بقلم: د. علي عبد الهادي المرهج (*).
يعد جمال الدين الأفغاني 1839ـ1897 أحد أهم أركان الفكر النهضوي العربي والإسلامي، وقد شكل هو وتلميذه الشيخ محمد عبده مدرسة فكرية استمرت إلى يومنا هذا، أهم مقوماتها أنها حاولت أن توفق بين العلم والدين، وأن تؤكد أن القرآن في أساسه دعوة إلى التعقل والتأمل، وأن لا تعارض بين ما جاءت به الرسالة المحمدية وبين انجازات العلم الحديث، لذلك وجدنا أصحاب هذه المدرسة على الرغم من التزامهم بالبعد التاريخي الذي يعد مصدر إشعاع بالنسبة لهم، واعتقادهم بأن الأمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، كما قال الإمام مالك، نقول على الرغم من التزامها بهذا البعد إلا أنها دعت في الوقت نفسه إلى الانفتاح على الحضارة الأوربية والنهل من معطياتها بحساب أن منجزات هذه الحضارة لم تأت من فراغ، وإنما جاءت عبر تواصل حضاري كان العرب والمسلمون خلاله حلقة وصل ومصدر إضافة وإبداع على الحضارات السابقة، وما كانت أوربا لتصل إلى ما وصلت إليه لو لم يصل العلم العربي عبر الأندلس إلى أوربا.
جاءت هذه المدرسة باعتقادنا مكملة أو امتداداً للفلسفة الإسلامية، لا سيما ما طرحه الكندي والفارابي وصولا إلى ابن رشد، في التأكيد على ضرورة التوفيق بين الحكمة والشريعة، والقول بأن طلب العلم فريضة حتى وإن كان هذا العلم عند أمم مخالفة لنا في الدين والملة والمعتقد.
بعد قراءة متأنية لأعمال الأفغاني الكاملة، وفي محاولة منا للبحث عن رؤية الأفغاني للغرب، وجدنا هذه الرؤية منصبة على تصور أساسي، هو: النظر إلى الغرب بوصفه مستعمرا محتكرا لثروات الأمة والشعوب.
ولم يكن الغرب عند الأفغاني سوى تلك الدبابات والآليات الضخمة التي جاء بها نابليون إلى مصر، وعلى الرغم من تجواله بين الأمم متنقلا من أفغانستان إلى الهند إلى إيران إلى تركيا (الدولة العثمانية) إلى مصر إلى روسيا إلى فرنسا إلى العراق، إلا أن اللافت للنظر أن الأفغاني لم يسجل انطباعاته ورحلاته عن تلك الأمم كما فعل الطهطاوي حينما سافر إلى فرنسا، وكان جل همه هو تخليص البلدان العربية والإسلامية من براثن الاستعمار و تحقيق الوحدة الإسلامية التي كانت هدفه وغايته الأساسية. وقد حاولنا أن نبين قدر الإمكان رؤية الأفغاني للعلاقة بين الشرق والغرب، والأثر والتأثر، فضلا عن تتبعنا لبعض الأفكار التي وجدنا فيها الأفغاني متأثرا بشكل أو بآخر بأطروحات الفكر الغربي، لاسيما وأن الأفغاني قد عاش في فرنسا مدة من الزمن ونقد مفكريها لاسيما (روسو) و (فولتير) و(رينان) وأسس مجلته (العروة الوثقى) في باريس فضلا عن تأسيسه لجمعية بالاسم نفسه، وكانت باريس حاضنة لأفكاره بعد أن عجزت الحكومات عن تحمل العربية والإسلامية هذه الآراء والأفكار.
الموقف من الغرب
بحكم سفره إلى باريس نجد الأفغاني يسجل أول انطباعاته عن الفرنسيين بشكل خاص بقوله:
«شعب قد تفرد بين الشعوب الأوربية بإحراز النصيب الأوفر من الأصول الستة؛ فرفع منار العلم، وجبر كسر الصناعة في قطعة أوربا بعد الرومانيين، وصار بذلك مشرقا للتمدن في سائر الممالك الغربية، وبما أحرز الفرنساويين من تلك الأصول كانت لهم الكلمة النافذة في دول الغرب إلى القرن الثامن عشر من الميلاد المسيحي، حتى ظهر فيهم (فولتر) و(روسو)». يزعمان حماية العدل ومغالبة الظلم والقيام بانإرة الأفكار وهداية العقول. (ص161) إلا أن الأفغاني يعد هذين الفيلسوفين من الفلاسفة الماديين ومن الذين شوهوا الفكر اللاهوتي متمثلا بالأديان السماوية.
