتعاقب مع الاحتياجات الجديدة للنظام الاجتماعي ، حافظ باستمرار على ما هو ضروري : بقاء هدف النظام التربوي تكوين ، " نخبة " أصبحت متخصصة أكثر فأكثر في ميادين مثل الفيزياء النووية ، وعلم الوراثة ، والاقتصاد السياسي ، أو المعلوماتية ، ولكنها بقيت محرومة من ثقافة ، لا نقول عنها عامة ، وإنما شاملة ، أي أن تطرح هذه الثقافة مسألة الغايات الاخيرة للابحاث والمنجزات .
لهذا نقول أن الامر لا يتطلب اصلاح النظام وإنما قلبه وبشكل جذري . ولن يتحقق ذلك بمئة عملية اصلاحية ، سواء جاءت هبة من الحكومة ، أو قرارا من الهيئات الانتخابية والتشريعية . والطريق الصحيح هو تبديل العقليات التي تعمل على استمرار النظام القائم الذي لا يملك غايات إلا زيادة إجمالي الناتج القومي ، والاستهلاك ، والقوة، وغزو الاسواق .
أيتطلب الأمر أن : نفبرك " في مدارسنا اطباء اسنان ومهنيين أو عسكريين ، أم علينا أن نهيئ الإنسان كي يكون إنسانا ، نعني بهذا أن يكون خلاقا .
لهذا يتطلب الأمر تغييرا جذريا شاملا لمحتوى وبنى التربية .
وفي البداية علينا المساعدة في معالجة تراجع تعليم ثقافات الاخرين لابنائنا ، بالنسبة لثقافتنا الغربية ولا نعني أن يكون ذلك ، فقط في الكوليج دوفرانس ، أو " الدراسات العليا " ، أو اللغات الشرقية ، إنما لدى الجماهير ، لتعليمها ثقافات الاخرين ، وليس في المدرسة فقط باضافة ملحق للبرنامج المدرسي ، وإلا فلن يكون لدينا معلمون قادرين على تنفيذ هذه المباردة ، طالما أننا لا نكونهم إلاّ في " المدرسة الاوروبية " .
وسنكتفي بمثال واحد يعود إلى زمن قريب منا، وهو مثال الفلسفة ، نتساءل متى أدخل في برنامج " الاستاذية " وخارج الخط الذي يصل بين أفلاطون وهايدجر ، فلسفة تشوانغ تسو ، وفلسفة سنكارا والغزالي .
وأثناء ذلك ، وخارج المدرسة ، لن تعوز الفرص للالتقاء باولئك الذين يحملون تلك الثقافات : فليس الصينيون غائبين عن أمريكا وأوربا ، ولا الهنود عن إنكلترا ، والا العرب عن فرنسا ، ولا الترك عن ألمانيا .
الوراثة ، والاقتصاد السياسي ، أو المعلوماتية ، ولكنها بقيت محرومة من ثقافة ، لا نقول عنها عامة ، وإنما شاملة ، أي أن تطرح هذه الثقافة مسألة الغايات الاخيرة للابحاث والمنجزات .
لهذا نقول أن الأمر لا يتطلب إصلاح النظام وإنما قلبه وبشكل جذري . ولن يتحقق ذلك بمئة عملية اصلاحية ، سواء جاءت هبة من الحكومة ، أو قرارا من الهيئات الانتخابية والتشريعية . والطريق الصحيح هو تبديل العقليات التي تعمل على استمرار النظام القائم الذي لا يملك غايات إلاّ زيادة اجمالي الناتج القومي ، والاستهلاك ، والقوة ، وغزو الاسواق .
أيتطلب الأمر أن : نفبرك " في مدارسنا أطباء أسنان ومهنيين أو عسكريين ، أم علينا أن نهيئ الإنسان كي يكون إنسانا ، نعني بهذا أن يكون خلاقا .
لهذا يتطلب الأمر تغييرا جذريا شاملا لمحتوى وبنى التربية .
وفي البداية علينا المساعدة في معالجة تراجع تعليم ثقافات الاخرين لابنائنا ، بالنسبة لثقافتنا الغربية ولا نعني أن يكون ذلك ، فقط في الكوليج دوفرانس ، أو " الدراسات العليا " ، أو اللغات الشرقية ، إنما لدى الجماهير ، لتعليمها ثقافات الاخرين ، وليس في المدرسة فقط باضافة ملحق للبرنامج المدرسي ، وإلا فلن يكون لدينا معلمون قادرين على تنفيذ هذه المبادرة ، طالما أننا لا نكونهم إلاّ في " المدرسة الاوروبية " .
وسنكتفي بمثال واحد يعود إلى زمن قريب منا ، وهو مثال الفلسفة ، نتساءل متى أدخل في برنامج " الاستاذية " وخارج الخط الذي يصل بين أفلاطون وهايدجر ، فلسفة تشوانغ تسو ، وفلسفة سنكارا والغزالي .
وأثناء ذلك ، وخارج المدرسة ، لن تعوز الفرص للالتقاء بأولئك الذين يحملون تلك الثقافات : فليس الصينيون غائبين عن أمريكا وأوربا ، ولا الهنود عن إنكلترا ، ولا العرب عن فرنسا ، ولا الترك عن ألمانيا .
ربما كان هذا هو المستوى الذي يجب أن تبدأ منه الاشياء : توجه مختلف نحو المهاجرين الذين يحملون معهم ، واعين أو غير واعيين ، قيم مجتمعاتهم وإيمانهم الخاص .
وهكذا يصبح ممكنا ، في صفوف الجماهير، أن يبدأ التنبيه لوجود الاخر ، والغنى الإنساني الذي يحمله بداخله ، والوعي بأننا نستطيع أن نتعلم منه شياء ، لا أن نبحث من أعلى مركزيتنا الاوروبية ، عن طريق لاستيعابه ، أو تكامله مع انطاطنا :
ـ حيث أصبح العلم علموية .
ـ حيث أصبحت التقنية ، تكنوقراطية .
ـ حيث أصبحت السياسة ، مكيافيلية .
والعلموية : هي شكل من السحر ، أو بالاحرى أصولية شمولية ، تاسست على المسلمة التالية :
يستطيع العلم أن يحل كل المشاكل، أما مالا يستطيع العلم قياسه ، أو يخضعه للتجربة ، أو يتنبأ به فهو غير موجود . وتقضي هذه النظرية الوضيعة ، على الابعاد الاكثر سموا في الحياة : الحب ، الخلق الفني ، والايمان .
والتكنوقراطية : شبيهة بالسير أثناء النوم . فالتقنية من أجل التقنية ، دون أن تطرح اطلاقا مسألة الغايات . وتأسس هذا التفكير من مسلمة تقول : كل ما هو ممكن تقنيا ، مرغوب فيه وضروري.
هذا " العقل " يولد أسوأ اللامعقول . إنه يحتوي على السلاح النووي ، وحرب النجوم ، وديانة الوسيلة .
والميكافيلية هي هذه الحيوانية التي تتصف بها سياسة محددة بتقنية الوصول إلى السلطة ، لاهداف غير الاستجابة لغايات المجتمع الإنساني ، فتوضع الوسائل ، التي تؤدي إلى تحقيق هذه الغايات.
أمن أجل هذا نحن نفخر باستيعاب هؤلاء المهاجرين وتكاملهم معنا ؟ أليس من الافضل أن نضيف إلى إنسانية حقيقية " وعيا بأن فرنسا ، تغني ثقافتها منذ قرون بثقافات مزيج من عشرين عرق ، كما يقول ميشليه أو رينان .
ليست فرنسا " كينونة " سابقة على الفرنسيين . نحن نقول : أجدادنا الغاليين ، وكأننا لا نحمل في عروقنا إلاّ دم " فيرسنجتوري " . أو لا نحمل في ثقافتنا إلاّ هدي " كلوفيس " . إنها اساطير تستخدم حتى اليوم من أسوأ القوميين ، وكأننا لم نكن أيضاً رومانيين عندما استعمروا بلاد الغال ، أو جرمانيين مع الفرانك ، سلتيين مع البروتونيين والغزوات النورماندية ، أو عربا مع ما حمله شعراء الاندلس إلى شعراء التروبادور في الغرب .
ربما توجب علينا كي نحول ـ وعلى مستوى الجماهير ـ درب المفهوم الاستعماري ، إلى درب المفهوم المتناغم للتواصل بين الحضارات ، أن نبدل نظام التصدير الثقافي " للمتعاونين " . لقد حلمت طويلا ، ومن الخطورة أن يمتد هذا الحلم طويلا ، إلى ارسال " متعاون " من أصل آسيوي ، في الالف الثالث للميلاد ليقوم بوضع دراسة عن الاجناس التي تعيش في شبه الجزيرة هذه ، الواقعة في " أقصى آسيا " والتي تدعى أوروبا . وسيكرس عالم الاجناس هذا الذي كونته مبادئ البوذية في السيطرة على الشهوات ، أو على الاقل الحد منها ، تقاريره الأولى عن تقنيات تطور الطمع في عالم ما قبل التاريخ " لهذه القبائل البدائية " ، وتقنيات الترويج والاعلان والتسويق .
وسوف يذكرنا هذا العالم من خلال حرصه على الامانة العلمية في ذكر مراجعه ومصادره أن الصوفيين في أثينا ، وحسب أقوال أفلاطون ، اعتبروا أن الخير هو امتلاك أقوى الرغبات ، وإيجاد الوسائل لاشباعها . ويمكن لهذا العالم أن يضيف أنه وجد في نظام التنمية السائدة في " الحقبة الآثارية " للنصف الثاني من القرن العشرين نظام تنمية مازال يستند إلى مفهوم التنمية عند الصوفيين الاثينيين . لقد نجحت تقنية الطمع " الترويج ، التسويق … الخ " في خلق حاجات نمطية فأفسحت المجال بذلك ميدانيا للمشاريع المتعددة الجنسيات في العالم كله .
وسيلجا من خلال معالجة المظهر الطقسي لوحدانية السوق ، وديانة النمو في المناطق المعمورة ما قبل التاريخ ، إلى دراسة أنماط التربية لهذه العصبة المقدسة من التكنوقراطيين ، وأساتذة الحلقات الدراسية الجشعين ، والتلفزيون ووسائل الاعلام الاخرى ، انطلاقا من عقيدة اساسية : استبعاد كل ما يتعلق بالسؤال " لماذا ؟ "، وبالغايات الاخيرة للإنسان ، وسيصل من خلال بيولوجيا عصرنا ، مستفيدا من أبحاث لا يوري ، إلى نتيجة تفيد بأن تفوق شبه الجزيرة ، لم يكن نتيجة شيء آخر غير " دماغها الضخم " .
وسيتحدث لنا هذا العالم " المستغرب " ، " عن الاستشراق " هذه الحقبة ذات المركزية الاثنية ، وسيكون قرار اتهامه قاسيا ، وربما عموميا جدا ، لكنه مبني على بعض الامثلة المشهورة ، إنما مع الاسف ، بلا تعليل .
على سبيل المثال : كان المستشرق الأول ، سيد المستشرقين ، سيلفستر دوساسي الذي أطلع غوته على حضارات الشرق ، هو نفسه الذي كتب بيانات بـ ونابلرت عند غزوه مصر ، وبيانات الجيش الفرنسي عند غزوه الجزائر .
أما ماكس موللر ، وهو أحد الرجال الاكثر اهمية في تاريخ الاستشراق التقليدي ، فقد نظم في كامبردج فصولا دراسية بهدف اعداد إداريين انكليز للعمل في مستعمرتهم الهند . وكتبت السيدة روث بينديكت ، كتابها الجميل " السيف والاقحوان " عن اليابان ، بأمر من المكتب الحربي للجنرال ماك آرثر ، بغية الوصول إلى شكل افضل لدمج اليابان في النظام السياسي الأمريكي .
ويخشى أن تتحول هذه الفكرة المرعبة عن الاستشراق " إلى استغراب " ، أي الوقوف في موضع ينظر منه إلى الغرب بالمجهر ، بما يشبه فعل علماء الحشرات الذين يواقبون حشراتهم بالمجهر ، وكما نظر الغرب حتى الآن إلى البلدان غير الغريبة .
انطلاقا من التعامل مع المهاجرين يجب أن لا يبدأ تبديل التوجهات نحو الثقافات الاخرى في المدرسة أو الجامعة ، بل بين الجماهير ، منطلقين من المثالين اللذين أوردناهما ، أي المهاجرين والمفهوم أحادي الجانب للمتعاونين .
