مصطلح التنوير: مفاهيمه واتجاهاته في العالم الإسلامي الحديث " نظرة تقويمية "
محاضرة أعدها وقدّمها
الدكتور عبد اللطيف الشيخ توفيق الشيرازي الصباغ
أستاذ الملل والنحل والمذاهب المعاصرة بقسم الدراسات الإسلامية
بكلية الآداب بجامعة الملك عبد العزيز بجدة
جدة في يوم الأربعاء 7 محرّم الحرام 1426هـ
16 شباط (فبراير) 2005
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين، (الحمدلله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون)، الحمدلله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات)، والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة الذي أنزل الله إليه كتاباً ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وعلى آله الطيبن الطاهرين وأصحابه الغرّ الميامين أعلام التنوير الحقيقي في هذه الأمة وفي الإنسانية جمعاء، وبعد:
فإنّ مصطلح التنوير أو الاستنارة هو من الألفاظ والشعارات والمصطلحات الوافدة التي انتشرت في العالمين العربي والإسلامي في العصر الحديث، وهي جملة من المصطلحات المجملة المشكِلة الملتبسة التي ظاهرها ومبناها الخير والعلم والمعرفة، ولكنها تحمل في طياتها كثيراً من المفاهيم والأفكار المقبولة أو المرذولة والصحيحة أو الفاسدة؛ ولذلك اقتضت ضرورة البحث العلمي الموضوعي التوضيح والبيان والشرح والتفصيل حتى يزول اللبس وتتضح معالم الصورة وتنزاح الشبهة، فيحيا من حيّ عن بينة ويهلِك من هلك عن بيّنة، (وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين) الأنعام /55 .
مفهوم التنوير عند الغربيين:
وبداية نقول إن هذا المصطلح (التنوير أوالاستنارة)، بالمعنى الفكري والفلسفي الشائع، هو ترجمة للمصطلح الغربي الذي يذكر عادة تحت عنوان: حركة الأنوار أو فلسفة الأنوار أو عصر الأنوار أو فكر الأنوار:
بالفرنسية“philosophie des lumieres” ، وبالإنكليزية ”Enlightenment“، وبالألمانية “Aufklarung” وقد ترجمت إلى العربية بحركة التنوير أو حركة الاستنارة.
وحتى نفهم هذا المصطلح بالعربية يستحسن أن نتعرف على مفهومه وأبعاده في اللغات الأوروبية وفي تطور الفكر الغربي عموماً، والواقع أن حركة التنوير تشير إلى تلك الحركة الفلسفية التي بدأت في أوروبا في القرن الثامن عشر الميلادي، وجاءت بعد المذهب الإنساني وحركة النهضة الأوروبية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وقد تميزت هذه الحركة بفكرة التقدم وعدم الثقة بالتقاليد، وبالتفاؤل والإيمان بالعقل، وبالدعوة إلى التفكير الذاتي المستقل، والحكم على أساس التجربة الشخصية (المعجم الفلسفي الصادر عن مجمع اللغة العربية بمصر) ويقابلها نزعة التعمية، وهي نزعة تتعارض مع نشر المعارف والأخذ بالمبادئ العقلية، وهو مصطلح قدحي ذمّي يعني النزعة الظلامية في مقابل التنوير أو حركة الأنوار (المعجم الفلسفي الصادر عن مجمع اللغة العربية بمصر).
وسنعرض فيما يلي شرحاً مكثفاً ومركزاً لفلسفة الأنوار في أوروبا نقتبسه من مرجع مهم من مراجع الفلسفة الغربية الحديثة، وهو معجم الفلسفات الكبرى Dictionnaire Des Grandes Philosophies الذي أعد تحت إشراف الأستاذ (لوسيان جيرفانيون Lucien Jerphagnon) ,1973 , Toulouse PRIVAT. فقد جاء في هذا المعجم حول هذا المصطلح مايلي:
يشير هذا المصطلح إلى المذهب العقلاني في القرن الثامن عشر، والذي مهدت له بشكل واسع أعمال الفلاسفة السابقين من أمثال: سبينوزا، وريتشارد سيمون، وفونتنل، وبيير بايل وقبل كل ذلك نيوتن ولوك.
وليس من الممكن أن نحلل في صفحات قليلة، وبشكل متتابع،مذاهب الممثلين الرئيسيين لفلسفة الأنوار، أو أولئك الذين يمكن أن نلحقهم، رغم تنوعهم، بهذا التيار: في إنجلترا مثلاً: جون تولاند (1670- 1722)، دافيد هيوم (1711-1776)، وفي ألمانيا: كريستيان وولف (1679- 1754)، ليسينغ (1729- 1781)، وفي فرنسا: مونتسكيو (1689- 1755)، فولتير (1694- 1778)، ديدرو (1713- 1784)، دولامتري (1709- 1751)، دولباخ (1723- 1789)، وبصورة أقل يقيناً روسو والمركيز دوساد، هؤلاء هم الذين كانوا متأثرين بشكل واسع بهذه الفلسفة "فلسفة الأنوار" مع أنهم خالفوها في بعض النقاط الجوهرية.
ونريد هنا بالأحرى أن نحلل المقتضيات الأساسية لمفهوم فلسفة الأنوار:
إن فلسفة الأنوار هي فلسفة عقلانية متفائلة تريد الظهور علناً، وتريد إنارة كل العقول وتخليصها من النزعة الظلامية. وفي إطار هذا المقصد، مقصد التعميم الواسع ونشر الأنوار بشكل عام وفي جميع الأوساط، كتبت الموسوعة تحت إشراف "ديدرو"، تلك الموسوعة التي تشكل معجماً عاماً للعلوم والفنون والتقنيات (وقد صدرت بين عامي 1715 و 1772).
ولنلاحظ مع ذلك أن حركة البنّائين الأحرار (الماسونية) (التي قدم لها "أندرسون" مؤسساتها و قوانينها منذ عام (1723) كانت تنمو بشكل سريع جداً وتساند الأفكار الجديدة وقد أدانتها رسالة بابوية أطلقها "البابا كلمنت الثاني عشر" عام 1738) وهي تقدم خليطاً غريباً من فكر الأنوار ومن الروح العرفانية الإشراقية “ILLUMINISME”.
ويمكن أن نلخص معالم فلسفة الأنوار عند الأوروبيين بما يلي:
- الهجوم على الدين وعلى السلطات القائمة وتسفيهها وذمها.
- الإشادة بالعقل الطبيعي، وشعارهم في ذلك: "إن أنوار العقل الطبيعي وحدها هي القادرة على قيادة بني الإنسان إلى كمال العلم والحكمة". وهذا يلخص بألفاظ بسيطة جداً كل برنامج حركة التنوير الغربية.
- يمكن أن نعتبر حركة التنوير حركة عقلانية ديكارتية معممة، أي تمديداً واسعاً يغطي جميع الميادين لعقلانية بقيت محدودة وخجولة عند "ديكارت" نفسه.
- الدعوة إلى عقلانية تجريبية حسب النموذج النيوتوني.
- حلول التحليل محل الاستنتاج العقلي النظري.
- إعتبار النظم الفلسفية الميتافيزيقية التي كانت سائدة في القرن السابع عشر أبنية خيالية.
- استبدال العقلانية التحليلية والنقدية ب"العقلانية الكبرى" التي كانت سائدة في القرن السابق.
- الإنسان معتبر ببساطة آلة أكثر تعقيداً من الحيوان.
- النظرة الحسية التجريبية الوضعية للأشياء تحل محل النظرة المتعالية التقديسية.
- الصراع الأساسي الذي تلتزم به حركة التنوير هو الصراع بين العقل التجريبي الوضعي النقدي وبين مضمون الإيمان الديني الغيبي.
- كانت حركة الإصلاح الديني قد طالبت بالعودة إلى مصادر الإيمان، أي إلى نصوص العهد القديم والعهد الجديد، لكن "سبينوزا" كان يطالب بأن يدرس النص الديني كأي نص عادي آخر، وكأي مجموعة من الوقائع بكل معطيات العقل النقدي ووسائله.
- نزعة الشك في النص المقدس في ثبوته وفي مصداقيته لكونه مثقلاً بالشروح والزيادات والتحريفات.
- الكتاب المقدس ليس سوى نسيج من الأساطير، والعقل المستنير يجب عليه أن يرفض هذه الخرافات التي هي من قبيل الطيرة،أو نزعة التطير.
- إذا كان معظم أبطال حركة التنوير قد بقوا مؤمنين بإله شخصي، "كفولتير" مثلاً، وبقوا يقبلون ديناً طبيعياً، أي يرون في فرضية إله خالق مطلباً طبيعياً من مطالب العقل فإنهم كانوا يرفضون أي دين موحى به.
هكذا كانت فلسفة التنوير (الأنوار) تؤكد إذن قيمة العقل الطبيعي و الأنوار الطبيعية، ولكنها ترفض كل وحي، ترفض كل ما كان علم اللاهوت التقليدي ينسبه إلى العناية الإلهية واللطف الإلهي. فالعقل الطبيعي يكفي لإيصالنا إلى المعرفة. وبنفس الطريقة فإن هناك أخلاقاً طبيعية تكفي لضمان سعادتنا، بصرف النظر عن المحرمات التعسفية والتوجيهات المصطنعة، كما يدّعون.
((أشار اللورد "بروجهام" إلى الفيلسوف " فولتير" وصوّره وهو يؤدي واجباته الدينية على قمة جبل سنة 1775 تحت إشعاع الشمس المشرقة وهو يقول متوجهاً إلى الكائن الأعظم:
إني أؤمن بك، إني أؤمن بك... ثمّ فجأة ينتصب واقفاً ويضع قبعته على رأسه وينفض الغبار عن ركبتيه ويستعيد قسمات وجهه المغضن ثم يقول: هذا بالنسبة لك، أما بالنسبة للسيد الابن وللسيدة أمه، فالمسألة لها عندي شأن آخر)).
هذه الثقة بالطبيعة تميز بشكل واضح حركة التنوير، فهي تتضمن وتقتضي رفض عقيدة الخطيئة الأصلية، وبهذا وحول هذه النقطة بشكل جوهري كانت حركة الأنوار معادية للنصرانية.
لقد تبنت موقف المذهب الإنساني المعارض الذي كان معروفاً في القرن السادس عشر وعمقته. فالإنسان عندها سيد مصيره المطلق وليس تابعاً لرحمة تعسفية. والطبيعة الإنسانية بقواها الذاتية وحدها قادرة على تحقيق التقدم، وليست فاسدة في منبعها بسبب الخطيئة الأصلية. لقد أكدت هذه الحركة أن فلسفة معقولة وعاقلة ينبغي أن ترفض هذه الأسطورة المعيبة التي تقرر الخطيئة الموروثة والتي تجعل منها بشكل ما أمراًً عضوياً بيولوجياً.
وقد كان رفض الخطيئة الأصلية يعني أيضاً رد طغيان الحكام المستبدين، الذين كانوا يسوغون سلطتهم المطلقة بفساد رعاياهم فساداً أصلياً، وهم كلهم أبناء آدم، أما إعادة الثقة بالإنسان فإنها تعني المناداة بضرورة التسامح والمطالبة بحرية التفكير والتعبير. لقد كانت فلسفة متفائلة، بل إن كلمة التفاؤل قد وضعت من قبلها في القرن الثامن عشر، فقد كان هناك ثقة كبيرة في العقل الإنساني والعلم الإنساني والتحولات العلمية الكبيرة والتحولات الاجتماعية والاقتصادية المتنامية لمواجهة حالات الخلل التي تحدث في الطبيعة وفي المجتمع،
فالتقدم العلمي والتقدم الاقتصادي المادي سيحل كل المشكلات وسيلبي كل الحاجات، وهكذا أعلن "كوندورسيه" سنة 1794:
((أن الإنسانية، وهي تزداد علماً ومعرفة كل يوم وبدون توقف، سوف ترى سلطتها على الطبيعة تزداد وتقوى كل يوم وكذلك الأمر بالنسبة لثرواتها وإمكانات سعادتها: فصلاحية الإنسان لبلوغ الكمال هي في الواقع بغير نهاية)).
وقد ورثت هذه الفلسفةَ بشكل مباشر ومثلتها في الأزمان اللاحقة كل من:
- الفلسفة الوضعية والوضعيين على اختلافهم.
- الاشتراكية والاشتراكيين على تنوعهم.
- النزعة الإنسانية من كل شكل ولون.
واضح إذن أن الطابع المميز لحركة التنوير وفلسفتها في أوروبا هو طابع عقلاني طبيعي مادي إنساني تحليلي نقدي بعيد عن الدين إن لم يكن معادياً له، يؤمن بالتقدم الإنساني الواسع والمستمر على أساس التفاؤل والثقة بقدرة الإنسان الذاتية وإمكاناته الخاصّة، وأهليته الكاملة لبلوغ سعادته بنفسه، وجميع الحركات الفلسفية والأدبية الأوروبية التي مثّلت حركة التنوير وقادتها تتميّز بالتشكيك في القيم التقليدية والمعتقدات الدينية، وبالميل نحو الفردية المطلقة، وبإبراز فكرة التقدم البشري العام، وبالمناهج التجريبية الوضعية للعلوم، وبتحكيم العقل في كل شيء. (معجم مصطلحات الأدب، مجدي وهبه). هذا هو معنى التنوير ومبادئه في أوروبة، فلننظر إلى دلالة هذا المصطلح واستخداماته في الخطاب العربي الحديث.
معنى التنوير في اللغة العربية وفي التراث الإسلامي:
معنى التنوير في اللغة العربية: لا بد لنا قبل تحديد معنى التنوير كمصطلح ثقافي أو فلسفي في اللغة العربية الحديثة، أن نتعرف أولاً على معنى التنوير في اللغة وفي التراث الإسلامي.
التنوير في اللغة العربية مصدر الفعل المضعف (نوّر)، والفعل نوّر معناه أضاء، يقال نوّر الله قلبه: يعني هداه إلى الحق والخير، ونوّر الصبح أسفر، والتنوير هو وقت إسفار الصبح يقال: صلى الفجر في التنوير أي صلى الفجر في وقت الإسفار. واستنار بمعنى أضاء، ويقال: استنار الشعب، أي صار واعياً مثقفاً (المعجم الوسيط).
النّور في القرآن الكريم: يقول العلاّمة الراغب الأصفهاني في كتابه "مفردات ألفاظ القرآن ": [النّور: الضوء المنتشر الذي يعين على الإبصار، وذلك ضربان: دنيويّ وأخرويّ.
فالدنيويّ ضربان: ضرب معقول بعين البصيرة، وهو ماانتشر من الأمور الإلهية: كنور العقل و نور القرآن، ومحسوسٌ بعين البصر وهو ماانتشر من الأجسام النيّرة كالقمرين والنجوم والنيّرات.
فمن النور الإلهي قوله تعالى: (قد جاءكم من الله نورُ وكتاب مبين) وقوله تعالى: (وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارجٍ منها) وقوله تعالى: (ما كنت تدري مالكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا) وقوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) وقوله تعالى: (نورُ على نور يهدي الله لنوره من يشاء).
ومن المحسوس الذي بعين البصر قوله تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نورا)، وتخصيص الشمس بالضوء والقمر بالنور من حيث إن الضوء أخص من النور، قال تعالى: (وقمراً منيرا) أي ذا نورٍ. وممّا هو عامُّ فيهما قوله تعالى: (وجعل الظلمات والنّور) وقوله تعالى: (ويجعل لكم نوراً تمشون به) وقوله تعالى: (وأشرقت الأرض بنور ربها).
ومن النور الأخروي قوله تعالى: (يسعى نورهم بين أيديهم) وقوله تعالى: (والذين آمنوا معه نروهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون: ربّنا أتمم لنا نورنا) وقوله تعالى: (انظرونا نقتبس من نوركم) وقوله تعالى: (فالتمسوا نورا).
ويُقال: أنار الله كذا ونوّره. وسمّى الله تعالى نفسه نورا من حيث إنّه هو المنوّر سبحانه، قال تعالى: (الله نور السموات والأرض)، وتسميته تعالى بذلك لمبالغة فعله ]. انتهى كلام الراغب في مفرداته.
معنى التنوير عند الصوفية: وتطلق عبارة فلسفة النور على فلسفة الإشراق عند السهروردي مثلاً، ومؤمن منور القلب: إذا دخل النور في قلبه انشرح وانفسح، وقد جاء في الحديث:
"من أحب أن ينظر إلى عبد نور الله قلبه فلينظر إلى حارثة" قيل وما علامة ذلك يا رسول الله: فقال: التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله".
وسميت الصوفية بالنورية أخذاً من هذا الحديث، كما أن الصوفية يطلقون كلمة النور على الحق سبحانه وتعالى، ويسمونه أيضاً نور الأنوار، والنور المحيط والنور القيوم، والنور المقدس، والنور الأعظم الأعلى، ونور النهار، (د.عبدالمنعم الحفني: معجم مصطلحات الصوفية).
وفي معجم" ألفاظ الصوفية" للدكتور حسن الشرقاوي أن النور يقصد به اليقين بالحق، والهدى، واطمئنان القلب به، ويذكر النور بضده دائماً، وهي الظلمات التي يراد بها الشكوك والشبهات. كما يراد بالنور المعارف والحقائق التي تجلب اليقين في العقائد، كما يقصد بالنور الكتاب السماوي كما في قوله تعالى: [ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً ] النساء " 174 ".
ويمكن أن يحمل معنى النور على النبي الذي يجيء بما ينير السبيل.
وعند الإمام الغزالي: النور هو العلم اللدني أو الوهبي أو العلم الإلهامي وهو نور يقذفه الله في قلب المؤمن.
ولاننسى في هذا الإطار العنوان الموحي لكتاب الصوفيّ الشهير إبن عطاء الله الاسكندري، وهو "التنوير في إسقاط التدبير".
معنى التنوير في الثقافة العربية الحديثة: يقترب معنى التنوير في الاستخدام الثقافي العربي الحديث من معنى الوعي بالحاجة إلى التقدم وإلى الإصلاح والتجديد واليقظة والنهضة. والاستنارة تفيد معنى الفهم والثقافة والاطلاع والاقتناع بضرورة التغيير والتقدم، ويقابلها التزمت والجمود والتمسك بالعادات والتقاليد القديمة بدون تمييز، والانغلاق على النفس ورفض الحوار والتفاعل مع الآخرين.
لكن للتنوير معنى اصطلاحياً فلسفياً خاصاً، فهو الاستخدام العام لعقل الإنسان في جميع القضايا، وتبني شعار "لا سلطان على العقل إلا للعقل"، وهو شجاعة استخدام العقل ولو كان ذلك ضد الدين وضد النص، والدعوة إلى تجاوز العقائد الغيبية، والإيمان بقدرة الإنسان الذاتية على الفهم والتحليل والتشريع، والدعوة إلى الدولة العلمانية، وتجاوز النص الديني أو إهماله أو تفسيره تفسيرات بعيدة عن سياقه وعن قواعد التفسير الموضوعية، وهو الدعوة إلى المنهج التجريبي الحسي المادي واعتباره المنهج الوحيد الجدير بالثقة والاتباع.
والواقع أن هذا المصطلح قد اكتنفه في العصر الحديث كثير من الغموض والتعمية وكثير من الخلط والتلبيس حتى أصبح من الكلمات الفضفاضة التي تحشى بمعاني مختلفة، أو بتعبيرنا الأصولي أصبح من الألفاظ المجملة والمشتركة، وسواء أكان ذلك بقصد أم بدون قصد.
وقد أصبحت كلمة التنوير أو الاستنارة مؤخراً كلمة محورية في الخطاب السياسي والفلسفي العربي، لكن تعريفات التنوير والاستنارة في الأدبيات العربية تعريفات عامة مثل:
حق الاجتهاد والاختلاف، وشجاعة استخدام العقل، ولا سلطان على العقل إلا لسلطان العقل، والاستخدام العام لعقل الإنسان في جميع القضايا.
ولذلك وجدنا كلمة التنوير تختلط أحياناً بكلمات الوعي والنهضة واليقظة والإصلاح والتجديد والتقدم والترقي والتمدن وغيرها من الكلمات والمصطلحات المقاربة، فكان لزاماً علينا أن نحدد المعنى الحقيقي لهذا المصطلح وأن نميزه عن غيره ونحدد اتجاهاته وألوانه وأطيافه، حتى لا تختلط الأمور ولا تلتبس المفاهيم، وحتى يكون الحكم مؤسساً على تصور سليم ومعرفة بينة.
يطلق مصطلح التنوير في الخطاب العربي الحديث بشكل عام على حركة التوعية والتثقيف والتحديث والتجديد التي حدثت في العالم الإسلامي منذ قرنين من الزمان واتسمت بتأثرها بالطريقة الغربية وبإعجابها بالغرب وعلومه وتقدمه الفكري والعلمي وبتيار النهضة والإحياء الذي عرف فيه في القرون الأخيرة، بل إن هناك من يقول بأن تيار التنوير في العالم العربي الحديث بدأ مع الحملة الفرنسية البونابارتية على مصر 1798م، وما أحدثته هذه الحملة من صدمة ثقافية وحضارية ووعي فكري وثقافي، وقد وجدنا من ينظر إلى هذه الحملة اليوم نظرة إيجابية استحسانية، ويطالب بإعادة تقويم هذه الحملة وإعادة تحليل أهميتها وآثارها والحكم عليها من وجهة النظر التنويرية التقدمية التاريخية!!.
ولكن لنا أن نتساءل: هل فهم رجال الإصلاح والتجديد المسلمون التنوير كما فهمه رواد حركة التنوير في أوروبا؟ وهل اقتفوا أثرهم حذو النعل بالنعل والقُذّة بالقُذة؟ أم أنهم فهموه بمعنى الإصلاح والتجديد والتحديث من الداخل وفي إطار منظومة العقائد والقيم الإسلامية الأساسية مع اختلاف في الدرجة والمقدار؟ وهل يجوز أن نضع جميع دعاة الإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي الحديث في سلة واحدة وأن نضمهم في حُزمة واحدة؟ وهل هناك تنوير واحد أم "تنويرات" أي أنواع متعددة من التنوير قد تختلف قطبياً وجذرياً، وقد تتنوع في المسارات والطرائق؟ هل يمكن الحديث عن تنوير إسلامي وتنوير علماني وضعي؟
لقد ذكر أحد الباحثين في التنوير الحديث أن التنوير الغربي هو تنوير علماني يستبدل العقل بالدين ويقيم قطيعة مع التراث، وأن التنوير الإسلامي هو تنوير إلهي لأن الله والقرآن والرسول أنوار تصنع للمسلم تنويراً إسلامياً متميزاً يرسم معالمه أعلام التجديد الإسلامي المعاصر: ولنلاحظ هنا التقارب بين مصطلحي التنوير والتجديد.
وقد ميّز كاتب آخر "محمد جلال كشك "بين رجال التنوير الحقيقيين وبين التنويريين المضللين الذين تدق لهم الطبول هنا وهناك (جهالات عصر التنوير: قراءة في فكر قاسم أمين وعلي عبد الرازق) ص 3-10.
وقد كتب الدكتور"محمد عمارة" كتاباً كاملاً عن "الإسلام بين التنوير والتزوير" دار الشروق، القاهرة 2002م، كما أصدر كتيباً حول فكر التنوير بين العلمانيين والإسلاميين في سلسلة (نحو عقلية إسلامية واعية) رقم "17" – دار الصحوة للنشر 1995. وكأن التنوير عنده يعني تكوين عقلية إسلامية واعية تكون أساس نهضة إسلامية شاملة، وشتان بين هذا المفهوم للتنوير وبين مفهوم رواد التنوير الغربي العلماني، كما يتجلى ذلك في سلسلة من الرسائل القيمة عنوانها (في التنوير الإسلامي) تمييزاً له عن التنوير العلماني!
والذي يلفت النظر أن هذا الاتجاه يذكر نماذج من رجال التنوير الحقيقيين من أمثال "الشيخ محمد الخضر حسين"، و "الشيخ عبدالحميد بن باديس" وكثير من رجال الإصلاح والتجديد الذين ظهروا في العالم الإسلامي في القرنين الأخيرين، لذلك فإننا نلاحظ أنّ هذا الاتجاه لا يفرق كثيراً بين رجال التنوير ورجال النهضة والإصلاح والتجديد.
(أنظر كتاب "ابن باديس، فارس الإصلاح والتنوير" لمؤلفه الدكتور محمد بهيّ الدين سالم، دار الشروق 1420 هـ).
بل إنّ كثيراً من الأسماء والرموز التي ينتحلها دعاة التنوير الغربي العلماني ويحاولون تصويرها على أنها من رواد حركة التنوير بمفهومهم العلماني الغربي للتنوير، هي عند التحقيق والبحث الرصين، بعيدة كل البعد عن مفهوم التنوير الغربي ومفرداته وأهدافه، وهذا ما يشير إلى أنّ التنويريين الغربيين الجدد يقومون بعملية خلط وتدليس وتلبيس أقلُّ ما توصف به هو أنها عملية غير دقيقة وغير أمينة وغير منهجية.
فهل نترك مصطلح التنوير لأولئك المفكرين والدعاة المتغربين المتنكرين لعقيدة الإسلام وقيمه المقتفين أثر حركة التنوير الغربية وخصائصها، ونحتفظ بمصطلح التجديد والإصلاح لمفكري الإسلام في العالم الإسلامي الحديث على اختلاف طرائق تفكيرهم وعملهم ماداموا لم يتنكروا للمرجعية الإسلامية في أصولها ومقاصدها الأساسية؟
الموضوع لم يحسم بعد، ونحن لا نرى بأساً في استخدام مصطلح التنوير بمعناه العام المجمل المشترك مع تحديد المراد منه وتقييده بالأوصاف التي تبين نوعه وتحدده.
فلقد كثرت دعاوى التنوير في العالم الإسلامي الحديث وأصبح لها منابر ودعاة كثيرون رغم اختلاف البواعث والخطط والأهداف، وقد سلكت هذه الدعاوى، منذ قرنين من الزمان، أي منذ بداية النهضة الإسلامية الحديثة، عدة مسالك، وكان لها عدة اتجاهات.
أنواع التنوير في العالم الاسلامي الحديث:
لعلني أجتهد في ذلك وأصنف هذه الاتجاهات والتيارات في صنفين رئيسيين:
- الصنف الأول: وأسميه التنوير التغريبي العلماني التحريفي.
- الصنف الثاني: وأسميه التنوير الإسلامي التجديدي الأصيل.
التنويرالتغريبي العلماني التحريفي:
وينقسم إلى اتجاهين هما:
1. التنوير التغريبي العقلاني الوضعي الراديكالي.
2. التنوير التغريبي العصراني التحريفي.
التنوير الإسلامي التجديدي الأصيل:
ونقسمه إلى اتجاهين اثنين هما:
1. التنوير الإسلامي التجديدي التحديثي.
2. التنوير الإسلامي التجديدي المحافظ.
أولاً: التنوير التغريبي العقلاني الوضعي الراديكالي:
هذا الاتجاه يكاد أن يكون انعكاساً للتنوير الغربي في أوروبا في منطلقاته وأهدافه ومن حيث اتباع المنهج الوضعي المادي التجريبي وما أدى استخدامه إلى الإلحاد أو إنكار الوحي أو العلمانية الدنيوية أو الدعوة إلى تجاوز الإيمان بالغيبيات والأخلاق الدينية ومتابعة مقررات الحضارة الغربية المادية، وكان أكثر من تبع هذا الاتجاه ودعا إليه في المرحلة الأولى أناسٌ من غير المسلمين نذكر منهم على سبيل المثال طائفة من المثقفين والصحفيين الموارنة أو الأقباط:
(أمين شميل 1828- 1897) وهو أول دعاة استبدال العامية بالفصحى، و(شبلي شميل 1860 - 1917) المبشر بالإلحاد عن طريق الداروينية والفلسفة الوضعية والمادية. و(فرح أنطون 1874-1922) داعية العلمانية والمفسر لفلسفة ابن رشد تفسيراً مادياً، و(يعقوب صروف 1852-1927)، و(فارس نمر 1856 - 1951)، و(شاهين مكاريوس 1853 -1910) الذين أصدروا مجلة "المقتطف" لتدسّ الشك واللاأدرية والإلحاد بواسطة النظريات العلمية الغربية ذات الخلفية الفلسفية الوضعية والمادية، و(سلامة موسى 1888 – 1958)، و(لويس عوض) و(غالي شكري) وغيرهم...
ويمكن أن يدرج ضمن هذا الاتجاه بعض المسلمين عن وعي وقصد أو عن غير وعي وقصد، منهم على سبيل المثال: د.زكي نجيب محمود، د.فؤاد زكريا، د.جابر عصفور الكاتب المصري المعاصر الذي يقود اليوم حملة إحياء حركة التنوير بالمفهوم التغريبي حيث يأسى اليوم على مصيرها بعد مائة عام ويسمي ذلك "محنة التنوير"، ومنهم أيضاً الدكتور محمد أركون، والدكتور صادق جلال العظم، والدكتور الطيب التيزيني، والدكتور عاطف العراقي وغيرهم.
والحقيقة أن التنوير في محنة وأزمة ولكن ليس عندنا فقط بل عند الأوروبيين والغربيين عامة أيضاً، ولكنها محنة التنوير العقلاني المادي الوضعي وأزمته الناشئة عن تناقضاته الداخلية ونتائجه العبثية اللاإنسانية، وهناك كثير من المفكرين اليوم أصبحوا أكثر جرأة في انتقاد حركة الاستنارة العقلية المادية المتطرفة وما قادت اليه الغرب، والعالم وراءه، من ضياع وصراعات وانتكاس في الغايات والممارسات، وانسداد في أفق المعرفة والمصير الانساني الى درجة القول بأن منطق الاستنارة المضيئة والتنوير المشرق يقودنا بالضرورة الى الاستنارة المظلمة والتنويرالظلامي (انظر التحليل الرائع الذي كتبه المفكر الألمعي الأستاذ الدكتور عبدالوهاب المسيري في كتابه: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ج1 ص/181 ومابعدها، وكذلك ص/286 ومابعدها).
والحقيقة أن قلة قليلة من المفكرين المسلمين تصرح بهذا النوع من التنوير بمفهومه المادي الوضعي الراديكالي لأن ذلك يعني إنكار الأصل الإلهي للدين وإنكار الوحي الإلهي والأخذ بمفهوم الإنسان الطبيعي والدين الطبيعي والأخلاق الطبيعية، والنظر إلى الدين على أنه إنتاج إنساني اجتماعي تاريخي.
على أن هناك كثيراً من المتنورين الوضعيين الماديين يخفون مواقفهم الحقيقية ويتسترون وراء أنواع واتجاهات أخرى من التنوير خوفاً من التصريح والمواجهة وما يترتب عليهما، ولتعرفنَّهم في لحن القول!!
ثانياً: التنوير التغريبي العصراني التحريفي:
وهو اتجاه نشأ في العالم الإسلامي في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، يسعى إلى محاولة إيجاد مواءمة بين الإسلام وبين الفكر الغربي المعاصر، عن طريق إعادة النظر في تعاليم الإسلام ونصوصه وتأويلها تأويلاً جديداً ينسجم مع المعارف والأوضاع العصرية السائدة. إنه اتجاه يسعى إلى محاولة التوفيق بين الدين والعصر الحديث بإعادة تأويل الدين وتفسير تعاليمه في ضوء المعارف العصرية السائدة. وقد تناول عدد من الباحثين هذه الظاهرة بالعرض والتحليل واستعمل بعضهم مصطلح "العصرانية"“modernisme” لوصفها وإن كان عدد من الكتاب قد فضل استعمال لفظ "التجدد" أو "التطوير" أو " التحديث" أحياناً وأحياناً لفظ "التجديد".
والعصرانية لا تعني مجرد الانتماء إلى العصر، بل تعني وجهة نظر في الدين مبنية على الاعتقاد بأن التقدم العلمي والثقافة المعاصرة يستلزمان إعادة تأويل التعاليم الدينية التقليدية على ضوء المفاهيم الفلسفية والعلمية السائدة، ولو أدى ذلك إلى تطويع مبادئ الدين وأحكامه لقيم الحضارة الغربية ومفاهيمها وإخضاعها لتصوراتها ووجهة نظرها في شؤون الحياة.
أما في العالم الإسلامي فقد كان رائد العصرانية فيه هو (سيد أحمد خان" 1232- 1315"هـ - 1817-1898م)، فقد كان "سيد خان" أول رجل في الهند الحديثة ينادي بضرورة وجود تفسير جديد للإسلام: تفسير تحرري وحديث وتقدمي، وقد وصف الأستاذ العلاّمة السيد "أبو الحسن علي الحسني الندوي" مدرسته التي أنشأها بأنها قامت ((على أساس تقليد الحضارة الغربية وأسسها المادية، واقتباس العلوم العصرية بحذافيرها وعلى علاّتها، وتفسير الإسلام والقرآن تفسيراً يطابق ما وصلت إليه المدنية والمعلومات الحديثة في القرن التاسع عشر المسيحي، ويطابق هوى الغربيين وآراءهم وأذواقهم والاستهانة بما لا يثبته الحس والتجربة ولا تقرره علوم الطبيعة في بادئ النظر من الحقائق الغيبية)) "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية" للأستاذ الندوي، صفحة 65 طبعة دار القلم بالكويت- طبعة 5 عام 1405هـ 1985م.
ولم يكن "سيد خان" أول ممثل للنزعة العصرانية فحسب، بل كان نموذجاً كاملاً لها، وكل الذين جاؤوا من بعده لم يضيفوا شيئاً جديداً بل كانوا يعيدون صياغة أفكاره بصورة أو بأخرى.
وقد حدث اضطراب واختلاف كبيران في تصنيف بعض رواد هذا الاتجاه وتحديدهم توسيعاً أو تضييقا ً، وتغليباً لجانب من جوانب آرائهم واجتهاداتهم أو لموقف معين في بعض مسائل الفقه أو الأصول، وقد وجدنا من يسلك ضمن هذا الاتجاه علماء وشخصيات متباينة في مقاصدها ومناهجها: منهم تلامذة "سيد أحمد خان" نفسه، وأشهرهم: شراغ علي، وسيد أمير علي، وخدا بخش الشاعر، وغلام أحمد برويز، وخليفة عبد الحكيم، ومولانا محمد علي أحد قادة حركة الأحمدية القاديانية، وهناك من يضع المفكر الإسلامي الكبير "محمد إقبال" ضمن هذا الاتجاه بسبب بعض الأخطاء والتناقضات والآراء الخاصة التي لا يخلو منها مفكر مجتهد، وإنما العبرة بمنهجه العام وخطته المتكاملة.
وهناك كثيرون يدرجون علماء وروداً آخرين مثل: رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، والشيخ الإمام محمد عبده وبعض تلامذته كالأستاذ قاسم أمين وعلي عبد الرازق وطه حسين وأحمد لطفي السيد وسعد زغلول ومحمد حسين هيكل باشا، وفي الفترة المعاصرة: محمد أسد ومحمد فتحي عثمان ومحمود الشرقاوي والشيخ عبد الله العلايلي (لبناني) ومحمد أحمد خلف الله وأخيراً حسن حنفي ونصر حامد أبو زيد ومحمد شحرور وغيرهم، ضمن قائمة التنوير التغريبي العصراني التحريفي.
وقد حاول بعض دعاة الاتجاه الأول من اتجاهات التنوير وهو اتجاه التغريب العلماني الوضعي الراديكالي أن يسحبوا إلى معسكرهم شخصيات من هذا الاتجاه الثاني وأن يؤكدوا أنهم حملة التنوير ورموزه في العصر الحديث، وهم يقصدون التنوير التغريبي اللاديني أو المعادي للدين، وواضح أن هناك خلطاً وتلبيساً يقتربان من التزوير والانتحال الكاذب، وأن القضية أدق من ذلك وأعمق، وأن كلمة التنوير تستخدم بمعانٍ مختلفة ينبغي تحديدها والتمييز بينها والاحتراس عند استخدامها.
ثم إنّ الحكم على كل شخصية من هذه الشخصيات وعلى انتمائها أو اندراجها تحت هذا النوع أو ذاك، يتقرر طبقاً للقواعد الأربع التالية:
1. مدى التزامها بالإسلام وبالفكر الديني عموماً.
2. مدى التزامها بالمرجعية الإسلامية في أصول الإسلام وقواعده الأساسية.
3. النظر إلى إنتاج هذه الشخصية بشكل كامل دون اجتزاء بعضها وإهمال البعض الآخر الذي قد يكون أصدق تعبيراً عن مقاصدها.
4. النظر إلى حياة كل شخصية على أنها حياة متطورة وليست جامدة، ولا يجوز الحكم عليها من خلال مرحلة من مراحلها دون نظر إلى بقية المراحل، والعبرة بما استقرت عليه هذه الشخصية في مراحل حياتها الأخيرة، والعبرة بالخواتيم كما نقول.
وعلى كل حال فقد يكون من المستحسن أن نقدم طائفة من ملامح هذا الاتجاه، نذكر منها:
• اعتبار القرآن الكريم وحده الأساس لفهم الإسلام، وعدم الاعتماد على الأحاديث.
• الاعتماد في فهم القرآن الكريم على نص القرآن وحده وعلى المعارف والتجارب الذاتية في كل عصر.
• الاعتماد على مفهوم المحكم والمتشابه في القرآن الكريم لتفسيره تفسيراً عصرياً موافقاً لقوانين الطبيعة وتجارب الشعوب.
• هناك في القرآن الكريم معانٍ ثانوية وفرعية ليست مقصودة من تنزيل القرآن الكريم وهـي مأخوذة من بيئة العرب ومعارفهم وظروفهم التاريخية، وبالتالي فإنّ ذكر القرآن الكريم لها لا يعني أنها حقائق مسلّمة.
• لا يقبل من الأحاديث إلا ما يتفق مع نص القرآن وروحه وما يتفق مع العقل والتجربة البشرية وما لا يناقض حقائق التاريخ الثابتة.
• لا يعترف هذا الاتجاه بالإجماع مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي، ويرفض الأخذ بإجماعات الصحابة.
• الدعوة إلى الاجتهاد في جميع المجالات وإطلاق العنان للعقل والتجربة والقوانين الاجتماعية والطبيعية في عملية تفسير القرآن الكريم واستنباط الأحكام، وعدم التحرج من أن يؤدي ذلك إلى فوضى فكرية بسبب كثرة الأخطاء، لأن تباين وجهات النظر والحرية الواسعة في الفهم والاجتهاد هي الوسيلة الوحيدة لتقدم الأمة كما يدّعون.
• عدم تقديس التراث، وإعادة النظر فيه من كل جوانبه وبدون أي تحفظ.
• اعتبار التجديد الديني تطوراً واعتبار التطور الديني قمة التجديد الحق.
• التطور يشمل الدين في جوانبه المختلفة: العقائد والعبادات والمعاملات، فليست فيه أحكام تبقى مع بقاء الزمن ولا ينالها أي تغيير.(أمين الخولي، المجددون "ص 58").
وتندرج تحت هذا الاتجاه جميع محاولات التفسير الحديثة والمعاصرة وجميع محاولات التطوير والتغيير التي لا تلتزم بالمرجعية الإسلامية ابتداءً ولا تلتزم بذاتية الإسلام وتميزه، وتتبنّى، في فهم النص وتفسيره، أدوات وآليات غريبة عن طبيعة الوحي ومصدره الإلهي وبعيدة عن قواعد وأصول التفسير والاستنباط المعتمدة في اللغة العربية والتي تجعل من النص دليلاً هادياً ومرجعاً ضابطاً وموجهاً.
ونقصد بتلك المحاولات جميع المشروعات التي تنتهي تحت اسم تطوير الفهم والتفسير، وتثوير النص، ودراسته كمعطى مغفل، وتطبيق المناهج الدلالية الحديثة عليه، إلى الالتفاف على النص كمعطى إلهي متعال، وبالتالي إلى تطويعه أو تفريغه أو تعطيله أو تحييده، بحيث يصبح النص قطعة للزينة والتمويه ويستخدم أداة "شرعية" مخادعة لإسقاط جميع الآراء والأهواء والمصالح أو المفاسد عليه، تحت ذريعة أن القرآن حمّال أوجه، وهذا أخطر ملامح التنوير التغريبي التحريفي وأخبثها بامتياز.
إنّ هذا التنوير التحريفي سينتهي بنا بالضرورة إلى إسلام آخر، إسلام غريب الملامح والقسمات، بل إلى إسلام "كاريكاتوري"مضحك الشكل والصورة كالذي نراه من أشكالنا وصورنا في المرايا المحدّبة، فلا نكاد نعرف فيه طعم الإسلام ولا لونه ولا روحه أو رائحته وهذه قمة البهلوانية والتهريج باسم التثوير والتنوير، بل قد يكون ذلك شكلاً من أشكال الباطنية الحديثة.
ثالثاً: التنوير الإسلامي التجديدي التحديثي:
وهو اتجاه تجديدي إسلامي يهدف إلى إحياء الإسلام نقياً صافياً من البدع والانحرافات والالتزام بأصول الدين ومصادره الأصلية، وبخاصة القرآن الكريم والسنة الصحيحة الثابتة، ويتجلى بالدعوة إلى مقاومة الجمود والعصبية والتقليد، وإلى فتح باب الاجتهاد طبقاً لضوابطه وشروطه، لتحديث حياة المجتمع الإسلامي وحل المشكلات الحديثة التي تطرأ بسبب تطور الأوضاع وصلة العالم الإسلامي بالعوالم الأخرى، ولكن طبقاً لمنهجية الإسلام نفسه وآليات التفسير والاستنباط المعتمدة عند علماء الأمة الإسلامية ومجتهديها مع تنّوع واختلاف هنا وهناك.
والمهم أنّ هذا الاتجاه التنويري التجديدي يلتزم بالمرجعية الإسلامية في منطلقاته وأهدافه وأدواته، ويعتبر التحديث مختلفاً جداً عن التغريب، فالمرفوض هو التغريب، أما التحديث فهو مطلب إسلامي وفطري عميق، وهاهنا مروحة كبيرة واسعة تندرج تحتها حركات إسلامية شتى، وجماعات علمية دعوية متعددة، ومدارس وجامعات، ومؤسسات مالية واقتصادية واجتماعية وخيرية، وعلماء ومفكرون وكتّاب مسلمون في كل قطر إسلامي وخارج أقطار العالم الإسلامي في الغرب أو الشرق.
وهذا الاتجاه هو بلا شك اتجاه تنويري: ولكنه اتجاه تنويري إسلامي بالدرجة الأولى، وهو اتجاه تجديدي، بمعنى أنه يسعى إلى تجديد الدين وإحيائه عقيدة وشريعة ومنهج حياة، وهو اتجاه تحديثي، بمعنى أنه يريد أن يعيش العصر الحديث في إطار أصوله الثابتة الراسخة، وهو لذلك يؤمن بالتغيير والتطوير، ولكنه التغيير والتطور في الأشكال والأساليب والأدوات في إطار علاقة تأثيرية متبادلة ومتفاعلة بين الثوابت والمتحولات وبين الخالد والمؤقّت وبين الفطري الدائم والاجتماعي العارض، بحيث لا يكون التطور تحريفاً ومسخاً وانفلاتاً، ولا يكون الثبات جموداً وتحنطاً على شكل واحد وأسلوب واحد، وهي إشكالية ليست سهلة كما يُظن، بل تحتاج إلى بصيرة وفقه ودين، وهي ِمَزَلّة أقدام وَمِضَلة أفهام.
ولذلك فإننا نفهم كيف حدثت بعض الأخطاء والشطحات عند بعض ممثلي هذا الاتجاه حتى طمع في تصنيفهم بعض "التنويريين" التغريبيين في خانة التنوير الوضعي العلماني اللاديني، ونزع إلى تصنيفهم بعض التنويريين الإسلاميين المحافظين في خانة التنوير التغريبي التحريفي: وأقصد بهؤلاء شخصيات كبيرة ورموزاً شهيرة كانت ولا تزال موضع جدل وتجاذب، أمثال:
رفاعة الطهطاوي، و جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده والشيخ عبد الرحمن الكواكبي وسعد زغلول وقاسم أمين وطه حسين وعلي عبد الرازق ومحمد حسين هيكل باشا، وخير الدين التونسي، والشيخ الإمام محمدالطاهر بن عاشور صاحب "تفسير التحرير والتنوير" والكتاب العظيم الرائد "مقاصد الشريعة الإسلامية"، والأستاذ علاّل الفاسي في كتابه المشهور "مقاصد الشريعة ومكارمها".
ومن الفترة المعاصرة كتّاب ومؤلفون من أمثال: محمد أسد، ومحمد فتحي عثمان، ومحمود الشرقاوي، والشيخ عبد الله العلايلي، والشيخ أمين الخولي، وجمال الدين عطية وحسن الترابي ومحمد عمارة وفهمي هويدي وغيرهم من أمثال: د.عبد العزيز كامل، و د.أحمد كمال أبو المجد، و د.راشد الغنوشي، و د.محمد سليم العوّا وغيرهم.
ولست هنا بصدد تصنيف هؤلاء أو أولئك ووضعهم في هذا الاتجاه أو ذاك، كما أنني لست بصدد الدفاع عن بعض هؤلاء، وإيجاد التفسيرات والمسوّغات لموقف هذا أو ذاك.
ولكنني أريد أن أؤكد على عدة نقاط يمكن أن تصلح دليلاً لنا في هذا الاتجاه:
1. تجنب سوء الظن وتجنب الحكم على النوايا دون دواعٍ قوية.
2. القبول بالاختلاف والتنوع في إطار الوحدة.
3. التأكيد على الالتزام بالفكر الديني عموماً وبالإسلام كدين موحى به بشكلٍ خاص.
4. التأكيد على الالتزام بالمرجعية الإسلامية طبقاً لأصول الإسلام وقواعده الأساسية.
5. الحكم على الإنتاج الفكري لكل شخصية بشكل متكامل دون اجتزاء أو ابتسار.
6. النظر إلى حياة كل شخصية على أنها حياة متصلة ومتطورة، واعتبار ما استقرت عليه هذه الشخصية في مراحل حياتها الأخيرة هو الأساس.
وفي إطار هذه المعايير نجد مفكراً إسلامياً تنويرياً *يستعرض إنتاج عدد من رموز التنوير في العالم الإسلامي الحديث ويبين براءتهم من فكر التنوير الغربي والتحريفي، ويدافع عنهم بحسب النظرة الكلية الشاملة لحياتهم وإنتاجهم وهم: رفاعة الطهطاوي و جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده و الشيخ علي عبد الرازق والدكتور طه حسين والزعيم سعد زغلول، والدكتور محمد حسين هيكل باشا.
وأياً ما كان * الأمر، فإنّ هذا الموضوع الشائك يستحق مزيداً من البحث والتأمّل والأناة ولا يجوز أن نتعامل معه بخفة وتسرّع وانفعال.
على أنّ هناك عشرات من رواد هذا الاتجاه التنويري الإسلامي على اتساع أقطار العالم الإسلامي، شهد لهم الجميع بالدين والعلم والإخلاص، وبأنهم فعلاً من رواد النهضة الإسلامية الحديثة والمعاصرة ومن رجال التنوير الإسلامي التجديدي الأصيل، وإن لم يخل بعضهم من بعض الانتقادات والتصويبات، بل والاتهامات بأنهم وقعوا في مطب المجاملة أو المسايرة أو التنازل أو تأثّروا بشكل أو بآخر، وفي القليل أو في الكثير، بمعطيات الحياة الحديثة ومظاهر الحضارة الغربية فسلكوا نزعة تحديثية تجاوزت حدود المشروع والمقبول في الفروع أو في الأصول.
رابعاً: التنوير الإسلامي التجديدي المحافظ:
وهو اتجاه إسلامي تنويري تجديدي بأكثر معاني التنوير الإسلامي حيْطة وحذراً خشية الانزلاق إلى نزعة تحريفية أو تطويعية تحت اسم التطور أو التحديث. والحقيقة هي أنّ هذا الاتجاه يمثل اتجاه التجديد بمعناه المأثور في الحديث النبوي الشريف [ إ