أما الانكليزي، فهو: قليل الذكاء، كما يرى الأفغاني، عظيم الثبات كثير الطمع والجشع، عنود، صبور متكبر.
والعربي أو الشرقي: كثير الذكاء، عديم الثبات، قنوع، جزوع، قليل الصبر، متواضع.(ص453).
يثبت الانجليزي على الخطأ إذا تسرع وقاله أو باشره، والشرقي لا يثبت على الصواب ولا على طلب حقه، فيفوز الأول في خير النتائج بفضيلة الثبات، ويخسر الثاني كل حق برذيلة «التلون وعدم الصبر». (ص453).
ويعتقد الناشئ الشرقي أن كل الرذائل ودواعي الحطة ومقومات التقدم إنما هي في قومه، فيجري مع تيار غريب من امتهان كل عادة شرقية ومن كل مشروع وطني تتصدى له فئة من قومه أو أهل بلده.(ص190)
نقد الأفغاني لـ (آرنست رينان)
حاول آرنست رينان أن يقلل من أهمية العقل العربي والشرقي عموما بوصفه عقلا نقليا لا نقديا، ولم يكن للعرب دور سوى أنهم كانوا مقلدين للثقافة الغربية متمثلة بالفكر اليوناني، وأكد أرجحية أو تميز العقل الغربي (الآري) على العقل الشرقي (السامي) بوصف الأول مبدعا والثاني مقلدا تابعا.. ولم يرق هذا الرأي للأفغاني فوجدناه ناقدا لهذه الأطروحات بقوله:
وبينما يسلم (مسيو رينان) بأن البلدان الإسلامية في غضون خمسة قرون من سنة 775 م إلى أواسط القرن الثالث عشر كانت تحتوي علماء ومفكرين عظاما، وأن العالم الإسلامي إذ ذاك كان يفوق العالم المسيحي في الثقافة الذهنية، إذ يقول «إن أكثر الفلاسفة الذين شهدتهم القرون الأولى للإسلام كانوا كنابهى السياسيين من أصل حراني أو أندلسي أو فارسي أو من نصارى الشام» ـ يتابع الأفغاني ـ ولست أريد أن أغمط علماء الفرس صفاتهم الباهرة ولا أن أغض الطرف عن الدور الجليل الذي لعبوه في العالم الإسلامي، ولكن أرجو أن يسمح لي أن ألاحظ أن الحرانيين كانوا عرباً وأن العرب لما احتلوا أسبانيا لم يفقدوا جنسيتهم بل ظلوا عربا، وأن اللغة العربية كانت إلى ما قبل الإسلام بعدة بقرون لغة الحرانيين، وكونهم حافظوا على ديانتهم القديمة وهي الصابئة ليس معناه أنهم لم ينتموا إلى الجنسية العربية، وقد كانت أكثر نصارى الشام عربا غسانيين اهتدوا بهدي النصرانية، أما ابن باجة وابن رشد وابن طفيل فلا يمكن القول بأنهم أقل عربية من الكندي بدعوى أنهم لم يولدوا في جزيرة العرب وخصوصا إذا اعتبرنا أن لا سبيل إلى تمييز امة عن أخرى إلا بلغتها. (ص209)
موقف الأفغاني من التغريب
يأخذ الأفغاني اليابان نموذجا للأمة التي استطاعت أن تحافظ على هويتها الوطنية على الرغم من انفتاحها على العلم الغربي، بقوله:
«ها هي دولة اليابان وقد ارتقت بتقليد الغربيين وبدون توسط الدين، فالجواب: نعم أن الدولة اليابانية وهي امة شرقية لا تختلف عن أهل الصين في شيء، لا في المذهب والإقليم ولا في العوائد والأخلاق و اللسان، وقد عزت ونمت وارتفعت وما كان الفاعل في كل ذلك إلا أخذها بالأحسن، والسير في تقليد المرتقين في المدنية على أحسن خططهم، وانتهاج أقوم صراطهم ومناهجهم.
تركوا عبادة الأوثان وصحتها أو عدمها جانبا، وجروا وراء العلم الدنيوي، فقلدوا أعظم الأمم تقليدا صحيحا، وأدخلوا على بلادهم قواعد المدنية السالمة والموافقة لمجموعهم، ونبذوا ما كان مألوفا في الغرب ولا يوافق طباعهم في شرقهم.
