قراءة في كتاب “التغيير والإصلاح.. مطالعة في التأسيسات والإشكاليات والمعوّقات”
الأستاذة ألباب الخليفة
مقدمة
من المؤلفات الهامّة للغاية الصادرة حديثًا، في مجال التغيير والإصلاح، وقراءة مسارات النهضة في تقاطعاتها بالمعرفة، والمجتمع، وقضايا النكوص ومعارك الوعي في أطوار استكمال مهامه نحو التجديد، كتاب الباحثة إيمان شمس الدين، “التغيير والإصلاح.. مطالعة في التأسيسات والإشكاليات والمعوّقات”..
من اللحظة الراهنة في الواقع العربي والإسلامي، بتداعياتها المشوّشة، في ظلّ الاستبداد الممارس على الشعوب، والصورة المشوّهة في فهم الدين الإسلامي لدى الذاكرة الجمعية المجتمعية، ما أدىّ لظهور دعوات لتحييده، والتنازل عنه، بوصفه مادة وفعل عنفي خطير، واستحضار صراعات العولمة والنظام العالمي الجديد، في ظل الهيمنة، بدت لنا أهمية قراءة المادة المعرفية التي تضّمنها هذا الكتاب، لفهم ما يجري من انتكاسات في ذواتنا التاريخية والحاضرة، بالوقوف على أهم محاوره الفكرية والنقدية، وآليات اشتغاله في دراسة موضوعة الإصلاح، وتشابكاتها مع أنماط السلطات والنخب والجماهير، وبالصورة الحقيقية لخطاب الخالق، ودلالاته.
يأتي هذا المؤلَّف من باحثة متخصصة في العلوم الإنسانية، لها أعمال وكتابات كثيرة منشورة، ومشاركات بحثية في مؤتمرات عديدة، فوجدت أهمية في دراسة “طبيعة التغيرات الاجتماعية المتفاعلة مع البعدين الديني والسياسي” وسط “ظروف سياسية ودينية يُحيط بها لغة الحروب العسكرية والباردة، وتسلّط أنظمة مستبدة، وتآمر خارجي، للإفقار والتدمير وتغيير معالم الهويات الإسلامية والحضارية” لتأسيس وصياغة مشروع الإصلاح والحفر في طبقاته وتحديد أسباب اخفاقاته ومآلات نجاحاته، لنقف على أهم المميزّات في الرؤية المطروحة، التي يُراد بها انتشالنا من حالات التشظيّ والانقسامات.
والباحثة “إيمان شمس الدين” مثلما يُلمح في مقدّمتها، تؤمن بوظيفة المثقّف في تجاوز دائرة التخصّص الأكاديمي المحدود، للتفاعل مع سائر قضايا عصره، وإن أفدنا من عتبة عنوان الكتاب “التغيير والإصلاح.. مطالعة في التأسيسات والإشكاليات والمعوّقات” اتساع الموضوعة المقاربة عن تخصصها، لأن الإصلاح لا يمكن أن يقف عند ممارسات معينة وإنما هو مفهوم يتجسّد في مجالات معرفية متنوعة، دينية، فكرية، إنسانية، إعلامية، سياسية، مما يجعلها تنتصر في رهان المعالجة والمواجهة، في تعميق اشتغالها، وصلاته بواقع يرزح بأثقال الألم والوهن، لتحويله لمصدر فيض مُنتج للمعنى الإنساني في مستوى القيم المعرفية والحضارية.
بنية الكتاب
جاء الكتاب الصادر عن مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ط1، 2019م. مشتملاً على 266 صفحة من الحجم الكبير، موّزعًا على ثلاثة فصول متماسكة ومتفرّعة إلى مباحث متعددة، اقتضتها طبيعة التناول وتشابك قضاياه، فخصّصت أولها لبحث “عناصر التغيير الداخلي والخارجي، وأهمّ معوّقات التغيير” و خصّصت الفصل الثاني “للإصلاح ومعوّقات النهوض”، أما الثالث ” الإعلام ودوره في التغيير وحركة الإصلاح” فأحاطت الباحثة فيه بالمكوّن الإعلامي والخاصيّة الاتصاليّة على مستوى الأدوار والوظائف المتفاعلة مع الإصلاح. وبمنهجية متكاملة وجامعة، قاربت موضوعة البحث، بالتأصيل لعمليّة التغيير، ووضع روابط ارتكازية جامعة للبعدين السماويّ والأرضي، من أجل الكشف عن جوهر الإصلاح المبتغى، المراهن على دور الشعوب وحراكها أولاً، دون إغفال الدور الفكري المتحقق بالنظريات ومعالمها، وجماعة النخب والقادة المؤثرين بصورة خاصة في تغذية أي مشروع حضاري ودفعه.
مع الكتاب
قسمّت المؤلفة الفصل الأول إلى محورين: في الأول تطرّقت إلى عناصر التغيير الداخلي، والثاني عناصر التغيير الخارجي، كمنطلقات وعوامل مولّدة لشرارة العمليّة التغييرية، وموقدة لجذوتها وحاملة لشعلتها الإصلاحية، وفق خطّة طريق واضحة المعالم يسيرة الأسس، رفيعة الأهداف والغايات..
وتنطلّق في معالجتها للمحور الأول من فكرة انبعاث أي عملية تغييرية ينبغي أن تنبثق من الذات، على مستوى الفرد، ومقوّماته الداخلية، فتحت عناصر التغيير الداخلي، تفرّق الباحثة “شمس الدين” بين مفهوم التفكير المرتبط بنشاط العقل، أو ببحثه عن إجابات لتساؤلات أو حل مشكلات، والإدراك كحاضنة أوسع في شموله لعمليات عقلية عديدة، والوعي المستلزم حضوراً لانتباه الفرد والتفاتته لاشتغالاته العقلية، في إطار الخصائص النوعية المائزة للعمليات الذهنية. وتنطلّق، من تلك العمليات لتعدد تأثيراتها ومردوداتها، كمداخل متنوعة وأساسيّة تصب في سنخ عملية التغيير، بمقدار وظائفها وعلائقها بنظم التصوّرات، والصراعات الناتجة عنها، وما يستتبعها من تبنّي للمواقف والسلوكيات، وتقول “منطقة الذهن الحية، تعتبر منطقة حيوية خطرة في نشاطها وتحتاج إلى تشريعات ضابطة، لانعكاس هذا الضبط تلقائيا على الفرد” وتعتبر “الأفكار إمامًا للعقل، والعقل بدوره إمامًا للقلب، والأخير بدوره إمامًا للجوارح والسلوك الإنساني”.
وترى أهمية العقل وفعاليته في إصابة الحقيقة، وضمان سيره باتجاهات سليمة، تتمثل في إضاءة سؤال” كيف وبماذا نفكر؟” فحدوث الاستيعاب له، شديد الارتباط “في بناء مرجعية معيارية وقيمية للفرد والمجتمع” وتُعدّ “شمس الدين” “ضبط المجال الإدراكي للإنسان ونظم عملية التفكير ومنهجيتها”، وطرق استخدامها وتوظيفها، من المداميك الرئيسية في تفعيل الدور القيادي الذاتي لعملية التغيير، والمادّة الخام لتجاوز حالة العشوائية الاجتماعية المهيمنة على مشهد التثقيف والتعليم، التي قادت إلى ما اسمته اليوم بـِ فوضى المعرفة، تقول “يتداخل في الفوضى المعرفية ما هو حقيقي واقعي مع ما هو موهوم”
وتعيّن “شمس الدين” مراحل عملية التفكير، الماثلة في: “مرحلة التكوين، مرحلة الربط والتوسع، مرحلة التطوير والنمو، وينضاف للأخيرة التفكير النقدي” فيمكن للفرد أن يخطيء بصدد المحسوسات والمعقولات، في تفسير الأخبار، في تشخيص العدو من الصديق، وفي التشخيص الصائب للفهم النظري والعملي للموضوعات، داخل هذا الإطار تضعنا أمام بوصلة التفكير النقدي، وتجد فيها “مرحلة متحركة، ذات مراتب مشككة، تعتمد على سير الإنسان في طريق تكامله العقلي والفكري، ومراكماته المفاهيمية، حول ذاته، ومحيطها، ومع السعي المنهجي السليم تريه الأمور أكثر قربًا من واقعها، الذي غالباً ما يصنعه عوام الناس من العادات دون مراجعة فاحصة” وما يترتّب على النخبة المتقدّمة، في مد جسور التواصل والانصهار الإنساني والتصويب والمساهمة في تعميق التجارب العامة وتطوير المعارف لدى الفئات المراوحة في نموها عند أولى المراحل، والانطلاق بهم إلى مدارج جديدة.
وتُجمل “الباحثة” العوامل المؤثرة في عملية التفكير وتشكيل الأفكار، في “التأثر بالبيئة الأسرية المحيطة، البيئة المدرسية والعناصر المكونة لها ببعديها الإيجابي والسلبي، البيئة الاجتماعية ومكوناتها، السلطة السياسية والدينية. وعن وظائف الدولة والأسرة ومحورية التربية والتعليم في تشكيل بنية الأفكار، المساهمة في بناء العقل فكريًا ومعرفيًا وفلسفيًّا، وصناعة الوعي، وتوجيه السلوك.” وفق منحىً تبادلي قادر على تشخيص الاحتياجات الفردية والمجتمعية وتبنّي المشاريع التوعوية في إطار البيت والمدرسة ومؤسسات الدولة، بوضع البرامج الجادة المواكبة للعصر، وتأهيل مدخلات العمليّة التعليمية، بإدراج الفلسفة كمنهج يهيئ الفرد لينخرط في البحث عن أجوبة الأسئلة التي تفرضها الماهيّة الجدلية المتُحرّرة لها، لتؤمن له طموحات النهضة.
وفيما يتعلّق بواقع الأنظمة والنظرية التعليمية، تصف “شمس الدين” واقعهما المنهجي بالمفلس والقديم، العاجز عن أداء مهمّاته الضرورية لتحقيق مخرجات متكاملة في جوانبها العقلية. وترجع سبب القصور الناتج بصفته مظهراً من مظاهر شكل الدولة فيما يخصّ الفضاء الجغرافي العربي والإسلامي، التي لم تستجب بحكم نظامها الوراثي أو الاستبدادي للشروط الموضوعيّة لخلق العقل النقدي، المُهدّد لبقائها واستمراريتها، وإن فعلت فلأجل جماعات انتقائية منحتها أفضل الفرص التعليمية؛ لتكون قوة تعبوية مجنّدة في أقصى تمثلاتها، لإدارة الصراعات المتخلّقة ضد الدولة، بتشريع من فقهاء مأجورين، أو بتغذية مقصودة للطائفية المفتتة لنسيج المجتمعات. وتقدّم صورتين مغايرتين للدولة إما حضارية، تُقرّ بالرأسمال البشري، أو سياسية تتقوّم بإكراهات ترافق الشعب، في وضع مُثقل بالظلم.
التفكير بين العقل الفلسفي والتلقين
تتحدّث “شمس الدين” عن ضرورة تأسيس تصوّر لا ينظر لأدمغة الأفراد كأوعية للملء والتخزين، وكأن العقل مادة محدودة، ومعلوم أنه مجرّد وطليق، ميّزة العقل هذه يمكن استثمارها كفضيلة ونعمة، بإعادة الاعتبار للفلسفة وتضمينها في المناهج الدراسيّة، تقول “الفلسفة تبني ذهنية برهانية قادرة على النقد ورافضة للحشو والتلقين وتبدأ بالسؤال والشك، لا بالمسلمات واليقينيات والاتباع دون وعي”
وإن ثورات ومناهضة الأفراد والجماعات، لأنظمة الحكم، ليست مجرد وسيلة ابتداعية للخروج من حالة هضم حقوقها، بل يتعيّن لإحراز نجاحاتها، اعتبارها، سببًا ووسيلة ومقصدًا، “وهو ما يتطلب من الشعوب الراغبة في التغيير ونخبها أن ترسم استيراتيجية بناء جديدة للدولة تكون التربية والتعليم مرتكزا أساسيا فيها وهي الثورة الحقيقية التي تنتج واقعًا جديدًا”.
التربية والتعليم وهدف التوحيد
وتلفتْ “شمس الدين” لموضوعة التوحيد ذي الدينامية المؤثرة، في تأسيس أفراد محكومين في مدى سيرورتهم وتطوّرهم، للخالق، لا للمخلوق، بإبراز وتعميق العقل الواعي بالوجود، الناشد ضمن حريته ووعيه وفطرته المجبولة لله تعالى وكماله، وتقول بأن “الاستبداد يقوم على ركيزتين معاكستين لميزتي النفس الإنسانية الحرية والوعي وهما القمع والجهل” وتضيف “التربية وسيلة لتحقيق الربوبية التامة، من خلال تقليل فرص هيمنة المستكبرين واتخاذهم ارباباً، وتمكين سلطة الله ومحوريته في الحياة” وترى افتقار عقل الفرد للنضج، بحيث لايوازي حجم صراعاته الداخلية، وشيوع التعبّد السلبي كان متجذّرًا عبر التاريخ، ولايفتأ يغذّي الانحرافات والجرائم بضراوة.
مصادر المعرفة ودورها في تشكيل بنية التفكير
وفق منطق تحليلي وتصنيفي تعدّد، “مصادر المعرفة في المدرستين الإسلامية والغربية، والأدوات الفاعلة في ترويجها، وهي، العولمة والتكنولوجيا والإعلام والتراث والتاريخ بكل مصادره، تؤطر البناءات الفكرية للأفراد وتنسحب على القطاعات السلوكية والمجتمعية، وخطوات ضبطها وتصويبها وغربلتها تُلزمهم بعمليّة التغيير بمعناها المشترك.
وتعرض الباحثة، “لأنساق الدين، الاعتقادي، والطقوسي، والمجتمعي”، وتقول “إن الشكل والوظيفة الاجتماعية للدين، مرتبطان بفهم شكل المجتمع وتطوره التاريخي، فدراسة الدين من خلال المحتوى التاريخي تساعدنا على رؤية وظائف الدين، إما على أنها عوامل مساعدة لتماسك المجتمع وإما عوامل مثيرة للصراع وذلك تحت تأثير الدين كاتجاه محافظ أو ثوري وهكذا”
من جهة ثانية تبيّن صور التناقض المرئية، في مفهوم الدين وتطبيقاته، العاكسة لقراءة بعض المرجعيّات الفقهية المُراد منها تطويع النصوص، واحتكار الفهم، لتسير بإتجاه تأكيد رغبات السلطة، ومصادرة أفهام الأفراد وتساؤلاتهم، حتى ليبدون غائبين عنها حتى الإمحّاء، فتمثيل الدين كجوهر البناء المجتمعي المطلوب، يقتضي الاعتراف بحق الآخر في طرح الأسئلة والمناقشة والاختلاف، وإن انتمى لخارج المؤسسة الدينية في تخصصه الأكاديمي، وتشجيع مسيرة المتعلمين الجدد، وعدم الوقوف على الماضي كمقدس ومعيق في مجمل الميادين الفقهية. وتقول “الدين كمحتوى إلهي معصوم لا إشكالية حقيقية فيه، لأن أصل وجود الدين وتشريعاته، جاء لخدمة الإنسانية وإرساء العدالة”
الدين وظمأ الإنسان إلى المعرفة
تطرح “شمس الدين” سؤالاً محوريًا، “ما هي حقيقة المعرفة، أي معرفة تلك التي تنظم حياة الإنسان وترشده للعيش الكريم؟” وتنتقد طرح “العلمانية” لدى بعض المنتمين للأوساط الفكرية النظرية، باعتبارها حلاًّ، لأنهم مدفوعين من تصوّر ضيّق يُخفي الآثار السيئة، إلى تلمسها بحمولاتها الثقافية والرمزية والهوياتية، دون مراعاة الفروق والخصوصيّة المميّزين لشعوبنا، وتعزو السبب “للتداخلات والتعقيدات المتشابكة والمتراكمة للمشكلات التي تداخل فيها السياسي بالمعرفي بالديني ليخنق الإنسان لا ليخدمه” وبالدراسة المتأنية المفصليّة لواقع تلك الميادين المتداخلة، المتكئة على فصلها وتمريرها في مصفاة النظر، لتبيين معايبها، واختراق أقنعتها، واعتبار الحقيقة مرهمًا لمداواة أمراضها لاحقًا، تقول “في ظل الفوضى وادعاء امتلاك الحقيقة لايمكننا زعم استحالة معرفة الحقيقة والحق، بل علينا امتلاك الجرأة والقدرة على مواجهة التحديات لمعرفة الحقيقة بقدر ما نمتلك من ادوات منهجية، فلن أدعي قدرتنا على امتلاك كل الحقيقة ولكنني اقول يمكننا الحصول على جزء كبير منها إذا قررنا ذلك” أما جماعات النخبة الدينية والفكرية فلاجتذابهم نحو رغباتهم، يمكنهم الحياد بمعارفهم لحساب مصالحهم الخاصة. بحسب رؤية “شمس الدين”.
وتضع الباحثة مواجهة الذات كخطوة أولى للتشخيص وكشف الميولات والمحفزِّات والتأثيرات ومتعلقاتها، لتكييفها بحيث تتوافق مع النموذج الفطري الأخلاقي. وتوسّل أفراد مستقيمين “تتقدم معارفهم ومصلحة الإنسان على مصالحهم” لخوض معترك “المواجهة والإصلاح. وتحملّ جميع التبعات على المستويات كافة.” وتُعلّق “شمس الدين” امتلاك تلك القدرة بدرجة واضحة، تعين في الإجابة عن السؤال المحوري المطروح. والحقيقة التي تؤكد عليها باستمرار “حاجة الإنسان إلى الدين كضرورة لا تنفك عن وجوده، فالإنسان بفطرته ينزع نحو المقدس، ويسكن إليه، المقدس للإنسان هو مصدر طمأنينته وسعادته”
الادراك المعرفي وأدواته
تشير إلى ضرورة العلم بمناهج التفكير، أو بما اسمته العلم الطريقي، “الذي يدرس مناهج الفهم ويوضح العلاقة فيما بينها وبين تأسيساتها القبلية، ومن ثم بين هذه التأسيسات وبين الفهم” الناظم لطريقة فهم النص الديني، في العالم الإسلامي، الذي أفرز مدارس “كداعش” في تعاملها الحرفي المتحجّر مع المصدر الديني، “دون مدخلية للعقل أو للزمان والمكان، ومداورة لتلك النصوص وإعادة موضعتها فيما يتناسب مع معطيات الحاضر”.
وفيما يتعلّق بعناصر التغيير الخارجي، توّضح شمس الدين أن “المرجعية المعيارية التي ينطلق منها صاحب المشروع، الخطوة الأهم في بناء أي رؤية ومنظومة، وتقصد بها مجموعة المعايير والضوابط التي تشكل مرجعية معرفية له على ضوء منظومته الفكرية وتؤسس لمشروعه لتشكيل البنى الأساسية التحتية التي سينطلق منها للبناء الفوقي.”
ووفق ذلك تحدد مدرستين متغايريتن تتصدّران المشهد وتشكلاّن شرائح عريضة من الأفراد في كنه العولمة وتداعياتها المؤثرة في تشكيل مفاهيمنا ومنظومتنا المرجعية. وهما، المدرسة الغربية والإسلامية، وتقول “هناك اختلاف كبير جدا بين الحضارتين أو المدرستين وهذه الفروق تكمن في القاعدة والبنية الفكرية والفلسفية لكليهما، والتي على أساسها يتم البناء الفوقي والانطلاق نحو كل العلوم والمعارف الفوقية.”
وتستلهم “شمس الدين” أطروحة الشهيد محمد باقر الصدر؛ لارتباطها بالرسالة الحضارية، لتقرّر أن الصدر يكشف لنا في معالجته المجتمعية المتسمة بالأصالة والإبداع، عن جانب هام بالقياس إلى عمليّة التغيير الاجتماعي، فيقارن من أوجه متعددة مكونات المجتمع وعناصره، لدى المدرسة الغربية الثلاثية الأطراف الرائية للإنسان والطبيعة والعلاقة بينهما، والمدرسة الإسلامية التي تضيف بعدًا رابعاً وهو الخالق. ويحلل القواعد الفكرية التي تنطلق منها المدرسة الغربية، الحريات في مجالاتها الفكرية والدينية والسياسية والاقتصادية، ومعرفتها المادية المنشأ في الحس والتجربة، هذا التصور يتعارض مع المدرسة الإسلامية التي تضيف العقل والنص لمصادرها المعرفية، فيختلف المثل الأعلى بالتبع لدى كل منهما، ففي الحضارة الإسلامية، يكون الخالق هو المثل الأعلى.
تقول “شمس الدين” “يرتبط المجتمع ذو التركيبة الرباعية كله معرفيًا ومنهجيًا بالله وصفاته ومنهجه، فيكون هو الأصيل والإنسان هو الوكيل، أي خليفة ترشح عنه الأصول، ومستخلفًا يتلقى الأصول ويستخدم عقله وتجربته في قراءة تلك الأصول” وتضيف عن المجتمع ذو التركيبة الثلاثية ” غيّب الله، فالإنسان هو محورها، ومصادر معرفته محصورة بالحس والتجربة، وهو مثل منخفض؛ لأنه هو من يضع المرجعية المعيارية فلا يمكننا الوثوق بموضوعيته، وتجرده، وصراعاته الداخلية، وتغليبه لمنافعه وعدم شمول رؤيته”
التعاطي مع مخرجات الحضارة الغربية
وترسم أطر التعاملات مع الحضارة الغربية، بما يوجب الحذر والتدقيق في معطياتها، وما يتدفّق عنها، فيما يتقاطع مع الأس الأهم وهو الخالق وتعاليمه. وقبول غيره فيما يسقط في خانة التبادلات العلمية، والانطلاق من الاحترام، والمماثلة المستقلّة لوجودنا، في مقابل وجودهم.
وتنتقل “شمس الدين” من إطار التشخيص المفهومي لمرتكزات الحضارتين، إلى مستوى البحث في عينات ونماذج حية، أي من البحث في تفاعلات “مفكرين غربيين منذ القرن السادس عشر حتى الثامن عشر، بدأت إزاء جبروت العهد الكنسي، وتملّك الإقطاعيين ومنها حركة الإصلاح الديني وحركة التنوير، والحركة العلمية والثورات الصناعية والسياسية، فهيمنت الفلسفة الإنسانية، لاستعادة دور الإنسان الذي تم تجاهله طوال العصور الماضية”
وحول تحقيق القانون هدف الاستقرار الاجتماعي المستديم، تقول “جوهر الاستدامة في الاستقرار الاجتماعي هو إحراز القانون للعدالة الاجتماعية، والعدالة لاتعتمد في تحقيقها على القانون والانضباط الاجتماعي فقط، بل تحتاج إلى الانضباط القيمي والمعياري والأخلاقي على مستوى الذات وهو ما يمكن تحقيقه من خلال بوابة التقوى”
وتحت مصادر التقنين، تقول “المرجعية الإلهية تنظم القوانين وفق أسس ثابتة وأخرى متغيرة وفق الزمان والمكان، تكون فيها الثوابت مرجعية لتلك المتغيرات، بحيث تشكل قواعد صالحة لكل زمان ومكان، وتكون المتغيرات في مصاديق تحقيق تلك القواعد الثابتة، وإن كانت كليات ثابتة مع تفاصيلها، فإن المحرك العملي هنا، قواعد كلية مرنة منتزعة من الشريعة، تعمل كمفصل مرن يجعل من هذه الثوابت صالحة لكل زمان ومكان، كقاعدة “لاضرر ولاضرار” على سبيل المثال”
وعن معيار الاستفادة من تجارب الآخرين البشرية الاجتماعية وما يتعلق بالتقنين، تشترط “عدم تعارضها مع القواعد الكلية للشريعة، ومع مقاصد الإسلام العليا، وتحقيقها لجوهرة القيم “العدالة” وعدم امتهانها لكرامة الإنسان ودوره الخلافي في الأرض”
وتعود إلى الشهيد الصدر من خلال السنن الاجتماعية وضوابطها، وتفصّل في أنواعها وتبيين مدخليتها في عمليات التغيير الاجتماعي، وتقول “تقدم السنن قوانين عامة تحكم مسارات التغيير، لكن حكمها ليس حكمًا جبريًا، بل إرشاديًا وقانونيًا، لكن القانون يعتبر قانونًا تكوينيًا، وليس تشريعيًا”.
وتتعرض عند الحديث عن التغيير بين الفرد والمجتمع، إلى آراء المفكرين والمدارس العريضة حول أصالة الفرد أو المجتمع، وتنتهي إلى نقد دوركايم ورؤيته المتطرفة تجاه أصالة المجتمع، وتخلص إلى كون “المنطلق من الداخل النفسي الفردي، ومن ثم تتسع دائرة النفس لتبدأ تأثيرها، في الأسرة ومن الأسرة تتسع لتنطلق إلى المجتمع” وتقول “إذا غير في نفسه ولم يستطع التغيير في اسرته، ولا مجتمعه، للتضاد في الأفكار والاهداف والقيم والمنطلقات، فإنه يركز على اسرته، وإن لم ينجح فهو مسؤول هنا عن النأي بنفسه، ويكون عمل ذا بعدين لايخضع لسنن التاريخ التي تتطلب توافر بعد ثالث وهو الساحة الاجتماعية”.
وتوّجه بشأن معوّقات عملية التغيير الاجتماعي، من “غياب الأسئلة الكبرى المشكلة للتفكير، وحب الذات من زاوية النظر لمعنى الخير والشر للأفراد، وموروثات الآباء والأجداد، والتنميط الاجتماعي للجماعات والأحزاب، وثقافة التقليد، وعدم وعي ضرورة التغيير.”
وتستدعي للإجابة عن سؤال محوري مطروح سلفًا، أي معرفة للأختيار؟. حواضن المعرفة وفوارقها المدرسية المتواجدة، في، المذهب العقلي، التجريبي، الإخباري، الإشراقي، والاصولي، وترصد أدوات المعرفة وسبلها، وحقيقتها، وتحدد معالم المنهج السليم لإرادة المعرفة القائم على أسس: البحث عن المعارف على قاعدة الدليل والبرهان، التسليم بوجود ثوابت حقيقية واقعية وفهمنا لها ليس كاملاً، أو مطابقا للواقع بل تتغير الأفهام بتطور أدوات المعرفة وتكامل القدرات العقلية البشرية مع التقادم، ضرورة معرفة وظيفة العقل وقدرته والإيمان بالذات وقدراتها، ومعرفتها، والتعامل مع الآخر بغض النظر عن الظروف الخارجية، يتم التعامل معه من موقع الندية المعرفية لا الذوبان المعرفي.”
وتبيّن أن “تحقيق الهدف من وجود الإنسان لا يتم إلا عن معرفة صحيحة، تدفعه لاختيار المنهج الاصلح، هذه المعرفة تطرح له عدة مناهج وطرق وأهداف، بالتالي يشخص هو بعد هذه المعرفة الأصلح من الأفسد ومن ثم تنبعث إرادته لاختيار السلوك المناسب وتطبيقه في الواقع الخارجي، لتحقيق هدفه والوصول إليه” وتحذّر قائلة “الاتباع والتقليد القائمين على المألوف الاجتماعي أو جبره على الانتماءات العصبوية بكل أشكالها، يحولان الإنسان إلى مقلد فاقد للاختيار، وهو ما يجسد يوم القيامة بقانون البراءة، حيث تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا، ولا يبقى آصرة حقيقية تربط الإنسان بالآخر إلا آصرة المعرفة المرتبطة بالنوعية والأدوات”
الفصل الثاني: الإصلاح ومعوّقات النهوض
تكشف “شمس الدين” عمّا يصاحب الحراك التغييري في تاريخ البشرية الطويل، من “إشكاليات تتمثّل في: غياب النزعة النقدية، والتخلف والاستبداد، والارتهان السياسي واعتبارات القداسة” ومن بداهة حدوث التغيير المعبّر عن إمكانات لامتناهية لمسيرة العقل الإنساني، نضير الحياة المتجددة، وتطوّراتها، توضّح الأبعاد الثلاثة التي تتموضع عليها حركة الإصلاح، “البعد الذهني الذي تتشكل فيه الأفكار المرتبطة بغايات الإنسان، والواقع ومتغيراته وأحداثه، والسلطة (دينية، سياسية، ثقافية، فكرية) ودخالتها في تشكيل الواقع”.
ويكتسب النقد لدى “شمس الدين” دلالات متعددة، منها ما يحمل “دلالة إيجابية، تنزع للوصول إلى الإصلاح في المنظومة الفكرية والمعيارية والقيمية للفرد والمجتمع، والمنهج والأدوات وآليات القيادة، الأفراد والجماعات والمجتمع، والقيادة بكل مصاديقها” كما يدل على “السلب” عندما يُراد به استعمال الوسائل النقدية الممكنة لمجابهة الحركة الإصلاحية، فالاستقلال والتمتع بحرية الفكر والخروج من حالة القصور والعجز عن استعمال الفهم، هو المعنى القوي الذي تلمح إليه كظاهرة في “المجتمعات الإسلامية، وخاصّة العربية والخليجية”
وتقرن في حديثها عن “الاحتياجات الفطرية للانتماء للجماعة” في المجتمع العربي والإسلامي، بمسائل “الأحزاب والقبليّات والسلطات” التي تقع في صلب رهانات “العنصريات” بإعتبارها مشغلاً مؤججًّا بالصراعات الصعبة، في مدار السياسة والدين والأعراف، لتدّعم وجود الأمة منطلقة من” فكرة التوحيد القرآنية، وتوسعتها، لتعميق مفهوم التعددية المذهبية، تحت شعار ومحور التوحيد “لله تعالى” وبدورها تخرجنا في مجتمع تعددي من المظلة الأيديولوجية المذهبية، إلى المظلة التوحيدية التي تتناسب وعالمية الامة الإسلامية” وترى ضرورة الطرح التكاملي في توجهات الأحزاب الإسلامية، بحيث تنبني في أدائها ومناشطها، على إلغاء الحدود الموضوعة لاكتساح السياسي للشأن العام، بتفعيل الثقافة والفكر المؤديان للتكوين الشخصي والتشكيل المعرفي للقدرات الشمولية.
وبعد توصيفها لأشكال الحكومات وما ينبغي مأسستها عليه، تنبّه فيما يخص “الإصلاح بين الأنظمة السلطوية وشبه السلطوية”، على وجود نظام يضمن للسلطة مجالات من الحظر، لايجوِّز مسّ مكانته، وتقول “إن الدول التي اقرت دساتير في منطقتنا هي دول شبه سلطوية، يتطلّب التغيير السياسي فيها للعبور نحو الديمقراطية المحققة للعدالة، والمناسبة لقيمنا وثوابتنا، فحركة الإصلاح مقدمتها الطبيعية، خضوع تلك السلطة للنقد والتقويم، وهو ما لا يتحقق إلا إذا امتلك أفراد المجتمع والشعب وعيًا بمنظومة المعايير والحقوق”
وتحدد ملامح “المنهج التعطيلي التوقيفي” في الخصوصيّة المشهدية للمجتمعات العربية والإسلامية، السائد أمام حركات الإصلاح، في “التربية على تقديس الرموز بطريقة غير عقلية، تمنع الفرد المستهدف من توظيف قواه العقلية بطريقة سليمة، ومنع النقد وتعطيله بحجة التكليف والقداسة، التي تمنع كل محاولة تقويم، ولا أنكر وجود التكليف في كثير من المسارات، ولكن أنكر توظيفه بما يشل قدرة الإنسان على التفكير والاستقلال في القرارات المتعلقة بمصيره وعلاقته بالله، ومنع التدوير الوظيفي والموقعي، فتعطّل طاقات الشباب، أو توظف بطرق غير سليمة وتبدأ عملية الانتكاس العكسي، وهنا يأتي دور النخب في قيادة المجتمع نحو حراك وعي”
أما “منهج النقد” المعادٍ للوثوقية المعلّبة، والمناويء للاستبداد بشتّى صنوفه، اجترحت ممارسته عند البعض مسالك خاطئة، تمثلّها “شمس الدين” بـِ “الصدامية من خلال الألفاظ المستخدمة، والتخوين الممارس بحق الآخر، ونقد من قال وليس ما قاله، وعملية النقد للرأي غالبًا شعبوية، لا تحمل مقومات النقد العملي، وتصدي من ليس أهلاً للنقد، والاسقاط الاجتماعي إما للناقد وإما لصاحب الفكرة”
وتُبيّن مظاهر الاستبداد في سلب الحرية تكون “على مستوى الدولة، و في الأسرة بفرض رأي الوالدين على الأبناء، وقمع آراءهم، وفي المجتمع، عندما يحاول الفرد ليصبح مستقيما فيما توارثه من عادات تخالف الدين والعقل، لينتهي معزولاً بسلطة القوانين الجائرة، و بإشاعة الخوف عبر الاعتقالات التعسفية، وبخروجه عن الثقافة التلقينية، وبتحكم السلطات بجهاز الإعلام لإشاعة وعي زائف يعارض صحوة الأفراد و بإهمال العلوم الإنسانية والفلسفية والمنطقية ذات المنزع العقلي الناهض، و بإدماج مؤسسات المجتمع المدني بما يخدم أجندات السلطة، و بتشويه جماعة المعارضة على مستوى الإعلام والقضاء، و بمشاريع تجارية ذات أهداف موهومة لاستنزاف أموال الأفراد، و بتطويع المناهج التعليمية في جانب العواطف غير المتزنة مع معايير التفكير”.
وتُشير إلى المجتمع المقهور ومواجهة التجديد، هذه الصورة الجامحة “للمجتمع المقهور” لتفادي حالة الإنفصال، التي بررّت الاتصال مع “الواقع الاستبدادي الخارج”، فتتخذ ولافتكاك المسلوب منها، الوجهة التعويضية، بما يهيأ لها الانتماءات الواهمة، من شأنها أن تبرز خاصيّة أساسيّة، في التعاطي السلبي مع المشاريع التجديدية، فإذا كان الانفصال يحقق الدلالة الثورية في مجاوزة الحالة التقليدية نحو نظام تقدمي، فإن تماهي تلك المجتمعات مع الاستبداد ، يشكّل شرخ مباغت، وطفرة عليلة في جسد الحراكات، “من خلال عدة طرق أهمها: انشائها شبكة علاقات مع المتنفذين في السلطة ومع المستبد لضمان تحقيق حاجاتها الخاصة، تدفع بعض أفرادها للانخراط في السلطة، لتحقق بنفوذهم ما تريد، المصاهرة وخلق شبكة أنساب مع المستبد ومحيطه واستغلال ذلك لتحقيق نفوذ أو مطالب معينة. هذه طرق يمكن من خلالها للجماعات المنكفئة على ذاتها تحقيق وجودها بشكل محاصّة قبلية لاتمت إلى الدولة وبنيتها بصلة”
تطلّ “شمس الدين” في “التقليد ودوره في صناعة التخلف والاستبداد” على القناعات المثبتة والعادات المتوارثة، فمن شأن الاشتغال على التربية المتسلطة كبت الإرادات وحجرها، في القلاع الأبوية المحصنّة، ليصبح الأبناء وعلى قدر اتساع تلك العلاقة، في تقلّص للمساحات الفردية، فخطاب الطاعة العمياء، يسلب الأبناء حقهم في تكوين وعي مفارق لإملاءات جماعة الآباء، فيُغبنون، في النماذج والمفاهيم المؤولة بما يتماشى، والمطابقة مع رمزية الأب، تقول “فيصبح من مقومات العيش الكريم، امتلاك الأموال، مقابل الولاء الكامل للمستبد، وامتلاك الأموال والرفاه المبني على العطاء المشروط، وإحراز منصب متقدم في السلطة، شريطة القبول بها، حتى لو كانت متعسفة، والحصول على مميزات وظيفية مقابل التعامل مع المستبد، وإمرار مشاريع فاسدة له من قبل هذا الشخص، من موقعه الوظيفي لتنفيع أصدقاء له بصفقات غير مشروعة”
في البدء والمنطلق
تُجسّد رؤية “شمس الدين” للبداية الإصلاحية، لحظة لقاء بين عالمين، عالم القول، وعالم الفعل، ففكرة المزواجة بينهما تبقى واسطة عقد في اختبار صدقية المصلحين، وجدوى دعواهم، في ردم فجوة التقابلات الحادة بين ما يدعون الغير إليه، وحقيقة امتثالهم له، فنبرة إصلاح الخارج يتعذّر تحصيله دون البدء من الداخل، حاضرة بكثافة في تنظير “شمس الدين” في هذا الكتاب. وتربط بين خطين متوازيين في المنهج النهضوي الإصلاحي، “الأول، البناء الداخلي للإسلام وسبر أغوار الإشكاليات التي اعاقت إبرازه كحضارة ونهضة مستديمة، في سيرورتها التاريخية واكتشاف نقاط الضعف ونقد الذات من موقع المتمكن، والمعتز بهويته الإسلامية، لا من موقع التابع والمنهزم، ومستفيدا من الحضارات الأخرى، وتجاربها في النهضة والإحياء، ويتطلب ذلك تفكيكا بنيويا داخل ديني ابستمولوجيا، نشخص من خلاله أهم مكامن الخلل المعرفية في إبراز معالم النهضة الإسلامية، بالاعتماد على قراءة تجارب مصلحين سابقين، والثاني، البناء الخارجي المتعلق بالحضارة الغربية والعوامل الخارجية، المؤثرة في عملية التغيير والاطلاع على كل اسهاماتها، وثمارها اطلاعًا علميًا لا تابعًا، ناقدًا لا مستسلمًا، مستفيدًا لا مستنكفًا، مدركا الفروق الجوهرية ومكامن خلل الاسقاطات والمقايسات بينه وبين حضارات أخرى”.
وتتعرّض لمفهوم الإصلاح، بمعنى “التنظيم والترتيب، وهو حركة تحدث تغييراً نحو الأكمل، أي حركة ديناميكية مستمرة، والمصلح هو الشخص أو المجموعة التي تقوم بعملية التغيير نحو الأكمل” وبعد معالجة أسباب “عدم التناغم بين عدد الشعارات الإصلاحية المرفوعة ضمن المطالب النهضوية، وبين غاياتها على ارض الواقع”، وعدم وضوح العلاقة التلازمية بينهما، بحيث يؤسس الشعار لمفهوم النمط الإصلاحي المُراد، ويدل تمتع الأفراد بهذا الفهم على نجاح الشعارات المرفوعة، تبيّن اختلاف أهداف حامليها، بين الذاتي، والسياسي، واختلاف مدارسهم المنتمين إليها.
وبعد مناقشة “دور القداسة الشخصية واعتباراتها الدينية والفكرية، في دفع مسيرة الإصلاح أو منعها” تنتهي إلى اعتباريّة تأثيرها، لتضع اتجاهات لمعالجة جذور تلك المشكلة: الأول “تفكيك الخطاب الديني، لإعادة بنائه دون التنازل عن ثوابته، ثم صياغة خطاب ديني تعايشي ليس تساهليًا، يضع الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على حروف مقتضيات الزمان والمكان، وجعل الفتوى، في خدمة البحث الفكري ومواجهة الشبهات القادمة مع العولمة، وإنكار سلطة استخدامها بما يجعلها نوع من الإرهاب الفكري المؤسس على تقديس التراث والنص دون إعمال العقل” و الثاني “إعادة إنقاذ النزعة الإنسانية للدين”، و الثالث “إعادة إنتاج خطاب الإعلام، على ضوء ما سبق ليتخلص من رواسب التعصب باسم الدين”
ترصد “شمس الدين” حركة الإصلاح في إنتاج المعرفة الدينية، من تجارب المصلحين، وتأثيراتهم في مجال الحياة الواقعية في سياق تصدّيهم للإصلاح وبناء أشكال مختلفة من تجليات الوعي الديني، وتُعّدد أبرزهم “الشيخ النائيني، والسيد محسن الأمين، والشهيد الشيخ مرتضى مطهري، والشهيد السيد محمد باقر الصدر، والإمام الخميني، ومحمد عبده، وحسن البنا، ومحمد اقبال، وجمال الدين الأفغاني، ورشيد رضا، وآخرين.” و”دور الوعي بالفارق، حافزا للسؤال عن سر التقدم الغربي كما عند رفاعة الطهطاوي، ودور الهجرات من الشرق إلى الغرب” الذي أوقف بعض الاعلام الوافدة، على إطار التحديث والمعاينة المبهرة المتفّوقة بأشواط عن محيطهم العربي، وكانت بمثابة محّركات للإعجاب وبواعث لمحاكاة الغرب، ولا تحصر قيام حركات التجديد على تخوم تلك الفترات التاريخية، بل ظلّت دائرة ومتعاقبة تحت مسميّات عديدة.
وتذهب “للمدارس التي برزت في الساحة المعرفية كردود أفعال في التعامل مع الثقافة الغربية: المدرسة السلفية، والحداثية، والتجديدية، والترقيعية، نتيجة للجدلية التي نشأت بين ما هو عليه راهن المسلمين وفهم الدين وبين المطالبين بالتجديد” وفي الحقل الديني، استعان المنادون بالتغيير، لإجلاء الدين من الفضاء التقليدي المتصلّب، وإعادة ترتيبه وعصرنته، بما يستجيب للتحديّات، عبر “مناهج المؤسسات الدينية، وبلورة رؤية إصلاحية، تحاكي الماضي، وتراكم عليه بالجديد والأصيل، وآليات التدريس الديني، وتطوير النظم الدراسية، وإعادة النظر في طرق الاستنباط الفقهي، وتجديد الاجتهاد لكي يغطي أكبر مساحة من الحياة بجميع مصاديقها، والفهم وأثره في بلورة الفكر الديني والنظرية الإسلامية”
الجبهات التي واجهها الإصلاحيون
وبقدر ما تشكّل التحولاّت والنقلات المعرفية، لحظات في مؤشر التميّز والانعتاق، وعلامة اعترافية على التقدّم في البصيرة، المغيّرة في مدى النظر ومألوفاته، فإنه يطرح في الوقت نفسه مشكلات ليس اقلّها تحدّي جبهات، تصدّ الوصول بإتجاه نجاح المشاريع التجديدية، ولا يغيب عن “شمس الدين” توصيفها، “جبهة داخلية تمثلّت في اختلاف الرؤى المطروحة، للإصلاح، لاختلاف الاهداف والغايات، والآليات، ودخول جدلية الأنا على خط الخلافات. وخارجية تمثلت في جهتين، التقليديون من العلماء والمتدينين الإسلاميين والمثقفين، والأكاديميين، والجماهير والعوام من الناس، وتحول الطرح العلمي إلى احتراب شخصاني، أطاح النظريات والحوارات العلمية من خلال قتل طارحيها اجتماعيًا، وفي داخل المؤسسة الدينية وإقصائه عن دائرة الحضور الاجتماعي والعلمي، مما أثّر على عملية الارتقاء العملي والفكري، ونشر ثقافة الخوف بين صفوف المصلحين وحدا بتخلف الكثيرين عن ثقافة الاختلاف والرأي الآخر، وإحلال بديل له وهو الإرهاب الفكري”.
وتشكّل سمات “المشروع الناشد للتجديد والإصلاح الديني” واحتياجاته بـِ “مشروع توعوي يركز على جانبي الفكر والعاطفة، ويعالج المغالطات بطريقة مرحلية ومنطقية، مع طرح بدائل، والارتقاء التدريجي بوعي الجماهير، وطرح الإصلاحات خصوصًا، فيما يتعلق بالشعائر الدينية، مع تقديم البدائل، وتبسيط اللغة في الخطاب، والابتعاد عن الشخصانية في الطرح العلمي الجاد، وإصلاح الأفكار لا الأشخاص، وفصل السياسي عن السلطة ونخبها وفقهائها، ومشروع إعلامي قادر على محاكاة الجماهير، وفق خطة فكرية مدروسة تستطيع إحداث تغيير مفاهيمي، والتنسيق الفعلي بين المطالبين بالإصلاح في الفكر الديني والاصلاحيين الحقيقيين المنطلقين من فهم واع يحافظ على عنصري الأصالة والخلود”
وتطرح “شمس الدين” سؤالاً “هل الحاجة إلى التجديد في الفكر الديني تعني وجود نقص في الدين؟” لتجيب، بقصور العقل من ناحية النظر في وصوله إلى جميع الحقائق والمسائل وإدراكها، ودلّلت على صور التباساته، ومحدويته، بالاكتشافات والنظريات العلمية التي يتم التخلي عنها لاحقًا، لتبيان خطأها وعدم جدوها، بعد عمل العقل عليها وإقرارها مسبقًا، وبالتالي هو محتاج إلى خالقه لقدرة أحكامه ووصاياه في تحقيق السلامة النفسية والمعيشية، وضمان سيره بالاتجاه الصحيح، مما يعني أنّ “القصور ليس في الدين كتشريع وكأفكار واقعية.” وتؤكد الحاجة لتجديد الفكر الديني، بالوسائل الخادمة لمجرى الزمن، ومقاصدها النهضوية، الصادرة عن إرادة لتحرير العقل من الانصهار التام في الحضارة الغربية، لتكوين الذات المتوازنة المستقلة المقيّمة لما يُطرح من الأفكار الوافدة.