النصّ الحقيقي والكامل للمناظرة بين إرنست رينان وجمال الدين الأفغاني
بقلم: د. محمد الحداد.
يحتوي هذا البحث على النقاط التالية:
2. محاضرة رينان: الإسلاميّة والعلم - ألقيت في السوربون يوم 29/03/1883
3. ردّ جمال الدين الأفغاني - في صحيفة "لوديبا"، 18/5/1883
4. تعقيب رينان على ردّ الأفغاني – في صحيفة "لوديبا" في اليوم التالي.
5. خاتمة واستخلاصات.
لا تكاد تقرأ كتابا عن فكر النهضة إلا وتجد حديثا يطول أو يقصر عن مناظرة مشهورة حدثت سنة 1883 بين الفيلسوف الفرنسي أرنست رينان وأحد روّاد النهضة جمال الدين المعروف بالأفغاني. لكنّ بحثك سيطول إذا أردت أن تطلع على النصوص الحقيقيّة والكاملة لهذه المناظرة. فلقد أصبح عاديّا عندنا أن نحذف أجزاء من النصوص أو نغيّبها عن التداول ولا نتحدث إلا عما يروق لنا منها. وهذه إحدى سمات "القراءة الأبويّة" التي تمنح الكاتب الحقّ في أن يحدّد لقارئه ما هو مسموح له بقراءته وما هو غير مسموح له. وهو تصرّف يشبه سلوك الأب الذي يوجّه أبناءه القصّر في ما يقرأون أو ما يشاهدون على شاشات التلفزيون، مع فارق أنّ القرّاء المعنيّين هنا ليسوا أطفالا بل هم كهول راشدون.
لقد ابتدعنا "القراءة الأبويّة" لتكون منهج تعامل مع كلّ ما ندعوه الاستشراق، بمعنى كلّ ما يكتب عنّا من غير وجهة نظرنا وعلى خلاف رؤيتنا لأنفسنا. ونعتقد طبعا أنّ ذلك لا يمكن أن يكون إلاّ خطأ كلّه لأنّ الحقيقة الكاملة هي بين أيدينا. ومن العادي أن تجد المؤلفين في المواضيع المختلفة يبدأون بذمّ الاستشراق كما كان القدامي يبدأون بالاستعواذ من الشياطين، وهذا يعني أنّهم قد قرأوا هذا الفكر المدنّس الذي يذمّون واعتبروا ذلك جائزا لهم كما اعتبروا من حقّهم منع أنظار قرّائهم من الاطلاع عليه والاكتفاء بروايتهم له وحكمهم فيه.
كانت هذه الطريقة مستعملة في عهود الهيمنة المدرسية (السكولاستيكيّة) في العصر الوسيط، عندما كانت السلطات الدينيّة تمنح بعض الأشخاص الإذن بالاطلاع على النصوص المريبة للحكم عليها أو ردّ محتوياتها، وتعاقب كلّ من يسعى إلى الاطلاع على نفس النصوص دون ترخيص منها. مثال ذلك ما حدث سنة 1277 عندما حرّمت جامعة باريس التي كانت آنذاك سلطة لاهوتية في المسيحيّة قراءة نصوص ابن رشد وتداولها مع تشجيعها اللاهوتيّين على الردّ على فلسفة ابن رشد. وكان ذلك أحد أسباب نشأة صورة أوروبية عن ابن رشد ("الرشدية اللاتينية") مختلفة اختلافا كبيرا عن ابن رشد الحقيقي. فقد كان من نتائج ذلك الوضع أن انبرى مفكرون أحرار من أوروبا يناصرون ابن رشد بالذبّ عن الآراء التي نسبها له اللاهوتيون وهم يعتقدون أنّها آراؤه الحقيقية. ومثل هذه الأمثلة كثيرة في تاريخ السكولاستيكية المسيحيّة والإسلاميّة واليهوديّة.
كان من فتوحات الحداثة التي بدأت مع القرن السادس عشر التخلّي عن القراءة الأبويّة حتّى أصبحت تُعتبر من علامات التخلّف الكبرى، وأصبحت القاعدة أن يعامل القارئ معاملة الراشد وأن يقرأ بعينيه لا بعيني غيره، وأن يكون الدافع للقراءة حبّ الفضول قبل أن يكون البحث عن الحقائق المطلقة. ونشأت على هذا الأساس الفيلولوجيا التي لم تكن مجرّد منهجيّة في التعامل مع النصّ لكنّها فلسفة كاملة حوله، فعملت على اعتبار كلّ نصّ مهما كان نوعه وأهميّته حمى وملكا خاصا لا يجوز التصرّف فيه لا بالحذف ولا بالزيادة ولا بالتأويل المتعسّف. وهكذا بدأ النشاط المعروف بتحقيق النصوص، وقد أصبح بعد ذلك مهنة لا يطلب من صاحبها أن يكون موافقا أو مخالفا للنصّ داعما أو ناقضا له، بل المطلوب منه أن يكون وفيّا في عرضه للقرّاء.
حديثنا سيقتصر هنا على نصّ المناظرة بين رينان والأفغاني باعتبارها محلّ حديث متكرّر منذ سنة 1883 إلى يومنا هذا دون جرأة على عرضها كاملة على أنظار القرّاء وحسب قواعد التعامل الحديث مع النصوص. والأكثر غرابة في هذه الحالة تحديدا أنّ الحظر لا يشمل المستشرق رينان بل يتعدّاه للأفغاني أيضاً. والكثيرون يحملون حول هذه المناظرة فكرة مغلوطة رسخت لديهم بسبب القراءة الأبويّة، إذ يكتب في الكتب ويدرّس في المدارس والجامعات أنّ رينان اتهم الإسلام بكذا تهم فانبرى الأفغاني للردّ عليه. وعلى من لم يقرأ سابقا النصّ الحقيقي للمناظرة أن يقارن بين المحتوى الذي سنعرضه كاملا ووفيّا وبين هذه الصورة السائدة كي لا تنطلي عليه مستقبلا مغالطات أصحاب القراءة الأبويّة. فقد نشر أحمد أمين تعريبا لنص الأفغاني حذف منه العديد من الفقرات التي رآها محرجة، ودأب الكتاب العرب بعده على الحديث عن ردّ الأفغاني من خلال النسخة المشوهة التي تركها لهم أمين. وكنت قد نشرت سنة 1997 تعريبا حرفيّا وكاملا لردّ الأفغاني فقط (يراجع: محمد الحدّاد، الأفغاني، صفحات مجهولة من حياته. بيروت، دار النبوغ، 1997) فنشرت إحدى الصحف المشرقية مقالا عنوانه: "الأفغاني المفترى عليه" ومحتوى المقال لم يلامس شيئا من النصّ المنشور وما يثيره من قضايا بل اكتفى بالتذكير بمعلومات عامة حول الأفغاني ودوره في بعث النهضة الإسلاميّة الحديثة، فكان الردّ في نفس بساطة العنوان الذي اختارته له الصحيفة.
ومنذ أحداث 09/ 2001 عاد الحديث بقوّة عن هذه المناظرة فعرضنا على أحد الناشرين نشر نصوصها كاملة بالفرنسية وترجمتها الدقيقة للغة العربيّة لكنّه شعر بالحرج من ذلك فكان أن أعادت دار فرنسية نشر نصّ رينان دون ردّ الأفغاني وفي صيغة تنتصر لآراء رينان ولا تنزّل المناظرة برمتها في إطارها التاريخي، فإذا كانت نية الناشر العربي أن لا يتورّط في ما يسيء إلى الإسلام فلعلّه قد أدرك أنّه فسح المجال لإساءة أكبر! فهو لم يفهم أنّ أفضل طريقة في التعامل مع النصوص هي المبادرة بعرضها مع تأطيرها تاريخيا أما طريقة الحجب فلم تعد مجدية بل لم تعد ممكنة.
من حقّ القارئ العربي أن يقرأ تعريبا كاملا ووفيّا لهذه المناظرة خاصة بعد أحداث 09/ 2001. المستند الأوّل في ذلك ما سبق أن قدمناه من أنّ القراءة هي فضول معرفي قبل أن تكون تحديدا للحقّ والباطل. والمستند الثاني أنّ ما يحدث اليوم يشبه كثيرا المناخ الذي حدثت فيه تلك المناظرة، وقد لا نوافق ابن خلدون في قوله إنّ "الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء" لكننا نثني على حكمته عندما نبّه إلى أنّ الماضي ديوان عبر وأنّه يقدّم للحاضر دروسا ثمينة.
أمّا المستند الثالث وهو الأهمّ من وجهة نظرنا فهو أنّنا نريد لكلّ قارئ أن يقوم باختبار موضوعي لمشاعره فيرى كم يمكن له أن يتحمّل ما يقال عن دينه وحضارته مما لا يوافق عليه، ثم ينظر بينه وبين نفسه هل أنّه لا يتحمّل ما يقال لأنّ القائل أجنبي أم لأنّ المقول غير مقبول؟ فإذا كان جوابه الأوّل فيلعن رينان ويمضي، أو يلعن بعده الأفغاني أيضاً بعد أن يصادف لديه عبارات لم يكن يتوقعها منه، ولن يضير ذلك في شيء رينان أو الأفغاني. أمّا إذا كان جوابه الثاني فليحوّل جام غضبه وعظيم سخطه وعميق اشمئزازه إلى الذين يمثلون الصورة التي وصف بها رينان الإسلام، فرينان لم يأت بتلك الصورة من عدم ولم يخلقها من مخيلته، هؤلاء قد اكتشفنا بعد 09/ 2001 أنهم ما زالوا موجودين بأعداد مهولة بعد أكثر من قرن من المناظرة، ولعلّ رينان لم ير منهم إلاّ عددا محدودا، أما نحن فنراهم كلّ يوم، ليس في كتب المستشرقين وإنما على قناة "الجزيرة" التي لا يمكن أن تتهم بالولاء للاستشراق، نراهم يملأون شوارع باكستان وأفغانستان، هم الذين كادوا يحوّلون الجزائر ومصر حمامات دماء لا تنتهي، هم الذين فتحت أمامهم مجالات العمل السياسي في المغرب والأردن فانقلبوا عليها، هم الذين فتحت لهم أبواب الإقامة في الغرب ففجروا القطارات والمطارات، هم الذين يريدون اليوم أن يسقطوا تونس ولبنان في شراكهم. لقد تحدث رينان عن ما يلي: الانغلاق، المعاداة للعلوم الحديثة ولروح العصر، قصر العلوم على الدين واللغة، اتهام الفلسفة بأنّها نشاط دخيل على الإسلام والمسلمين، رفض كل معرفة ذات مصدر أجنبي، اعتبار المناظرات الحرّة بين المخالفين في الدين هرطقة، الخلفاء الذين شجعوا العلوم والفنون مثل هارون الرشيد ليسوا قدوة للمسلمين، إيمان العجائز هو أفضل الإيمان، ما قبل الإسلام يجب أن تمحى كلّ آثاره، مساهمات اليهود والمسيحيين وغير العرب في الحضارة الإسلامية ينبغي تجاهلها أو التقليل من شأنها، التعددية الدينية والعرقية ليست مصدر قوة بل هي سبب كل الشرور، الأفكار الفلسفية العظمى التي نشأت مع الإغريق وبلغت أوروبا في عصر النهضة لا تساوي شيئا ومن اعتنقها من المسلمين منسلخ عن الدين الحق والروح الصحيحة للحضارة الإسلامية، الخ. احذفوا من كلّ هذه العناصر اسم رينان وانسوا أنّ كاتبها مستشرق، ألا يكون النص بعد ذلك وثيقة تحمل نظرة الأصولية الإسلامية للتاريخ والحاضر والمستقبل؟ فأيّهم الأولى بالإدانة، رينان لأنّه عمّم الحكم على كلّ المسلمين أم المسلمون الذين لا يختلفون في شيء عن الصور التي رسمها رينان؟ أيهما الأجدر بالتصدّي، الاستشراق واتهاماته للإسلام أم الأصولية وبرامجها الموضوعة للمسلمين ولمجتمعاتهم؟
ولكن قبل أن نقدّم استخلاصاتنا الخاصة من هذه المناظرة ونستخرج عبرها للحاضر، ليقرأ القارئ بنفسه نصّها معرّبًا تعريبا كاملا ووفيّا، لأنّه ليس قاصرا ولا محتاجا أن نحمي مشاعره من الحقائق المؤلمة.
محاضرة رينان: الإسلاميّة والعلم - ألقيت في السوربون يوم 29/03/1883
أرنست رينان (من الأكاديمية الفرنسية)
الإسلاميّة والعلم
محاضرة ألقيت بالسوربون يوم 29/03/1883.
الناشر: كلمان ليفي، باريس، 1883.
سيداتي سادتي
لقد خبرت مرات عديدة لطف اهتمام هذا المجمع من المستمعين فتشجعت على أن أطرح للدرس أمامكم اليوم موضوعا من أكثر المواضيع دقّة، مليء بالفروق الرقيقة التي لا مناص من الخوض فيها إذا أردنا أن نخلّص التاريخ من الآراء التقريبية. إنّ نقص الدقّة في استعمال الكلمات التي تسم الأعراق والأمم هي من أهمّ أسباب الالتباس في التاريخ. نتحدث عن الإغريق وعن الرومان وعن العرب وكأنّ هذه الكلمات تحيل إلى مجموعات بشرية ذات هويات قارة فلا نحسب حسابا للتغيرات المترتبة على الفتوحات الحربية والدينية واللغوية وعن الأذواق الجديدة والتيارات الكبرى من مختلف الأنواع وهي تخترق تاريخ الإنسانية. لا يمكن التحكّم في الواقع بمقولات في مثل تلك الدرجة من التبسيط. نحن الفرنسيين مثلا رومان باللغة وإغريق بالحضارة ويهود بالدين. قضية العرق التي تأخذ في المبدأ أهمية كبرى لا تنفكّ تفقد أهميتها بسبب ظهور ظواهر كونية تدعى الحضارة الإغريقية والزحف الروماني والغزو الجرماني والمسيحية والإسلامية والنهضة والفلسفة والثورة، هذه جميعا تمرّ مثل الإعصار على التنويعات البدائية للأسرة البشرية فتجبرها على الانصهار في مجموعات متفاوتة التجانس. أودّ أن أحاول أمامكم توضيح واحدة من أكثر الأفكار غموضا وتشابكا في هذا السياق، أقصد الخلط الحاصل عند استعمال الكلمات: علوم عربيّة، فلسفة عربيّة، فنّ عربي، علوم إسلاميّة، حضارة إسلاميّة. يترتب على الأفكار الملتبسة الكثير من الأحكام المضللة بل الأخطاء العملية الخطيرة أحيانا.
كلّ إنسان يتمتع بالحدّ الأدنى من الاطلاع على شؤون العصر يرى بوضوح الدونية الحالية للبلدان الإسلامية والانحطاط الذي يميّز الدول التي يحكمها الإسلام والبؤس الفكري للأعراق التي لا تقتبس ثقافتها وتعليمها إلاّ من هذه الديانة. كلّ الذين زاروا الشرق أو إفريقيا يصدمهم الانغلاق الذي يميّز عقل كلّ مؤمن صادق، حتى كأنّ دماغه قد أحيط بسوار معدني يمنع عنه العلوم ويحظر عليه التعلّم ويدرأ به أن ينفتح على فكرة جديدة. والطفل المسلم قد ينشأ بعقل يقظ لكنّ التربية الدينيّة تحوّله في سنّ العاشرة أو الثانية عشر إلى كائن متعصّب يدعي حمقا أنّه يمتلك الحقيقة المطلقة ويسعد بوضعه الدوني الذي يحسبه امتيازا. تمثّل هذه العزّة الجنونيّة الرذيلة الجذريّة للمسلم. والبساطة التي تبدو عليها عباداته تملأه باحتقار غير مبرّر للأديان الأخرى. يحتقر المسلم التعليم والعلوم وكلّ ما يميّز العقل الأوروبي لأنّه يعتقد أنّ الله يمنح الثروة والسلطان بمطلق مشيئته فلا دخل في ذلك للتعلّم ولا للاستحقاق. هذه العادة الرديئة التي رسختها العقيدة الإسلاميّة بلغت من القوّة حدّا جعل الفوارق بين الأعراق والقوميات تختفي باعتناق الإسلام. من يدخل الإسلام من البربر والسودان والقفقازيين والماليين والمصريين والأحباش يفقد هويته. ولا استثني من هؤلاء إلاّ الفرس الذين نجحوا في الاحتفاظ بروحهم الأصلية. وقد احتلت فارس في الإسلام مكانة فريدة لكنّها في العمق شيعيّة أكثر منها مسلمة.
يسعى العديد من الناس إلى التخفيف من الاستنتاجات المؤسفة المترتبة ضدّ الإسلام على هذه المعاينة العامة فيقولون إنّ هذا الانحطاط قد لا يكون في آخر المطاف إلاّ حالة عابرة. وهم يستنجدون بالماضي ليطمئنوا أنفسهم حول المستقبل. يقولون: هذه الحضارة الإسلاميّة التي نراها اليوم منحطّة قد كانت في عهد سابق حضارة شديدة التألّق. كان فيها علماء وفلاسفة وكانت لعدّة قرون معلمة الغرب الإسلامي. ما الذي يمنعها من استعادة أمجاد الماضي؟ هذا هو الموضوع الدقيق الذي أرغب في أن يكون موضوع نقاشنا. هل وجدت حقا علوم إسلامية أو على الأقلّ علوم قبلها الإسلام أو تسامح معها؟
إنّ الوقائع المعروضة لا تخلو من بعض الحقيقة. أجل ظهر في الأمصار الإسلاميّة علماء ومفكرون من ذوي المكانة المرموقة من سنة 775 تقريبا إلى حدود منتصف القرن الثالث عشر، أي في فترة امتدّت خمسة قرون تقريبا. بل يجوز القول إنّ العالم الإسلامي كان في تلك الفترة متفوّقا على العالم المسيحي من جهة الثقافة الفكريّة. لكنّ هذا الأمر جدير بأن يحلّل بعمق كي لا يكون مطيّة لاستنتاجات خاطئة. يتعيّن أن نتابع بين القرن والآخر تاريخ الحضارة في الشرق كي نميّز العوامل المختلفة التي ساهمت في هذا التفوّق المؤقت الذي انقلب بعد ذلك إلى دونية متأصلة.
لم يكن شيء أكثر غرابة عن مسامع المسلمين في قرنهم الأوّل من الفلسفة والعلوم. كان الإسلام حاصلة صراع ديني متواصل منذ عدّة قرون ترك الوعي في الجزيرة العربيّة معلّقا بين مختلف أشكال التوحيد السامي. جاء الإسلام في معزل عما يسمّى العقلانيّة والعلم واعتنقه الفرسان العرب وتعلقوا به لتبرير الغزو والنهب فكانوا في زمانهم الأوّل المحاربين الأكثر شجاعة في العالم لكنّهم كانوا بالتأكيد الأقلّ اهتماما بالفلسفة بين البشر. وكتب أديب مشرقي من القرن الثالث عشر يدعى أبو الفرج هذه الكلمات في وصف الشعب العربي: علوم العرب التي تفتخر بها هي علوم اللسان والبلاغة وقرض الشعر وإتقان النثر، أمّا الفلسفة فلم يهبهم الله منها شيئا ولم يجعلها من خصالهم.
لا شيء أصدق من هذا القول. فالعربي البدوي هو من أكثر الناس شاعرية لكنّه من أقلّهم ميلا للتأمّل والتصوّف. يكتفي العربي المتديّن تفسيرا للكون بإله مبدع يدير العالم بنفسه ويتجلّى للبشر عير رسله المتتابعين. وعندما كان الإسلام منحصرا في العرق العربي طوال الفترة الممتدّة من الخلفاء الأربعة إلى العصر الأموي لم تنشأ في صلبه حركة ثقافيّة مستقلّة عن الدين. على عكس ما يقال غالبا، لم يأمر عمر بن الخطّاب بإحراق مكتبة الإسكندريّة فهذه المكتبة في عهده لم يكد يبقى منها شيء. لكنّه انتصر لمبدأ مدمّر للبحث العالم والعمل الفكري.
لقد حصل التحوّل في حدود سنة 750 بانتصار الفرس ونصرتهم أسرة بني العباس على أسرة بني أميّة وتحوّل مركز الإسلام إلى بلاد الرافدين. كانت هذه المنطقة قد احتفظت بآثار إحدى أبهى الحضارات التي عرفها الشرق، حضارة الفرس الساسانيين التي بلغت أوجها في عهد كسرى أنو شروان. كانت المنطقة قد حفلت بالفنون والصناعات منذ قرون وأضاف إليها كسرى النشاطات الفكريّة. وكانت الفلسفة قد التجأت إلى بلاد فارس بعد أن أطردت من القسطنطينية. أمر كسرى بترجمة الكتب الهندية. كان الجزء الأبرز من السكان على مذهب المسيحيّة النسطوريّة ضليعين في علوم الإغريق وفلسفتهم ماسكين بناصية الطبّ وكان رهبانهم يتقنون المنطق والهندسة. تروي الملاحم الفارسيّة التي تواصل الروح الساسانيّة أنّ رستم عندما عزم على بناء جسر دعا كاهنا نسطوريّا ليكون مهندس الأشغال.
أوقف الزحف الإسلامي بقسوة هذا المسار الفارسي لمدّة قرن ثم جاءت الدولة العباسيّة لتمثّل انبعاثا جديدا لملك كسرى. لقد استولى بنو العباس على السلطة بفضل كتائب فارسيّة يقودها رجال من الفرس. وكان مؤسسو الدولة، أبو العباس ثم خاصة المنصور، محاطين دائما بمستشارين من الفرس. كان هؤلاء بمثابة ساسانيين منبعثين من جديد. وكان المستشارون المقربون والوزراء الكبار ومعلمو الأمراء من أسرة البرامكة وهي من الأسر الفارسيّة القديمة تميّزت بالانفتاح الذهني والوفاء لثقافتها القوميّة واعتنقت الإسلام في فترة متأخّرة ودون كبير اقتناع. أحاط النساطرة بعد ذلك بهؤلاء الخلفاء ضعيفي الإيمان وأصبحوا أطباءهم الشخصيّين واحتكروا هذا الامتياز. وكان لمدينة حرّان في تاريخ العقل البشري مكانة لا مثيل لها إذ ظلّت على وثنيتها محتفظة بالتراث العلمي للعصر الإغريقي وهي التي منحت المدرسة الجديدة فيالق العلماء الغرباء عن أديان التوحيد وخاصة منهم علماء الفلك.
لقد قامت بغداد عاصمة لهذه الحضارة الفارسيّة المنبعثة من جديد. لم يكن ممكنا تجنّب استعمال لغة الفاتحين أي اللغة العربيّة ولا رفض الدين الجديد رفضا صريحا. لكنّ روح هذه الحضارة الجديدة كانت روحا مختلطة. وقد تغلّب الفرس والمسيحيّون وكانت المناصب الإداريّة، والشرطة خاصة، بأيدي المسيحيّين. كلّ الخلفاء العباسيين المعاصرين للأسرة الكارلفنجية بفرنسا، ومنهم المنصور وهارون الرشيد والمأمون، كانوا من المسلمين ضعيفي العقيدة وكانوا يتظاهرون بالدين لأنهم زعماؤه لكن تفكيرهم كان بعيدا عنه. كانوا يتطلعون لمعرفة كل شيء وخاصة ما كان غريبا وثنيا. كانوا يسائلون الهند وفارس القديمة واليونان خاصة. صحيح أنّ أصحاب التقوى من المسلمين نجحوا أحيانا في توجيه البلاط نحو ردود فعل غريبة، فكان الخليفة يتظاهر بعض الأحيان بالتقوى ويضحي بأصدقائه من الكفار والملحدين. لكن نسمة الحرية ما تفتأ تستعيد الغلبة فيدعو الخليفة مجدّدا العلماء والخليعين وينهمكون مجدّدا في الحياة المتحرّرة ولا يملك المسلمون الأتقياء غير الإدانة.
هذا هو التفسير لحضارة بغداد التي تبدو غريبة جذابة. وقد رسخت معالمها في كل المخيّلات بفضل قصص ألف ليلة وليلة. إنها خليط عجيب من التشدّد الرسمي والتسيب المكتوم، فترة شباب وعبث ازدهرت خلالها الفنون الجديّة والفنون المرحة بفضل رعاية قادة مارقين عن ديانة متعصبة. كان الشخص المتحرّر في هذه الحضارة واقعا تحت تهديد العقوبات الأشدّ قسوة لكنه يعامل في البلاط كشخص ذي حظوة. ازدهرت الزندقة في ظل هؤلاء الخلفاء الذين كانوا متسامحين أحيانا وأحيانا أخرى جلادين بالرغم عن إرادتهم. ظهر المتكلمون وأقاموا المناظرات يخضعون بها كلّ الأديان للتعقّل. إنّنا نحتفظ بإحدى هذه المناظرات وقد سجلها أحد العلماء واسمحوا لي أن أسردها على مسامعكم كما وردت في ترجمة السيد دوزي (Dozy): طلب عالم من القيروان من متكلم أندلسي تقي قدم إلى بغداد هل حضر مجالس الكلام فأجاب أنه حضر مجلسين ولم يعد بعدها فسأله عن السبب فقال المسافر: حضرت مجلسا ضمّ مسلمين من السنة ومن المبتدعة وكفارا ومجوسا ودهريين وملاحدة ويهودا ونصارى فكانت ملل الكفر جميعا حاضرة. ولكلّ ملّة رئيسها يذبّ عن عقائدها وإذا دخل أحد الرؤساء قام الجميع احتراما ولا يجلسون حتى يأخذ الرئيس مقعده. فلما انعقد المجلس قام أحد الكفرة فقال: لقد اجتمعنا للمناظرة وأنتم أعلم بقواعدها، فليس لمسلم أن يحتجّ بآيات كتابه وأحاديث نبيه فإنّنا لا نؤمن بها، وإنّما دليلنا ما وافق العقل. فرحب الجميع بكلامه. وقال الأندلسي: عرض علي حضور مجلس ثان فكان من نفس القبيل، فهل أعود لمثل هذه المجالس؟
كان من نتائج هذا التوقف المؤقت لسلطة التقوى أن برزت حركة فلسفية وعلمية حقيقية. كان الأطباء السوريون المسيحيون متضلعين في الفلسفة المشائية والرياضيات والطب والفلك وهم ورثة آخر المدارس الإغريقية. فاستعملهم الخلفاء ليعرّبوا مجموع أعمال أرسطو وإقليدس وجالينوس وبطليموس أي علوم الإغريق التي كانت متوفرة آنذاك. بدأت بعض العقول النشطة مثل الكندي تتأمل مشاكل كونية يطرحها الإنسان دون أن يجد لها جوابا فسُمي هؤلاء الفلاسفة ومنذ ذلك الحين وهذه الكلمة العجيبة تحمل دلالة مشبوهة وتشير إلى شيء غريب عن الإسلام. أصبحت كلمة فيلسوف عند المسلمين تسمية خطيرة يمكن أن تجني على صاحبها الموت أو الاضطهاد، شأن كلمة زنديق أو بعد ذلك كلمة ماسوني. لا مناص من الاعتراف أنّ ذلك كان قمّة العقلانية الحادثة داخل الإسلام فقد نشأت ما يشبه الجمعيات الفلسفية وتُرك أخوان الصفا ينشرون موسوعة فلسفية مهمة بما تميزت به من حكمة وأفكار راقية. ثم جاء رجلان عظيمان هما الفارابي وابن سينا ليحتلا رتبة المفكرين الأكثر اكتمالا بين الفلاسفة. وتطور الفلك والجبر تطورا حثيثا خاصة في فارس. وواصلت الخيمياء تجاربها الدفينة التي كانت تبرز أحيانا إلى العلن في شكل مذهل، مثل التقطير وربما البارود. وحملت الأندلس بعد المشرق هذا المشعل وقدّم يهودها مساهمات نشيطة. ورفع ابن باجة وابن طفيل وابن رشد الفكر الفلسفي في القرن الثاني عشر إلى رتبة لم تبلغها منذ العصر القديم.