أما القول بارتقاء تلك الأمة الشرقية وقد تم بدون توسط ديني وفعله، فالجواب: نعم أن اليابان لم ينتفعوا بالوثنية من حيث هي دينهم، وذلك لان الديانة الوثنية وإن كانت لا تخلو من آداب وأخلاق، فليس في أصولها ما ينفع في أحكام أمور الدنيا وما يحتاجه الإنسان من مطالب المدنية، والدين لو كان في أصوله ما يدعو إلى السعادة وفي قواعده ما ينهض ويصعد إلى ذرى المجد، إذا بقى عقيدة مجردة عن الأعمال فلا يحدث عنه أثر ولا ينتفع المتسمون به، بل بتركهم الأعمال بتلك الأصول يتحدرون من شاهق عز إلى حضيض ذل».(ص199)
ومما ساعد الأمة اليابانية على رقيها وخلص سيرها من العرقلة؛ موقعها، ومجتمع جزائرها في أقصى الشرق، فوجدت من الدهر مسالمة وعن أنظار أولي المطامع من الغربيين بعداً، وينضم إلى ذلك سبب من أكبر الأسباب وعامل من أقوى العوامل ألا وهو ميل الإمبراطور (الميكادو) إلى تقييد حكومته بالدستور، وقبوله الشورى عن طيب خاطر، وسعيه بإخلاص وراء، ذلك فقد بعث من أفراد أسرته وعقلاء رعيته بعثات إلى أوربا لدرس أشكال وقواعد الحكم النيابي الدستوري، حتى إن إمبراطور النمسا (فرنسوا جوزه ف) لم يتمالك نفسه فقال لابن عم الميكادو وهو على مائدته في فينا «يا عجبا من إمبراطوركم كيف يسعى لإيجاد الحكم الدستوري النيابي في مملكته؟ ونحن في أوربا نود لو أمكننا التخلص من تحكم النواب في البلاد»؟ أجابه البرنس الياباني: إن جلالة الميكادو " معناه العادل" يحب أربعة أشياء: (يحب بلاده أولا، ورعيته ثانيا، ويحب العدل ثالثا، وراحة نفسه رابعا) وما وجد من ينيله ما يحب إلا بالحكم الدستوري النيابي واشتراك الأمة بإنهاض نفسها وصون ملكها) (ص200)
والعرب من وجهة نظر مفكرنا استطاعوا إبان الفتوحات الاسلامية أن ينفتحوا على الثقافة الغربية، ولكنهم لم يكونوا مقلدين، بل كانوا مبدعين مطورين لهذه العلوم، إذ يقول:
صحيح أن العرب أخذوا عن اليونان فلسفتهم كما أخذوا عن الفرس ما اشتهروا، به بيد أن هذه العلوم التي أخذوها بحق الفتح قد رقوها ووسعوا نطاقها ووضحوها ونسقوها تنسيقا منطقيا وبلغوا بها مرتبة من الكمال تدل على سلامة الذوق وتنطوي على التثبت والدقة النادرين. (ص208)
موقف الأفغاني من الأحزاب السياسية في الشرق
الأحزاب السياسية في الشرق نعم الدواء، ولكنها مع الأسف لا تلبث حتى تنقلب إلى بئس الداء، نحسن نحن الشرقيين تأليف الأحزاب السياسية لطلب الحرية والاستقلال وكل العالم لنا أصدقاء، ونضطر لتركها والكل لنا أعداء، والسبب العامل في ذلك عدم التكافؤ في القوى بين الأمة وأحزابها السياسية.
