الصفحة الرئيسة البريد الإلكتروني البحث
سيّد الاستثناء النضيرالهبوط الآمن في صحراء شريعتيعلي شريعتي/ العرفان الثوريهبوط في الصحراء مع محمد حسين بزيهوية الشعر الصّوفيالمقدس السيد محمد علي فضل الله وحديث الروحعبد المجيد زراقط في بحور السرد العربيقراءة في كتاب التغيير والإصلاحبرحيل الحاجة سامية شعيب«إحكي يا شهرزاد» اهتمام بشؤون المرأة المعاصرةالنموذج وأثره في صناعة الوعيتبادل الدلالة بين حياة الشاعر وحياة شخوصهالشيعة والدولة ( الجزء الثاني )الشيعة والدولة ( الجزء الأول )الإمام الخميني من الثورة إلى الدولةالعمل الرسالي وتحديات الراهنتوقيع كتاب أغاني القلب في علي النَّهريحفل توقيع كتاب أغاني القلبإصدار جديد للدكتور علي شريعتيصدور كتاب قراءات نقدية في رواية شمسحريق في مخازن دار الأميردار الأمير تنعى السيد خسرو شاهيإعلان هامصدر حديثاً ديوان وطن وغربةعبد النبي بزي يصدر ديوانه أصحاب الكساءتوزيع كتاب هبوط في الصحراء في لبنانإطلاق كتاب هبوط في الصحراءصدور هبوط في الصحراءمتحدِّثاً عن هوية الشعر الصوفينعي العلامة السيّد محمد علي فضل اللهندوة أدبية مميزة وحفل توقيعاحكي يا شهرزاد في العباسيةفي السرد العربي .. شعريّة وقضايامعرض مسقط للكتاب 2019دار الأمير تنعى د. بوران شريعت رضويالعرس الثاني لـ شهرزاد في النبطيةصدر حديثاً كتاب " حصاد لم يكتمل "جديد الشاعر عادل الصويريدرية فرحات تُصدر مجموعتها القصصيةتالا - قصةسِنْدِبادِيَّات الأرز والنّخِيلندوة حاشدة حول رواية شمسندوة وحفل توقيع رواية " شمس "خنجر حمية وقّع الماضي والحاضرمحمد حسين بزي وقع روايته " شمس "توقيع رواية شمستوقيع المجموعة الشعرية قدس اليمندار الأمير في معرض بيروتتوقيع كتاب قراءة نفسية في واقعة الطفدار الأمير في معرض الكويتمشاكل الأسرة بين الشرع والعرفالماضي والحاضرالفلسفة الاجتماعية وأصل السّياسةتاريخ ومعرفة الأديان الجزء الثانيالشاعرة جميلة حمود تصدر دمع الزنابقبيان صادر حول تزوير كتب شريعتي" بين الشاه والفقيه "محمد حسين بزي أصدر روايته " شمس "باسلة زعيتر وقعت " أحلام موجوعة "صدر حديثاً / قراءة نفسية في واقعة الطفصدر حديثاً / ديوان جبر مانولياصدر حديثاً / فأشارت إليهصدر حديثاً / رقص على مقامات المطرتكريم وحفل توقيع حاشد للسفير علي عجميحفل توقيع أحلام موجوعةتوقيع ديوان حقول الجسدباسلة زعيتر تُصدر باكورة أعمالهاالسفير علي عجمي يُصدر حقول الجسدصدر حديثاً عن دار الأمير كتاب عين الانتصارجديد دار الأمير : مختصر كتاب الحج للدكتور علي شريعتيصدر حديثاً كتاب دم ابيضاصدارات مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي
الصفحة الرئيسة اّخر الإصدارات أكثر الكتب قراءة أخبار ومعارض تواصل معنا أرسل لصديق

جديد الموقع

سيّد الاستثناء النضيرالهبوط الآمن في صحراء شريعتيعلي شريعتي/ العرفان الثوريهبوط في الصحراء مع محمد حسين بزيهوية الشعر الصّوفيالمقدس السيد محمد علي فضل الله وحديث الروحعبد المجيد زراقط في بحور السرد العربيقراءة في كتاب التغيير والإصلاحبرحيل الحاجة سامية شعيب«إحكي يا شهرزاد» اهتمام بشؤون المرأة المعاصرةالنموذج وأثره في صناعة الوعيتبادل الدلالة بين حياة الشاعر وحياة شخوصهالشيعة والدولة ( الجزء الثاني )الشيعة والدولة ( الجزء الأول )الإمام الخميني من الثورة إلى الدولةالعمل الرسالي وتحديات الراهنتوقيع كتاب أغاني القلب في علي النَّهريحفل توقيع كتاب أغاني القلبإصدار جديد للدكتور علي شريعتيصدور كتاب قراءات نقدية في رواية شمسحريق في مخازن دار الأميردار الأمير تنعى السيد خسرو شاهيإعلان هامصدر حديثاً ديوان وطن وغربةعبد النبي بزي يصدر ديوانه أصحاب الكساءتوزيع كتاب هبوط في الصحراء في لبنانإطلاق كتاب هبوط في الصحراءصدور هبوط في الصحراءمتحدِّثاً عن هوية الشعر الصوفينعي العلامة السيّد محمد علي فضل اللهندوة أدبية مميزة وحفل توقيعاحكي يا شهرزاد في العباسيةفي السرد العربي .. شعريّة وقضايامعرض مسقط للكتاب 2019دار الأمير تنعى د. بوران شريعت رضويالعرس الثاني لـ شهرزاد في النبطيةصدر حديثاً كتاب " حصاد لم يكتمل "جديد الشاعر عادل الصويريدرية فرحات تُصدر مجموعتها القصصيةتالا - قصةسِنْدِبادِيَّات الأرز والنّخِيلندوة حاشدة حول رواية شمسندوة وحفل توقيع رواية " شمس "خنجر حمية وقّع الماضي والحاضرمحمد حسين بزي وقع روايته " شمس "توقيع رواية شمستوقيع المجموعة الشعرية قدس اليمندار الأمير في معرض بيروتتوقيع كتاب قراءة نفسية في واقعة الطفدار الأمير في معرض الكويتمشاكل الأسرة بين الشرع والعرفالماضي والحاضرالفلسفة الاجتماعية وأصل السّياسةتاريخ ومعرفة الأديان الجزء الثانيالشاعرة جميلة حمود تصدر دمع الزنابقبيان صادر حول تزوير كتب شريعتي" بين الشاه والفقيه "محمد حسين بزي أصدر روايته " شمس "باسلة زعيتر وقعت " أحلام موجوعة "صدر حديثاً / قراءة نفسية في واقعة الطفصدر حديثاً / ديوان جبر مانولياصدر حديثاً / فأشارت إليهصدر حديثاً / رقص على مقامات المطرتكريم وحفل توقيع حاشد للسفير علي عجميحفل توقيع أحلام موجوعةتوقيع ديوان حقول الجسدباسلة زعيتر تُصدر باكورة أعمالهاالسفير علي عجمي يُصدر حقول الجسدصدر حديثاً عن دار الأمير كتاب عين الانتصارجديد دار الأمير : مختصر كتاب الحج للدكتور علي شريعتيصدر حديثاً كتاب دم ابيضاصدارات مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي

أقسام الكتب

مصاحف شريفة
سلسلة آثار علي شريعتي
فكر معاصر
فلسفة وتصوف وعرفان
تاريخ
سياسة
أديان وعقائد
أدب وشعر
ثقافة المقاومة
ثقافة عامة
كتب توزعها الدار

الصفحات المستقلة

نبذة عن الدار
عنوان الدار
About Dar Al Amir
Contact Us
شهادات تقدير
مجلة شريعتي
مواقع صديقة
هيئة بنت جبيل
اصدارات مركز الحضارة

تصنيفات المقالات

تصنيف جديد
شعراء وقصائد
قضايا الشعر والأدب
ريشة روح
أقلام مُقَاوِمَة
التنوير وأعلامه
قضايا معرفية
قضايا فلسفية
قضايا معاصرة
الحكمة العملية
في فكر علي شريعتي
في فكر عبد الوهاب المسيري
حرب تموز 2006
حرب تموز بأقلام اسرائيلية
English articles

الزوار

13924220

الكتب

300

القائمة البريدية

 

الولايات المتحدة طليعة الانحطاط (الفصل 6 - 7)

((التنوير وأعلامه))

تصغير الخط تكبير الخط

الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
كيف نحضر للقرن الحادي والعشرين

بقلم: روجيه غارودي.

نقله إلى العربية: مروان حموي.

( إضغط هنا لقراءة الفصل الرابع والخامس ) usaflag_290

الفصل السادس
أحلام الغرب وأكاذيبه

إنه الطريق العريض لتتخلص الشعوب التي خضعت طويلا للغرب ، من قوانين تنمية خارجية وغريبة عن ثقافتها الخاصة ، ومفروضة من الاستعمار .
وليس المطلوب أن ننكر إسهام الغرب ، إنما المطلوب أن نعطيه مكانه الصحيح ، كل مكانه ، ولكن لا شيء أكثر من مكانه ، وبشكل خاص أن يسخر بشكل خاص قوة العلم والتقنية لخدمة غايات إنسانية .
وهكذا فقد نستطيع أن تتواصل وبشكل إنساني ، الملحمة الإنسانية التي بدأت قبل ثلاثة ملايين عام.
وقد كتب رجل فضاء ، وطأت قدماه تراب القمر ، عند عودته إلى الأرض : " بدت الأرض من هنا جميلة ومضيئة . . بدت موحدة وهادئة ".
للمرة الأولى لمحت عين بشرية الأرض في كليتها ، دون حدود تقسمها ، سابحة في فضاء لا نهاية لآفاقه .
أننجح في التشبث بها في الوقت المناسب ؟ في وحدة تاريخها ؟
منذ فجر الحضارات الاولى ، منذ عمليات التوهج الأولى في الفكر والحب ، إلى أملنا الحاضر ومشروعنا للوحدة الإنسانية ؟
يمكن لنا منذ الآن كي نغير جذريا العلاقات الاجتماعية :
ـ أن نخلق نموا جديدا ، غير النمو الذي يسحق البشر ، وحرياتهم ، نموا لا يقود بعد الآن إلى مزاعم " توازن الرعب " ، التهديد الرئيسي لأمن الشعوب وسلامها .
المطلوب نمو نوعي لا كمي ، يشبه حلم الام بنمو طفلها ، أو حلم كل منا ، فيما يتعلق بالذين نحبهم . المطلوب نمو بالمعنى الذي قصد إليه القديس غريغوري دونيس عنما قال : " الله هو الاكتشاف الابدي للنماء الابدي " .
ـ أن نفتح أبواب أوروبا للعالم ، للعالم الثالث بشكل خاص ، مع الاصغاء للحضارات الاخرى ، لان المشكلات التي تنتج عن النمط الغربي للتنمية أصبحت مشكلات العالم كله ، ولن تحل الا بالاهتمام بثقافات وحكمة شعوب العالم الثالث . إنه أحد الشروط الجوهرية لقيام سلام حقيقي لا يشوبه ظلم أو سيطرة .
ـ أن نجري تبديلا جوهريا في علوم التربية والتعليم ، وتسخيرها لتكييف الإنسان لا لحاجات النظام القائم ، بل لبناء المستقبل ، ويجب من أجل ذلك تعليم الطفل أن العالم ليس حقيقة مكتملة وقبلية ، ومتصلبة ، ولكنه عمل علينا نحن صياغته .
نعتقد أن الواجب الأول للمثقفين ، هو إزاحة القناع عن اللغة الكاذبة للكراسات المدرسية ، ووسائل الاعلام التي تخدم الغرب ، كي يحقق سيادته بواسطة أيديولوجيات خداعة تحت اسم " الحداثة " .
ليس هناك مسلمة واحدة من هذه المسلمات التي يزعم أنها عصرية إلا كاذبة ، وفي المقدمة منها مسلمات الديمقراطية ، والدفاع عن حقوق الإنسان ، والحرية .
كانت الديمقراطية دائما ، خدعة الاقلية التي تملك العبيد والثروات .
وما يسمونه " الديمقراطية الاثينية " في زمن بيركلس ، ويقدمونها لنا مثالا يحتذى ، " مثل ديمقراطية المرسيدس " ، كانت في حقيقة الامر حكومة تمثل عشرين ألف مواطن حر ، مقابل مئة ألف عبد محرومين من كل حق . كان المطلوب تراتبية مبنية على الاستعباد ، عمدت على أنها ديمقراطية .
إنها ديمقراطية الاسياد، ولا ديمقراطية للآخرين .
نادى إعلان " استقلال الولايات المتحدة " بالمساواة في حقوق كل البشر ، وبعد هذا الاعلان المهيب ، حافظت الولايات المتحدة ولمدة قرن كامل على الرق . أما التمييز العنصري ضد السود فما زال قائما حتى يومنا هذا .
إنها ديمقراطية للبيض فقط ، ولا ديمقراطية للسود .
أما إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي صدر عن الثورة الفرنسية ، فقد أكد بكل شموخ أن " كل الناس يولدون أحرارا ومتساوين في الحقوق " ، ولكن الدستور الاقطاعي الذي شكل الاعلان مقدمة له ، استبعد من حق التصويت ثلاثة أرباع الفرنسيين لأن فقرهم جعل منهم " مواطنين سلبيين " .
إنها ديمقراطية الاغنياء ولا ديمقراطية للفقراء .
ونجد الموقف نفسه في ميدان حقوق الإنسان .
لقد جرى تعداد هذه الحقوق في " الاعلان العالمي لحقوق الإنسان " الذي صدر عن الأمم المتحدة عام 1948. كانت كل هذه الحقوق تعابير متناقضة بشكل جلي مع الواقع ، وسنكتفي بايراد مثالين فقط :
ـ المثال الأول يتعلق باعلان " حق العمل " ، بينما يخلق النظام القائم ملايين العاطلين عن العمل ، ولا يتوقف عددهم عن الازدياد .
ـ المثال الثاني ، هي المادة التي تتحدث عن " حق التصويت " ، بينما نرى أن الحساب المصرفي ، قد حل محل بطاقة الانتخاب ، ليس فقط في الولايات المتحدة ، حيث تكلف الحملة الانتخابية المرشح إلى مجلس الشيوخ أو النواب 500 مليون دولار ، بل في الكثير من البلدان حيث تسمح الثروة بشراء الاداتين الضرورتين للوصول إلى السلطة : وسائل الاعلام بقصد التلاعب بالرأي العام ، وصناعة السلاح لقهر الرأي العام كحل أخير .
ويقولون عن هذا " الاعلان " أنه " عالمي " .
ويستطيع كل الناس الادعاء أنهم يعملون وفق حقوق الإنسان : المساواة الكاملة أمام القانون ، فالعاطل عن العمل والمليادير ، كلاهما يتمتعان بحق متساو في تأسيس صحيفة أو سلسلة من المحطات التلفزيونية . وتتجلى هذه المساواة مرة أخرى أمام القانون عندما نعلم أن كليهما ممنوعان من سرقة رغيف خبز ، لانهما سينالان نفس الجزاء .
هؤلاء الذين يدعون لانفسهم أنهم المدافعون عن حقوق الإنسان على امتداد العالم كله هم الاكثر ارهابا في العالم ، والاشد انتهاكا لحقوق الإنسان ، ليس فقط من خلال ماضيهم البعيد " مجزرة هنود أمريكا ، معاهدات الرقيق الاسود ، الاستعمار بشكل عام " وإنما أيضاً من خلال جرائمهم حديثة العهد ، كما جرى عندما أمطروا أرض فيتنام بالنابالم ، وزودوا بالمال والسلاح والمدربين ، جلادي رواندا ، وكما جرى في العراق ، حيث يتحملون مسؤولية موت 400 ألف انسان ، وهم المذنبون الحقيقيون في وفاة 250 ألف طفل في المستشفيات في أقل من خمس سنوات " أرقام منظمة الصحة العالمية "، وفي وفاة عدد مماثل خارج المستثفيات بسبب استمرار الحصار على العراق .
بهذا المنطق اجتمع رؤساء مجموعة السبعة ، وهي الدول الاكثر غنى في العالم ، في ليون 1996، لمحاوبة الارهاب ، برعاية الولايات المتحدة ، ولن تكرر ذلك كثيرا ، فأولئك الذين يريدون فرض نمط النتمية الليبرالية على العالم ، يعادل هذا النمط وفاة عدد مشابه لضحايا هيروشيما كل يومين .
هؤلاء الاساتذة الغرباء عن الاخلاق ، يعطون العالم مثالا للاصولية الاكثر تطرفا .
تعني " الاصولية " الزعم بامتلاط الحقيقة المطلقة ، وبالتالي ، ادعاء الاصوليين بحقهم " بل بواجبهم " في فرض هذه الحقيقة على الاخرين . وأكمل مثال على الاصولية هو الاستعمار ، إذ تحرك المستعمرون تحت راية زعم مزدوج :
أولا التبشير بالنصرانية لفرض مفهومها الخاص عن الدين على العالم . وقد حمل العسكريون والتجار مسؤولية ما تبقى وهو المجازر والاستغلال . وبعد ذلك ، وبعدما تراجعت مقولة التبشير، زعموا بأنهم يحملون " الحداثة " إلى العالم .
وعندما توحد الاستعمار تحت قيادة الولايات المتحدة ، تبين أن " النظام العالمي الجديد " ، ليس الا تكرارا للفوضى الاستعمارية القديمة ، والتي أطلق عليها منذ ذلك الحين " الليبرالية الاقتصادية الشاملة " ، والتي أعطت فاعلية أكبر للهيمنة على العالم ، وإهلاكه ، بطرق اقتصادية " دون استبعاد التدخل العسكري " . وأصبحت إسرائيل  بعد الغاء التمييز العنصري في اتحاد جنوب إفريقيا وهي في الاساس احسن حليف لهذا النظام ، أصبحت الممثل الاخير للاستعمار التقليدي ، أي العنصري .
أما الاصوليات الاخرى فقد نشأت من خلال انتفاضات ضد الاصوليات الغربية الاساسية ، وضد المتواطئين معها " من إسرائيل حتى السعودية ومن إيران الشاه حتى زائير موبوتو " . وكانت الثورة الثقافية في الصين المثال الأول لرفض كلي للغرب بكل أبعاده " بدءا من الضغط الوحشي حتى موسيقى بتهوفن التي اعتبرت برجوازية " .
وكانت إيران الخميني قد شكلت ظاهرة مماثلة في رفض نظام حياة غريب على ثقافتها التي تعود إلى آلاف السنين .
وتعتبر كل الاصوليات الاخرى ، بتطرفها ، وأحيانا بلغتها المهجورة ، ردود فعل على الاصوليات الغربية الاساسية ، دفاعا عن هويتها . غالبا ما كان رد الفعل هذا عودة إلى الماضي لأنها تحلم في مواجهة الغزو الثقافي ، بعصر ذهبي سابق على هذا العدوان ، ونادرا ما نتجه نحو المستقبل وفق مشروع حقيقي .

الفصل السابع
الحضارة ومعتقدات العوالم الأخرى
لاهوتيات التحرير

تعتبر مشكلة الإنسان ـ لا مشكلة اجمالي الانتاج الوطني ـ هي أحدى أصعب المشكلات التي تواجه البلدان غير الغربية، لاكتشاف المبادئ الاساسية لانجاز تنمية حقيقية . وهي مشكلة استعادة الثقافات المتوقفة بفعل خمسة قرون من الاستعمال ، والتي أعطت هذه البلدان عظمتها الاولى ، وهي قادرة اليوم أن تعلمنا كيف نبني خضارة مؤسسة على علاقات أخرى ـ غير العلاقات السائدة حتى الآن ـ مع الطبيعة ، والانسان ، والله .
أولا، في علاقاتنا مع الطبيعة : فبدلا من اعتبارها مخزنا ومستودعا ، مخزنا نستطيع أن نستخرج منه بدون نهاية ، مصادر الطاقة والمواد الاولية ، ومستودعا لفضلاتنا ، علينا أن نستعيد شعورنا بان الطبيعة ، ليست جزء منا ، بل نحن جزء منها .
ذات يوم ، قال لي صديق أفريقي أسود : تعود الطبيعة إلى مجتمع كبير جدا ، مات جزء منه ، وجزء مازال حيا، وجزء ثالث لم يولد بعد ، نحن مسؤولون أمام الجميع .
ونحن ؟ أنفكر بأحفادنا الذين عليهم بعد قرون أن يحموا انفسهم من أشعاعات مخلفاتنا الذرية.
أجاب زعيم هندي أمريكي من إقليم " ميلك ريفر" القريب من حدود مونتانا ، أجاب الغزاة الأمريكيين الذين حثوه للاسراع بتوقيع " ميثاق إقليمي " من أجل التخلي عن الأرض :
" مازال هناك وقت طويل تتألق فيه الشمس ، وتجري الانهار ، وتبقى الأرض ، لتهب الحياة للإنسان والحيوان . بما تفكرون أن الخالق قد أرسلكم ، لتنظيمنا حسب إرادتكم ، ولكن افهموا جيدا سبب حي للإرض . أنا لم أقل ابدا أن هذه الأرض ملكي استخدمها على هواي . إنما وضعت هنا من قبل الروح العظمى لخدمتها، ولذلك لن نستطيع بيعها لأنها ليست ملكنا .
في نظام يباع فيه كل شيء ويشري ، أين نحن من الاحترام للطبيعة والإله ؟
وفي لوحة صينية تعود لعصر سونج (القرن الثالث عشر) ، نعيش تحت تأثير مبدأ " تاو " : " أن تكون واحدا مع الكل " ، إن شبكات الانهار وسلاسل الجبال ، والغيوم ، والاشجار ، وهذا الإنسان الضئيل في سلم الاحجام ، كل ذلك يعطينا الاحساس أن ما يحيط بتفاصيل اللوحة ليس العين الجيومترية للإنسان الغربي ، لأن المشهد يمثل رمزا مرئيا لعالم بأكمله ، مع قوى تأتينا من كل أنحاء اللوحة ، فنغوص في نوع من الشمولية الكونية ، تقرب من الصلاة عند رسامي اللانهابة.
ماذا يبقى في حيانتا ، وفي الفنون التي يسمونها معاصرة ، من هذه المشاعر الغامرة ؟ !
وفي علاقتنا بالآخر، فقد اكتشفنا أنه إلى جانب " الانا " الصغيرة ، وهي مركز ومقياس كل شيء ، هناك الاحساس بالوحدة ، أي بالشمولية الإنسانية ، التي يشعر فيها كل إنسان أنه مسؤول عن مصير جميع الآخرين .
كانت تجربة أربعة شهور قضينها في كوخ صغير ، على الحدود بين غينيا والسنغال ، على بعد ألف كيلو متر من الشاطئ ، حيث لا يسكن المنطقة مسيحي أو مسلم ، بل من نسميهم ، لافتقارنا لمفردة أخرى " بالحيويين " ، قد تركت في نفسي أثرا عميقا جدا . وحتى في باريس ، تدلنا معاشرة المجموعات المهاجرة من المغاربة والسنيغاليين ، على ما بقي لنا أن نتعلمه منهم ، طالما أن المساعدة المتبادلة ، والمجتمع الإنساني ، يكملان " الكرم " المؤسساتي لمنظماتنا .
أما علاقتنا مع الله ، فنحن بجاجة لإيمان الآخرين ، وكذلك لشكهم وكفرهم ، كي نتحرر من آلهة القوة ، الملوحة بالصاعقة مثل زيوس وجوبيتر أو آلهة الحرب مثل الهاف ، وكل الاصنام المتشبهة بالآله ، مثل آلهة المدن القبلية أثينا ، أو الآلهة الصغار التي تهب النصر ـ أو تأمر بالمجازر لحماية " شعبها الامختار " من الآخرين . إن هذه الآله القبيلة تتوعد بالجحيم من يعصيها وبالنعيم من يطيعها .
أما المسيح الآسيوي فقد ظهر كشهادة إلهية على القدرة والعوز، والانفصال الجذري عن كل الآلهة السابقة ، ولترديد أصداء كل حكمة الشرق: حكمة كتاب " فيدا " الذي ابتدئ بكتابته انطلاقا من الألف الثاني قبل الميلاد ، والذي مكن حكيما هنديا أن يقول : إن ديانتنا " الفيدية " الخالدة ، هي منبع كل الديانات ، وكل الثقافات وكل الحضارات .
وقال الأب الجزويتي مونشانان عن الفيدا : إنه " الترنيمة الطقسية المطلقة " ، لأنها تعلن أولا عن وحدانية الكون كله، وتوحد الإنسان مع الله .
وتصدح ترانيم الرانيم الفيدا : " أسماء الله كثيرة ، ولكنه واحد " . إنها تسبح بوحدانية الله ، ووحدة الكل ، منذ ألفي عام قبل كل الحركات الروحية الأخرى . إن ترانيم الفيدا وتفاسيرها في كتاب " الاوبانيشاد " الذي ظهر بعد الفيدا بقرون ليعبر عن نفس الرؤيا ، إنما هي استبطان للإنسان المسكون بالإله : " أنت ذاك " أي إن " البراهمان " وهو الوحدة الكلية وهو ما ندعوها لله يوجد بكليته في الإنسان ، إن " الأنا " الاكثر عمقا فينا ، تتطابق معه والبرهمان أبعد مما يكون وما لا يكون ، إنه في أعماق كل ما هو كائن ، وخارج كل ما هو كائن ، شأنه شأن الملكوت الذي وعدنا به المسيح ، هذا الملكوت الذي لا ندخله بالغزو وإنما بالزهد .
ونفس التعاليم يحملها إلينا " الريشيس " ، أي زهاد الهند الذين يحثون على نبذ كل ما هو خاص بنا ، كل ما هو " ملكيتها " : أي رغباتنا الجزئية ، وأشياؤنا التي تجعلنا نشعر بالرضى ، وذلك كي لا نعمل إلا بما هو الحقيقة الباقية في العالم : الوحدة المطلقة ، وهي كائن لا يمكن تجزئته ، وضمير ، وبهجة علوية . هذه الصيغة الأولى للثالوث : صمت الرب ، الاب غير المرئي ، ثم كلام الرب ، الابن ، الذين اصبح مرئيا عن طريق حياته وكلامه وأفعاله ، وكل ما نستطيع أن نعرفه عن الإله غير المرئي ، المحتجب ، وأخيرا وجود الله ، الروح التي جعلت من كل إنسان وعدا من الله ، الذي جعل من نفسه بشرا ، لكي يستطيع الإنسان أن يصبح الها ، كما قال آباء الشرق .
كتب طاغور :
" إن الحالة ، التي تتحقق فيها اللحمة مع الجميع وتنفذ إلى كل الاشياء ، من خلال الاتحاد بالإله ، هي الهدف الاسمي ، واكتمال الإنسانية " .
هذه هي أيضاً رسالة " التاوية الصينية ، مستبعدة كل ثنائية ، وقد كتب تشوانج تسو في القرن الرابع قبل الميلاد : " كل الكائنات وأنا ، كنا في الأصل واحدا . أن تكون واحد مع الكل ".
هذا الايمان ، الوجه الداخلي لكل عمل انساني بحث ، ونعني بذلك أنه ليس له من دافع إلا خدمة " الكل " ، متخليا عن كل رغبة جزئية (ويسمى اللاهوتيون ذلك  Knenose) . سواء كانت رغبة تتصل بالشخص نفسه ، أو بجماعة جزئية : كالعرق ، أو الأمة ، أو الكنيسة أو الحزب . وتعتبر هذه الفكرة نقيضة للمفهوم القبلي ، للشعب المختار " في العهد القديم ، الذي حطمه المسيح بشكل جذري . هذه هي اليقظة التي كان بوذا شاهدا عظيما عليها .
ولقد ربطت اراديا ، دعوات الحكمة السابقة هذه برسالة السيد المسيح في حياته ومماته ، لأنه الاقرب الينا منها ، وأقرب في ايمانه الموحد للبشر ، لقد جسد هذه الحكمة في شخصية واحدة . شخص واحد غيرتنا محبته ، وأعطت معنى لحياتنا . كان موته بعثا لكينوتنتا . وقد كتب أحد الروحيين البيزنطيين : " أنا أحب ، إذن أنا موجود ".
المسيح هو أولا التخلي عن الذات ، والتخلي عن انتماءاتنا الجزئية والقطيعة المطلقة : أولا مع " العهد القديم " الذي نقض ناموسه كله . أضف إلى ذلك بأننا ندرك أن القديس بولس الذي لم يرجع إليه في حياته وأعماله وأقواله ولم يبدا الاهتمام به إلا بعد موته محولا صليبه إلى مركبة للنصر وقيامته معجزة القدرة الإلهية كي يعيد في رسائله السابقة على الأناجيل بناء هذه الحياة انطلاقا من مقطع في العهد القديم وكأنه ـ أي المسيح ـ لم يأتي لنا بجديد . " لقد تنبأ الأنبياء وموسى بمن عليه أن يأتي وأنا لا أقول شيئا بعد ذلك "، وكأن المسيح كان سعيدا أن يلعب دورا في سيناريو كتبه الأنبياء . إن مسيح بولس ، ليس يسوع . فالمسيح إنما هو ترجمة يونانية للمسيا اليهودي الذي توجب عليه إعادة بناء مملكة داوود . ولهذا توجب عليه إذن أن يكون سليلا ومكملا لداوود هذا ، الرئيس الحربي لعصبة من المرتزقة الذين يروي لنا سفرا صاموئيل والملوك انتهاكاتهم الدامية وأعمال الدناءة التي ارتكبوها .
ليس يسوع داوود جديدا ولا هو ابن رب (الجنود) . وليس الحب الذي وعظنا به انجازا لثأر العهد القديم ، ولا حتى تضامنا قبليا كما جاء في سفر اللاويين حيث يحب كل واحد الآخر إنما في حدود القبيلة فقط ، كما يؤكد التلمود . عندما شرح كلمة " قريبك " في إطار التشريع في الكتاب المقدس ، حدد التلمود أنه يعني الاسرائيلي فقط لأن النص الكتابي يقود إلى هذا التفسير .
وسيكون هذا كما قال يسوع أمرا جديدا لأنه لم يظهر في ألواح موسى . هذا التحويل من " حقير جدا " إلى " سام جدا " لقائد حربي ومن أسلوب داوود ويوشع ، سيجعل من المسيحية يهودية مصححة ، ومن يسوع إكمالا لوعد قطع " للشعب المختار " وهكذا ستمحى الجدة الجذرية لرسالة يسوع من خلال مسخ حياته البائسة المتواضعة عن طريق تمجيد وظيفته كمسيح ، حاملة خاتمة منتصرة للتاريخ اليهودي .
وكتب المفسر الكبير " داوود " في كتابه (مؤسس المسيحية ) ما يلي : " تترافق المسيحية اليهودية بدور سياسي وعسكري " لإبن " داوود ، واخر ما كان يتمناه المسيح أن يلعب هذا الدور ".
ويضيف في كتابه الثاني " حكم مملكة الرب " : ليس لكلمات يسوع ما يوازيها في التعاليم اليهودية ، ويجب أن لا تعتبر رسالة يسوع وكأنها محاولة لتصحيح اليهودية ، فهو يحمل رسالة جديدة تماما ، لا يمكن توافقها مع النظام الواوث آنذاك ".
وقال آلبرت ستوفر وهو شارح آخر  يعمل في كلية لاهوت زيوريخ ، بلغة اكثر تطرفا " يبلغ يسوع رسالة جديدة من الله ، ديانة جديدة ، خلق جديد ، لا رابطة بينه وبين التوراة . " من كتاب يسوع وتاريخه ".
وكتب لاهوتي آخر هو جونزالس ماوس : " إن الرب الذي دعى له يسوع ، غير الموجود في العهد القديم " .
أما بولس الذي أعاد تهويد المسيحية ، فقد كان السلف لكل الذين ربطوا بين الكنيسة والسلطة منذ القرن الرابع الميلادي : الصليبيون ، ومحاكم التفتيش ، والاستعمار الذي أخذ صيغة " التنصير " والتعاون مع فرانكو، وكذلك مع بيتان ، وما سمي بالاصلاح " الاحياء " الذي تعارض مع الانفتاح النبوي للفاتيكان ، وادانة لاهوتيات الحرية التي هي ـ ربما ـ احد أعظم الامال في عصرنا ، لأنها تحقق السمة الإلهي بعد أن توقفت عن التفكير بمصطلحات خارجة عن وعي الإنسان ، والتي تعفيه من مسؤولياته أمام الله الذي ينظم من خارج ومن أعلى ، مصائر البشر .
وعلينا الاعتراف أن التجارب التاريخية لبناء الاشتراكية والتي حملت إسما مغتصبا هو الماركسية قد فشلت . والى جانب إخفاق الإنسان فإن الخطأ النظري الرئيسي لما يسمونه " الاشتراكية التاريخية " يمكن يكمن في الزعم أنه بالامكان تحرير الإنسان عن طريق تجريده من " بعده المتعالي " .
لكن لاهوتيان التحرير لم تشاطر هذا المفهوم رأيه في التقليل من قيمة الإنسان . إنها تشارك في القناعة أن كل معركة في سبيل التحرير ، تحتاج إلى اكثير من التعالي ، أكثر مما تحتاج إلى الحتمية .
لقد فتحت هذه اللاهوتيات طريقا جديدة لاتحاد لا ينفصم بين الايمان والتاريخ .
وبنفس التوجه ، تذكر هذه اللاهوتيات الافراد ، بتعالي التاريخ ، وتذكر أفرادا آخرين بالبعد التاريخي للتعالي . وبهذا الشكل تجاوزت ثنائيتين مقلوبتين ونمطيتين تسدان الطريق أمام الحرية المطلقة للإنسان : الاولى : بالتعالي الذي ينظر إليه كخارجية أخروية مقللة بذلك أهمية الصراعات التاريخية للإنسان ، والثانية إلستزام بالتاريخ دون مرجعية مطلقة .
فقد قادت هاتان الثنائيتان الجزئيتان في الغرب إلى عجز مضاعف : عجز المسيحية عن الفهم التاريخي للحركات الاساسية لتحرير الإنسان ، والعجز الناتج عن فشل أولئك الذين حاربوا في تاريخ مغلق .
وبدلت لاهوتيات التحرير الجهد المعاصر الاكبر لوضع نهاية لهذا الطلاق .
وليست ص\فة تاريخية أن لاهوتيات التحرير هذه قد ولدت في البلاد التي سادها الاستعمار .
أولا : أمريكا اللاتينية ، هذا الاديم الإنساني الذي تشكل من المجتمعات الاصلية ، حيث ترعرع الوعي لدى المجتمعات الاكثر فقرا ، بأن الكائن الفقير ليس كائنا أبدا . وكان مفهوم للحب ، قد حول مأساة سحق الجماهير كشرط لفني بضعة أفراد إلى نوع من التجريد ، ضمن استمرار الوضع القائم .
انطلاقا من هذا الوضع التاريخي الواقعي ، الذي وجد بأكثر ما يكون حدة في أمريكا اللاتينية وإفريقيا ، تعهد لاهوتيو الحرية في كنيسة تابعة للمجتمع الديني للفاتيكان ، والبابا يوحنا الثالث عشر ، اللذين جاءا الفتح العالم بغية خدمته وليس لحكمه ، تعهدوا بفك رموز هذا العالم على ضوء أوامر السيد المسيح ، من أجل أولئك الذين أرادوا أن يتبعوه : التخلي عما يملكون ليس فقط لنجدة الفقراء ، بل ليجعلوا من أنفسهم فقراء بين الفقراء ، الفقراء بالمعنى الاكثر عمقا للكلمة : أي الذين ألغتهم جسديا الطبقة المسيطرة والمستلبة روحيا عبر الايديولوجيا المهيمنة .
وتأكد هذا " الاختيار الذي أخذ جانب الفقراء " ، بفضل لا هويتي الحرية ، عام 1968 في ميدلين ـ كولومبو ، عند انعقاد المؤتمر الاستثنائي لاساقفة القارة في المجلس الاسقفي لأمريكا اللاتينية . وقد مزق الاجتماع خدعة قاتلة وهي أنه باسم الحياد السياسي للدين والحب ، جرى ضمان إبادة الهنود ، واسترقاق السود ، اليوم يضمن انقسام العالم بين أقلية من المالكين ، وغالبية من المستعبدين .
هذا الوعي لوضع تاريخي محدد تعاليم السيد المسيح ، وكذلك الوصول إلى موقف لمحاربة اللامعنى ، في عالم سخرت فيه الغالبية من صورة الإله على الاقل في العالم الثالث (ولكن ليس هناك فحسب) ـ قد قادا إلى قراءة جديدة للأناجيل ، والى قلب جذري للمسيرة اللاهوتية التقليدية في الغرب . فبدلا من الادعاء باستنتاج عقيدة اجتماعية أو سياسية من نصوص الأناجيل ، دون الاخذ بعين الاعتبار الحقائق التاريخية لكل حقبة ، فقد انطلقوا من هذا الوضع التاريخي الواقعي ، كي يحلوا رموز المعنى على ضوء رسالة يسوع ، التي اعتبرتها السلطات الدينية والسياسية في زمانه ، مدمرة جدا مما قاده إلى الصلب .
تمثل هذه الثغرة الفريدة التي فتحها السيد المسيح في تاريخ الإنسان ، النموذج الخالد للتعالي المعاش في التاريخ .
وتمثل كتب " لاهوت الحرية " للأب جوتيريز في البيرو ، و " المسيح محررا " للأب ليوناردو بوف من البرازيل ، و " تاريخ لاهوت الحرية " لانريكو دوسل من الارجنتين ، نقاط علام بارزة في مسيرة اعادة البحث هذه في عملية القلب العظيمة في فهم رسالة السيد المسيح .
ونلاحظ أن نقدهم للماركسية هو الاعمق ، إذ ليس هناك من نظرية قد فندت بمنتهى الجدية واستخرج منها آخر نقطة من الحقيقة التي تحملها ، وأعمق جذور الأخطاء فيها ، مثلما جرى للماركسية .
وقد ولدت الماركسية ، شأنها مشاريع اليوتوبيا الاشتراكية التي سبقتها ، في القرن التاسع عشر ، وفي السياق التاريخي للثورة الصناعية ، حيث أسبغت المظاهر التقنية على الرأسمالية لباسا أسطوريا على شاكلة فاوست أو بروميثيوس ، وإيمانما مسيحيا بالتقدم . هكذا دفع إلى الظل ملايين من البشر المسحوقين في المدن التي جعلتهم ضحاياها ، حيث يمسخ الإنسان إلى زائدة ، ملحقة بآله أو بالسوق .
ويسمح لنا هذا الاختيار وحده أن نعطي معنى لحياتنا ، عن طريق تحميلها مسؤولية قهر الانحرافات المميتة .
ولا تحدد لاهوتيات الحرية هذا التعالي بالتعالي باعتباره مسلمة لكل عمل تحريري ، وكأنه مسألة خارجية ، بل كإمكانية دائمة للإنقطاع عن الماضي وتجاوزه . وقد أعطانا يسوع النموذج المطلق ، عندما كرس حياته وموته للصراع ضد أشكال الهيمنة التي أعطيت صفة التقديس . ولكن القراءات التقليدية للرسالة الإلهية قد جرت من " أعلى " ، من قبل أصحاب النفوذ الاقوياء .
إن قراءة اللاهوتيين للحرية ، إنما هي قراءة من " أسفل " ، أي انطلاقا من المحرومين ، من أولئك الذين يعملون ، ويعانون ، ويعيشون ويموتون دون أن يعرفوا هدفا لعملهم ومعاناتهم ، وحياتهم وموتهم . والمستقبل عند هؤلاء هو الأمل الوحيد لهم بالبعث ، أي الانتقال من ممر الموت إلى الحياة الحقيقية ، حياة تحمل معنى وهدفا .
ولا يكون ذلك في " الإطلال " عليهم من فوق ، وإنما بالتحول ليصبح المرء واحدا منهم ، يشاركهم وجودهم وآلامهم ، ولا يكون في أن يعيش اللاهوتي ، لاهوتيته وكأنها حرفة حرة وإما كشاهد مجند للرسالة التي واجه المسيح الموت من أجلها .
وما هو جديد ، وما هو باعث للقوة في لاهوتيات الحرية ، العثور على ما هو ضروري لهذه الرسالة التي لا بديل لها ، والتحرك حسب ندائها . فالأب غوستاف جايتيريز في كتابه " لاهوت الحرية " يرى في رمز الحساب الاخير الذي يشير إليه ماثيو " خلاصة الرسالة الأنجيلية " ، فنحن لن نحاسب في محبتنا للآخرين ، وفق قانون أو حكمة ، أو حتى من خلال إيمان لا يتفتح في شكل عمل حدده المسيح : أن نطعم الجوعة ، ونكسي العراة ، ونكرم الغريب . وقد جاء في إنجيل متى:
" في كل مرة تفعل ذلك من أجل واحد من هؤلاء الصغار فإنما تفعلها لاجلي (25ـ 40) " .
يقول الاب غوتيير : إن هذه الانجيلية تتحقق انطلاقا من اختيار مبدئي ، وهو الانحياز للفقراء : أي الصراع ضد كل أشكال الظلم والافساد والاستغلال، والمشاركة في خلق مجتمع تسوده أخوة وإنسانية أكبر . إنه يعني أن نعيش حب يسوع وشهادته .
ويضيف : " فقط أولئك الذين يضعون الانجيل في خدمة الاغنياء ، سيرون في هذا الموقف قهرا سياسيا " .
طرح لاهوتيو الحرية مسألة رئيسية : إن التحول الجذري الذي يحتاجه العالم كي يتجاوز اللامساواة والعنف الذي يتولد عنها ، لا يمكن أن يتحقق وفق آيديولوجية حتمية  سواء عن طريق " التقدم " لدى الليبراليين أو نقيضه الديالكتيكي عند " أصوليي " الاشتراكية التي وصفت بالعلمية وهي في حقيقة الامر اشتراكية وضعية " لأن العلوم تزودنا بأفضل الوسائل لكنها لا تعلمنا أن نضع الغايات الاخيرة للحياة " .
لدينا كل الامل في التغيير ، مسقطين انحرافاتنا الجديدة ، مستخدمين ما هو نقيض للحتمية ، وهو التعالي، أي إمكانية الإنسان في قطع علاقته بالغايات الاخيرة التي يرسمها النظام القائم ، أو بالاحرى غياب هذه الغايات .
والايمان بالتعالي ، هو برهان ، مسلمة ، تماما مثل الايمان بالحتمية الكونية للتشابك الذي يكون فيه عمل لانسان ، حالة خاصة ، ضمن حركة الاشياء .
وقد أخذ لاهوتيو الحرية مأخذ الجد ، إعلان البابا الذي اعتبر فيه العالم أنه يعيش " وضع الخطئية " .
واعتبروا أن " حالة الخطئية " هذه هي مفتاح كل تفكير سياسي أو ديني ، ومفتاح كل عمل ، لانها قد شوهت " صورة الإنسان الذي خلق على مثال الله " عند الغالبية من الناس ، وإيماننا بأن " الكل للكل " . وليس التاريخ المقدس والتاريخ القصير جدا ، إلا تاريخا واحدا للتحرير ، يجتمع فيه الالهي والدنيوي في آن واحد .
إن الفصل الخادع بين خطة " الآخرة " وخطة التاريخ ، يضع الانجيل في الحقيقة في خدمة الاقوياء .
وقد ترجم هذا التناقض في كنائس أمريكا اللاتينية بشكل أخاذ من خلال صورتين ليسوع ظهرتا على شكل لوحات أو تماثيل . كانت الصورة الاولى للمسيح المنتصر والسيدة العذراء بلباس ملك وملكة . أما الصورة الثانية فتمثل " المسيح المغلوب " العاري والهزيل حتى برزت عظامه . تلك كانت صورة الغزاة والاغنياء والاقوياء ، وهذه صورة الفقراء والمذلين والمهانين .
وكتب الأب ليوناردودوف :
" وصلتنا شخصية يسوع مثقلة يسوع مثقلة ، محاطة بالالقاب والشروح الدوغماتية … التي تهدف لحجب أصالته وإخفاء وجهة الإنساني ، ونفيه من التاريخ بغية تحويله إلى أقنوم ، وكأنه نصف اله يعيش خارج عالمنا . يجب على الايمان أن يحرر شخص المسيا من الاغلال التي قيدوه بها وقللوا من شأنه . والاعلان بأن يسوع ، هو المسيح ، السيد ابن داوود ، ابن الله لن يشير إلا إلى ما يعتقدونه ، إذا لم يهتموا مسبقا ، بما تعنيه هذه الاسماء لنا في حيانتا … إن الايمان بالمسيح لا يمكن أن يختصر إلى صيغ من الكلمات المهجورة ، حتى ولو كانت جليلة ، ولا إلى علم التراث الانجيلي . إن الايمان بالمسيح ، بالمعنى الذي يتطلب عملا يلتحم بوجودي ، ويرسم لي منهجا في العيش بحيث تضاهي حياتي الشخصية والاجتماعية والكنسية والثقافية والشاملة حقيقة المسيح ".
بهذه الطريقة فقط ، يتوقف الدين عن أن يصبح أفيونا واستلابا . بهذه الطريقة فقط يصبح الايمان خميرة المستقبل بوجه إنساني ، أعني إلهي ، عن طريق المشاركة في مجيء الملكوت . ويعتبر وضع نهاية لهذا الاستعمار الديني للاهوت الذي يقدم نفسه وكأنه إتمام للتاريخ اليهودي ، أحد الوجوه الاكثر تجديدا في لاهوت الحرية ، بعد ما أصبح هذا التاريخ أوروبيا عبر الفلسفة اليونانية ، منظما حسب الطراز الامبرطوري الروماني . ولم تستطيع بقية العالم أن تتلقى رسالة يسوع الاسجينة هذه الثقافة الوحيدة التي تدعى أنه ليس هناك من " تاريخ مقدس " إلا تاريخ الشعب اليهودي ، ولا لغة دينية إلا العبرية أو اليونانية أو اللاتينية .
وكما كتب " انريكو دوسل : " كانت اكنيسة المسيحية في أمريكا اللاتينية كما هي في أفريقيا وآسيا " استطالة لتاريخ البعثات التبشيرية ".
ويضيف : الاوربيون ، هم الذين " اكتشفو " المسكونيين الآخرين ، الذين وقعوا تحت السيطرة ، بقوة السلاح والبارود والخيول والقوارب . وبقدر ما يكون المستقبل القريب شاملا وحقيقا ، بقدر ما يكون المشروع القادم انسانيا ، فهل سيعمل الاوربيون أنفسهم ، على ازدهار مثل ذلك المشروع ؟ أمريكا الهندية أمنا واسبانيا أبوبا ، ولكن الطفل الجديد ، ليس أمريكا الهندية ولا أسبانيا ولا أوروبا ولا الانكا ولا الازتك ، إنه شيء جديد: ثقافة جديدة ومولدة ومختلطة .
وهكذا ولد في أمريكا اللاتنية مفهوم متماسك عن الكون ، . كانسا بذلك التوجه الشرير " للشعب المختار " الذي استخدمه الاستعمار باسم نشر المسيحية .
وامتد هذا التحرير إلى قارتين أخريين، كانتا تخضعان للاستعمار ، أحيانا بواسطة التجارة وأحيانا بقوة السلاح ، ولكنهما استعمرتا بشكل دائم روحيا بواسطة الكنائس .
وخلال القرون الخمسة التي مضت على السيطرة المستمرة للاستعمار الديني الذي تضمن فرض المسيحية على القارات الثلاث من خلال صيغ ثقافية ألبست لبوس الغرب ، قدمت هذه الديانة للشعوب وكأن الله لم يخلق الإنسان ، وإنما خلق الإنسان الغربي فقط .
وستصبح الصلة بالله أكثر يسرا إذا افترقنا عن الثقافة اليهودية ـ الاغريقية المتفردة ، واقتربنا أكثر من وحدة الثالوث ـ بعد أن نكون عشنا النموذج الذي يقدمه لنا الأب بانيكار ، وهو تطابق الذات الفردية مع الذات الكلية ، كما ورد في الاوبانيشاد ، وتأملات " أنكارا " ، أو أن نصغي إلى الصوفيين مثل ابن عربي حين رأى في يسوع " قربة القداسة " ، والذي توحي لنا حياته من خلال خضوعه المطلق للرب ، كل ما يمكن أن يرى من الله المتعالي الذي لا يرى . عن هذا الإله قال روزبهان الشيرازي : " قبل أن توجد الأكوان ، ومصائر الأكوان ، كانت الذات الأبدية هي وحدة الحب ، وحدة الحبيب والمحبوب " .
وبدأ لاهوت جديد يبرز من الظل ، وفي واحد من أهم الاصقاع الروحانية في العالم : الهند . فمنذ بضعة سنوات أطلق لاهوتيون هنود أسس لاهوت يستند إلى تأمل وممارسة إيمان عاش في ارجاء البلاد. ففي 12 آذار 1992 ، وفي هونغ كونغ افتتحت ندوة ، شارك فيها لاهوتيون وفدوا من انحاء مختلفة من آسيا . وعقب انتهاء الندوة ، نشرت وثيقة نقدية حول موضوع : " مستقبل التقكير الاجتماعي المسيحي " وقعها كل المشاركين . واستنكر اللاهوتيون في هذه الوثيقة ، بشكل خاص ، المركزية الأوربية للتعاليم الاجتماعية للكنيسة ، التي لا تعرف أو تجهل إنجازات المؤتمرات المسكونية الاقليمية ، وخصوصيات الكنائس المحلية .
وقد حاول كهنة آسيويون وبأسلوب مبدع الربط بين التعاليم الكاثوليكية والصعوبات التي يواجهها الوضع الأسيوي . ولسوء الحظ تسعى بعثة تبشيرية إصلاحية قادمة من روما ، أن تنفذ هذه الأيام إلى آسيا . وتقيم البعثة المذكورة الوضع في آسيا بشكل تبسيطي ، ودون التوغل في أعماق المشكلات ، متوهمة ـ بأسلوب خاطئ ـ أن الأساقفة لا يتحدثون إلا عن الحوار ، والتحرير ، والجهل .. إلخ ، مهملين دعوة السيد المسيح . وقد حرضت بعثة الاصلاح هذه على التوقف عن تنمية وتطوير التفكير المتناسق لاتحاد مؤتمرات المجامع المسكونية في آسيا . وقد علق لاهوتي هندي هو فيليكس ويلفريد على هذه النوايا بقوله : " يجب أن نأمل أن إرسال الفاتيكان لبعثة كهنوتية إلى آسيا ، أمر موقت ، وظاهرة عابرة ، وأن يتابع اتحاد المؤتمرات المسكونية في المستقبل الخط الذي تشير إليه وثائق وفيرة ، وأن ينجز بنفسه ظهور صورة جديدة للمسيح مطابقة لعبقرية آسيا " .
وعلق راهب ملئ بالحماسة والنشاط في الحركة المسيحية على جدار كنيسته الرعوية لوحة كبيرة كتب عليها : " يسوع هو الجواب " ولكنه استيقظ في اليوم التالي ليكتشف أن شبانا أشرارا قد كتبوا تحت العبارة : " ولكن … ما هو السؤال ؟ " .
لقد حاول المسيحيون عبر قرون ، اكتشاف شخصية المسيح ، وحياته ورسالته ، من خلال أسئلة خاصة بهم ، نبعث من طبيعة كل مرحلة من مراحل تطور المجتمعات التي ينتمون إليها . ونتساءل هل نرفض نحن الاحتمال ذاته أي أن تطرح آسيا اليوم أسئلتها الخاصة بها ؟ أعلينا نحن أن نحمل إليها الاجابات دون أن نلقي بالا لأسئلتها ؟ لندع آسيا إذن تكتشف ، ثم تعيد اكتشاف صورة المسيح الفضلى ، والاكثر ملائمة للاجابة على تحديات القارة . وقد تنبه الفاتيكان إلى تصميم لاهوتيي آسيا ، على التفكير بمستقبل الكنيسة في هذه القارة ، بطريقة غير الاكتفاء بنقل الخطابات الرسمية من روما .
إن إرادة تجذير رسالة المسيح في الحضارات والثقافات غير الغربية ، هي واحدة من أهم الوعود الخصبة للمستقبل .
ولد آلوسيوس بيريز وهو كاهن جزويتي في سيرلانكا . وهو مؤسس ومدير مركز أبحاث تولانا في كيلينيا بالقرب من كولومبو . وهو منطقي هندي تقليدي مختص بالفلسفلة البوذية، كما اشتغل في برنامج واسع للبحث في الادب الفلسفي البوذي الوسيطي في بالي . ويرأس تحرير مجلة " حوار " المجلة الدولية للبوذيين والمسيحين ، التي يصدرها المعهد المسكوني في كولومبو . وقد كتب بغزارة عن التبشير ، ولاهوت الديانات ولاهوت الحرية الآسيوية والبوذيين .
أما ريمون بانيكار ، فقد ولد من أب هندي ، وأم من كاتالونيا ، وبذل جهدا كبيرا ليبرهن أن " إحدى البدهيات الاكثر عمقا في حكمة الهند " تلتقي في بعض وجوهها مع الثالوث المسيحي .
وفي محاولته لتفسير عقيدة الثالوث من خلال التأمل المعاش لـ ادفالييتا الفيدية " نسبة إلى فيدا " " وهي عقيدة لا ثنائية " ، قال أنها تعلمنا أن الغاية الاخيرة لكل إنسان هي معرفة أن " اتمان " " الذات الفردية " تتطابق مع براهمان (الذات الكلية ) من خلال عبارة (الاوبانيشاد) : أنت ، ذلك . وتساعدنا الهندوسية على تجاوز وهم خادع بان التفكير المتعالي هو " خارجانية " .
أعطى كتاب " الثالوث في التجربة الدينية " وهو أحسن أعماله ، تعبيرا نموذجيا لحوار حقيقي حول الإيمان ، بريء من كل نزعة عرقية .
وتكون في أفريقيا وعي يشابه هذا الوعي الآسيوي ، بضرورة أن يكون الايمان كونيا ، وهو شرط الاستمرار في القرن الحادي والعشرين .
وكان ساحل العاج قد شهد عام 1977 ، مؤتمرا للاهوتيين المسيحيين والكنيسة الكاثوليكية في أفريقيا السوداء عقد برئاسة مطران ابيدجان " ميجرياغو " وتحت شعار : " حضارة سوداء ، وكنيسة كاثوليكية " . وتحدث في المؤتمر الأب جان مارك إيلا ، من منطلق المسيحية الشاملة قائلا ما زالت الثقافة اليهودية المتوسطية تحمل المسيحية حتى الآن ، وهي ليست إلا ثقافة بين الثقافات وليست المسيحية مرادفة للرومانية .
تهدف هذه الإرادة في تحرير الإيمان من الاستعمار ، وفي جعل الثقافة الغربية سبية ، إنقاذ القيم الكونية المسيحية . وقد عبر عن هذه الارادة وبقوة الأب هجيا ، الجزويتي من الكامرون ، في كتاب له بعنون : انعتاق الكنيسة من الوصاية جاء فيه : " ليست المسيحية ديانة غربية ، إنما هي ديانة شرقية انتقلت إلى الغرب فطبعها بطابع لا يمحى من فلسفته ، وثقافته ، وقوانينه ، وقدمت إلى الشعوب الاخرى بهذا الشكل . علينا الآن ، أن نطبع نحن آثارنا التي لا تمحى على الديانة نفسها ، عن طريق التوقف عن إصباغ الالهام الإلهي على فلسفة أرسطو ـ توما ، والفكر البروتستانتي الجرماني ، والانجلو ساكسوني أو أشكال التفكير والأعراف الغاليت أو الأغريقية ـ الرومانية ، أو اللوسيانية ،والاسبانية أو الألمانية .
واستنتج الاب أوزانا من كلام مجرزويا أسقف يواندا:
" نحن الورثة الشرعيون للديانات الأفريقية التقليدية التي هيأت الإنسان الأفريقي ، كما لم تهيئ إنسانا آخر  لقدوم يسوع المسيح ، فقد لعبت هذه الديانات دورا مشابها لدور العهد القديم ".
ونعتقد أن التفكير الجديد بالوحدة المتعالية ، كل اشكال الحكمة والديانات في العالم ، ضروري لتأسيس اقنومية غير محدودة بالطوائف المسيحية ، والتي ستزدهر بمساهمة كل الثقافات ، وإيمان كل الشعوب من أجل قدوم الإنسان الكامل .
وبهذا الشكل نجنب دعوة الحركات الروحية في العالم لإعادة قراءة رسالة المسيح ، من الارتباط بالاصطفائية أو التوفيقية ، إذ يتطلب الامر أن نطلق من ثقافاتنا الخاصة الحقائق الكونية الدائمة التي تقودنا إلى حياة كونية ، وتمنحنا الوعي بخصوصية شهادة يسوع في الملكوت .
لم يأت المسيح فقط ليتم وعودا وردت في العهد القديم ، إنما جاء ليرد على تساؤل كبير طرحه كل البشر حول معنى الحياة والموت .
إن الإيمان هو في البداية ، قطيعة وتعال ، وممارسة القطيعة والتحرر .
أما ما هو أكثر إثارة للحماس ومسببا للحيرة ، في أفعال المسيح ، وأقواله ، أنه لم يكن هناك أبدا حيث ننتظره ، فنحن ننتظر دوما قولا أو عملا ، يبرر عواقب غرائزنا البيولوجية ، ورغباتنا ومصالحنا وتاريخنا الفردي وثقافتنا وقوانيننا .
ولكن السمة الاكثر أسرا في حياة وموت السيد المسيح أنهما برئيا من كل تجهيز للشروط البيولوجية والنفسية والاجتماعية . إنها حياة لم تعرف الروتين يوما ، ولم يكن فيها شيء ينتج عن ماض ببساطة . كانت كل أفعاله اختيارا حرا مجردا من الأنانية أو ربقة التقاليد . إنه قرار جديد، وانبثاق شعري للإنسان .
وأنا لا أدعو للعيش وفق " قانون " المسيح ، ولكن وفق ما أسميه " شاعرية المسيح " ، أي الوعي بأن طبيعتي تملك القدرة على تجاوز الطبيعة ، والوعي أن كل فعل من أفعالي ، وكل حادث أكون شاهدا عليه ، أو أشارك فيه ، وبأن حياتي الشخصية ، وكذلك حياة المجتمع الذي أعيش فيه ، والتاريخ الذي أعاصره ، ليست كل هذه الامور إلا حلقات في سلسلة من الاسباب والنتائج ، إنها على ما هي عليه بسبب صلتها بالغاية النهائية ، وتقاس بموجبها ، فتعطيها دلالتها . إنها المعنى العميق لقدوم ملكوت يسوع .
ولا يجب وضع الملكوت في الفضاء البعيد أو بالزمن الآتي ، مثل أي يوتوبيا ، وإنما في اختبار الضرورات الآتية ، كأن ما أعتقده هاما في العالم وفي واجباتي سينهار في اللحظة الآتية ، وكأن عليّ أن أعيد النظر بكل تصرفاتي وأحكامي وفق هذه الحقيقة الاكثر عمقا والاقرب الينا من حبل الوريد ، ما دام الرب هو الآن هنا، في داخلنا ، وفي الخارج عنا . ملكوت لا يحتاج فيه العدل إلى قانون ، بل يسود في الحب كمبدأ .
وينبثق الايمان من داخلي حالما أتوقف عن سؤال نفسي : كيف ؟ أو أطالبها بالاجابة على : لماذا؟
وعندما أتساءل عن الغايات النهائية وليس عن الوسائل فقط :
ـ فإنما أتساءل عن المسألة الاساسية المتعلقة بأهدافي الشخصية والاجتماعية .
ـ اما فعل الايمان فيكسر حلقة عاداتي ومسلماتي .
ـ وعندما يتوقف السياسي عن الاهتمام بالوسيلة للتوصل إلى السلطة فقط أو حماية هذه السلطة ، ويتابع التساؤل عن الغايات الاخيرة للمجتمع البشري ، إمكانيات ابتكار ما يبرز في أعماق كل إنسان ، القدرة على اختيار هذه الغايات والمشاركة الفعالة لتحقيقها ، عندها يصبح هذا السياسي نبيا .
وعندما يتوقف الفنان عن الاهتمام فقط بتأكيد تميزه الفردي ، والعمل على هيمنة أسلوبه ، وانطلاقا من مهارته التقنية خاصة ، ويستعد للاصغاء ليصبح ضمير المجتمع ، ويجعل الوعي لمشروعه وأمله ومستقله ، عندها يصبح الفنان خلاقا .
عندما يرى المحب في حبه وسيلة عطاء لا أخذ ، لا عطاء ما عنده ، بل عطاء نفسه وذاته وعطاء حياته إلى درجة تفضيل حياة الآخرين عليها ، عندها سيتعلم ما قاله روزبيهان الشيرازي : " أن يفسر في كتاب الحب الإنساني ، لغة الحب الإلهي ".
ومع ذلك فهذا الانقطاع وهذا التعالي ليسا بعد ، الايمان .
فالايمان هو فعل التخلي عن الذات . هكذا كانت تجربة التخلي عن الذات والليلة الظلماء للقديس جان دولاكروا :
" أن أحول إلى صمت ، الرغبات التي تعتمل في داخلي بقوة ، أن انتزع نفسي من حدود وسطي الاجتماعي ، أن أمحو الصور التي تبهرني دون أن تستضيء بها نفسي ، أن انفصل عن كلمات ومفاهيم صنعت بغية التلاعب بالاشياء " .
ـ عمل التخلي هذا ، التخلي عن " الانا " الصغيرة ، بغية التخلي عن الذات ، والذي يدعوه اللاهوتيون المسيحيون Kenose  والذي يدعوه بوذا في موعظة بينارس ، بالحقائق الاربعة المقدسة التي ترينا الطريق ، كما تعطينا تأملا زا ـ زن الخبرة ، هذا العمل من الزهد ، هو المقدمة الوحية الممكنة ليقظة حياة جديدة " اسم بوذا نفسه يعني اليقظة ".
تعني الحياة الجديدة أولا الوعي بأني لا استطيع الاكتفاء بذاتي ، وبأني لست موجودا إلا من خلال ترابطي مع الآخر وكل آخر ، حسب الصيغة الساطعة للصوفي البيرنطي كاليست (القرن الرابع عشر) : أنا أحب إذن أنا موجود .
ونحن هنا بعيدون عن فقر الديكارتية في مقولتها : أنا افكر إذن أنا موجود ، لانها تختصر الإنسان إلى مجرد فرد والروح إلى مجرد عقل .
وكشف الشيخ ابو سعيد وهو صوفي اسلامي من القرن الثالث عشر ، عما سماء سر الشيطان : " إذا قلت أنا تصبح شبيها بي " . والتجربة الاساسية هنا ، هي تجربة الصليب التي تنقطع عن كل الصور التقليدية للاله : القوة والجمال والعقل والعدل .
معرفة الله وشكره من خلال هذا المصلوب ، والمحبط ، والمعزول الضعيف الذي هجره الناس طالما لم يبد واحد منهم اشارة للدفاع عنه ، وطالما أن اقرب رفاقه إليه أنكره ، والضعيف جدا لأنه هجر أيضاً من قبل " أبيه " . وأمام الصرخة الاخيرة من الالم قبل أن ينتزعه الموت أطلق السؤال الممزق : لماذا هجرتني ؟
إن تجربة الايمان باكملها هي محاولة للاجابة على هذا السؤال المحير الذي يسمح لكل إنسان أن يعيش بشكل إلهي حياته كانسان ، أي حياة مع مسوولية كاملة عن مصيره الخاص وتاريخه الخاص : ليس فعل الايمان ، هو تأمل الصليب ، بل هو أن نحيا هذه التجربة المريعة والتي تحررنا من الصليب . من هنا فقط يبدأ الطريق الجديد ، طريق البعث . لأن المسيح لم يمت ، بل قتل . لقد اختار رجال أن يقتلوه وأختار هو أن يموت . هذا الفعل وهذا الاختيار يعطيان كامل معنى انبعاثه ، فموته ليس كموت كل الناس ، إنه اختيار لحياة جديدة ، ولن يكون بعث

21-05-2008 الساعة 13:39 عدد القراءات 3592    

الإسم
البريد
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد


جميع الحقوق محفوظة لدار الأمير © 2022