الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
كيف نحضر للقرن الحادي والعشرين
بقلم: روجيه غارودي.
نقله إلى العربية: مروان حموي.
( إضغط هنا لقراءة الفصل الثالث )
الفصل الرابع
استعمار أوروبا والعوالم الثلاثة
إيران ، لبنان ، الصومال ، فلسطين ، والبوسنة . وبالأمس باناما ، جرانادا ، ونيكاراغوا ، وغدا إيران وليبيا وكوبا . كل ذلك يحدث بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي غير علاقات القوى التي تأسست منذ أن سحق هتلر ، فخلقت عالما ثنائي القطببن .
هل هناك خيط يقودنا لفهم عصرنا ، نعني رابطة داخلية تربط بين كل المشاكل العالمية ، التي تستدعي التدخل العسكري ، وتعميق دور الصندوق الدولي ، والبنك الدولي ، وأوروبا في ظل ما يستريخ ، واستعادة أوروبا الشرقية للنظام الرأسمالي ، والأصولية الإسلامية والمسيحية واليهودية؟
وبعكس ما تفعله وسائل الاعلام ، وخاصة التلفزيون ، التي تخدر الرأي العام ، عن طريق تقديم ألوان مختلفة من النكبات ، وسلسلة من الأعمال المحضرة سلفا " والمعدلة " من مكان إلى آخر ، من تيمور إلى مقاديشو ، ومن سيراجيفو إلى بغداد ، علينا كي نكتشف معنى ذلك أن نضعه في المسار التاريخي للقرون الخمسة الماضية ، قرون الهيمنة المتنامية للغرب على العالم كله .
بعد أقل من ثلاثة قرون من غزو أمريكا ونهب ذهبها ، الذي أعطى لتصنيع أوروبا اندفاعا لا سابق له ، ابتدأت المغامرة التي أصبحت اليوم القوة الاعظم في العالم : الولايات المتحدة .
ورأينا سابقا كيف أن تاريخ الولايات المتحدة قد تميز بعمليتين أساسيتين : مذابح الهنود للاستيلاء على أرضهم ، واسترقاق العبيد لتشغيلهم في المزارع والمناجم .
وتقاسمت الدول الاوروبية بقية العالم بأساليب متشابهة . امتدت حصة بريطانيا من الهند حتى أفريقيا الشرقية والشرق الاوسط ، وكانت حصة فرنسا من أفريقيا إلى الهند الصينية ، ومن المغرب حتى المحيط ، وبلجيكا الكونغو ، واستولى القياصرة على سيبيريا ، واحتلت هولندا أندونيسيا .
وبعد حربين عالميتين ، أعيد توزيع الاوراق من جديد ، بهدف اقتسام العالم بين أولئك الذين شكلوا امبراطوريات ، وأولئك الذين طمعوا فيها . وفقدت أوروبا الدامية ، حيث نزف المنتصرون والمهزومون على حد سواء ، هيمنتها لصالح الولايات المتحدة . فقد كانت الحربان العالميتان مصدر غنى لها ، وجعلاها سيدة العالم من الناحية الاقتصادية ، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، ومن ناحية سياسية وعسكرية منذ انهيار النظام السوفيتي 1990 .
وما " النظام العالمي الجديد " ، الذي حلم به القادة الأمريكيون إلاّ اسم آخر لسيطرة الولايات المتحدة على العالم .
وأصبح " حق التدخل " هو الاسم الجديد للاستعمار .
أما وقد تخلصت الولايات المتحدة من ثقل السوفيتي الذي أرخص ثمنه القادة السوفيت ، وأكملت عملهم " الدوليات " ، فقد أصبحت الامم المتحدة التي تشكلت من الولايات المتحدة ، ومن مدينيها وزبائنها مركزا لتسجيل الارادات الأمريكية لتخدمها في مسألة تغطيتها قانونيا . وأصبحت الآلة العسكرية العملاقة التي تكونت في فترة المواجهة بين الشرق والغرب ، جاهزة لتنفيذ مهمات أخرى .
ولم تعد أوروبا ، قادرة أن تكون منافسا ، وإنما تابعا . وقالت معاهدة مايستريخ بوضوح، وفي ثلاثة مواقع من نصوصها ، إنه يتطلب أن نجعل منها " الركيزة الاوروبية لحلف الاطلسي ":
ففي الخطة العسكرية ، ستلعب أوروبا من الآن فصاعدا دورا مكملا : من العراق إلى الصومال . وفي الخطة السياسية ، تستسلم لنفس الاوامر : فسياسة السوق الزراعية (PAC ) ، ستقبل أمام احتياجات منظمة التجارة العالمية ، مثلما قبلت فرنسا في وضع 15 % من أراضيها متروكة دون زرع ، بهدف فتح السوق العالمية أمام زارعي الحبوب الأمريكيين الكبار .
وفي الخطة الصناعية ، نستذكر ما تحدثت عنه جريدة اللوموند في 22 كانون الأول 1992 عن " القلق من الفحم الاوروبي " . ففي عام 1955 ، وبعد توقيع معاهدة روما المنظمة لأوروبا ، تم إحصاء 2 مليون عامل يعملون في مناجم المجموعة الاوروبية ، وهبط عدد هؤلاء العمال عام توقيع معاهدة مايستريخ إلى 250 ألف عامل فقط . أما عن كمية الانتاج ، فقد أنتجت الدول الاثنتا عشر قبل ثلاثين عاما 400 مليون طن ، أما إنتاج عام 1992 فقد بلغ 180 مليون طن فقط . وتعتبر فرنسا الضحية الاساسية لنقص الانتاج ، حيث هبط إنتاجها من 28 مليون طن عام 1973 إلى 12 مليون طن عام 1991 . وهبط الانتاج البريطاني 50 % ، والألماني 40 % . كل ذلك لمصلحة المستوردين الأمريكان والدائرين في ملكهم ، من كولمبيا إلى فنزويلا ، وحتى إلى أندونيسيا .
وفي مجال المعلوماتية ، ترفض منظمات شركة بول التي اتفق على تزويد الطائرات العسكرية الأمريكية بها ، بعد أن رفض العقد المتعلق بها بناء على توجيهات الادارة الأمريكية . وكي تستطيع شركة آ ب . أم ، وهي الشركة الأولى في العالم بين شركات المعلوماتية ، أن تنافس في سوق يسيطر عليها اليابانيون ، بحثت لنفسها في أوروبا عن دور ثان ، لتحل محل المجموعة الألمانية سيمنز التي أقلعت عن تنفيذ هذا العقد .
وفي ميدان صناعة الطيران ، تآمرت شركة لوكهيد مع وزراء يلتسين المعتمدين من صندوق التنمية الدولي ، للحصول على تقنية الصاروخ بروتون المعد لإطلاق الأقمار الصناعية ، من الاتحاد السوفيتي السابق ، وتعهدوا بتحويل الامر إلى مسألة تجارية ، في محاولة ليحل محل الصاروخ الاوروبي آريان .
أما ما تيعلق بصناعة الصلب ، فقد قررت الولايات المتحدة عام 1993 أن ترفع رسوم الاستيراد من تسعة عشر بلدا ، سبعة منهم أوروبيون . وهذه الحقوق الجمركية الاضافية التي فرضتها لنفسها الولايات المتحدة هدفت إلى منع العاملين الأوروبيين في ميدان الصلب من بيع الفولاذ في الولايات المتحدة . كانت الولايات المتحدة منفذا لـ 2 مليون طن أي ما يعادل إنتاج اللورين بكامله ، هذا الإنتاج المهدد بالموت بسبب الإجراء الأمريكي .
وقد أعلنت جنرال موتورز وفورد وكريزلر إجراءا عدوانيا مشابها في صناعة السيارات ، وهذه الحماية الصناعية " الأمريكية أولا " تشير إلى المدى الذي تقوم به منظمة التجارة العالمية في حماية السوق الأمريكية ، وفتح أسواق العالم كله للمنتجات الأمريكية .
وفي الخطة الثقافية ، استسلمت أوروبا لغزو الفيلم الأمريكي ، والتلفزيون . فمن أصل 250 ألف ساعة بث في أوروبا ، تنتج مجموعة الدول الاثنتي عشرة ، 25 ألف ساعة فقط . أما حصة سوق الفيلم الأمريكي في فرنسا 60 % . وتصبح نسبة العائدات 120 مقابل واحد فقط ، بغية اقتلاع دماغ شعب عن طريق رشقات " الماحق " أو جيمس بوند الذي اخترعته هوليود ، وحصاد دولارات مسلسل دالاس .
أدخلت هذه التبعية الأوروبية ، السياسية والمادية والاخلاقية ، العالم في مرحلة جديدة من الاستعمار . لقد وضعت قوة الشرق وأوروبا خارج اللعبة ، أو أنها أذلت . وأصبح الميدان حرا لظهور استعمار من نوع جديد ، استعمار لا يشبه أشكال الاستعمار الاوروبي المنافس ، والمقهور من الآن فصاعدا ، إنما استعمار مركز وشامل على المستوى العالمي تحت الهيمنة الأمريكية ، إن ميزان قرون خمسة مضت على الاستعمار ، هو ميزان مأساوي ، ففي عام 1993 ، أصبح أربعة أخماس المصادر الطبيعية في كو كبنا تحت سيطرة واستهلاك خمس سكان العالم .
وتتابع اللامساواة اتساعها ، " فبرنامج الأمم المتحدة للتنمية " ، يؤكد أن الفارق بين بلدان الشمال الاكثر غنى ، وبلدان الجنوب الاكثر فقرا قد تضاعف . وهبط الناتج القومي الافريقي ، بالنسبة للناتج العالمي من 9, 1 % إلى 2 , 1 % .
هذا هو ما يدعوه جورج بوش " النظام العالمي الجديد " ، إنه التوسع وتعزيز للعلاقات الاستعمارية بين دولة مستعمرة ، أصبحت من الآن فصاعدا منفردة ، وبين بقية العالم . وتعني العلاقات الاستعمارية بهذا الشكل : تبعية عسكرية وسياسية وجمركية من طرف واحد لتكون في مصلحة المسيطر فقط .
هذا هو الهدف الذي أعلنه القادة الأمريكان مرارا وتكرارا ، وخاصة خلال السنوات القليلة الماضية " أي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي " : إنه التأكيد على سيطرة الولايات المتحدة على العالم.
ولكن ما هي الوسائل التي استخدمت لتحقيق هذا الهدف ؟
إنها وسائل متعددة : هناك أولا الاساليب السابقة التي اختبرت في أمريكا اللاتينية منذ زمن طويل ، وعلى الاخص بعد الحرب العالمية الثانية ، منذ " التحالف من أجل التقدم " الذي أعلنه كنيدي ، حتى مبادرة " بوش " من أجل سوق متفردة من ألاسكا وحتى ارض النار .
وآلية العمل بسيطة : فهناك اتفاقيات للإستثمار ، والقروض ، والهبات ، مع دول أمريكا اللاتينية بشكل خاص ، والهدف المعلن مساعدتها في عملية " التصنيع " ، أما الهدف الحقيقي فهو السماح للشركات متعددة الجنسيات لتنمية أرباحها من خلال أعمالها في تلك البلاد ، التي تتوفر فيها اليد العاملة الرخيصة ، كما تقوم حكوماتها بالانفاق على البنى التحتية . وفي نفس الوقت ، تتمتع المواد الاولية القادمة من تلك البلاد بانخفاض أسعارها ، جاعلة بذلك التبادل غير المتساوي يزداد اتساعا، أكثر فأكثر .
في عام 1954 ، كان يكفي الفرد البرازيلي أن يبيع 14 كيسا من البن لشراء سيارة جيب من الولايات المتحدة ، وفي عام 1962 أصبح عليه أن يبيع 39 كيس مقابل السيارة المذكورة .
كان مواطن جامايكا يشتري الجرار الأمريكي ، عام 1964 بـ 680 طنا من السكر ، وصار الرقم عام 1968 ، 3500 طن . لقد تابعت البلدان الفقيرة مساعدتها المالية للدول الغنية .
وتتجاوز فوائد القروض ، القروض الاصلية مرات . ويبلغ عائد كل دولار ، دولارين أو ثلاثة تذهب إلى جيوب الدائن . وغالبا ما تساوي فوائد القروض قيمة الصادرات ، محققة بذلك " التنمية الممكنة " ، إذ ليس هناك ، بهذا المنوال ، بلد " على طريق التنمية " ، كما يسمونه نفاقا ، وإنما بلاد محكوم عليها ببؤس متنام ، من خلال تبعية متنامية .
وتشكل " المساعدات المزعومة " لبلدان العالم الثالث ، أحد العوامل الاكثر تأثيرا لفرض التبعية والتقهقر . إن " المساعدة " المعلنة والمتعددة الاشكال ، 7 , 0 % من إجمالي الناتج القومي للدولة المانحة . ورغم تواضع هذا الرقم ، فإن نصفه هو الذي يمنح فعلا .
ويشكل " تصنيع " بلدان العالم الثالث ، ونقل التكنولوجيا ، وسيلة أخرى للهيمنة وزيادة منافع الدول الغنية .
والمثال النموذجي هو مثال " المعجزة البرازيلية " في التنمية الصناعية ، و " التدخل البيئي " البلدان الغنية في غابات الأمازون .
أما الميزان فهو كما يلي : إن هذه البلاد الأغنى بمواردها الطبيعية هي الاكثر فقرا. إن تراكم الثروة لدى قطب واحد يمثل أقلية ، يقابله حقيقة إن 130 مليون نسمة من أصل 150 مليون ، يرتعون بالفقر، ونصف هؤلاء يعيشون في بؤس مطلق .
إن " التدخل البيئي " ، وهو الاسم الجديد للنهب والسلب الاستعماريين أوضح ما يكون في غابات الامازون . لقد دمرت مجموعة السعة ، أي البلدان السبعة الاكثر تصنيعا ، والاساتذة الفعليين " للإنسانية " ، وبشكل خاص شركات جوديير ، وصلت نيبور ، وفولكسفاجن ، وغيرها ، دمرت ملايين الهكتارات من الغابات ، وأغرقت مئات الألوف من الهكتارات الاخرى من أجل بناء سدود هيدروليكية ، كاستثمار منهجي للكتلة البيئية ، من خلال التعامل مع الغابات ، لتسمح بإنتاج 5 مليار برميل نفط في العام " وهو ما يزيد عن إنتاج العربية السعودية " .
ويوجد لدى الشركات متعددة الجنسيات أهداف أخرى ، نراها من خلال استثمارهم ، و " نقلهم للتكنولوجيا " ، مسألة الإخلال بالتوازن البيئي في إحدى أهم " رئات " العالم : فتحت زعم " المشاريع المشتركة " ، أي إشراك الاستثمارات الوطنية ، تفرض هذه الشركات تقنيتها . فقد أقامت ، مثلا ، سدا عملاقا في مدينة توكوري ، بعد أن محت مئات آلاف الهكتارات من الغابات ، كي تزود بالطاقة الضرورية ، مصانع معالجة البوكسيت ، وهي عملية ملوثة للبيئة إلى حد لا يشجع على إنشاء مثل هذه الصناعة في الولايات المتحدة ، وخاصة أن الحصول على الطاقة من البرازيل ، بسعر 161 دولار للطن الواحد من البترول ، في الوقت الذي يباع فيه في أسواق أمريكياالشمالية بـ 281 دولار .
هذا هو منطق النهابين في كل الاصقاع ، ففي البرازيل تسيطر الشركات متعددة الجنسيات على 85 % من إنتاج الكاكاو و 90 % من إنتاج القهوة و 60 % من إنتاج السكر و 90 % من إنتاج القطن والاخشاب .
وتسيطر الشركات الاجنبية على 80 % من انتاج البوكسيت و 80 % من الاحجار الكريمة و 100 % من انتاج الكوارتز الممتاز ، الضروري لصناعة الالكترونيات .
لقد تم خلق نموذج للتنمية في كل ميادين الاقتصاد : السيارات ، الالكتروينات ، البتروكيماويات .. إلخ ، بالتعاون مع قباطنة الصناعة المحلية ، تكون فيه مراكز القيادة خارج البلاد ، مشكلة بذلك تبعية اقتصادية شاملة .
هذه التبعية الاقتصادية ، وهذه الصيغة المنحرفة للنمو المفروضة على شعب بأكمله ، تستدعي بالضرورة تبعية سياسية مباشرة أو غير مباشرة لضمان تسديد القروض .
" تكرس البرازيل 40 % من عائدات التصدير لتسديد فوائد القروض . أما الارجنتين فتدفع 50 % من هذه العائدات " .
ولكن الخطوة الاكثر ضمانة ، هي إقامة دكتاتورية عسكرية . فأمريكا تمارس سلطتها الاستعمارية أولا عبر الشركات متعددة الجنسيات . فعندما تأكد خطر ظهور سلطة اشتراكية في التشيلي ، اقترحت مذكرة لـ لمنظمة التجارة العالمية استخدام الضغوط الاقتصادية لإسقاط النظام فيها .
ولا يستبعد هذا الاسلوب التدخل العسكري المباشر للجيش الأمريكي ، كما حدث في غواتيمالا عام 1954 من أجل إنقاذ مصالح شركة الفواكه المتحدة ، وفي كوبا عندما نظم كينيدي عام 1961 إنزال خليج الخنازير مع أنصار الديكتاتور السابق باتيستا ، وفي غويانا البريطانية عام 1964 ، وفي الدومينكان عام 1965 ، ثم ما حدث منذ وقت قريب في جرانادا وباناما .
وما هو اكثر فاعلية ، تسهيل قيام ديكتاتورية عسكرية في كل بلد باسم العقيدة الأمريكية في " الامن القومي " ، ضد الشيوعية في زمن قوة الاتحاد السوفيتي . لقد استطاعوا أن يجعلوا الشعوب تؤمن ، أن ارتباطها بالولايات المتحدة سيحمي " الديمقراطية " و " الاستقلال الوطني " ، وهكذا استطاع الجنرالات أن يحكموا البرازيل منذ كاستلوبرانكو عام 1964 ، وحتى جيزيل .
وفي ظل هذه الانظمة ، ومن خلال لعبة تجمع بين التصنيع الذي تنفذه الشركات متعددة الجنسيات الأمريكية ، وبين التسليح الذي يسمح بممارسة الضغط والارهاب على الشعوب ، لم يتوقف الدين عن الازدياد . فقد ارتفعت الديون بين عامي 1972 ـ 1982 ، من 12 مليار دولار إلى 60 مليار دولار ، أي تضاعف خمس مرات في عشر سنين .
وحده الدكتاتور العسكري ، يستطيع أن يستترف دم الشعب حتى الانهاك .
بلغت قروض الارجنتين 54 مليار دولار ، منها 10 مليارات في ظل نظام الجنرالات .
وبلغ سداد الديون ، وشراء الأسلحة قبل رئاسة آلان جارسيا 50 % من ميزانية البلاد .
أما رقم الديون في التشيلي أثناء حكم بينوشيه فكان 1500 دولار لكل مواطن . ولكن بينوشيه يحتفظ بسجل آخر أيضاً ، فقد حقق اوسع وأشمل حرية لاقتصاد السوق بما فيها سوق العملات ، من خلال نظام خصخصة مهيأ بذلك شروطا مثالية شاملة للشركات متعددة الجنسيات لتتسلط على اقتصاد البلاد . واستطاع أن يحقق ذلك بضمانة " الديمقراطية الأمريكية " العظيمة .
بفضل هؤلاء الطغاة العسكريين ، أصبح اقتصاد امريكا اللاتينية ذا اتجاه واحد ، تحيط به تبعية سياسية بسبب قوة الضغط السياسي على السلطات ، الذي يتمثل أحيانا كثيرة برفض الاقراض ، أو العزوف عن الاستثمار .
وتابعت الولايات المتحدة ، بعد ذلك هدفها في تحقيق حرية السوق ، بوسائل أخرى ، غير استخدام الطغاة العسكريين .
لقد أصبح مقبولا ، وصول حكام منتخبين إلى السلطة ، مع استبدال الارهاب الحكومي بالفساد . وهكذا شهدنا ارتقاء قادة منتخبين كراسي الحكم مثل كولور في البرازيل ، ومنعم في الارجنتين . وبعد استبدال الجنرالات الخونة ، طلب إلى الحكام الجدد مهمة واحدة هي أن يقوموا بتسديد القروض وفوائدها التي عقدها الطغاة العسكريون ونسيان جرائمهم .
واستطاعت سيطرة صندوق النقد الدولي أن تتجذر بدون مخاطر في هذه البلاد التي قيدتها الديون ، وأصبح اقتصادها في أيدي مؤسسات أجنبية .
ويستطيع صندوق النقد الدولي أن يفرض دون عواقب نظام " تنمية أكثر ملائمة للمتروبول العالمي " ، ليس على العالم الثالث فقط ، بل على العالم كله : ويتمثل هذا التوجه بتنمية زراعات احادية ، ومنتجات أحادية ، والتراجع عن الزراعات الحيوية والحرف الوطنية التي تؤمن للمواطنين قوت يومهم، وتتحقق بذاك التبعية ، والاستغلال المتزايد لليد العاملة ، وتفاقم الديون ، بسبب تضخم الاستيراد .
والنتيجة الاجمالية ، نتيجة قاطعة : فمنذ بداية الثمانينات ، انخفض دخل الفرد في أمريكا اللاتينية 15 % وفي أفريقيا 20 % .
ويحمل نظام الهيمنة هذا اسما شائعا هو " خطة التصحيح البنيوي " وبموجبها لا تمنح القروض والمساعدات إلا في ظل شروط سياسية قاسية . وعندما تطبق برامج صندوق النقد الدولي بحرفيتها في بلد ما ، تتمتع حكومته حينئذ بالمعاملة المتميزة من جانب الولايات المتحدة واتباعها الاوروبيين .
وتتألف برامج " التصحيح البنيوي " غالبا من العناصر التالية : تخفيض العملة " بغرض تشجيع التصدير ، وإعاقة الاستيراد " ، وتخفيض " تنيني " في الانفاق العام ، وبشكل خاص في الميدان الاجتماعي ، أي في اعتمادات التعليم والصحة والاسكان ، والغاء دعم المواد الاستهلاكية بما فيها المواد الغذائية ، وخصخصة مؤسسات القطاع العام ، أو زيادة رسومها " الكهرباء ، الماء ، النقل " ، وإلغاء السيطرة على الاسعار ، و" تنظيم الاحتياجات " ، وبالتالي خفض الاستهلاك ، يدعم ذلك تجميد سقوف الرواتب ، والحد من القروض للمواطنين ، وزيادة الودائع ومعدلات الفائدة ، وكل ذلك بهدف تخفيض آثار التضخم .
تسبب سياسة " التصحيح " هذه انتفاضات ضد تصاعد أسعار الرغيف : كما حدث في المغرب عامي 1981 و 1984 ، وفي كاراكاس عام 1985 ، وفي الجزائر في تشرين 1988 ، وفي الأردن عام 1996 .
وبسبب ازدراء اقتصاديات القوت ، وبشكل خاص الزراعات الحيوية للسكان ، وأفضلية الزراعات المهيأة للتصدير ، وهي المصدر الوحيد للقطع الاجنبي الموجه لتسديد القروض بالدولار ، تنتج الدول التي تتلقى المساعدات ، الكثير مما لا تستهلكه ، وتستهلك مما لا تنتجه .
وهكذا يقوم صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي بتدمير نصف الكرة الجنوبي من الارجنتين وحتى تنزانيا، ومن باكستان حتى الفليبين . وابتدأ الآن بتطبيق هذه السياسية على بلدان اوروبا الشرقية ، بغية تكوين هيمنة سوق عالمية متجانسة ، وحدانية حقيقة للسوق ، مؤسسة على وثنية المال . وقد وضع القادة الأمريكيون ، موضع التنفيذ، أساليب مختلفة حسب القارات والأنظمة السياسية المختلفة .
يستطيع المرء في إفريقيا مثلا ، ان يحصي ثلاثة بدائل رئيسية :
عندما زار الرئيس السنغالي عبدو ضيوف ، الولايات المتحدة في 10 أيلول 1996 ، أعلن هيرمان كوهن ، مساعد وزير الخارجية للشؤون الافريقية ، أن مدة الثلاثين عاما التي حددتها منظمة الوحدة الافريقية لتكامل الاقتصا الافريقي ، فترة طويلة جدا . وقال " نحن نفكر أن إزالة الحواجز التجارية الافريقية يجب ان يتحقق بسرعة . ولأن الرئيس عبدو ضيوف أبدى تفهما لوجهة نظرنا هذه ، فإن الرئيس الأمريكي قرر الغاء 42 مليون دولار من ديون السنغال ".
في الجزائر ، وضعت المسألة بشكل آخر : كان رد الفعل على سياسة صندوق النقد الدولي ، والذي ظهر لأول مرة في انتفاضة الجزائر في تشرين الأول 1988 ، قد وجد تعبيره في حركة الاغلبية الإسلامية التي تعارض بصراحة " وحدانية السوق " . وقد طرحت الجبهة الإسلامية للانقاذ مسألة طيبة ، هي المسألة الأولى في عصرنا : رفض وحدانية السوق ، رفض الليبرالية التي تختلق أسباب " العزل " وتطبق التبعية على أربعة أخماس العالم ، وضياع كل معاني الحياة . إنه سباق يجري لمصلحة قادة البؤس ، وضد العدد الوافر من البشر .
ولأن الحلول التي أعلنت عنها الجبهة الإسلامية للانقاذ لا تشكل مشروعا حقيقا ، أي بديلا صادقا لانحطاط الغرب وهو أن يرفض مبدأ النظام الذي يزعم لنفسه حق الهيمنة على العالم ، معتبرا إياه تجسيدا للشر . ويجب أن لا ينبع هذا الرفض من دواع اقتصادية فحسب " فالجزائر مدينة بـ 12 مليار دولار وتدفع 5 مليار سنويا فوائد هذه القروض " وإنما لسبب آخر كبير ، سياسي ، وحتى ديني ، بمعنى أن يضع موضع التساؤل غايات المجتمع المؤسس على اقتصاد السوق .
إن ممارسة حفاري قبور العالم للطقوس السرية لوحدانية السوق ، تستدعي حربا حقيقية ضد ديانة ، تتهم بخدمة الشيطان ، كل من يعارضها : وقد حولوا كل معارض لوثنيتهم وهيمنتهم ، مهما كانت مصالحه أو أخطاؤه أو جرائمه ، إلى هتلر جديد، سواء كان أصوليا ، عراقيا ، صربيا أو ساندينستيا ، أو معارضا من البيرو . لقد تقل الديمقراطيون الاصفياء في واشنطن أو باريس بارتياح طرفة برتولد برخت التي أصبحت شهيرة في الجزائر :
لقد صوت الشعب ضد الحكومة . والحل الاكثر بساطة هو " حل " الشعب . ونستطيع استخلاص البديل الثالث من أحداث الصومال ، وقد أخذ هذا البديل اسما يغمرنا بالاحلام : " حق التدخل الانساني " . لنتصور شعبا افريقيا يدعي لنفسه حق التدخل الإنساني للتدخل ضد التمييز العرقي تجاه الزنوج والهنود في الولايات المتحدة بعد الانفجارات الشعبية في لوس أنجلوس " . وهذا الحق الحق قابل للتطبيق ، إذا اعتمدنا المعايير التي استخدمت في الصومال ، في نصف بلدان القارة الافريقية .
يتصف هذا التدخل بانه انتقائي . وقد أوضح الرئيس بوش هذه النقطة بجلاء في آخر خطاب له في الاكاديمية العسكرية في وست بونت قائلا : " ليس علينا أن نتحرك ، عبر كل حالة من العنف الاجرامي .. إذ لا يجب أن تتعارض مثاليات أمة ما مع مصالحها " .
يكشف هذا التمييز الرئيسي بين " المثال " و " المصلحة " ، لماذا اختلق هذا الحق بالنسبة للصومال . هناك على الأقل ثلاثة أسباب :
ـ أهمية القرن الافريقي في المراقبة القريبة للخليج .
ـ أعمال التنقيب عن البترول الذي تقوم به أربع شركات أمريكية ضخمة ، إذ يتطلب استمرار التنقيب ، وجود سلطة مستقرة وقوية .
ـ وأخيرا ، وعلى الاخص ، إقامة سلطة من الدمى ، تقبل جهارا املاءات أمريكا عبر صندوق النقد الدولي .
ومن الطريف أن المحاولة الخجولة لعدد من السياسيين الفرنسيين الذين يعتقدون أن أفريقيا ما زالت من ممتلكات فرنسا ، لادارة المفاوضات بين المرشحين المحتملين لرئاسة الصومال ، قد استبعدت بنقفة إصبع أمريكية .
هذا هو نموذج التدخل الإنساني ، ذو الدوافع الواضحة للمصالح الأمريكية . ويمكن شرح هذه الانتقائية بأمثلة عديدة : كان ضروريا ، نشر أسطول جوي لحماية الاكراد في العراق ، أما أكراد تركيا الذين يمثلون ثلاثة أرباع الاكراد ، فليس لهم أي حق بهذا التدخل الإنساني . وكذلك الفلسطينيون وشعب هاييتي الذي سقط تحت إرهاب عصابات تونتون ماكوتس ، أو شعب السلفادور الذي أسلم بوحشية إلى " كتائب الموت " .
وتختفي أشكال التدخل الاستعماري الجيد وراء أسماء مختلفة ، غير الدفاع عن الحق الدولي والديمقراطية . ومجزرة الخليج هي المثال الاكثر جلاء . فالدفاع عن الكويت كان دفاعا عن " الحق " و " الديمقراطية " . والحق هو الحق الاقوى .
والآن وقد أعيد بناء " الديمقراطية " في الكويت ، وهي ديمقراطية تشبه بقوة ديكتاتوريات أمريكا اللاتينية . فقد أعطت عودة الاسرة الحاكمة ، بعد الضغوط التي مورست على الفلسطينيين وطردهم ، الفرصة لولادة صورة كاريكاتورية للديمقراطية .
يملك حق التصويت في الكويت 11 % فقط من السكان ، وتنتمي الغالبية العظمى في هذا البرلمان ، إلى المعارضة ، أما الوزراء فينتمون إلى الاسرة الحاكمة . وتستوجب نتائج فساد النظام استخلاص العبر .
يقول رئيس البرلمان الكويتي أن مسؤولية الفضائح المجلجلة ، تقع على عاتق الوزراء الذين تعاقبوا على وزارة المالية منذ عام 1986 .
لقد اختفت المليارات من الدولارات من خزائن الكويت خلال فترة حرب الخليج في فضيحة شركة نفط الكويت ، حيث اختلس ما بين 70 و 900 مليون دولار ، وفي فضيحة شركة نورأس الشركة الرئيسية التابعة لمكتب الاستثمار الكويتي وهو جزء من الجهاز الحكومي ، كشف عن ضياع 4 مليار دولار ، عقب سرقة كبرى للودائع في إسبانيا ، أما فرنسا فقد شهدت إفلاس البنك الكويتي ـ الفرنسي في باريس .
وكانت آخر هدية قدمت لبوش مكافأة على ما فعله في الكويت ، صفقة دبابات إبرامز MIA2 ، وبقيمة ملياري دولار ، في الوقت الذي كان يموت فيه طفل عراقي كل أربع ساعات بسبب الحظر.
أما ما ألقي على العراق خلال الحرب ، فكان أكبر من قنبلة هيروشيما بثماني مرات ، وقد أباد حسب أدنى الاحصائيات التي أعلنها الصليب الاحمر الدولي 210 آلاف ضحية .
هذا هو معيار الدفاع عن " الحق الدولي " ، الذي يحمل معنى وحيد الطرف ، إنه حق لم يعرف الرحمة عندما " ألحقت " الكويت ، ولكنه ينسى إلحاق القدس ، والقدس مدينة مقدسة ، ولكن مدينة الكويت مقدسة ألف مرة أكبر من القدس ، ما دامت تقع وسط حقول النفط .
كان التدمير الكثيف هو الاسلوب الذي استخدم ضد العراق ، أما الهدف فكان إعطاء " مثال " يقنع العالم الثالث لأكمله ، وخاصة إيران وليبيا ، الهدفين الاقربين باعتبارهما يملكان مصادر نفط ، وما زالا خارج السيطرة الأمريكية حتى الآن .
وطبقت الولايات المتحدة اسلوبا آخر ، اقل كلفة ، ولكنه كاف لاضرام نار الخلافات بين القوميات ، والمجابهات المزعومة بين الاثنيات والديانات .
و " القومية " اختراع أوروبي ، ولا حاجة بنا لا ستذكار تاريخ تشكلها في أوربا وخاصة منذ معاهدة وستفال عام 1647. لقد قرعت هذه المعاهدة أجراس موت المسيحية التي كانت توحد أوروبا ، فتأسست القوميات على أساس اقتصاد السوق ، وهو اقتصاد تحمية دولة وجيش .
كانت هذه نقطة الفراق ، التي استدعت قيام الوحدات القديمة ، مثل فرنسا ، فالملك تشاركز الخامس " نهاية القرن 14 " أصدر أمرا ملكيا ، قرر فيه أن كل الممتلكات في المملكة تعود للملك وحده ، وله وحده الحق أن ينظم كل الاسواق والمعارض ، ويضع تحت حمايته سلامة الذاهبين ، والمقيمين ، والعائدين .
هدف هذا القرار إلى التغلب على كل المصالح الاقليمية للاقطاع . وسيصبح إنجاز هذه " الوحدة القومية " مهمة الثورة الفرنسية ، وعبر عن هذه المهمة ، الخطاب التأسيسي للافاييت ، في عيد الاتحاد في 14 تموز 1790 ، إذ أقسم على الحفاظ على الدستور ، وضمانة الوحدة السياسية لفرنسا ، ولكنه أيضاً ضمن " سلامة الاشخاص والممتلكات ، والانتقال الحر للبضائع " .
ومن بين الوحدات القومية التي تشكلت في مرحلة متأخرة ، بدءا من القرن التاسع عشر ، الوحدة الألمانية التي بدأت عملية التوحيد فيها ، بإنشاء الوحدة الجمركية " زولفرين 1833 " ، كما فعلت إيطاليا في عهد كافور .
وتأكدت هذه الوحدة ، في القرن التاسع عشر ، العصر الذهبي للبورجوازية التجارية والصناعية التي أنهت صراعها مع آخر الامتيازات الإقطاعية ، والتي سيتركز صراعها الجديد ضد المنافسين الخارجيين . لذلك كان عليها أن تبحث عن تبرير أيديولوجي لهذا الصراع .
وادعت كل أمة ملكيتها للتراث الديني المسيحي :
ففي فرنسا ، انطلق شعار " أكمل الله عمله بالفرنسيين " . وفي ألمانيا كانت عبارة " الله معنا " نشيداً تغنى به القوميون الألمان .
ولكن تراجع النفوذ الديني ، دعا إلى ايجاد أسس أخرى للقومية ، فكانت الحدود الجغرافية الطبيعية بديلا عن " ارض الميعاد " ، أو " الجيل الموحي إليه " كما قال باريه ، وتبعتها البيولوجيا أي النظرية العرقية .
لقد استثمروا نظريات جوبينو وشامبرلين ، وبعد ذلك الأساطير التاريخية التي تميل لخلق اقتناع بأن " الأمة " قد وجدت قبل آلاف السنين . وقد وضعت " الارشيفات " الاسطورية للشعوب لخدمة هذه الفكرة : في ألمانيا جنبا إلى جنب مع " الاوابد الألمانية التاريخية " (يبرزت 1824) ، أما في فرنسا فكان كتاب جيزو " وثائق أصلية عن التاريخ الفرنسي " (1833) ، وفي بريطانيا ظهرت سلسلة " رولز " حول أصول إنكلترا (1838) .
وحدد كل مستعمر ، مع ابتداء الغزو الاستعماري في كل القارات ، " ارض صيد " خاصة به ، تحولت فيما بعد إلى " أمة " . ولنضرب مثلا على ذلك :
إن الحدود القائمة لبدان أمريكا اللاتينية تتصل إلى حد بعيد بالخطوط التي رسمها نواب الملك والحكام العاملون المنتدبون من إسبانيا والبرتغال . أما الحدود القائمة لبلدان إفريقيا فقد جرى تحديدها من قبل المستعمرين الاوروبيين الذين مزقوا أفريقيا بموجب معاهدة برلين 1885 .
وقد جرى تقطيع هذه القارة حسب علاقات القوة بين الاستعماريين ، انطلاقا من مبدأ يقول : إن من يمتلك الشاطئ يمتلك كل البلاد وراءه ، والواقعة ضمن خطوط عمودية مع الشاطئ .
وأدت تجزئة الامبراطورية العثمانية على أيدي غزاة الحرب العالمية الأولى ، إلى رسم حدود البلاد العربية في الشرقين الأدنى والأوسط ، حسب أطماع الدولتين المتنافستين ، فرنسا وإنكلترا ، اللتين توصلتا إلى تسوية بموجب اتفاقية سايكس ـ بيكو 1917 .
ويستطيع المرء أن يضاعف الامثلة لعملية تصدير القومية وأيديولوجيتها في العالم أجمع مع بدء الاستعمار الاوروبي . وبدأ الصدام بين الأمم المحررة مع انحسار الاستعمار . كان الانتصار الذي حققه الاستعمار بعد موته ، استخدام القوميات الواحدة ضد الاخرى . كانت جامعة الدول العربية حلما إنكليزيا قديما لفصل العرب ، أثناء تفكك الإمبراطورية العثمانية ، عن الامامة الإسلامية ، في الوقت الذي كانت فيه أيديولوجيا القومية التركية من صنع أوروبي هو فامبيري .
أما في المخطط السياسي فالتاريخ يعمر بألف مثال ، وسيسمح هذا المخطط لنا أن نشهد بعد فترة طويلة ، إثارة الصراع بين العرب والإيرانيين ، وتجهيز العراق عسكريا بغية إضعاف إيران ، بانتظار تدميره .
ومع انهيار الاتحاد السوفيتي تواصل البلدان تفككها بالأسلوب الذي يناسب الخصوم . ويكتمل المخطط بإثارة الحروب الداخلية في البلدان المحيطة : بين المسلمين والقوميين في طاجاكستان ، بين الارمن والاذربيجان ، وبالمجازر التي ارتكتب ضد الروس في أفخازيا والشيشان .
والمثال النموذجي ، هو مثال يوغوسلافيا القديمة . لم تعرف شعوب يوغوسلافيا المختلفة في لغاتها ودياناتها وتاريخها وبناها الاقتصادية ، وعلى مدى نصف قرن ، اضطهادا ولا مصادمات كبرى . لقد انفجرت القوميات مع عودة فوضى اقتصاد السوق التي أثارت في القسم الاغنى من البلاد ، هو سلوفينيا إرادة الانفصال عن الجمهوريات الاخرى الاكثر فقرا في الاتحاد اليوغوسلافي . وكانت الخطة إثارة القوى البعيدة عن المركز . وقد اعترفت ألمانيا بموجب سياستها التقليدية في الادرياتيك ، ومن جانب واحد باستقلال سلوفينيا ، والبوسنة ، وكرواتيا ، وهي الممر المؤدي إلى البحر الأبيض المتوسط . وقبلت الولايات المتحدة فورا الموقف الألماني ، وباعتبار أن ألمانيا هي الشريك الأكبر للولايات المتحدة في أوروبا ، وكذلك تركيا التي وجدت أنها فرصة لتضع قدمها مجددا في البلقان ، التي خضعت سابقا للامبراطورية العثمانية .
وسمح خضوع تركيا لحلف شمال الأطلسي ، سمح لها أن تضع نفسها في موقف المدافع عن المسلمين في البوسنة وكوسوفو ، دون أن تضطر لمجابهة سادة الأطلسي ، وكذلك أضاف الفاتيكان دعمه لكاثوليك كرواتيا .
مال الأوروبيون ـ وفرنسا خاصة ـ الذين استشعروا منذ البداية خطر انفجار يوغوسلافيا ، لحماية الوحدة اليوغوسلافية ، والتراص قبالة الموقفين الأمريكي والألماني ، واتهموا الصرب الذين جهدوا لحماية الوحدة ، بالعدوان والانفصالية . وأخذت وسائل الاعلام على عاتقها مهمة تصويرهم وحدهم بالشياطيين في هذه الصراعات التي لم تقتصر الوحشية فيها على طرف واحد.
وهكذا ابتدأت المجازر ، لأن الامريكيين والأوروبيين ، لم يأخذوا بالحسبان التعقيد في العلاقات بين الشعوب . فباسم حق تقرير المصير " وهو حق لم يول أي اهتمام للأقليات الموجودة في الدول المستحدثة التي اعترفوا باستقلالها " ، لم يعد لأي من هذه الشعوب هم إلاّ الدفاع عن نفسها . أما مسؤولية دول الغرب في هذه الفوضى الدامية فهي مسؤولية مطلقة، فقد جعلوا المشكلة عصية على الحل بمصطلح الحق ، ومميتة بمصطلح القوة .
ولن نورد إلا مثالا واحدا : يضم البوسنيون 44 % من المسلمين و 30 % من الصرب و 18 % من الكروات . الصرب يخشون عودة " جمهورية إسلامية " أعلن عنها القائد البوسني عزت بيجوفتش ، والآخرون يخشون هيمنة صربية تدعمها بلغراد ، ويثيرون مواجهات صعبة ودامية بين الكروات والمسلمين ، وبين الصرب والكروات ، وبين المسلمين والصرب ، مع ما تحمله هذه الصراعات من وحشية تصفية الحسابات بين شعوب امتزجت ببعضها ، وتشابكت فيما بينها .
أصبح أي تدخل عسكري ضمن هذه الظروف ، صعبا جدا بل مشكوكا في جدواه ، شأنه في ذلك شأن مباحثات السلام ، فلكي يصبح ممكنا ـ مثلا ـ أن تقوم " القبعات الزرق " " جنود الأمم المتحدة " بحماية ضحايا هذا الوضع الفوضوي توجب عليهم أن يقصفوا (انطلاقا من حاملات الطائرات المرابطة في الآدرياتيك ) ، البوسنة بالصواريخ ، لتقتل الصرب والمسلمين والكروات على حد سواء .
أما ما يتعلق بمباحثات جنيف ، فقد تعطلت منذ بدايتها ، بسبب الخطأ الأساسي للغرب ، وهو اعترافه بالدول الجديدة دون أن يطلب منها ضمانات لحماية الاقليات فيها . ولهذا بات ، كل طرف من الأطراف يبحث عنها اليوم لحسابه الخاص : فقد أراد عزت بيجوفيتش دولة بوسنية موحدة ، لأن شعبه سيتحول في ظل إطال فيدرالي إلى أقلية ، في حالة تحالف الصرب والكروات . وبالعكس ، فقد تمسك الصربيون والكروات بالحل الفيدرالي الذي سيعطي الأولين ضمانات ضد زغرب ، يضاف إلى ذلك الخلافات حول رسم الحدود ، لأن التشابك بين الشعوب يستبعد التقسيم العرقي . وهكذا تراجعت المشكلة لتصبح تقسيما كميا ، أي استنادا إلى مرحلة علاقات القوى ، كما كانت دائما مشكلة ترسيم الحدود عبر التاريخ .
وهكذا ، تقودنا المصالح العمياء للقوى الغربية الكبرى ، إلى مشاكل القرن الماضي ، المسماة بالمسألة الشرقية ، فقد ازدادت هذه المشكلة عمقا بسبب مخاطر عدم الاستقرار في أوروبا والشرق الأدنى في وقت واحد .
لقد حاولنا الوصول إلى الخيط الاساسي الذي يسمح لنا الربط بين المشاكل الدولية الاساسية في نهاية هذا القرن ، على الرغم من تنوع مظاهرها : إنه الهيمنة العالمية للولايات المتحدة ، ووحدانية السوق التي تريد أن تفرضها على العالم كله .
ولتحقيق ذلك سوف تتابع الولايات المتحدة :
ـ الدعوة لحرية اقتصاد السوق ، حرية بلا حدود ، بأعتبارها المنظم الوحيد للعلاقات الاجتماعية.
ـ الدعوة للتقدم المتواصل في مجال تنمية القدرة العمياء ، للسيطرة التقنية والعلمية على الطبيعة والانسان .
ـ الدعوة لمتابعة تطوير الازدياد الاعمى للانتاج والاستهلاك .
لن تكون هناك حرية وديمقراطية إلا إذا شاركت كل لاطراف باتخاذ القرارات التي تحدد مصائرها .
لن يكون هناك تقدم إلا إذ حل محل هذا الغاب من التزاحم وإرادات القوة ، والنمو الكمي والتنافس على الأرباح بين الافراد والجماعات والأمم ، مجتمع حقيقي ، نعني به ، مجتمعاً ، يمتلك كل فرد فيه ضميراً يشعره أنه مسؤول عن مصير جميع الآخرين . وهذا ما لا توفره الفردية .
ليس هناك من تطور إلاّ للإنسان . وبعكس نظام يولد تراكم الثروة لدى قطب واحد في المجتمع ، وتراكم الفقر المادي والثقافي لدى الغالبية ، فإن مجتمعا متطورا فعلا ، هو المجتمع الذي يخلق شروطا اقتصادية ، وسياسية ، ثقافية ، وروحية ، تمكن كل فرد من أفراده ، من التهيؤ للإنطلاق ، وفق فرص متساوية ، بغرض تنمية كل الإمكانيات الخلاقة التي يحملها بين جنبيه .
الفصل الخامس
التجارب الخائبة الاشتراكية
توجب مرور قرنين كاملين ، على الثورة الفرنسية ، ليصبح شائعا ما دعاه ماركس في منتصف القرن الماضي : تهتك الرأسمالية ولتحقق الوعي في مسألة العودة إلى شريعة الغاب ، لمؤسسة غبر الأيديولوجيا والممارسة العملية لحرية السوق ، وهما العاملان اللذان قادا العالم اليوم للإنقسام إلى قسمين : الشمال والجنوب ، مع كل نتائج النمط الغربي للتنمية الذي كلف العالم الثالث من الموتى كل يومين ، ما يعادل ضحايا هيروشيما. أما التباعد بين الشمال والجنوب فما زال يتعاظم يوما بعد يوم .
ولم يتوقف تنامي انقسام مشابه ، حتى داخل البلدان الغنية ، بين الذين يملكون ، والذين لا يملكون ، مع تصاعد لا يرحم لمعدلات البطالة ، والتسريح ، وعدم المساواة .. وما زال التفاوت بين هذين الطرفين يتعاظم يوما بعد يوم .
والواقع أن ثلث العاملين في العالم البالغ عددهم 2800 مليون ، عاطلون ، عن العمل ، وقد انخفض الانتاج في بلدان العالم الثالث بين عامي 1990 و 1993 ، بنسبة 10 % .
وحدث الامر نفسه في مجموعة دول أوروبا الشرقية ، بعد عودة الرأسمالية اليها : فقد انخفضت دخول 73 % من الاسر البلغارية إلى أقل من الحد الادنى للاجور ، بينما كان عام 1990 ، 42 % فقط ، ووصل 50 % من الاسر البولونية إلى مستوى الفقر عام 1992 ، مقابل 40 % عام 1991 . وحدث الامر نفسه في الاتحاد السوفيتي السابق ، حيث يعيش 10 مليون إنسان عند عتبة الفقر " عام 1991 " .
وفي البلدان شبه الصحراوية بلغ معدل البطالة 51 % ، وهو ضعف ما كان عليه في أعوام الخمسينات .
وفي أمريكا اللاتينية ، ارتفعت البطالة في القطاعات المدنية من 4, 13 % إلى 6 , 18 % .
وهكذا نجد أن 350 شخصا فقط يتمتعون بدخل يعادل دخول 5 , 2 مليار إنسان في العالم .
كانت الثورة الفرنسية قد أحلت محل تراتبية الدم ، تراتبية المال ، إذ اهتمت بموجب قانون شابلير 17 حزيران 1791 بحل المنظمة العمالية ، وكانت قبل ذلك قد جردت الطبقات الاجتماعية المحرومة أن تعارض التراتبية الجديدة ، من أسلحتها .
ودام منع التنظيم العمالي قرنا كاملا ، إلى أن سمح بتأسيس النقابات عام 1887 . وقد أشار بابوف (1760 ـ 1797) إلى تخوم هذه الثورة التي أسست علاقات جديدة قائمة على مبدأ الدفاع عن الملكية الفردية ، وحرية هذه الملكية في النمو على حساب غير المالكين . وكتب بابوف في العدد 34 من " منبر الشعب " يقول : أي شيء هي الثورة الفرنسية ؟ إنها حرب ناشبة بين النبلاء والعامة ، بين الاغنياء والفقراء .
أمام هذه التراتبية الاقتصادية للنظام الترميدوري ، تحدث العدد 35 من " منبر الشعب " ، وفي باب " بيانات الفقراء " ، عن القانون البربري الذي يفرضه رأس المال .
وقد انتحر بابوف ، قبل أن ينفذ فيه حكم الاعدام في فاندوم في 28 أيار 1798 .
ودعم نابليون من خلال الدكتاتورية ، النظام الذي تأسس باسم الحرية . وقد كتب أحد وزراءه ، ويدعى شامبيني والذي يعتبر نموذجا لارستقراطية المال الجديدة كتب رسالة إلى الكونت ونتراج ، وهو قانوني بقي مخلصا للنظام القديم : " يلزمنا ملك يكون ملكا حقا ، لأنني مالك " 21 آب 1801 .
وفي الحقيقة ، فقد وضع نابليون بأسلوب أكثر ما يكون وضوحا ونمطية ، القانون الذي عرف باسمه عام 1804 ، والذي كرس مبادئ الملكية ، وحرية العمل اللتين سادتا منذ عام 1789 . وأدرك لوي بلان 1812 ـ 1882 هذه الفكرة ، فأشار إليها في كتابه " تاريخ السنوات العشر " بقوله : أطل نابليون على الجمعية التأسيسية ، فانحاز إلى الطغيان المختبئ في ثنايا مبدأ " دعه يعمل " ، وفي كلمة واحدة لقد حصن كل ما يخدم اليوم ، هيمنة " البرجوازية " .
وفي الواقع أعطى نابليون أول مثال لهذه الحقيقة ، التي طبقت بعد ذلك ابتداء من لويس فيليب ، إلى عهد نابليون الثالث ، بل وحتى حكم بينوشيه ، تشير إلى أن الحرية الاقتصادية أبعد ما تكون عن الامتزاج بحرية الإنسان ، وهي تتفق بشكل جيد مع نظام سياسي ديكتاتوري ، مثلما تنسجم مع " ديمقراطية " ، تموه ديكتاتورية المال .
ويمكن لهذا النظام أن يجد مبرراته في الدين والالحاد على حد سواء . وكان نابليون ، في هذه الحالة مبشرا أيضاً . ودلل روديرو في " يومياته " عن هذه الثقة لدى نابليون :
" لا يمكن للمجتمع أن يوجد دون التفاوت في الثروة ، ولا يمكن لهذا التفاوت أن يوجد بدون الدين . فعندما يموت انسان جوعا إلى جانب انسان آخر يتقيا من التخمة ، لا يمكن قبول هذا الامر إلا بوجود سلطة تقول له : يريد الله الامر على هذه الشاكلة . ولا بد في هذا العالم من وجود فقراء وعبيد . أما في الاخرة فستكون القسمة على شكل آخر " وهذا ما جعل هذا الكافر يحرم من تتويج البابا له .
إنها نفس اللغة التي استعملها شاتوبويان حين عودة الملكية : " إنها دولة سياسية ، يملك أفراد فيها الألوف ، بينما يموت آخرون جوعاً ، أيمكن لهذه الدولة أن تستمر عندما لا يكون هناك دين يولد الآمال خارج هذا العالم ، كي يفسر معنى التضحية ؟ " مذكرات بعد الموت " .
وقال لويس فييو في وسط القرن التاسع عشر :
عندما لا يؤمن بالله ، فلن يؤمن بالملكية حتى يكون مالكا ، " وبهذا المعنى يجب فهم مقولة ماركس : الدين أفيون الشعوب " .
ولدت الاشتراكية أولا من الثورة على الإنسانية نظام الحرية الاقتصادية . وقد وعى مسيحيون ، رفضوا الاستسلام للتواطؤ ، هذه اللاإنسانية في النظام ، وصاغ الاب لا كوردير ، مثلا ، المبدأ ذاته المتعلق بلا إنسانية الإنسان بقوله : " بين القوي والضعيف ، الحرية هي التي تقوم بالاضطهاد والقانون هو الذي يحرر ".
وقد ولدت الاشتراكية من خلال البحث عن هذا القانون الذي يسمح للانسان أن يصبح إنسانا .
فشلت محاولات بناء الاشتراكية ، حتى الآن ثلاث مرات . إذ لم تكن عام 1848 إلا انتفاضة ، فكان بالامكان اخمادها في ثلاثة أيام . ولم تعش كومونة باريس عام 1871 أكثر من ثلاثة شهور أيضاً ، فتم سحقها بقوات مشتركة لبسمارك وتيير . فقد طوق جيش بسمارك باريز ، وأعاد تيير أسراه في سيدان بعد خيانة بازين ، وطلب من قائد الجيوش البروسية أن يسمح للجيش المحاصر في سيدا بالخروج استعداداً لصد عصيان محتمل في باريس .
وولد الامل من جديد في الاتحاد السوفيتي بعد ثورة أكتوبر 1971 ليتداعى بعد سبعين عاما . وقد عاشت الثورة حالة من الحصار منذ ولادتها ، بإرادة كليمانصو وتشرشل اللذين كانا البادئين باختراع فكرة " الاسلاك الشائكة " والتي تولد عنها فيما بعد " سور برلين " كجواب عليها .
لم يتوقف الحصار الاقتصادي ، منذ أن بذلت الحكومات الأوروبية الرأسمالية الدعم لقادة الثورة المضادة عام 1918 مثل دنيكين ورانجل ، إلى قيام الحرب الباردة ضد امبراطورية الشر ، إلى حرب النجوم التي أطلقها ريغان ، إلا لمدة أربع سنوات فقط .
فقد رأت هذه الحكومات أن هتلر يشكل أفضل " سد " ضد البلشفية ، فرحبت بصعوده إلى السلطة وزودته بالفولاذ والمال ، والتنازلات اللازمة " معاهدة ميونيخ 1938 " للسماح له القيام بهذه المهمة .
ولكن هتلر ، وبعد أن أصبح جاهزا لتنفيذ هذه المهمة ، تنبه لخطر أن يصبح أسيرا بين فكي كماشة ، الغرب من جانب ، والشرق من جانب آخر ، فقام باحتلال فرنسا ، وقصف بريطانيا . عندها أدرك الأوروبيون أن الاتحاد السوفييتي هو منجاتهم الوحيدة فتحالفوا معه .
عانى الاتحاد السوفييتي كثيرا من الغزو والاحتلال الكثيف من قبل ثلثي الجيش الألماني . ثم قام بتحرير أوروبا بدءا من ستالينغراد وحتى برلين ، محطما الجيش الألماني ، بعد أن دفع في هذه الحرب الضريبة الأثقل : بطولات وتضحيات (17 مليون قتيل ) . بعد ذلك ضاقت الحلقة حوله ، بدءا من الخطاب الذي ألقاه تشرشل في فولتون عام 1946 مدشنا الحملة الجديدة .
لم يكن انهيار الاتحاد السوفييتي بسبب هزيمة عسكرية ، إنما انفجار سياسي واقتصادي ، وليس بسبب أنه اتبع عقيدة ماركس ، بل لأنه خانها .
كان ماركس قد عثر من خلال كومونة باريس على صي