يقوم الحزب السياسي بعنصر ضعيف أو بأفراد قلائل بينهم اللسن والمحنك، ويعلنون تفانيهم بخدمة الأمة لتحريرها من ربقة الاستعباد والاستبداد، ويسرون خدمة أنفسهم فتتألف على أهل الحزب القلوب وتجتمع حولهم الكلمة بسوق الضرورة وداعي الحاجة، ويستحسن عملهم الغريب ويهوسهم الدخيل، شأن الحوادث المستجدة في انقلاب الأمم من طور إلى طور. (ص 242)
الموقف من الديانات
يعتقد الأفغاني أن الديانات يكمل بعضها بعضا وإن جاءت مختلفة في كيفية الطرح ومخاطبة البشرية، إلا أنها تصدر من شعاع واحد وتهدف إلى غاية واحدة فنرى أن الله قد نادى موسى من جانب الطور وكلمه قائلا: (إني أنا الله لا رب سواي فاعبدني أنت وبني إسرائيل) ومختصر ما ورد فيها إن طاعة الله وعبادته والعمل بما يبلغه الرسول كل ذلك له في الآخرة ثواب وسعادة سرمدية فضلا عن عاجلة الدنيا. (ص290)
إن الديانة المسيحية بنيت على المسالمة والمياسرة في كل شيء، وجاءت برفع القصاص واطراح الملك والسلطة ونبذ الدنيا وبهرجها ووعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان، يحكم المتدينين بها وترك أموال السلاطين للسلاطين والابتعاد عن المنازعات الشخصية والجنسية بل والدينية، ومن وصايا الإنجيل: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر». ومن أخباره «إن الملوك إنما ولايتهم على الأجساد، وهي فانية، والولاية الحقيقية الباقية على الأرواح، وهي لله وحده» (ص284)
الديانة الاسلامية وضع أساسها على طلب الغلب والشوكة والافتتاح والعزة، ورفض كل قانون يخالف شريعتها، ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية على تنفيذ أحكامها، فالناظر في أصول هذه الديانة ومن يقرأ سورة من كتابها المنزل يحكم حكما لا ريب فيه بأن المعتقدين بها لا بد وأن يكونوا أول ملة حربية في العالم (ص284)
لكن هذا التصور لهذه الديانات السماوية مبني عند الأفغاني على أساس أن الدين الإسلامي يشكل خاتمة الأديان، وبالتالي يحمل الدين الإسلامي خلاصة ما جاءت به الديانات السماوية السابقة، ومشكلة الدين الإسلامي اليوم أن متبعيه قد غادروا ما جاء به الرسول الكريم وصحبه، ولذلك يقول:
لابد من حركة دينية، وهي اهتمامنا بقلع ما رسخ في عقول العوام ومعظم الخواص، من فهم بعض العقائد الدينية والنصوص الشرعية على غير وجهها الحقيقي، وبعث القرآن وبث تعاليمه الصحيحة بين الجمهور وشرحها على وجهها الثابت من حيث ما يأخذ بهم إلى ما فيه سعادتهم دنيا وآخرة. (ص328)
وهذه الحركة الدينية قائمة على:
1- كسر قيود الأوهام، إذ يقول: «قيد الأغلال أهون من قيد العقول بالأوهام، العقل أشرف مخلوق فهم عالم الصنع والإبداع، ولا معطل له إلا الأوهام، ولا يقعده عن عمله إلا الجبن، وهو الذي يخيل المفقود موجودا والقريب بعيداً، كل عناصر الوجود في هذا العالم الفاني خاضعة للعقل المطلق الإنساني، فكل مستحيل اليوم في الطب والصناعة سوف يكون غدا ممكنا». (ص324)
وإذا لم يؤسس نهوضنا وتمدننا على قواعد ديننا وقرآننا فلا خير فيه. (ص327)
2- فتح باب الاجتهاد، إذ يقول: «يا سبحان الله، إن القاضي عياض قال ما قاله على قدر ما وسعه عقله وتناوله فهمه وناسب زمانه، فهل لا يحق لغيره أن يقول ما هو أقرب للحق وأوجه وأصح من قول القاضي عياض أو غيره من الأئمة؟
وهل يجب الجمود والوقوف عند أقوال أناس، هم أنفسهم لم يقفوا عند حد أقوال من تقدمهم، قد أطلقوا لعقولهم سراحه فاستنبطوا وقالوا وأدلوا في الدلاء في ذلك البحر المحيط من العلم، وأتوا بما ناسب زمانهم وتقارب مع عقول جيلهم، وتتبدل الأحكام بتبدل الزمان (ص329)
«ما معنى أن باب الاجتهاد مسدود؟ وبأي نص سد باب الاجتهاد؟ أو أي إمام قال لا ينبغي لأحد من المسلمين أن يجتهد ليتفقه بالدين؟ أو أن يهتدي بهدي القرآن وصحيح الحديث؟ أو أن يجتهد لتوسيع مفهومه منهما والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجيات الزمان وأحكامه ولا ينافي جوهر النص»؟. (ص329)
3- نقد التفرقة بين المذاهب الاسلامية إذ يقول: «علمت أن أي رجل يجسر على مقاومة التفرقة ونبذ الاختلاف وإنارة أفكار الخلق بلزوم الائتلاف رجوعا إلى أصول الدين الحقة، فذلك الرجل يكون عندهم قاطع أرزاق المتّجرين في الدين، وهو هو في عرفهم الكافر الجاحد المارق المخردق المهرتق المفرق.. الخ (ص295)
فالملوك من السنيين هولوا وأعظموا أمر الشيعة لاستهواء العوام بأوهام غريبة وعزويات عجيبة على شيعة أهل البيت ليتسنى لهم بذلك تحزيب الأحزاب وتجييش الجيوش ليقتل المسلمون بعضهم بعضا (بحجة الشيعة والسنة) وجميعهم يؤمنون بالقرآن وبرسالة محمد صلى الله عليه وعلى آله. (ص325)
4- توحيد الممالك الإسلامية: سعى الأفغاني إلى تأسيس رابطة إسلامية تجمع الممالك الإسلامية تحت راية واحدة هي الإسلام، وبعبارته (مجموعة خديويات كل خديوية محكومة من قبل سلطان تنضوي جميعها تحت الباب العالي) إذ يقول: «لا ألتمس بقولي هذا أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصاً واحداً فإن هذا ربما كان عسيرا، ولكني أرجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن، ووجهة وحدتهم الدين، وكل ذي ملك يسعى بجهده لحفظ الأخر ما استطاع، فان حياته بحياته وبقاءه ببقائه». (ص345)
«فلم تبق ريبة أن الدين هو السبب المفرد لسعادة الإنسان، فلو قام الدين على قواعد الأمر الإلهي الحق ولم يخالطه شيء من أباطيل من يزعمونه ولا يعرفونه، فلا ريب أنه يكون سببا في السعادة التامة والنعيم الكامل ويذهب بمعتقديه في جواد الكمال الصوري والمعنوي ويصعد، بهم إلى ذروة الفضل الظاهري والباطني، ويرفع أعلام المدنية لطلابها، بل يفيض على التمدين من ديم الكمال العقلي والنفسي ما يظفرهم بسعادة الدارين، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم». (ص173)
«وما أبعد ما يظنون فان هذا العمل العظيم إنما يقوم به سلطان قوي قاهر يحمل الأمة على ما تكره أزمانا، حتى تذوق لذته وتجني ثمرته، ثم يكون ميلها الصادق من بعد نائبا عن سلطته». (ص194)
الموقف من المرأة
نجد أن موقف الأفغاني من المرأة وحريتها موقف متذبذبا، بين أن يقبل بالحرية على النمط الأوربي، أو وفق الرؤى والضوابط الإسلامية، لذلك لم يكن موقفه من السفور والحجاب أو عمل المرأة واضحا، إذ يقول:
ـ «وعندي لا مانع من السفور إذا لم يتخذ مطية للفجور. ولا أظن أن ضجيج بعض الناشئة في الشرق والمتفرجنين منهم يقصدون بطلبهم مساواة المرأة مع الرجل في " التكوين" ذلك لأنه ممتنع بل مستحيل». (ص524)
ـ «أما رفع الحجاب، فما رأيت لمن قال بلزومه وخطب فيه، أو كتب، أنه ذكر أقل نفع له أو فائدة تأتي من ذاته أو من ورائه، والذي أراه أن الحجاب ستار، إذا رفع طفرة وفجأة إنما يظهر على الغالب من تحته شناعات الخلاعة والتبرج واستهوان الفجور وعدم المبالاة بالرقابة العامة، ولو اقتصر النساء على الاكتفاء بالسفور ولم يتخذ كما قلنا مطية للفجور لما كان في الأمر ما يحتاج لأخذ ورد». (ص525)
ـ «فالرجل في آثاره وجراثيم غذائه وبالخطوط الأولى التي ترسم فيه، هو صنع الأم (المرأة) مدين الأم (المرأة) تلميذ الأم (المرأة) صالحا نشأ أم طالحا». (ص528)
ـ «إني لا أرى في الذين يقولون بمساواة المرأة بالرجل وإشغالها بما خلق له هو ولم تتكلف به الأم (المرأة) إلا أنهم يحاولون نقض حكم الوجود الذي إنما صار وجودا وكونا وهيئة بوجود العالمين (المرأة والرجل)». (ص528)
ومختصر القول إن قوة المرأة في ضعفها، وفضل الرجل في قوته، وأن يكون تجاه المرأة ضعيفا، وفي مذهبي أن تبادل النوعين بالمزيتين خروج عن حكمة الفطرة ومغالبة للطبيعة». (ص529)
الهامش
(*) أستاذ الفلسفة المساعد، الجامعة المستنصرية، بغداد.
أخذت الهوامش الموجودة في المتن من الأعمال الكاملة للأفغاني، تحقيق الدكتور محمد عمارة / مصر، ط1.
* هذا المقالة نشرت سابقاً على موقع الحضارية .
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |