النصّ الحقيقي والكامل للمناظرة بين إرنست رينان وجمال الدين الأفغاني
بقلم: د. محمد الحداد.
1- تعقيب رينان على رد الأفغاني
قرأ رينان ردّ الأفغاني المنشور في صحيفة لوديبا الفرنسية بتاريخ 18/05/1883 وأجاب عليه في اليوم الموالي بتعليق نقدّم هنا تعريبه:
طالعت أمس بما هي جديرة به من اهتمام الأفكار النبيهة التي قدّمها الشيخ جمال الدين حول محاضرتي الأخيرة بالسوربون. لا شيء أكثر فائدة من أن ندرس وعي الآسيوي المستنير وهو يعبّر عن نفسه بصدق وأصالة. والإنصات إلى الأصوات المتباينة وهي تنبعث من أنحاء العالم للدفاع عن العقلانية يدفع إلى الاعتقاد بأن البشر لئن فرقت بينهم الأديان فقد وحّد بينهم العقل. ووحدة العقل البشري هي النتيجة العظمى والمسلية التي يسفر عنها الصدام السلمي بين الأفكار إذا ما صرفنا النظر عن الادعاءات المتناقضة للرسائل المدعوة بالسماوية. يبدو اتحاد العقول السليمة في الكون لمحاربة التعصب والخرافة عملا مخصوصا بنخبة لا شأن لها، لكن الحقيقة أن هذا الاتحاد هو الأمر الوحيد الدائم لأنه قائم على الانتصار للحقيقة وسينتهي بالتغلب يوما ما عندما تنهار الخرافات وتتشظى في وحدات عريقة من التشنجات العاجزة.
لقد تعرفت على الشيخ جمال الدين منذ شهرين تقريبا وتم ذلك بفضل معاوننا العزيز السيد غانم. قليلا هم الأشخاص الذين التقيت فتركوا في نفسي انطباعا بالقوة التي تركها لقاؤه. وقد كانت محادثتي معه آنذاك الدافع الأكبر لاختياري موضوع العلاقة بين الروح العلمية والدين الإسلامي موضوعا لمحاضرتي بالسوربون. إنّ الشيخ جمال الدين رجل أفغاني قد تحرّر كليّا من المسلمات الإسلامية وهو ينتمي إلى الأعراق النشطة لشمال إيران المجاورة للهند فهناك تتواصل الروح الآريّة القويّة تحت حجاب رقيق من الإسلام الرسمي. وهو البرهان الساطع على المصادرة الكبرى التي وضعنا ومفادها أنّ قيمة كلّ دين تتحدّد بقيمة الأعراق التي تعتنقه. كانت ترشح من جمال الدين حرية الفكر ونبل الطباع فخلت وأنا أتحدث إليه بأني أجالس أحد معارفي القدامى وقد بعث حيا، لقد رأيت فيه ابن سينا وابن رشد وغيرهما من كبار الملحدين الذين مثلوا لمدة خمسة قرون تراث العقل الإنساني. كان الفارق يبرز أمامي بجلاء كلما قارنت هذا الحضور القويّ بالصور التي تبدو عليها البلدان الإسلاميّة بعد فارس، فهي بلدان قد اختفت فيها أو تكاد الروح الفلسفية والعلمية. إنّ الشيخ جمال الدين هو أفضل مثال يمكن تقديمه للصمود العرقي ضدّ الغزو الديني، وهو يؤكد ما لم يفتأ مستشرقو أوروبا الأذكياء يذكرونه: إنّ أفغانستان هي البلد الآسيوي الأكثر احتواء للعناصر المكونة لما ندعوه الأمّة بعد اليابان.