ولن نستطيع النفاذ إلى التعليم المؤسساتي إلاّ من " الاسفل " ، لان الحكومات ، اليسارية منها واليمينية والاحراب ، وحتى الطبقة الدينية ، لا يذهب أحد منها في هذا الاتجاه .
وسيكون الأمر نفسه بالنسبة للتاريخ الذي تحدث عنه بول فاليري في كتابه " نظرات على العالم المعاصر " حين يقول :
" التاريخ هو الانتاج الاخطر لكيمياء المثقف " ، فهو يجعلنا نحلم ، ويجعل الشعوب تتمثل ما يولد لديها من ذكريات كاذبة ، ويفجر ردود أفعالها ، ويلامس جروحها القديمة ، ويعذبها في فترات راحتها ويقودها إلى معاناة آلام العظماء ، أو آلام الاضطهاد ، ويعطي الأمم المرارة ، والعجرفة باطلة وغير محتملة .
ويبرزون من التاريخ ما يريدون تبريره . إنه لا يعلم شيئا على الاطلاق لانه يتضمن كل شيء ، ويعطي أمثلة على كل شيء " .
وقد رأينا سابقا الدور الذي لعبه التاريخ الرسمي في الآيديولوجيا القومية .
ويلعب نفس الدور في تبرير الاستثنائية الغربية ما داموا يقدمون لنا بشكل منسق ، معارك الماراتون ، وبواتييه ، مشوهة إلى حد كبير، فيتحدثون عن انتصارات خادعة للغرب على الشرق . فبعد قرن من نزاع الماراتون الذي افرط هيرودوت كثيرا في تقدير اهميته ممالأة للاثينيين ، الذين نقدوه أجوره فورا كما أوحى بذلك بلوتارك ، املى تيرميباز عام 386 باسم كسرى الفرس ، وبلغة السيد شروطه على المدن اليونانية بكثير من التعالي الذي أغضب ايزوقراط فخطب يقول:
" إنه هو الذي ينظم شؤون اليونان ، ويأمر بما يجب أن يفعله كل واحد منهم ، ويمانع تماما في تأسيس الحكومات في المدن .. ألن ندعوه بعد ذلك بالملك العظيم ، وكأننا سراه ؟ " .
وبعد قرون من معركة بواتييه ، كان العرب في ناريون ، فزحفوا مجددا إلى وادي الرون ، تشهد على ذلك كتابات لها طابع صوفي في كاترائية بوي وستصبح قراطبة خلال ستة قرون مركز الاشعاع الثقافي في أوروبا كلها ، ومركز اشعاع علمي كما يشهد بذلك روجر بيكون ، وشعري ، كما يشهد بذلك شعراء التروبادور في الاوكسيتاني ، وكذلك دانتي .
أما الجزء من البناء النفعي للتاريخ والمتعلق بالغايات السياسية ، لمرحلتنا المعاصرة ، فهو أكبر من سابقه بكثير ، لانه يسعى لتبرير ـ كمثال ـ الافراط في التسليح والهيمنة الاقتصادية . انهم " يفبركون " تاريخا للعدو كي يجعلوا منه شيطانا : كان الاتحاد السوفيتي، مثلا هو امبراطورية الشر ، وبعد انهياره وجد بوش في الإسلام بديلا لهذا الشيطان ، كي يجد مبررا لانتهاج نفس السياسة .
وبالمقابل فقد " الفوا تاريخا مقدسا " ، كان في البداية تاريخ العبريين ، ثم استأثر به المسيحيون الذين أرادوا أن يصبحوا هم ورثة هذا التاريخ ، كي يبرروا حروبهم الصليبية واستعمارهم للشعوب الاخرى .
يجب أن تعاد كتابة التاريخ ، لا من قبل هؤلاء المؤرخين الذين كونتهم هذه المدرسة ، وإنما انطلاقا من تبديل حقيقي في علاقات الشعوب ، وبشكل خاص مع الشعوب غير الغربية .
ويجب أن يترجم هذا الاقصاء الضروري للمركزية الاثنية الغربية ، عن مناهج التعليم ، إلى اعتراف بمنجزات كل شعب في مسيرة أنسنة الإنسان . ولكننا سنرى فيما بعد أن المدرسة لا تكفي وحدها للوصول إلى هذا الهدف .
ويلعب التاريخ الرسمي دورا قاتلا . وسوف نرى ذلك جليا عندما نتذكر كل الابداعات الصينية والهندية والاسلامية ، وكلها سبقت الغزو الغربي للعالم ، والذي وضع كل هذه الابداعات في خدمة ارادته في القوة والثروة .
إن التاريخ الرسمي الذي يعلموننا إياه في المدرسة أو في الموسوعات ، قد كتب دائما من قبل الغزاة . كانوا دائما يسعون لتصوير هيمنتهم ، أنها إنتاج تفوق ثقافتهم ، وليس فقط أسلحتهم . وفي وسط كل الاحتمالات الإنسانية ، فلم يحكى لنا إلاّ عن المنتصرين ، وعن التاريخ باعتباره تاريخ الهيمنة والسيطرة .
وينقسم التاريخ ، حسب المنظور الغربي إلى مراحل تحددها الاكتشافات التقنية . ويمكننا تقسيم حتى ما قبل التاريخ إلى عصر الحجر المقطوع ، وعصر الحجر المصقول ، وعصر البرونز، وعصر الحديد . وبهذا المنظور نفسه ، يدعون أن التاريخ الحديث بدأ عام 1492 ، مع بدايات الاستعمار ، ثم هناك عصر الآله البخارية ، والكهرباء ، ثم الذرة .
إنه المقياس الوحيد للتقدم والهيمنة ، لأن تقسيم التاريخ إلى عصور بدأ مع تشكل الإمبراطوريات ، ووجود سلالات حاكمة : في مصر أو الإمبراطورية الرومانية ، التي بنت لنفسها سدا ضخما من الحصون والجيوش ، واعتبرت كل من هو خارجه من البرابرة .
وماذا لو اختاروا معيارا آخرا ؟!
مثلا ، ولكي لا نذكر إلاّ ما ترك أثرا باقيا : الفن ، لكانت التواريخ ، والطبقات الحاكمة شيئا آخرا.
عندها يصبح رسم لحيوان البيزون للاسكو معاصرا لاقواس ماتيس ، ولوحة رولو صينية من عصر سونج في القرن الثالث عشر تكون متقدمة أو متخلفة عن أعمال روشنيرغ أو آندي فاروك ؟ وكاتدرائية تشارترز ، أليست ـ إنسانيا ـ اكثر تفوقا وأسمى من أعمدة بورن في القصر الملكي؟
أيستأهل باني تاج مجل " تغليفا " من كريستو . أين سيكون موقع الرامايانا في تسلسل التاريخ والطبقات ، بالمقارنة مع ملاحم طرزان وبطولات لا التسرمينيتور الماحق ؟ واين سنضع بروميثيوس لأسكيلوس بالمقارنة مع كتاب " سوف أبصق على قبوركم " لبوريس فيان .
وستتغير معايير التقديم أيضاً ، لو قارنا الاخلاق ببعضها وكذلك الديانات ، ولدينا عنها الكثير في الآثار المخطوطة .
ولدينا هنا أيضاً ، واحدة من اهم الثغرات في تعليمنا . لقد خلط مفهوم خاطئ للعلمانية في العلاقة بين مؤسستين : الكنيسة والدولة ، حيث اعتبر فصلهما عن بعضهما في فرنسا غزوة كبرى شهدتها بداية القرن ، وكذلك قاد خطأ في مفهوم آخر إلى الفصل بين بعدين للانسان : الايمان الذي هو بحث عن الغايات الاخيرة للحياة ، والسياسة التي هي اعمال الوسائل لتحقيق الغايات ما قبل الاخيرة والاكثر " بشرية " .
حرم هذا المفهوم المدرسة من التفكير بالغايات ، بحذفه نصوصا دينية أحادية الجانب (وهذا امر جيد لانه ضد المذهبية الضيقة لديانة ما) . ولكنه حذف مع هذا الاجراء كل النصوص المقدسة ، من الباجادافيتا إلى أنبياء إسرائيل ، ومن الانجيل إلى القرآن .
وليس من ضرورة لتضمين هذه النصوص في برنامج مدرسي ، لاننا لن نجد إلاّ القليل من المعلمين القادرين على التجرد عن الانحياز إلى دياناتهم الخاصة ، أو إلحادهم ، كي يستطيعوا مساعدة الطالب على التأمل في الغايات الكبرى التي تتوج كل الثقافات . المطلوب وضع هذه النصوص في متناول اليد ، في قاعات مخصصة لهذا الغرض يؤمها البالغون من كل الاعمار ، ومن كل المستويات الثقافية ، وسيتكون هناك معلمو المستقبل ، للتدريب على هذا التأمل للغايات الاخيرة ، أو على الاقل لخلق مواطنين واعين لمشكلة معنى الحياة .
2 ـ الفنون " التاريخ المقدس " للإنسانية " .
إن التدريب على هذه المسألة ، التي تجعل من الإنسان انسانا ، يمكن أن يتحقق أيضاً عبر الاعمال الفنية . ففي كل لحظة ينكسر فيها التاريخ ، تشع أمام الإنسان مجموعة من الاحتمالات تنتشر كالمروحة ، حيث ينتصر احتمال واحد فقط ، وهو ما يسجله التاريخ . أما الاحتمالات الاخرى ، فليس لديها شهود ، إلاّ أعمالا تنبئ عن المستقبل . ولا نتحدث هنا فقط عن أعمال العالم المستعمر ، التي كان مكانها والى عهد قريب في متاحف الاجناس كاعمال " بدائية " ، مثل الاقنعة الافريقية ، أو البولينيزية ، وانتهاءا بالتكعيبة التي أيقظوها ، أو الفنون الهندوأمريكية التي أعجب بها دوهرر ، والتي أحرقها الاسقف ديغودولاندا بإعتبارها رموزا للكفر ، على غرار محاكم التفتيش ، بينما كان يطالب بأشعار مقدسة ، وكذلك " البويول فو " التي دمرت وكأنها أوثان ، لانها كانت محفورة من الحجر أو التماثيل التي أذابها مرتزقة بيزار في سبائك لانها كانت من ذهب .
وحتى داخل أوروبا فقد ، انعكس الحصار المفروض على الأمم على المدرسة نفسها إذ لم يكن مسموحا احياء الاعمال التي تطرح مسألة معنى الحياة .
وتوجب انتقاء الخيار الروسي لإحياء دراما الممسوسين عند دوستوفسكي في الاخوة كرامازوف ، أو " الأبله " المهيب ، يسوع الذي بعث في عالم لا يمكن العيش فيه ، وكما هو في دون كيشوت لسرفانتس ، الفارس النبي الذي آمن أن المثالية هي اكثر حقيقة من الواقع . وعلينا انتقاء الخيار الانكليزي لإحياء دراما عصر النهضة عبر شكسبير أو الخيار الألماني مع وليم مايستر لغوته ، أو مع إشعار هولدرلين .
وحتى في الادب الفرنسي ، تفسح الكتب المدرسية مكانا لجان جينيه ، مثلما تعطي لرومان رولان أو برنانو أو مورياك ، وأحيانا مكانا أوسع .
ونادرون أولئك الذين تجرأوا أن يصرخوا أمام ضلالات بوبورج ، المركز الاكثر استقبالا للزوار : الملك عار! ، كما جعله ـ وبكل جرأة ـ الرسام ماثيو أو البروفيسور فورمارولي الذي استنكر ما سمي بـ " سوق الفن ".
من يتجرأ أن يقول خلسة أو همسا ، أن الديسكو بقوة 120 ديسيبل إنما يدخل في تاريخ الضجيج وليس في تاريخ الموسيقى .
سيمضي وقت طويل من القرن الحادي والعشرين ، حتى يجرؤ مؤرخ بعيد عما هو شائع ، وعن التفكير الاحادي ، والارهاب الثقافي ، أن يقيم الثلث الاخير من القرن العشرين من منظور الثقافة ، مثلما استطاع التلفزيون ، والحانات ، وصالات العرض ، أن يقنعنا بأن نيكي دوسانتغال كان نحاتا وبرنارد هنري ليفي كان فيلسوفا ، وأن كونينج كان رساما ؟
إنه عدوان تحت شعار الحداثة المزعوم ، طالما هناك " أطفال شيوخ " يحملون أفكارا بالية ، يشوهون ساعة اللوفر في باريس ، والقصر الملكي ، أو الجسر التاسع بمساعدة وزراء معادين للثقافة .
يجب أن يبدأ تكوين الحس الجمالي الحقيقي لدى الإنسان من المدرسة ، ومنذ الطفولة. ويجب أن يكون لتعليم القراءة والكتابة والحساب واستخدام النظام الآلي ، والهدف عدم تراكم المحفوظات ، لإفساح مكان للروح الخلافة بدلا من الآلة ، إذ يمكن للآلة أن تمارس أفضل منا ، كل مناهج الحفظ والتركيب ، ماعدا العمل الخلاق الذي يعطي لكل أفعالنا غايات كونية .
ولكن التربية ، لا تستطيع حتى في بنيتها أن تنمو منفردة في المدرسة ، ولا في السنوات الأولى من العمر فقط .
ولقد أصبح تطور العلوم والتقنيات المختلفة ، والعلاقات فيما بين الافراد والشعوب على مستوى العالم سريعا جدا ، بحيث نستطيع القول أن رجلا في الثمانين من عمره قد ولد في وسط التاريخ الإنساني ، إذ أن ما حدث من تطور في هذا القرن ، أكبر من ستة آلاف عام من التاريخ البشري.
ولنضرب مثالا على ذلك : يمكن لأستاذ في الطب وصل إلى عمر الثمانين أن يقول لي : أنا لم أتعلم كتلميذ أكثر من 3 % من المعارف التي استخدمها اليوم . ويمكن لفيزيائي ذرة من نفس العمر ولكنه معاصر لعلوم فيزياء الذرة الآن ، أن تكون معلوماته مساوية لمعلومات فيزيائي ذرة في الخمسين من عمره ومعاصر للعلوم ذاتها .
ولن نتحدث عن طلبة عام 1968 الذين وضعوا على مدخل السوريون لافتة كتبوا عليها : " كلية الآداب والعلوم اللاإنسانية " ، وهم محقون في ذلك .
إذن لا يمكن أن تبقى المدرسة محددة ببداية حياة الإنسان فقط ، بل لابد من وجود فترة تكون فيها الحاجات الإنسانية مشبعة ، من خلال عمل يمتد ثلاث ساعات يوميا فقط . عندها تستطيع المدرسة أن تمتد على مدى العمر كله لتخلق شعراء في كل الفنون وتلبي أعلى احتياجات الخلق لديهم .
ويجب أن يتكون التدريب ، بدءا من تدريب العمال اللازمين للصناعة ، مرورا بتشكيل الكوادر الفنية والباحثين ، هناك حيث يكون تكوين المعرفة تحويلا مستمرا : في المصنع ومراكز الادارة ومراكز الابحاث في جبهة خلاقة ، من العمل الإنساني متجددة باستمرار .
أما المدرسة ، بما هي عليه اليوم فهي مؤسسة بالية ، تتصل باحتياجات مرحلة معينة من التاريخ ، ولكنها لا تلبي الاحتياجات الحقيقية للإنسان .
وهذا هو السبب الرئيسي لسخط التلاميذ والطلبة شأنهم في ذلك شأن المعلمين والمدرسين ، ولن يستطيع أي " إصلاح " لهذا النظام أن يجعل منه أداة لتكوين المستقبل .
والمبادرة في الفعل الخلاق ، لها مكانتها المميزة في الفنون ؛ عندما لا تكون هذه الفنون ، زمن الانحطاط ، انعكاسا للفوضى المحيطة ، أو تمردا سلبيا عليها .
ومن المهم أن نتذكر دوما الدعوة الاساسية للفن : خلق إمكانيات جديدة لتقدم الوحدة الإنسانية . ويتوقف الفن عن كونه فنا عندما تغيب عن وعيه هذه الرسالة النبوية ، وهذا النداء للتعالي الإنساني ، لجوهره الصلب والخلاق ، مثلما فعل شعراء المهابهارتا ، ورسوم تاو الصيني ، والرهبان الذين ترجموا الحماسة الصوفية رسما ولونا ، ومثل روبيليو الذي أبدع أيقونة الثالوث ، ومثل الذين أبدعوا معبد بوروبودوار ، ومساجد قرطبة وكاتدرائية تشارترز ، ومثل فإن كوخ المصلوب على صليب الفن . أو سادة التجريد الغنائي مثل مانسييه أو ماتيو .
من سيعطينا من جديد حماسة بروميثيوس منحوتة في لوحة " العبيد ، مقيدين " لمكلانج ، أو التركيز على الكينونة " للحي اليقظ " لبودادوماتورا .
ومن المحتمل أن توضع أيضاً خارج المدرسة أو باستخدام تقنيات النسخ الدقيق ، وفي أيدي الجميع نسخ من الاعمال لنحاتين من كل أنحاء العالم باستخدام خلائط من الصموغ التركيبية التي تسمح بنقل المعالم بدقة نظام الميكرون . وستسمح لنا أعمال كهذه ، توضع تحت ناظرينا على الدوام ولا تكلف اكثر من ثمن وجبة طعام ، أن نتخلص من سموم موجات الرعب ، و " التأثيرات الخاصة " ، وأعمال العنف التي ترسلها هوليود إلى شاشاتنا الصغيرة ، فهذا النوع من المشاهد ، يدمر الفكر الناقد ، ليس أمام الحلم ، وإنما أمام الكابوس الامريكي ، بما يحلمه من أوهام بشعة في مسلسلات دالاس ، ورعب الديناصورات ، ورجال شرطتهم ، أو " التأثيرات الخاصة " ليوم الاستقلال الخالية من كل إنسانية .
3ـ السياسة وغائية الإنسان :
لا نرى هذا الكابوس فقط على شاشاتنا ، إنما في قلب الحياة ذاتها ، وعلينا أن نصارعه في هذا الميدان بالذات . عندها لا تصبح السياسة إلاّ الظاهر من باطن الفنون والايمان .
إن نية الولايات المتحدة في الهيمنة على العالم كله ، أصبحت واضحة جدا ، (عن طريق تدمير الحياة التي يزعمون أنهم يصدرونها ويفرضونها على العالم كله) ، وتثير غضب العالم بأكمله . وحتى أوروبا ، التي تشاركها في امتيازات الغرب ، بدأت تستيقظ من خدرها الطويل الذي منعها من أن تعي أنها بدأت تصبح تابعا إن لم تكن مستعمرة .
ويملك القادة الاسرائيليون ، الملهمون للسياسة الأمريكية وسادتها ، القدرة للوصول إلى الرأي العام في البلدان الدائرة في فلك الولايات المتحدة ، عن طريق وضع اليد على وسائل الاعلام من السينما إلى النشر ، ومن الراديو والتلفزيون إلى الصحافة المكتوبة . ويستطيعون بهذا الشكل أن يموهوا ولو لفترة من الزمن ، الانحرافات القاتلة في السياسة الأمريكية ، الهادفة إلى الهيمنة . وقد رسموا لها أهدافها المتعاقبة : العراق لتدميره أولا بالسلاح ، ثم بالحصار الذي قتل من البشر اكثر مما قتل السلاح ، وهم يطمعون بعد العراق ، في فرضها على إيران ، وليبيا ، وكوبا ، وكل الدول التي ترفض إملاءات صندوق النقد الدولي ، القاتلة لكل الشعوب .
كانت الشيابا في المكسيك ، الانتفاضة الأولى ، وهي نمط من الانفجارات الاجتماعية التي تقع بسبب سياسة الحرية الاقتصادية التي تسمح للاقوياء بالسيطرة على الاكثر ضعفا واستغلالهم . كما تبدت بأعمال العصيان ضد سياسة صندوق النقد الدولي التي تتطلب إضافة إلى الخصخصة وكل الاجراءات التي تسمح للولايات المتحدة بغزو البلاد الخاضعة لإملاءات الصندوق ، تتطلب ضغط الانفاق الاجتماعي ، بهدف تسديد القروض وفوائدها .
وأخذت المقاومة اتساعا خاصا في المكسيك ، لأن سياسة الهيمنة فرضت عليها بموجب اتفاقية التبادل الحر " المعروفة باسم ALENA بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك ، والتي ألغت كل قيود التبادل التجاري والاستثمار .
لنتذكر معا علاقة القوى الاقتصادية بين البلدان الثلاثة :
الولايات المتحدة كندا المكسيك
التصدير " بمليارات الدولارات " 8 , 393 7 , 127 2, 27
الاستيراد " بمليارات الدولارات " 8, 494 7, 116 4, 38
وأخذ العجز التجاري للمكسيك مع الولايات المتحدة يتصاعد بعد رفع الحواجز ، سنة بعد سنة . وتتوقع المادة 102 من الاتفاقية :
1ـ إلغاء العقبات في وجه التجارة ، وتسهيل حركة الممتلكات والخدمات .
2ـ تشجيع ظروف المنافسة الشريفة .
3ـ الزيادة الجوهرية في فرص الاستثمار .
إذ لا تكتفي المعاهدة بالتبادل التجاري ، فالاستثمار يشكل جزءا من الاتفاق (المادة 103) الذي ينص أن يمنح كل بلد العضوين الاخرين ، شروطا تفضيلية للاستثمار على الاقل بنفس القدر الذي تتمتع به الاستثمارات المحلية ، وذلك فيما يتعلق بالتأسيس ، والتملك ، والتوسع ، والادارة ، والبيع ، وكل الاحكام الاخرى التي تتعلق بالاستثمار .
اتجه 60% من رأس المال الاجنبي في المكسيك إلى اسواق البورصة ، وكرس ما تبقى منه (40 %) لشراء المشاريع الحكومية التي أخضعتها الحكومة للخصخصة .
ولم تكن النتيجة فقط أن رأس المال الأجنبي، لم يؤسس أية صناعة جديدة ، ولا فرص عمل جديدة ، إنما العكس هو الصحيح ، فقد أدت الخصخصة إلى انخفاض فرص العمل . أما الارباح التي تتحقق بسرعة في البورصة ، وكذلك تبخر رأس المال فهما خاضعان لظروف اليوم الواحد . فما أن تحدث مشكلة صغيرة ، أو تنخفض الارباح ، حتى تفر الرساميل بسرعة من البلاد ، لقد ادى اعتماد الاقتصاد المكسيكي على رأس المال الاجنبي إلى فقدان البلاد لسيادتها .
فاد الفارق الكبير في مستوى التطور بين المكسيك من جانب ، وكندا والولايات المتحدة من جانب آخر ، إلى لجوء الرساميل الاستثمارية الاجنبية للعمل منفصلة عن رأس المال الوطني ، مستخدمة تجهيزات تقنية اكثر تطورا من التجهيزات المحلية ، مما دفع بالمشاريع الوطنية إلى التوقف عن العمل واختفاء الايدي الماهرة العاملة في هذه المشاريع .
أما ما يتعلق بالزراعة ، فقد قادت الاجراءات التي اتخذتها المكسيك ، لتصبح مؤهلة للمشاركة في اتفاقية (ALENA ) إلى تعديل اجراءات واحكام انتقال الأرض ، وتنظيم الملكية الزراعية التي حددها الدستور ، فتحت مزاعم زيادة الانتاجية وفق منطق الحرية الجديدة ، توجب على الفلاحين مواجهة الملكيات العقارية الضخمة ، والشركات متعددة الجنسيات العاملة في ميدان الزراعات الغذائية ، ففقدوا بذلك وسيلتهم الوحيدة للقوت .
وفي سياق هذا الوضع ظهر جيش زاباتا للتحرير الوطني .
كان منع المساعدات المالية عن الانتاج الزراعي بموجب المادة 704 من اتفاقية (ألينا) . قد ترك المنتجين المتوسطين في المكسيك دون فرص أو إمكانية لمجاراة الزراعة الواسعة في الولايات المتحدة وكندا .
ونورد في هذا المجال جزءا من خطاب ألقاه احد قادة عمال النسيج المكسيكيين في المؤتمر الدولي للعمل في سان فرانسيسكو (1995) :
" ينكر القانون الجديد على كل العاملين المكسيكيين حقهم في الاضراب للمطالبة بزيادة الاجور . وأما المسموح به فهو فقط الاضرابات المتعلقة بالاخلال بنصوص العقود .
وتخضع المكسيك كلية ، لإتفاقية (ألينا ALENA ) وبدأنا نشهد إغلاق مئات المشاريع الصغيرة . لقد قبل لنا بأن " معلمي " هذه المشاريع لن يستطيعوا بعد الآن مجاراة المنتجات الاجنبية . واذا أردنا أن نساعد أصحاب هذه المشاريع كي تستمر توجب علينا نحن العمال أن نتعاون معهم . ثم استخدم التهديد بإغلاق المصانع لفرض تنازلات على العمال ، تنازلا بعد الآخر ".
وطبقا لنصوص (ألينا) فقد جرت سلسلة من عمليات الخصخصة للمشاريع الوطنية والخدمية .
كما تكاثرت الاتفاقات الانتاجية بين الحكومة وأصحاب المشاريع والنقابات الرسمية .
لم يقتصر اتفاقيات (التعاون) هذه على القطاع العام والخاص الانتاجيين ، بل أمتدت إلى قطاعي الصحة والتربية . فقد ارتفع عدد طلاب الصفوف المدرسية عمّا كان عليه ، وجرى الأمر نفسه بالنسبة للأطباء والممرضين والممرضات العاملين في الدولة ، إذ ضوعفت واجباتهم تقريباً ، مما أداى إلى انحدار مستوى الخدمات الصحية ، بشكل درامي . أما الاجازة المرضية للعاملين فقد ألغيت .
إن التنافس بين بلدين غير متساويين يؤدي إلى تدمير الاضعف منهما ، وهو منطق فقط الاربعة وعشرون مليارديراً مكسيكيا (فوق المليار دولار) .
وتولد هذه الخبرة الاولية التي نستخلصها من قيام التبادل الحر بين بلدان قوية اقتصاديا ، وبين بلدان ضعيفة بسبب تبعيتها ، تولد ما سوف يحدث على مستوى العالم كله ، فيما لو نجح القادة الأمريكان في (عولمتهم) الاستعمارية .
كما تهدينا التجربة نفسها إلى دروب التحرير : وحدة كل القوى العاملة ، والفكر المعادي للاضطهاد.
كانت جماعات هندية قد حملت السلاح في شيانا في 1 / كانون الثاني 1964 باسم (جيش التحرير الزاباتي) . وزاباتا هو اسم القائد الموهوب للعصيان الهندي الفلاحي الأول عام 1911 ، حيث أعطت المقاومة من خلاله ، الامل لكل المضطهدين .
تلقت الحركة مساندة طيبة من أسقف شياباس (شياباس ، هي المدينة التي دافع أول أسقف فيها ، عن الهنود بعد الغزو بقيادة كورتز) .
كان اسقف شياباس هو المونسينيور سامويل رويز قد وصل إلى شياناس عام 1965 . وشارك عام 1968 في مؤتمر أساقفة أمريكا اللاتينية الذي ولدت من خلاله لاهوتيات التحرير . وفي عام 1975 نشر المونسينيور رويز كتابه " اللاهوت الانجيلي للتحرير" الذي قدَّم فيه المسيح يسوع كنبي ثوري ، وأنشأ في أبرشيته 2600 مجموعة قاعدية ..
إن وضع منصب ذو طبيعة معادية للعنف ، في خدمة جيش زاباتا دفع الحكومتان المكسيكية والامريكية في آن واحد إلى اتهامه بإثارة الهنود ، ثم طلب البابا يوحنا بولس الثاني عن طريق مبعوثه البابوي في مكسيكو ، من الاسقف أن يقدم استقالته . ولكن الحكومة المكسيكية وأمام اتساع الحركة المسلحة ، وجدت نفسها مرغمة على الاستعانة به كوسيط . لذلك بقي في منصبه ، وشرح في مؤتمر عام أسباب العصيان ، فقال :
" لقد تعب السكان الاصليون في البلاد من الوعود الحكومية ، واعتقدوا أنه لم يبق أمامهم طريق آخر إلاّ حمل السلاح . لقد دُفعوا دفعا لينفد صبرهم " .
يعود تركيزنا على المكسيك إلى ثلاثة أسباب :
1 ـ لا يمكن فهم الوضع الحالي للمكسيك خارج السياق التاريخي لأمريكا اللاتينية ، والتوسع الاستعماري للولايات المتحدة ليشمل القارة بأكملها . ويرسم وضع المكسيك المسار الاكثر نمطية لتاريخ بلدان أمريكا اللاتينية .
2ـ تعتبر الازمة الحالية ، الظاهرة الأولى التي تحمل دلالة فعلية على انهيار تدريجي لنمط الليبرالية الجديدة ، المرتكزة إلى وحدانية السوق بسبب تناقضاتها الداخلية . وبسبب المعارضة المتزايدة للشعوب التي فرضت عليها . وما انتفاضة الشياباس إلاّ نموذج لما سيحدث آجلا أم عاجلا في عالم المضطهدين كله .
3 ـ أنشأت اتفاقية (آلينا) " وهي نفسها اتفاقية ناقية بلغة الاطلسي " ، سوقا حرة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك ، مستلهمة نفس المنطق الذي أوحى إلى أوروبا بوضع معاهدة مايستريخ ، وبعبارة أكثر عمومية بنفس المنطلق التجاري الحالي الذي تريد الولايات المتحدة فرضه على العالم كله .
ومنذ ذلك الحين ، أخذت حركة شياباس النموذجية ضد الهيمنة الأمريكية ، أبعادا جديدة .
قرر كلنتون لأسباب انتخابية قذرة ، وهي منافسة الجمهوريين في قاعدتهم الانتخابية ، عن طريق كسب أصوات الكوبيين المعادين للثورة ، والاقوياء في ولاية فلوريدا ، إلى تشديد الحصار على كوبا بتنفيذ القوانين التي وضعها الجمهوريون أنفسهم وبشكل خاص القانون المعروف بـ هلمز ـ بورتون ، والذي يعاقب المؤسسات الاجنبية التي تنشئ استثمارات لها في إيران وليبيا . ولم يثير الاجراء غضب ضحاياه الاوائل من أبناء الشعب بسبب تدخله في المكسيك فحسب ، بل أثار أيضاً غضب شركات متعددة الجنسيات لها استثمارات في كوبا " كما في إيران وليبيا " .
وإنه لأمر ذو دلالة أن قانون هلمز ـ بيرتون الذي أقره الكونغرس بمبادرة من الجمهوريين في 3 كانون الثاني 1996 ، قد وقعه كلينتون في 12 آذار والقاضي بفرض عقوبات دولية ضد حكومة فيدل كاسترو، بغية المساعدة في وصول وشيك وبالطريق " الديمقراطي " لتشكيل حكومة جديدة في كوبا .
ويكشف هذا الموقف عن خداع ودجل ما يسمى بالتعددية الحزبية في الولايات المتحدة ، إذ يحكمها بشكل دائم حزب واحد ، هو حزب المال (ويكشف دخول الملياردير روس بيرو حلبة الانتخابات الرئاسية عن حقيقة هذا الخداع . ويحمل قادة حزب المال سواء كانوا ديمقراطيين أو جمهوريين ، الهم الاكبر نفسه ، وهو فرض الهيمنة على العالم كله ، لفتح الاسواق لمشاريعهم بدون عوائق .
وكانت المكسيك التي قبلت نير وعبودية (ألينا) ، هي الضحية الأولى . كانت مجموعة دوموس الاختصاصية بالاتصالات اللاسلكية قد استثمرت في كوبا 700 مليون دولار ، فمنع مديرها مع عائلاتهم ، وحتى أطفالهم من الاقامة في الولايات المتحدة ، منذ أن وضع قانون هلمز ـ بورتون ، موضع التطبيق في 24 آب 1996 .
وهكذا أصبح قانون أمريكي ، له قوة القانون خارج الولايات المتحدة ، تشريعا للعام كله .
ولم يتوقف تدخلهم عند هذا الحد . ففي نفس اليوم أي في 24 آب ، ومن خلال تطبيق نفس القانون الاحادي الجانب ، وجهت ضربة للمؤسسة الكندية شيريت (انترناشيونال) ، فقد تسلمت الشركة إنذارا مدته 45 يوما لتضع حدا لاستثماراتها في مناجم كوبا " وبشكل خاص استخراج ومعالجة النيكل " . واذا تجاوز الأمر هذه المدة دون تنفيذ مضمون الانذار ، ستقوم سلطات البوليس والجمارك بمنع مديري هذه المؤسسة وعائلاتهم من دخول الولايات المتحدة ، علما أن اثنين من المديرين من بريطانيا .
أثار هذا الاجراء غضب حكومة كندا ، لانها الشريك التجاري الأول لكوبا ، إذ يبلغ حجم التبادل بين الدولتين 500 مليون دولار سنويا .
هنا ، تعطينا " اتفاقية ألينا " كل معناها الحقيقي ، إنها التجربة الأولى التي توضح كيف تؤذي الهيمنة الأمريكية شركائها " الاتباع " .
وأعلنت الحكومة المكسيكية ، يدعمها القطاع الخاص في الاقتصاد المكسيكي رفضها لهذه الاجراءات المخالفة للحقوق الدولية . كما اقترحت الاحزاب الرئيسية الاربعة التصويت على قانون للرد على مثل هذا الاعتداء على السيادة الوطنية . وقال بيان الاحزاب : ( علينا أن نطبق قانون المعاملة بالمثل : " العين بالعين والسن بالسن " ) لحماية المشاريع الوطنية من التوقف بسبب ضغوط خارجية ، ولبناء نظام معونة لمصلحة الذين سيرفضون الخضوع للضغوط الاجنبية .
وحتى حكومة زيديك ، المعروفة بخضوعها التام لأوامر واشنطن ، قامت بالتشاور مع الحكومة الكندية لتشكيل جبهة مشتركة لمواجهة مثل هذه الانتهاكات والتشاور حول الاتفاقية التي تنص المادتان 1105 و 1603 على التعامل بحقوق متساوية بين الاطراف الثلاثة ، في الاستثمار وحرية تنقل رجال الاعمال في الدول الاعضاء ، وهما مادتان انتهكتا بمنتهى الوضوح في قانون هلمز ـ بورتون .
كما قررت الحكومة المكسيكية أن تعرض الأمر على منظمة الدول الأمريكية ، والاتحاد أوروبي ، لدعم هذه الجبهة ومواجهة الاطماع الأمريكية . وكانت منظمة الدول الأمريكية قد عارضت مرارا تشديد الحصار على كوبا .
أما أوروبا ، فقد مستها أيضاً وقاحة القادة الامريكان الذين ينوون فرض قوانينهم على كل " حلفائهم " ، والذين أرادوا أن يجعلوا منهم أتباعا ، كما توحي بذلك النصوص الملحقة بمعاهدة مايستريخ " لا يمكن لأوروبا إلاّ أن تكون الركيزة الاوربية لحلف الاطلسي ".
وأعلن الناطق الرسمي باسم المفوضية الاوربية كلاوس فإن دريا ، معلقا على قرار وانشطن بمنع خمسة من قادة مجموعة الاتصالات اللاسلكية المكسيكية " دوموس " من دخول الولايات المتحدة قائلا :
(إن عمليات كهذه غير مقبولة ، ونحن لن نقلبها ) .
أما على المستوى القانوني ، فالحصانة الدبلوماسية ، والتصرف من جانب واحد ، يشيران إلى مدى انحراف قانون هلمز ـ بيرتون . لقد قررت الولايات المتحدة دون أن تستشير أحدا أن تطبق أحكام القانون بحق مواطنين ليسوا أمريكيين ، وتتعلق بأعمال تجري خارج أرضها . ويجري كل ذلك في الوقت نفسه الذي تدرس فيه الغالبية العظمى من البلدان ، وعبر المنظمة الدولية للتجارة تأسيس قواعد مشتركة لتشجيع التجارة العالمية . وهذا ما دعى إلى ظهور رد فعل أوربي جماعي لرفض هذا القانون ـ قانون هلمز ـ بورتون ، بما فيه الحكومة البريطانية .
وفور الاعلان عن قرار المنع ضد المؤسسة المكسيكية أدلى الناطق الرسمي باسم الخارجية الفرنسية بالتصريح التالي :
" أعلنت الولايات المتحدة في إطار تطبيق القانون المسمى هلمز ـ بورتون ، عن نيتها منع قادة أحد المشاريع المكسيكية من الدخول إلى أراضيها ، بسبب استثمار هذه المؤسسة أموالا لها في كوبا .
إن تصرفا أحادي الجانب كهذا ، والمناقض لقواعد التجارة الخارجية ، غير مقبول . وتأسف فرنسا لتطبيق هذا التشريع الذي تعارضه بحزم ، مثلما تعارضه شريكاتها الاوروبيات . وتقوم الحكومة الفرنسية بالتشاور مع السلطات المكسي