هذا هو المجموع الفلسفي الذي تعوّدنا أن نطلق عليه صفة العربي لأنه مدوّن باللغة العربيّة. لكنه في الحقيقة تراث إغريقي ساساني. وقد يكون أكثر دقّة أن نصنفه إغريقيا لأنّ العناصر الأكثر حيوية في هذا كله قد أتت من اليونان. في عصور الانحطاط تلك كانت قيمة العالم تتحدّد بما تتوفر لديه من معرفة بعلوم اليونان القديمة وكانت اليونان المصدر الوحيد للمعرفة والتفكير السليم. ولئن تفوقت سوريا وبغداد على الغرب اللاتيني فإنما السبب الوحيد لذلك قرب مفكريها من الميراث الإغريقي. كان أكثر يسرا أن نعثر على كتاب لإقليدس أو بطليموس أو لأرسطو في حرّان من أن نعثر عليه في باريس. يا للأسف! ، لو أنّ البيزنطيين رضوا آنذاك أن يكونوا أقلّ غيرة في المحافظة على كنوزهم الفكريّة التي لم تعد مقروءة عندهم! يا للحسرة! لو وجد منذ القرن الثامن أو التاسع أشخاص مثل بوساريون (Bessarion) ولسكاريس (Lascaris)! لو حصل هذا لما احتجنا لهذه الدورة الغريبة التي جعلت علوم الإغريق تصلنا في القرن الثاني عشر عبر سوريا وبغداد وقرطبة وطليطلة. إن عناية خفية قد جعلت مشعل الفكر البشري إذن بدأ يخبو بين يدي شعب تلقفه شعب آخر يرفعه ويؤجج بريقه. فهذه العناية هي التي منحت أهمية خاصة لأعمال هؤلاء السوريين المساكين وهؤلاء الفلاسفة المضطهدين وهؤلاء الحرّانيين الذين عاشوا خارج الزمان بسبب كفرهم. لقد تلقت أوروبا خميرة التراث القديم التي كانت ضرورية لنهضتها وانبثاق عبقريتها بفضل تلك الترجمات العربية لكتب الفلسفة والعلوم الإغريقية.
فعلاً، فيما كان ابن رشد، آخر الفلاسفة العرب، يسلم الروح في المغرب حزينا منبوذا، كان غربنا يتهيأ لميلاد جديد. عثرت أوروبا على عبقريتها وبدأت هذا التطوّر الرائع الذي لن ينتهي قبل أن يحرّر العقل تحريرا تاما. هنا، على مرتفعات سانت جنفياف، نشأ المصنع الجديد للعمل العقلي. ولم يكن ينقصه غير الكتب والمصادر من العصر القديم. يبدو لأوّل وهلة أنّ الأكثر منطقيّة أن تطلب تلك المصادر من مكتبات القسطنطينية التي احتفظت بالأصول بدل أن تطلب من تراجم هي في الغالب رديئة ومن لغة لم تكن مهيأة حقا لنقل التراث الإغريقي. على أنّ المنازعات الدينيّة كانت قد أحدثت شرخا بين العالمين اللاتيني واليوناني ازداد عمقا بسبب الحملة الصليبية الملعونة في سنة 1204. ثم إنه لم يكن لدينا مختصون في الهيلينستية فانتظرنا ثلاثة قرون قبل أن نحصل على لوفابر ديتابل (Lefèvre d’Etaples) أو بوديه (Budé).
وفي غياب الفلسفة الإغريقية الحقيقية التي كانت مطمورة في المكتبات البيزنطية اتجه البحث نحو إسبانيا كي تستخرج علوم إغريقية رديئة الترجمة مغشوشة. لن أذكر جيربرت (Gerbert) لأن رحلاته بين المسلمين يحيط بها شكّ قويّ، لكننا نرى منذ القرن الحادي عشر كيف كان ليون الإفريقي متفوّقا في معارفه بالمقارنة بالسائد في عصره وبلده لأنه حظي بتعليم إسلامي. وقد تشكّل من 1130 إلى 1150 مجمع نشيط يضمّ مترجمين استوطنوا طليطلة وعملوا تحت إشراف المطران رايموند (Raymond) وتولى هذا المجمع مهمة النقل إلى اللاتينية للكتب الأكثر أهمية في العلوم العربيّة. وقد دخل أرسطو العربي مظفرا إلى جامعة باريس منذ السنوات الأولى للقرن الثالث عشر. نفض الغرب عن نفسه دونية استمرّت أربعمائة سنة أو خمسمائة سنة. فحتى ذلك الحين كانت أوروبا تابعة في علومها للمسلمين. وفي منتصف القرن الثالث عشر كان الميزان بين الطرفين متأرجحا. وبداية من 1275 تقريبا بدأت تظهر بوضوح حركتان: البلدان الإسلاميّة تنحدر في انحطاط فكري شديد قاتم وأوروبا الغربية تدخل بقوّة في الطريق الواسعة للبحث العلمي عن الحقيقة. إنّه منحى عظيم لا يمكن تحديد أبعاده إلى اليوم.
كان رينان (1823- 1892) قد آمن في مرحلة معينة من حياته بأنّ المستقبل للعلم وحده، وكتب بين سنتي 1848-1849 كتابا بهذا الاتجاه عنوانه "مستقبل العلم" لم يلق طريقه إلى النشر إلا سنة 1890، ونشر مشفوعا بمقدمة يتراجع فيها الكاتب عن بعض غلوائه في تصوّر مستقبل العلم والحضارة. وبدأ رينان من سنة 1870 يتراجع عن موقفه المعادي للمسيحية ويطالب بإصلاح ليبرالي كاثوليكي وبأن يقبل رجال الدين بالفصل بين الكنيسة والدولة والجامعة. وكان يعتقد إنّ هذه الإمكانية لا يمكن أن تحصل، إذا ما حصلت، إلاّ في المجتمعات المسيحيّة التي تطوّر فيها العلم تطوّرا كبيرا وفقد فيها رجال الدين احتكار توجيه الجماهير. وتتنزّل نظريته في العجز الجوهري للإسلام عن قبول الإصلاح والتحديث في هذا السياق العام.
لا شكّ أنّ محاضرة رينان تحتوي أخطاء كثيرة، مثل ما هو مذكور فيها عن موقف الطهطاوي من الغرب والتحديث. وهي تقوم أيضاً على نظرية عرقية كانت شائعة في عهده، ولو عاش رينان القرن العشرين بدل القرن التاسع عشر لفاجأته أن تصبح تركيا أوّل دولة علمانية إسلامية وتقوم أكبر ثورة دينية في المجتمع الفارسي. وكان للفكر الفرنسي في نهاية القرن التاسع عشر أثر كبير لدى العرب وهو فكر كان يحمل في الآن ذاته آثار المواجهة العلمانية للكنيسة والرؤية التي خلفتها هذه الكنيسة حول تاريخ الأديان الأخرى ومنها الإسلام. كما كان يتميز بالمعاداة للسامية وتعني في ذلك العصر معاداة الجنسين العربي واليهودي وقد خصص لهما رينان محاضرة لا تقلّ حدّة عنوانها "في مساهمة الشعوب السامية في تاريخ الحضارة" وهي مساهمة رآها محدودة بل تكاد تكون معدومة.
والمهمّ في محاضرة سنة 1883 ليست التفاصيل التاريخية الواردة فيها ولكن صراحتها في تحديد نقطة الاختلاف وجوهر الموضوع. وقد ظلّت هذه المحاضرة ساكنة في ذهن الإصلاحيين العرب، وسنرى في ردّ الأفغاني أنّه يجعل محور حديثه إبطال نظرية العجز الهيكلي عن الإصلاح وليس نفي وجود التعصب الإسلامي في الماضي والحاضر. ولقد عمد الإصلاحيّون المسلمون في ذلك العصر إلى مواجهة الصورة المظلمة التي عرضها رينان وغيره بالبحث عن الصور المشرقة للحضارة العربية الإسلامية، ولم يكن موقفهم يعني نفي الجانب الأوّل أو التقليل من شأنه وإنما إثبات إمكانية إصلاح المجتمعات والثقافات الإسلامية. وهذا ما تغيّر بعد ذلك في عصر حركات التحرّر وقيام الدول الوطنية، فقد تحوّل الخطاب الإصلاحي إلى تمجيد للذات وغاب كلّ حديث عن الجوانب المظلمة التي عدّت جميعا من الاتهامات الباطلة والظالمة التي ألحقها الاستعمار بالشعوب المستعمرة وأصبح الذنب من الاستشراق والمستشرقين وليس من التعصب والمتعصبين. وترتّب على هذا الوضع أننا نسينا القضية الأمّ أي الإصلاح وأصبح حديث الآخر والردّ عليه والطعن في موضوعيته هي محاور الاهتمام الأولى والأخيرة. وعندما عاد العالم ليتابع بعد أحداث 09-2001 مظاهر التعصب الإسلامي، بدا وكأنّ رينان يعيش بين ظهرانينا وأنه يتكلم عن واقع اليوم، فهو ينهي محاضرته بالتحذير من وجود جراثيم التعصب في آسيا تتربص بالحضارة الحديثة وبتأكيد ثقته بأنّّ العلم الحديث سيقف حائلا دون تمكينها من تنفيذ مخططاتها!
لقد فتح النقاش من جديد حول موقف الإسلام من الحضارة الحديثة لذلك كان مهمّا أن نسترجع بدقّة أوّل مناظرة قويّة بدأ بها هذا النقاش منذ أكثر من قرن. فلئن لم يكن كلام رينان صوابا كله فإنّه لم يكن أيضاً خطأ كلّه. وهنا تتمة محاضرته:
الجزء الثاني من محاضرة إرنست رينان
الإسلاميّة والعلم
الويل لمن أصبح غير نافع للرقي الإنساني، إنّه يحكم على نفسه بالإلغاء! لقد اختفت العلوم المدعوة بالعربية بعد أن نقلت لقاح الحياة إلى الغرب اللاتيني. وبينما كان ابن رشد يحقّق في المدارس اللاتينية شهرة تعادل شهرة أرسطو كان مصيره بين أبناء دينه أن يقبع في النسيان. وإذا تجاوزنا سنة 1200 لم نعد نعثر على فيلسوف عربي واحد جدير بالاهتمام. كانت الفلسفة مضطهدة دوما في العالم الإسلامي لكن ليس بالقدر الذي يلغي وجودها أمّا ابتداء من سنة 1200 فإن الردّة الدينية قد قضت عليها قضاء تاما. ولم يعد المؤرخون والأدباء يتحدثون عن الفلسفة إلا حديث ذكرى عن شيء غير مرغوب فيه. أتلفت المخطوطات الفلسفية أو أصبحت نادرة الوجود. لم يسمح بالتواصل من علم الفلك إلاّ ما يخدم تحديد مواقيت الصلوات. سيطر العرق التركي على الإسلام فنشر في كلّ مكان تدينه الخالي من كلّ نفس فلسفي أو علمي. ومنذ ذلك الحين لم يشهد الإسلام مفكرا عقلانيا منفتحا، سوى استثناءات قليلة مثل ابن خلدون، فقد قضى على الفلسفة والعلوم بين أتباعه.
لم أقصد يا سادتي أن أتهاون بشأن هذه العلوم العظيمة المدعوة بالعربية فهي تمثّل مرحلة مهمة من تاريخ تطوّر العقل البشري. أجل بالغ البعض في تأكيد أصالتها في مسائل عديدة منها خاصة المسائل الفلكية لكن ليس من الحكمة الانتقال من النقيض إلى النقيض ومعاملتها بالازدراء. حقا لقد وجدت مرحلة عربية امتدت من زمن انهيار حضارة العهد القديم في القرن السادس إلى ظهور العبقرية الأوروبية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وقد تواصل خلالها تراث العقل الإنساني في الأقاليم التي فتحها الإسلام. لكن ما هو العربي في هذه العلوم المدعوة بالعربية؟ أنه اللغة ولا شيء غيرها. حملت الغزوات الإسلامية لغة الحجاز إلى كلّ أطراف العالم فكان مصير هذه اللغة شبيها بمصير اللاتينية في الغرب عندما تحوّلت لغة التعبير عن المشاعر والأفكار وفقدت علاقتها باللهجة القديمة. يعدّ ابن رشد وابن سينا والبتّاني عربا كما يصنّف ضمن اللاتينيين ألبرت الأكبر وروجير باكون وفرنسيس باكون وسبينوزا. إنها لمغالطة كبرى أن ننسب الفلسفة والعلوم العربية للجزيرة العربية، فكأننا حينئذ ننسب إلى مدينة روما كل الأدب المسيحي اللاتيني وكل تراث المرحلة المدرسية ومجموع أعمال عصر النهضة وعلوم القرن الخامس عشر وجزء من القرن السادس عشر لأن ذلك جميعا قد دوّن باللغة اللاتينية. وإن مما يثير الانتباه أننا إذا رجعنا إلى قائمة الفلاسفة والعلماء المدعوين بالعرب وجدنا واحدا لا غير من أصل عربي وهو الكندي والبقية فرس أو من شعوب بحر القزوين أو من إسبانيا أو من أهل بخارى وسمرقند وقرطبة وإشبيلية. لم تكن دماؤهم عربية كما لم تكن عقولهم عربية. استعملوا اللغة العربية مضطرين كما اضطر إلى اللاتينية مفكرو العصر الوسيط فطوّعوها لحاجتهم. واللغة العربية هي لغة شعر وخطابة لكنها أداة غير مناسبة للميتافيزيقا. والفلاسفة والعلماء العرب كانوا في الغالب يكتبون في أسلوب قليل الفصاحة.
إذا لم تكن هذه العلوم عربية فهل هي إسلامية على الأقلّ؟ هل منحت الديانة الإسلامية هذه المباحث العقلية شيئا من الرعاية؟ لم يحدث هذا أبدا. كانت الحركة العلمية كلها من عمل الفرس والمسيحيين واليهود والحرانيين والإسماعيلية والمسلمين الثائرين ضد دينهم. ولم تحصل هذه الحركة من الإسلام الرسمي إلا على اللعنات. أدان علماء الدين دون رحمة الخليفة المأمون الذين كان من بين الخلفاء الأكثر حماسا لاستقبال فلسفة الإغريق، وفسروا المصائب التي رافقت عهده بأنها عقاب بسبب سماحه بدخول عقائد غريبة على الإسلام. وقد حدثت مرات أن أحرقت كتب الفلسفة والفلك في الساحات العامة أو أغرقت في الآبار وخزانات المياه تقربا من العامة التي هيجها الأئمة. كانت صفة زنديق تطلق على كلّ من يتعاطى تلك المباحث فيضرب في الطريق العام ويحرق بيته وكثيرا ما يأمر الحاكم بقتله كي يتقرب بذلك إلى العامة.
الواقع إن الإسلام قد عمل باستمرار على اضطهاد الفلسفة والعلوم وانتهى به الأمر إلى وأد هذه المعارف. لكن من الجدير أن نميّز في هذا المجال بين فترتين من تاريخ الإسلام، تمتدّ الأولى من بدايته إلى القرن الثاني عشر وتمتد الثانية من القرن الثالث عشر إلى أيامنا هذه. كان الإسلام في الفترة الأولى ملغوما بالملل والنحل ومعتدلا بفضل المعتزلة الذين هم بمثابة البروتستانت، وكان أقلّ تنظما وتعصبا من الفترة الثانية عندما سقط بين أيدي أعراق التتار والبربر وهي أعراق ثقيلة وعنيفة وفاقدة للسمو العقلي. وخاصية الإسلامية أنها تتلقّى من أتباعها إيمانا لا ينفكّ يقوى مع تقدّم الأزمنة. العرب الأوائل الذين اعتنقوا الإسلام كانوا بالكاد يؤمنون برسالة النبي وظلّ تردّدهم في الإيمان واضحا مدّة قرنين أو ثلاثة قرون. ثم أعقب ذلك عصر السيطرة المطلقة للعقيدة ولم يعد من مجال للتمييز بين الروحي والزمني وأصبح التعزير والعقاب يهدّد كلّ من تسوّل له نفسه التهاون بالعبادات. هذا النظام لم يعرف أكثر قسوة منه إلا محاكم التفتيش الإسبانية.
ليس أضرّ بالحريّة من نظام اجتماعي يسيطر فيه الدين سيطرة مطلقة على الحياة المدنية. ولم نر في الأزمنة المعاصرة إلا مثالين من هذا النظام أحدهما العالم الإسلامي والثاني الدولة البابوية السابقة. مع أنّ البابوية الزمنية لم تحكم إلا رقعة محدودة والإسلام سيطر على أجزاء شاسعة من الكرة الأرضية فرض فيها أشدّ التعاليم معارضة للرقي ومنها مبدأ قيام دولة على وحي مزعوم وتنظيم المجتمع بمقتضى اللاهوت.
الليبراليون الذين يدافعون عن الإسلام لا يعرفون منه شيئا. الإسلام هو الاتحاد الكامل بين الروحي والزمني، وهو سلطان العقيدة، وهو أشدّ ما حملت الإنسانية على عاتقها من الأغلال. أعيد قولي إنّ الإسلام تحمّل الفلسفة مرغما في النصف الأوّل من العصر الوسيط لأنه لم يكن قادرًا على منعها ولم يكن في حالة تجانس تيسّر له ذلك ولم يكن يملك وسائل القمع. كانت الشرطة كما رأينا بأيدي المسيحيين وكان شغلها الأول تتبع تحركات العلويّين فكانت أشياء كثيرة تخترق سياج الممنوعات. ولما توفّر للإسلام أتباع كثيرون شديدو الإيمان أصبح ديدنه التنكيل بكلّ مخالف. وكان المطروح جمعا بين الاضطهاد الديني والنفاق. كان الإسلام متحرّرا (ليبراليا) عندما كان ضعيفا وأصبح عنيفا عندما امتلك وسائل القوّة. لا داعي والحالة تلك أن ننسب إليه شرف ما احتفظ به مكرهًا. إنّ نسبة شرف الفلسفة والعلوم إلى الإسلام لأنه لم يبادر بسحقها هو مثل نسبة شرف مكتشفات العلم الحديث إلى اللاهوتيين المسيحيين. ولم يكن اللاهوت الغربي بأقل تسلّطا من الإسلام، إلا أنّه لم ينجح في القضاء على الروح الحديثة كما قضى عليها الإسلام في البلدان التي سيطر عليها. لم ينجح الاضطهاد اللاهوتي في غربنا إلا في بلد واحد هو إسبانيا حيث حلّ نظام فظيع يقوم على القمع وخنق الروح العلمية. وأنا أسارع بالقول إن ذلك البلد النبيل سوف يثأر لنفسه يوما ما. ما حدث في العالم الإسلامي هو ما كاد يحدث في أوروبا لو نجحت محاكم التفتيش وفيليب الثاني وبيوس الخامس في مخططاتهم القاضية بمنع البشرية من الرقيّ. أنا لا أشعر صراحة بالرغبة في أن أشكر الأشرار على ما كانوا عاجزين عن إيقاعه من شرور. إنّ للأديان دورًا نبيلاً إذا اضطلعت بتخفيف آلام الإنسان وتقوية مواطن الوهن لإنسانيتنا البائسة. لكن لا داعي أن نشكرها على ما تطوّر رغمًا عنها وقد حاولت وأده منذ النشأة. وكما لا يرث القاتل ضحيته فلا يجوز أن ينتفع المضطهد بما حاول اضطهاده.
إنّ الخطأ فيما يقوم به البعض بدافع الكرم هو أنهم ينسبون إلى تأثير الإسلام حركة تطورت بالرغم عنه وكان من حسن حظها أنها أفلتت من شراكه. وأن ننسب إلى الإسلام شرف ابن سينا وابن زهر وابن رشد يعادل أن ننسب إلى الكاثوليكية شرف غاليليو. حاول اللاهوت الكاثوليكي أن يعطّل غاليليو لكنه لم يكن بالقوّة التي تكفي لإيقاف مساره، وليس هذا سببا كافيا لأن نعترف له بالفضل. أني أبرئ نفسي من نية الإساءة إلى أيّ من الأديان البشرية التي بحث فيها الضمير الإنساني عن السكينة بسبب قضايا الكون والمصير التي تؤرّقه ولا حلّ لها. وللدين الإسلامي مستقبله إذا نظرنا إليه من جهة كونه ديناً. ولم تطأ قدماي مسجدًا قط إلاّ وتملكتني عاطفة حادّة بل لعلّي أشعر بالحسرة لكوني لست مسلمًا. لكن الإسلام كان للعقل البشري ضررًا محضًا. لا شكّ أنّ العقول التي حرمها من الأنوار كانت مهيأة لذلك بسبب عوائق ذاتية لكنّه اضطهد الفكر المتحرّر ولن أقول إنّ اضطهاده كان أكثر قسوة من أديان أخرى لكن أقول إنّ اضطهاده كان الأكثر فعالية. لقد حكم على البلدان التي ضمّها إليه بأن تظلّ منغلقة عن الثقافة العقلية.
إنّ ما يميّز المسلم جوهريا هو كونه يحمل ضدّ العلم حقدا دفينا وقناعة صلبة بأن البحث غير مجد بل هو مدعاة إلى الخطأ ويشبه أن يكون كفرا. والمسلم ينأى بنفسه عن العلوم الطبيعية لأنه يراها منافسة للعلم الإلهي ويعادي العلوم التاريخية لأنّها تحتفظ بذكرى ضلالات الماضي. ولعلّ أفضل شاهد على ما نقول هو الشيخ رفاعة (الطهطاوي) فقد أقام بباريس سنوات عديدة واعظا للبعثة المصرية ثم عاد إلى مصر وكتب رحلة تتضمن معاينات عن المجتمع الفرنسي شديدة الغرابة. كانت فكرته الرئيسية أن العلوم الأوروبية القائمة على مبدأ ثبات قوانين الطبيعة هي كلها ضلالة، ولا بدّ من الاعتراف بأنّ وجهة نظره تتناسب والرؤية الإسلامية. فالعقائد المنزلة تتعارض دائما مع البحث الحرّ الذي قد يخالفها. ليست محصلة العلوم أن تقضي على الألوهية وإنما أن تبعدها عن عالم الجزئيات حيث كان المؤمنون يرون حضورها بدون انقطاع. فالتجربة تحاصر مجال الخوارق وتضيقه والحال أنه قاعدة كلّ لاهوت. والإسلام وفيّ لمنطقه إذا ما حارب العلم لكن الوفاء قد يتحوّل أحيانا إلى خطر على صاحبه. كان من سوء حظّ الإسلام أنّه نجح في مسعاه فجنى على نفسه بقضائه على العلم وحكم على أتباعه بأن يظلوا في الدرجة الدنيا من الرقي البشري.
إذا انطلقنا من فكرة أن في البحث تعديا على حقوق الله فإننا نصل حتما إلى تعطيل ملكة العقل والإخلال بمقتضيات الدقة والعجز عن الرأي الصائب. ينهي المسلمون كلّ قول بالعبارة "الله أعلم"، إنه لأمر جيّد أن يؤمن المرء بالله لكن ينبغي أن لا تبلغ قوّة الإيمان إلى هذه الدرجة.
حلّ السيّد لايارد بالموصل ورغب عند وصوله في أن يجمع بعض المعلومات عن المدينة وسكانها وتجارتها وتقاليدها لأنّه كان صاحب عقل منظم، فتوجه يطلب ذلك من قاضي المدينة الذي وافاه بالجواب التالي:
"صديقي الألمعي فخر الأحياء. إنّ ما تطلبه منّي هو أمر غير مُجد بل هو أمر مُضرّ. لقد قضيت كلّ حياتي في هذا البلد ولم يخطر ببالي قط أن أعدّ بيوته أو سكانه. ولا أرى من شأني أن أهتم بالبضائع التي حمّل بها زيد دابته أو شحنها عمرو في مركبه. أما تاريخ هذه المدينة فعلمه عند الله وهو القادر وحده أن يعدّ ضلالات أهلها قبل أن ينير سبحانه بصائرهم. ومن الخطر أن نحاول نحن البشر معرفتها.
"يا صديقي، يا عزيزي، لا تسعَ لمعرفة ما هو ليس من شأنك، فقد قدمت بيننا فألقينا عليك السلام وقابلناك بالترحيب، فلترحل الآن عنا بسلام. الحقيقة أنّ كلّ ما ذكرته لي لا يمسّني بسوء لأنّ القائل والسامع لا يلتقيان. أنت اتبعت سنّة قومك فجبت الأقطار ولم تجد لك بأرض مستقرّا. أما نحن فنحمد الله على أننا ولدنا هنا ولا رغبة لنا بالرحيل.
"اعلم يا ابني أن رأس الحكمة أن تؤمن بالله. هو خالق الكون فهل نحاول أن نبلغ علمه ونسعى إلى كشف أسرار مخلوقاته؟ تأمّل ذلك النجم الذي يرتفع في السماء والآخر الذي يجرّ ذنبه ويمضي سنوات ليقترب منا وسنوات ليبتعد، إنّ صانع النجمين هو الأكثر قدرة على أن يوجّههما في السماء.
"لكنك قد تقول: إليك عني يا رجل فأنا عالم رأيت من الأشياء ما لم تر ولم تعلم. إذا ظننت أن ما رأيت وما علمت يجعلك أفضل مما أنا عليه فلا بأس بذلك لكني أحمد الله أني لا أبحث فيما يزيد عن حاجتي من الأشياء. أنت عالم بما أنا في غنى عنه وشاهد على ما أنا متبرّئ منه. وهل إذا زادت معرفتك صنعت لنفسك معدة ثانية أو إذا تدربت على التنقيب اكتشفت بنفسك طريق الجنّة؟
"يا صديقي، إذا طلبت السعادة فقل لا إله إلا الله ثم تجنب الشرور والرذائل. فإذا فعلت ارتفعت عن نفسك خشية الموت والخوف من البشر لأنّك تدرك أنّ ساعتك إذا حانت لا تقديم فيها ولا تأخير."
إنّ لهذا القاضي طريقته في التفلسف، لكن الفارق واضح: إننا نعجب بالروح الطريفة لرسالته أما هو فيرى أنّ ما نقوله نحن هو أمر مستهجن. هذه روح مضرّة بالمجتمع بقدر ما هي مضرّة بصاحبها. ولضعف الروح العلمية نتيجتان وخيمتان هما انتشار الخرافات وغلبة الوثوقية وقد تكون الثانية هي الأشدّ خطرا. والشرق ليس ميالا للخرافة لكنّ داءه الأكبر هو الوثوقية التي تفرض نفسها بالقوّة على المجتمع بأسره. ليست الغاية التي تنشدها الإنسانية الاطمئنان للجهل وإنما الحرب الضروس ضد الباطل والنضال المرير ضدّ الشرّ.
إنّ العلم روح المجتمع والعلم هو العقل وهو السبيل للتفوّق العسكري والصناعي ومنه ينشأ يوما التفوّق الاجتماعي وأقصد سيادة قدر من العدل بين البشر بما يناسب روح الكون. العلم هو الذي يضع القوّة في خدمة العقل. ثمة في آسيا جراثيم توحش تشبه تلك التي عرفتها الغزوات الإسلامية الأولى وإعصار جنكيز خان. لكن العلم هو الذي سيقطع عليها الطريق اليوم. لو اعترضت المدفعية سبيل عمر (بن الخطاب) أو جن