إني لا أرى في المقال العالم الذي كتبه الشيخ إلا مسألة واحدة هي محلّ خلاف بيننا. يرفض الشيخ التمييز الذي يدفع إليه النقد التاريخي في هذه الظواهر المعقّدة التي تدعى الإمبراطوريات والغزوات. فالإمبراطورية الرومانية التي كان للعرب صلات بها عديدة هي التي جعلت اللغة اللاتينية لسان حال العقل البشري في الغرب إلى حدود القرن السادس عشر. وقد كتب بهذه اللغة ألبرت الأكبر وروجر باكون وسبينوزا مع أنّنا لا نعتبرهم من اللاتينيين. وكذلك نقحم في تاريخ الأدب الإنجليزي بيد ( Bède ) وألكوين ( Alcuin ) أو في تاريخ الأدب الفرنسي غريغوار دي تور ( Grégoire de Tours ) وأبيلارد ( Abélard ) وعندما لا نعتبرهم من اللاتينيين فلا يمكن أن نتهم بالتقليل من شأن روما في تاريخ الحضارة، فكذلك نحن لم نقصد التهاون بشأن الحركة العربية. وكل هذه الحركات الإنسانية الكبرى تظلّ بحاجة إلى مزيد التحليل. لكن ليس كلّ ما كتب باللاتينية هو من أمجاد روما ولا كلّ ما كتب باليونانية هو تراث إغريقي ولا كلّ ما كتب بالعربية هو إبداع عربي ولا كلّ ما حصل في المجتمعات المسيحية هو من نتائج الدين المسيحي ولا كلّ ما حدث في البلدان الإسلامية هو من ثمرات الإسلام. هذا هو المبدأ الذي كان قد اعتمده العلامة رينهارد دوزي في تاريخه للأندلس وهو عالم مشهود له بالكفاءة تأسف أوروبا هذه الأيام لوفاته. لقد طبّق هذا المبدأ بحكمة نادرة. فالتمييز الذي دعونا إليه ضروري كي لا نجعل من التاريخ نسيجا من الأفكار التقريبية والالتباسات.
بدا للشيخ أني لم أكن عادلا في مسألة أخرى إذ لم أتوسّع في تأكيد أنّ كلّ أديان الوحي تعادي العلم الوضعي وأنّ المسيحية في هذا المجال ليست بأقلّ ذنبا من الإسلام. هذا أمر لا يرقى للشكّ. لم يكن مصير غاليليو مع الكاثوليكية بأفضل من مصير ابن رشد بين المسلمين. وصل غاليليو إلى الحقيقة في بلد كاثوليكي على الرغم من الكاثوليك كما تفلسف ابن رشد بنبل في بلد مسلم على الرغم من الإسلام. إذا لم أشدّد كثيرا في بيان هذه المسألة فلأنّ مواقفي حولها مشهورة بما يغني عن إعادتها أمام جمهور مطلع على أعمالي. لم أرني مضطرّا إلى أن أعيد في كلّ مناسبة ما كرّرت دائما: ينبغي أن يتحرّر العقل من كلّ عقيدة غيبية إذا رغب في تسخير طاقاته في وظيفتها الرئيسية، أقصد تشييد صرح المعرفة الوضعيّة. ليس المطلوب هدما عنيفا ولا قطيعة قاسية. ليس القصد أن يتخلّى المسيحي عن المسيحيّة ولا المسلم عن الإسلام. إنما المطلوب أن يشترك المستنيرون في المسيحية والإسلام من أجل بلوغ وضع "اللامبالاة الرفيقة" حيث تفقد العقائد الدينية شراستها. لقد تحقّق هذا الوضع في نصف العالم المسيحي تقريبا ونأمل أن يتحقّق مستقبلا في الإسلام. ومن الطبيعي أن أكون أنا والشيخ في طليعة المرحبين عندما يحدث ذلك.
لم أقل إنّ كلّ المسلمين على اختلاف أعراقهم كانوا جميعا جهلة وإنما قلت إنّ الإسلاميّة وضعت الكثير من العراقيل أمام العلم وقد نجحت مع الأسف منذ خمسة أو ستة قرون في أن تمحق العلوم في البلدان التي سيطرت عليها وقد كان ذلك سبب بؤس تلك البلدان. واعتقادي أنّّ نهضة الإسلام لن تحصل بالعودة إلى هذا الدين ولكن بإضعاف تأثيره في البلدان الإسلامية. وكذا تحقّقت نهضة البلدان المصنفة مسيحية بتحطيم استبداد الكنيسة الذي تواصل كلّ العصر الوسيط. ظنّ البعض أنّ في محاضرتي نيّة الإساءة لمعتنقي الإسلام، وأنا أتبرّأ من هذه النيّة لأنّي اعتقد أنّ الضحيّة الأولى للإسلام هو المسلم نفسه. لقد رأيت مرّات عديدة خلال رحلاتي في المشرق أنّ مصدر التعصّب عدد محدود من الأشخاص العنيفين الذين يخضعون غيرهم بالقوّة للممارسات الدينيّة. وأفضل مساعدة يمكن لنا أن نقدّمها للمسلم هي أن نحرّره من دينه. لا اعتقد أني أضمر للمسلمين شرّا إذا كنت أتمنّى لهم أن يحطموا القيود التي تكبلهم خاصة وأن بينهم أشخاصا كثيرين من ذوي الهمّة. وبما أنّ الشيخ جمال الدين يدعوني إلى الإنصاف بين الديانات فإني لا أظنّ أيضاً أنّي أضمر الشرّ لبعض البلدان الأوروبيّة إذا ما تمنيت للمسيحيّة فيها أن تكون أقلّ نفوذا.
إنّ التباين بين الليبراليين حول هذه المسائل المختلفة ليس بالتباين العميق فهم جميعا يصلون إلى نفس النتيجة العمليّة سواء أكانوا متعاطفين أو غير متعاطفين مع الإسلام. والنتيجة هي ضرورة تعميم المعارف بين المسلمين. هذا أمر جيّد شرط أن يكون المقصود المعارف الجديّة التي تنمّي ملكة التعقّل. وسأكون سعيدا إذا ساهم القادة الدينيّون من المسلمين في تحقيق هذا العمل الرائع، لكنّي أصارحكم بأنّ لديّ شكوكا في ذلك. سوف يبرز أشخاص متميزون (القليل منهم سيبلغ تميّز الشيخ جمال الدين) وسوف ينفصلون عن الإسلام كما انفصلنا نحن عن الكاثوليكيّة. بعض البلدان سوف تبتعد بمرور الوقت عن الشريعة لكن أشكّ في أن تحظى النهضة الإسلاميّة بتأييد الإسلام الرسمي. وكذلك لم تصاحب الكاثوليكيّة النهضة العلميّة لأوروبا ولا عجب أن تظلّ الكاثوليكية تقاوم إلى اليوم ما هو لبّ العقلانية الإنسانية، أقصد قيام الدولة المحايدة بين العقائد التي تعتبر منزّلة.
ينبغي أن تكون الحريّة الإنسانيّة واحترام الإنسان القاعدة التي تعلو ولا يعلى عليها. من واجب المجتمع المدني أن لا يسعى لتقديم الضمانة لأي دين ولا يفرضه على أتباعه إذا رغبوا في التخلّص منه كما من واجبه أن لا يسعى إلى هدم الديانات بل عليه أن يتعامل معها بحسن القبول باعتبارها تجليات حرّة للطبيعة البشريّة. وإذا ما تحوّلت الأديان إلى مواضيع حرّة وشخصيّة مثل الأدب والذوق فإنّها ستتغيّر كليّا. سوف تتخلّص الأديان حينئذ من الكثير من مساوئها عندما تتخلّى عن الروابط الرسميّة التي تربطها بالدولة. قد يبدو هذا التصوّر طوباويّا في الوقت الحاضر لكنّه سيتحقّق في المستقبل. كيف يمكن لكلّ دين أن يتصرّف مع أنظمة الحريّة التي ستفرض نفسها في المجتمعات الإنسانيّة بعد طول عناء؟ هذا سؤال لا يمكن أن يجد بيانه في عدد محدود من الجمل. ولم أقصد في محاضرتي إلاّ أن أخوض في شأن تاريخي وقد بدا لي أنّ الشيخ جمال الدين قد قدّم حججا قويّة لأطروحتين أساسيتين مما قصدت الدفاع عنه: الأولى أنّ الإسلام لم ينجح في النصف الأوّل من عهده في إيقاف تدفق الحركة العلمية في المجتمعات الإسلاميّة والثانية أنّه خنق هذه الحركة في النصف الثاني من عهده فحاق به شرّ ما أقدم عليه.
عرضنا فيما سبق تعريب النصّ الحقيقي والكامل للمناظرة بين رينان والأفغاني، تلك المناظرة المؤسسة في الثقافة العربية الإسلامية الحديثة. فلئن ظلّ موقف هذه الثقافة الامتناع عن التعريب الكامل والوفيّ للنصّ، من مقرّبي الأفغاني آنذاك إلى الدارسين المعاصرين، فإنّ هذه المناظرة لم تفقد قطّ قيمتها المرجعيّة. ونستسمح القارئ بأن نختم ببعض الأفكار السريعة حول القيمة الراهنة لهذه المناظرة بالنظر إلى الوضع الحالي.
كان التفسير العرقي سمة العصر الذي عاشه رينان. وتُبرز المناظرة عندما نقرأها اليوم كم أنّ المثقف يظلّ ابن عصره وبيئته مهما حاول التخلص من السائد وادّعى التفكير الحرّ. لقد آمن رينان بتفوّق العرق الآري على العرق السامي فصنّف الشعوب الإسلاميّة تصنيفًا عرقيًا وبدا له أنّ الأفغان سيكونون في طليعة التحديث حتى جعلهم في المنزلة الأقرب من اليابان! وسبب ذلك أنّ أفغانستان قريبة من الهند الآريّة (وعليه، فإنّ باكستان التي هي جزء من الهند انفصلت عنها بعد وفاة رينان كان المفروض أن تكون سويسرا الإسلامية!) وجعل الفرس في المرتبة الموالية بعد الأفغان، أمّا الترك والعرب وسكان شمال إفريقيا ذوو الأصول البربرية فهم بعيدون في رأيه عن المدنيّة. ولو عاش رينان ليرى كيف أنشأت تركيا أوّل علمانية إسلامية وقامت في بلاد الفرس القديمة أوّل ثورة دينيّة وفرّخت أفغانستان حركة طالبان وأنشأت تونس ذات الأصول البربرية أكثر الأنظمة الإسلامية تطوّرًا في التعليم لأدرك كم كان مخطئًا في تخميناته.
بالمقابل فإنّ المستقبل قد منح توقّعاته حول حدّة التطرّف الديني الإسلامي الكثير من الصحّة، والسؤال المطروح هنا هو لماذا تواصل هذا التطرّف حتى كأنّه اليوم بنفس الدرجة التي وصفها رينان بل ازداد عمقًا وقوّة؟
إنّ تأمّل مسار التيار الغالب في الثقافتين الغربيّة والعربيّة طيلة القرن الذي يفصلنا عن تاريخ هذه المناظرة كفيل بأن يقدّم لنا بعض عناصر الجواب. لقد سارت الثقافة الغربية باتجاه تعديل صورتها عن نفسها وعن الآخرين والتخلص من غلواء ادّعاءاتها ومركزيتها. وبعد سنة واحدة من تاريخ هذه المناظرة أصدر معاصر لرينان هو غوستاف لوبون (1841- 1931) كتابًا عنوانه "حضارة العرب" (1884) قدّم فيه صورة متعاطفة مع هذه الحضارة وأبرز من خلاله الدور الكبير الذي اضطلعت به في التاريخ البشري. ولئن كان لوبون يحمل نفس المسلّمات العرقية، بل كان أكثر إيغالاً في الإيمان بهذه المسلمات، فإنّ كتابه قد لقي ترحيبًا كبيرًا لدى العرب، ناهيك أنّ مفتي مصر آنذاك الشيخ محمد عبده أصرّ في زيارة له لفرنسا سنة 1903 على أن يذهب إلى بيته ليشكره على تأليف هذا الكتاب. وقد تُرجم "حضارة العرب" بعد ذلك إلى العربية وإلى الفارسيّة وكثيرًا ما اعتمده الكتّاب المسلمون في النصف الأول من القرن العشرين للاستشهاد على عظمة الحضارة العربيّة الإسلاميّة.
وفي سنة 1932 أعاد ليفي بروفنسال إخراج كتاب دوزي الذي أشار إليه رينان في محاضرته وعمّق مباحثه في تاريخ المسلمين في إسبانيا مبرزًا ما كانت عليه الحضارة الأندلسية من تقدّم وما أفادت به الأوروبيين ونهضتهم. وقام الألماني كارل بروكلمان بين سنوات 1897 و1902 بإعداد كتابه الضخم "تاريخ الأدب العربي" الذي يعدّ إلى اليوم المرجع الأكبر في إحصاء المساهمات العربية القديمة في أصناف عديدة من المعرفة وتقديم الدليل على قيمة هذه المساهمات وثرائها. وكذلك صنع الفرنسي كرّا دي فو عندما أخرج في العشرية الأولى من القرن الماضي كتابًا بخمسة أجزاء عنوانه "مفكرو الإسلام" أبرز التواصل بين هؤلاء المفكرين وتمثيلهم لثقافة قائمة الذات. وفي نفس الفترة أصدر الألماني آدام ميتز كتاب "نهضة الإسلام" (1922) الذي يعرفه القرّاء العرب من خلال التعريب الذي اضطلع به محمد عبد الهادي أبو ريدة ونشره بعنوان "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري" وهو كتاب يقدّم صورة قويّة وجذابة عن عصر الازدهار العربي الإسلامي. وكان للإسبان مساهمتهم في هذا المجال عبر باحثين مثل ميغيل بالاسيوس الذي نشر نصوصًا ودراسات كثيرة عن ابن حزم والغزالي وابن عربي وغيرهم.
وفي مجال تاريخ الفلسفة تحديدًا عدّل ليون غوتييه آراء رينان عن ابن رشد وساهم في التعريف بفلاسفة آخرين. وهو أوّل من حقّق ونشر رسالة "حي بن يقظان" للفيلسوف ابن طفيل، وهي التي يعتبرها البعض ذروة التميّز العربي الإسلامي في معالجة قضية العقل والدين. وعاضده الألماني ماكس هورتن بتحقيقاته ودراساته الكثيرة لنصوص الفلسفة الإسلامية. وإذا تقدّمنا في الزمن التقينا بكبار المشهورين مثل هنري كوربان الذي أسقط أسطورة نهاية تلك الفلسفة بمحنة ابن رشد أو ماسينيون صاحب الدراسات الرائعة في التصوف الإسلامي.
وقد امتدّت حركة البحث والمراجعة لتشمل مجال العلوم الإنسانية والطبيعية وفضل الباحثين الغربيين لا ينكَر في استكشاف المؤلفات التاريخية والجغرافية والعناية بها والإشادة بقيمتها (دي خويه ناشر تاريخ الطبري، كرتشكوفسكي صاحب أوّل دراسة وافية عن الأدب الجغرافي، الخ). وفي الثلث الأوّل من القرن الماضي ترك طبيب العيون الألماني ماكس مايرهوف عيادته في برلين واختار الإقامة في مصر يعالج الفقراء بالمجان وكان له دور ريادي في التعريف بأهمية الطب العربي وتحقيق الكثير من نصوصه خاصة في طب العيون. وكذلك انهمك النمساوي كراوس على التراث الكيميائي لجابر بن حيان دراسة وتحقيقًا. أمّا الأدب بالمعنى الفنّي فقد بدأت أبحاثه الجديّة التي أنشئت على أساسها الدراسات الأدبية في الجامعات العربية والإسلامية مع باحثين عظماء مثل الانكليزي إدوارد براون والإيطالي كارلو نللينو. والقائمة طويلة إذا أردنا أن نعدّد ما قام به الغربيون في استكشاف الحضارة العربية الإسلامية، إلى أن نصل إلى جيل المعاصرين مثل جاك بيرك ومكسيم رودنسون من الذين لم يكتفوا بالتعاطف مع ماضي هذه الحضارة بل ساهموا أيضاً في التعريف بالقضايا العربية والإسلامية المعاصرة والدفاع عنها في أوطانهم.
لا شكّ أنّ عوامل تاريخية قد وجّهت الثقافة الغربية هذه الوجهة، أهمّها مأساة الحربين العالميتين وبروز حركات التحرّر الوطني في العالم الثالث. فانتهت إلى نظرية النسبية الثقافية بل أصبحت تخضع على يد أبنائها إلى أقسى ألوان النقد الذاتي، كما هو معروف مثلاً في الفلسفتين الماركسية والتفكيكية.
وفي مقابل ذلك نجد المسار الغالب في الثقافة العربية الإسلاميّة قد اتجه الوجهة النقيض. فقد تحوّلت المطالبة بالإنصاف في قراءة تراثها وماضيها وتطلعاتها إلى نبذ قويّ للآخر. وأعادت المطابع العربية نشر الكثير من النصوص الكبرى بعد أن حذفت منها أسماء المحققين الغربّيين وهوامش تحقيقاتهم واتخذتها حجّة على جهل الغربيين وتحاملهم على الحضارة العربية الإسلامية! وبلغت قضية أصالة الفكر والعلوم مبالغ الشطط والتعنّت عندما قدّم التراث العربي الإسلامي مفصولا عن روافده السابقة للعروبة والإسلام، فيما تمّت المبالغة في تضخيم دوره في بعث النهضة الأوروبية حتى تخال وأنت تقرأ بعض الدراسات أنّ كوبرنيكوس وغاليليه وباكون وديكارت لم يكونوا إلاّ لصوصًا حضاريّين سطوًا على تراث العرب والمسلمين واستعملوه لتقوية الغرب وتمهيد ثأره لهزائم الحروب الصليبية.
وقد ترتّب على هذه النظرة المبالغ فيها أن تحوّل جوهر الموضوع من الإصلاح إلى تجريم الغرب. وكان يمكن لهذه المبالغة أن تجد لها بعض التبرير في فترة التحرّر الوطني، لكنّنا إذا تأملنا جيّدًا وجدنا أنّ المناضلين الكبار ضدّ الاستعمار من الأمير عبد القادر والأفغاني إلى عبد العزيز الثعالبي وعلال الفاسي كانوا معتدلين في مواقفهم وأن الأجيال التي لم تعش الاستعمار ولم تكتوِ بوَيْلاته هي التي كانت الأكثر تطرفًا في مواقفها. فضاعت قضية الإصلاح في خضمّ الحملات المسعورة ضدّ الغزو الثقافي وأصبحت كتبنا ومحاضراتنا تُستهلّ بلعن الاستشراق والمستشرقين وتركنا التعصّب الديني ينمو ويترعرع بحرية بل أضفنا إليه التعصّب العرقي بعد أن تخلّى عنه الغربيّون ومجّوه.
قبل قرن كان يمكن لشخص مثل جمال الدين المعروف بالأفغاني أن يناظر بنديّة كاتبًا مشهورًا في حجم أرنست رينان وأن يؤثر فيه ويدفعه إلى التسليم بأنّ الإصلاح الإسلامي يظلّ ممكناً وأنّ الصورة التي عرضها عن الماضي تحتاج إلى مزيد التحليل والتدقيق. وقد سجّل محمد عبده هذا "الانتصار" في كتابه "الإسلام والنصرانية" وأعاد عبارة رينان ولكن بعد تحريفها، إذ غيّر كلمة "الإسلام" بكلمة "الفقهاء"، وهذا التحريف يتضمّن اعترافًا بـأنّ أصل المشكلة كامن في الثقافة الإسلامية ذاتها. ولم يلعن الأفغاني رينان رغم عنف موقفه بل أشاد به كأحد مثقفي العصر البارزين بصرف النظر عن موقفه من الإسلام، ومع أنّ الأفغاني لم يكن على الأرجح يتقن لغة من اللغات الأوروبية فقد كان عارفًا بقيمة رينان قبل إقامته بفرنسا إذ ذكره في "رسالة الردّ على الدهريّين" التي كتبها في الهند. وكذلك لم يلعنه عبده رغم أنّه لم يجرؤ على نقل وقائع المحاضرة بأمانة لكنه ذكر في "الإسلام والنصرانية" أنّ الرأي الصادر عن رينان سببه الجمود الإسلامي وأضاف مستهجنًا قوّة هذا الجمود وعمقه: "لو أردنا بيان ما امتدّ منه من طيّات الأفكار وثنيات الوجدان لكتبنا فيه كتابًا".
يفصلنا عن هذه المناظرة أكثر من قرن، لكن يبدو وكأننا نستعيد اليوم مناخها. ومن الواضح أنّ المجتمعات الغربية التي اعتمدت موقف التراجع والاعتراف بالذنب تحوّل اليوم وجّهتها من جديد إلى مواقف من الصنف الريناني وتتخذ ذريعة لذلك موقف المسلمين منها. وليس باطلا أنّ التيّار السائد في الثقافة الإسلامية الحديثة ظلّ معاديًا للغرب دون تمييز ولا رغبة في فهم تبايناته وتحوّلاته، فضلاً عن سياسة الكيل بالمكيالين التي واصلتها الثقافة السائدة غير عابئة بنتائجها على المدى البعيد، فكانت تطالب بقبول المهاجرين واللاجئين المسلمين في البلدان الغربية في الوقت الذي تضيق فيه الخناق على الأقليات المسيحية وتدفعها إلى الهجرة. وترفض قيام دولة إسرائيل دون أن تقوم بمبادرة قوية لإقناع يهود الشتات العربي بالبقاء في أوطانهم الأصلية بصفة المواطنين الأحرار المتساوين في الحقوق والواجبات وليس بصفة أهل الذمّة. وتنشر مراكز الدعوة الإسلامية على الأراضي المسيحية ثم تقيم الدنيا وتقعدها إذا سمعت بمبشّر يعمل في الأراضي الإسلامية. وتبني المساجد في كل مكان من أوروبا وأميركا لكنها ترفض بناء الكنائس أو مجرّد توسيعها، بل حوّلت العديد من الكنائس التاريخية إلى متاحف أو مباني إدارية. كانت سياسة الكيل بالمكيالين راسخة في الثقافة السائدة إلى درجة أن كل هذه الأمور بدت عادية وطبيعية ولم تثر أي تفكير حول نتائجها على المدى البعيد.
والواقع أنّ دوائر القرار الأوروبية والأميركية اتخذت نفس الموقف في فترة الحرب الباردة، ولكن لأسباب أخرى مختلفة تمامًا. بالنسبة إلى أوروبا، توجد ثلاثة عناصر لتفسير موقف الصمت: أولاً، كانت أوروبا مثقلة بعقدة الذنب الاستعمارية، ففي القرن التاسع عشر سمحت هي لنفسها أن تتبنى العنف سبيلاً لما اعتبرته نشر الحضارة، وكان التبشير مقدمة للاستعمار وجزءًا منه، وكانت مقاومة الإسلام ومحاصرته فصلاً من كل خططها للهيمنة. ثانيًا، كانت أوروبا تسعى إلى تقوية الطابع العلماني لمجتمعاتها، فكانت تنظر بعين الرضا لاقتحام الإسلام الديار المسيحية وتحوّل المجتمعات الأوروبية إلى مجتمعات متعدّدة الديانات، وترى في الإسلام عنصرًا من عناصر إضعاف الكنيسة دون أن يدور في خلدها تحوّله إلى عنصر إضعاف للمجتمع وللعلمانية، ظنا منها أن تطوّر عدد المسلمين في ديارها سيبقى محدودًا، وكذلك الدور الذي يضطلعون به. ثالثاً، كانت اللغة الثقافية للمجتمعات الأوروبية قد أصبحت من صنع تيارات ما بعد الحداثة، لغة تؤمن بالنسبية الثقافية وتعتبر أنّ كل القيم متساوية وأنّ الحداثة الغربية إن لم تكن ابتكارًا رديئاً فهي ليست أكثر من صيغة ضمن صيغ متناهية لتنظيم المجتمع الإنساني.ٍ
كان الصمت الأوروبي راجعًا إلى معطيات داخلية لا خارجية. ومع نهاية فترة الازدهار الاقتصادي، بدأت المشاكل تطفو على السطح. كما بدأت النظريات العلمانية التقليدية تثبت محدوديّتها وعسر اشتغالها في حالات الأزمة، فتصاعدت الحملات المعادية للعرب والإسلام وكثر السلوك العنصري في الواقع اليومي للناس وعاد عنصر الثقافة للبروز ثانية ولكن من موقع المدافعة والتحصّن بالهوية. استقرّت الأزمة بأوروبا، لكن تحليل هذه الأزمة ليس من مقتضيات بحثنا. المهم بالنسبة إلينا أن نلاحظ أن الثقافة الإسلامية السائدة قرأت هذه الوقائع قراءة مختلفة، اعتبرتها فتحا جديدا من فتوحات الإسلام. بعض الأحداث العابرة ضخمت ونالت قيمة رمزية زائفة: إسلام روجيه غارودي خضع لإخراج سردي على نمط ما ابتدعه كتاب السير القديمة حول إسلام عمر بن الخطاب، إحصاءات المسلمين في الغرب أصبحت عنصر فخر مع أنّ الأولى أن تكون عنصر حسرة، لأن أغلب هؤلاء أناس دفعهم إلى الهجرة غياب فرص العمل أو غياب الديمقراطية أو كانوا ضحايا الحروب الأهلية والخارجية ونحو ذلك. والنخبة المتميزة، ما يدعى بالعقول المهاجرة، أشخاص كان يمكن أن يساهموا في تطوير مجتمعاتهم لو أنها احتضنتهم واعترفت بكفاءاتهم ووفّرت لهم ظروفا لائقة للعيش والعمل بنفس القدر الذي يتوفّر للأغبياء المتملقين أو من يضعون أنفسهم في خدمة أصحاب النفوذ.
أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة فتوجد أربعة عناصر جديرة بالتحليل. أولا، المجتمع الأميركي مجتمع التعددية الدينية والعرقية، وعندما يتمسك الأميركان بالدين فإنهم لا يعنون دينًا بعينه لأنّ البلد يضم أكثر من مائتي دين وعرق. والإسلام في الولايات المتحدة ليس بضاعة مستوردة بل هو جزء من تاريخ تشكُّل المجتمع الأميركي، حمله العبيد المستقدَمون من أفريقيا، فالطعن في مشروعية الإسلام سيكون بمثابة الطعن في التاريخ الرسمي لتشكل المجتمع الأميركي، باعتباره تاريخ انصهار مجموعة كبيرة من الأديان والأعراق وتوسّع دائرة المساواة لتشمل جميع الذين يعيشون على التراب الوطني، وإقرار بتهافت أكبر سرديات هذا التاريخ المعروفة بعبارة melting-pot. ثانيًا، إن الإسلام، والأديان عامة، اعتبرت في فترة الحرب الباردة حليفا استراتيجيا للمعسكر الغربي وحلف الناتو ضد الشيوعية ومحاولاتها التوسع في العالم. فعلى هذا الأساس تحالف صناع القرار العسكري بأكثر الحركات الإسلامية تطرفا، فتطرفها مثّـل بالنسبة إليهم ضمانة أن لا تبحث عن أية صيغة توافق مع الشيوعية أو الحركات المحلية التي يعتبرها هؤلاء موالية للكتلة الشيوعية. ثالثاً، إن الثقافة في الولايات المتحدة ليست قضية أفكار وحسب، إنها أساسا قضية تمويلات، فلهذا السبب استطاع البترودولار العربي أن يبني المراكز الدينية ومراكز الدعوة دون حساب، ولم يتابع أحد نتائج ذلك، فكان يسيرا على الحركات الإسلامية الأكثر تطرفا أن تسيطر على العديد منها وعلى العديد من المؤسسات الخيرية وغير ذلك. رابعًا، إن السياسة الأميركية قائمة على نفوذ اللوبيات التي تتطلب توفر إمكانيات مالية ضخمة وقدرات فائقة في رسم الاستراتيجيات على المدى الطويل، وهذان عنصران ضعيفا التوفر في المجموعة الإسلامية. وأول مرة برزت فيها هذه المجموعة في المباراة الانتخابية الأميركيّة كانت سنة 2000، ولعلّ تصويتها المكثف لصالح بوش الابن قد ساهم في ذلك التقدم الضئيل الذي ربح بفضله الجمهوريون الرئاسة، لكن النتيجة كانت ما نعلم، فقد ساهمت أيضاً، دون وعي، في تعزيز حضور المحافظين الجدد واليمين المسيحي في الإدارة الأميركية!
يتّضح مرة أخرى أن الثقافة السائدة لم تر الوقائع كما هي بل من خلال زوايا نظر مقلوبة تمامًا، فالاهتمام الأميركي (الرسمي) بالإسلام كان يرجع إلى عوامل سياسية خارجية ولا علاقة له بالدين ولا بداخل المجتمع الأميركي نفسه. والوهابية لم تكن مهيأة، كأيديولوجيا دينية، لإقامة خط تواصل متين مع الإسلام الأميركي المحلي، إسلام السود، الذي يعتبر من وجهة نظرها ابتداعًا مرفوضًا لأنه يحمل قروناً من التراث الخاص بالسود وليس تراث العرب. لذلك يظل تأثير مسلمي أميركا في القرار السياسي تأثيرًا لا يكاد يُحسب له حساب بالمقارنة بتأثير الناخبين اليهود مثلاً، مع أنهم أقل عددًا، لأن الفارق كبير بين ثقافة قبلت المناضلة من داخل الحداثة والثقافة السائدة التي تعتقد أنها قادرة أن تلتفّ على الحداثة من الداخل.
فالنتيجة أنّ وضعنا الثقافي صعب، سواء أنظرنا إليه من الداخل أو من الخارج، سواء أخذنا بالحسبان موقف القوى الغربية القديمة (أوروبا) أو القيادة الغربية الجديدة التي تمثلها الولايات المتحدة الأميركيّة. لم نستفد من فترة التراجع الغربي لنبني ثقافة متأصلة لكنّها حديثة، ولم نستفد من التعاطف الذي حظينا به بعد فترة التحرّر الوطني لنستفيد استفادة حاسمة من التقدّم الحضاري العام ونبني خطابًا يمكن أن يقنع الآخرين بدل أن يكون مجرّد وسيلة لتهييج عواطفنا بهجاء الآخرين في لغة لا يفهمونها ولا يعبأون بها، ونبني بدل مراكز الدعوة الدينية مراكز بحث يمكن أن تكون فاعلة في مخاطبة الآخرين وتوجيه مواقفهم وسياساتهم. تغيّرت الأوضاع وعاد رينان إلينا شامتاً. اطلبوا اليوم من (الدكتور) يوسف القرضاوي (على سبيل المثال، لا الحصر) هل يستطيع أن يكتب تعليقاً على دريدا أو يحاور هابرماس أو يترك بعض الانطباع لدى كلود ليفي ستروس!
د. محمد الحداد
كاتب وجامعي تونسي، حاصل على الدكتوراه من جامعة السوربون (باريس)، معلّق بصحيفة "الحياة".
من مؤلفاته :
- حفريات تأويليّة في الخطاب الإصلاحي العربي (دار الطليعة 2002)
- محمد عبده: قراءة جديدة (دار الطليعة 2003)
- مواقف من أجل التنوير (دار الطليعة 2005)
- الإسلام بين نزوات العنف واستراتيجيات الإصلاح (دار الطليعة 2006)
- في آليات الاجتهاد الإصلاحي وحدوده (دار المعرفة 2006)
- ديانة الضمير الفردي (دار الكتاب الجديد 2007).
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |