النموذج وأثره في صناعة الوعي
وقفة مع علي عليه السلام
إيمان شمس الدين *
مقدمة
إن بعض الشخصيات التاريخية تشكل لنا نقطة انطلاق من الماضي نحو الحاضر، خاصة تلك الشخصيات التي أجمع عليها التاريخ بشخوصه الماضين كنموذج ومثل أعلى ، بل أجمعت الأحداث التاريخية على أهميتها في صناعة الحدث التاريخي الآني الزمكاني والمستقبلي وقدرتها على تأسيس منهجيات مستديمة في ثوابتها لكنها تحمل في طياتها ديناميكية حركية متطورة كما وكيفا مع تقادم الزمن.
نحتاج في قراءة الشخصيات التاريخية النموذجية إلى دراستها على أساس قراءة كلية بالنظر الى الزمان والمكان، وكيف يمكن الاستفادة منها كمنهج نقدمه نحن كسفراء لها نستطيع من خلاله التمثيل الصحيح .
والنظرة الكلية تتيح لهذه النماذج أن تتسيد كمنهج عملي وليس فقط كشخصيات أسطورية تبقى في عالم الخيال وترتكز في ذاكرة الأجيال على أنها صعبة التحقق والوصول لها بعيد المنال.
بل علينا أن نقدمها كنموذج يمكنه أن يتسيد مجتمعاتتا بطريقة عصرية للجيل تجمع بين الأصالة والخلود ، وتقدم بديلا حضاريا يجيب على كل تساؤلات الجيل ويمنحها أمنا فكريا وعاطفيا ونفسيا وسلوكيا بما يغنيها عن النماذج الفاسدة .
ويكون ذلك من خلال استقراء كامل لها في عدة اتجاهات:
١- استقراء البيئة الحاضنة -أي الأسرة -فننظر لما قدمته هذه الأسرة من منظومة قيم ومبادئ متكاملة ومتناغمة مع المنهج الاسلامي بثلاثيته العقدية والفقهية والاخلاقية وبما لا يتناقض مع مقاصده .
٢- استقراء لها كذات وشخص في ضمن هذه العائلة كمنهج فكري وسلوكي أسري ومن جهة أخرى في علاقتها مع الخالق الذي يؤسس لكل ارتباطاتها العلائقية.
٣- استقراءالشخصية في بعدها الرسالي وكفرد في المجتمع.
٤- أن ننظر للشخصية ضمن منظومة الاسلام المتكاملة كي نستوعب محوريتها ودورها في المنظومة الاسلامية .
فلكي نعرف ونطلع على جانب من شخصية علي ع علينا أن نعرفه كنموذج كامل حتى نرى أن الجانب الجزئي لا ينفصل عن الكل وأن صدق دوره الجزئي يعكس صدق الأصل.
لا نستطيع إبقاء علي ع في دائرة حزبية أو مذهبية ضيقة لأن ذلك يمنع من سيادته كنموذج في المجتمعات ، بل علينا أن نخرجه لرحاب الإنسانية الجامعة القادرة على استيعاب إما "أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق "، هذا الخروج يفتح آفاقنا نحو معرفة علي ع كما أرادها الله لا كما رسمته مخيلات البشر ، وهذا الخروج يخلق لنا آفاق خلاقة في فهم الأبعاد الوظيفية لشخصية الإنسان من خلال علي ع ، وبما يتناسب مع قاعدة "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " حيث يمثل علي ع امتداد رسالي عميق يجعله مصداق للرحمة للعالمين.
فالاطلاع على النموذج كمرجعية معصومة وكنموذج كلي يعطينا قدرة على تطبيق هذا النموذج على كل المصاديق ، آخذين في الحسبان الاختلاف في الزمان والمكان، ومتطلعين إلى الكليات والثوابت في هذا النموذج الصالح لكل زمان ومكان.
فعلي (ع) إذا أردنا أن نتعرف على جزء من شخصيته فيجب أن يتناغم هذا الجزء مع كافة الجزئيات المكونة للنموذج، بطريقة لا يتناقض فيها جزء مع أخر مما يشوه المنظومة الكاملة ، فعلي ع منظومة متكاملة من القيم والمبادئ المتناغمة مع مقاصد الاسلام ومساراته المتعددة.
فحينما نسلط الضوء على خصال علي ع فهذا يعتبر ثمرة لتراكم كمي ونوعي في منظومته المعرفية ، حيث الخصال السلوكية كمال ظاهري وكمال باطني ومعنوي يتألق بالروح أمام الخالق سيرا وسلوكا وفكرا، فيعصم العقل والفكر والقلب عن كل لهو وفراغ وترف وفرعيات وجزئيات ، إنها خصال سلوكية مادية ومعنوية ، جسدي وروحي وعقلي ، تراكم وتكامل في كل اتجاهات الشخصية العلوية ، فلا نستطيع التركيز على جزء واهمال الاجزاء الأخرى لانها ستضر بمنظومة القيم السلوكية .
وإذا ما أردنا النظر إلى جانب وظيفي من شخصية علي ع السلام ، فإن القيم الإنسانية تتجسد كاملة فيه ، فعلاجها للإشكاليات المعاصرة لا يقتصر على ظاهري لها ، بل يتعداه للعلاج الروحي والنفسي والمعنوي والعقلي بحيث يصبح العلاج هنا منهج متكامل يتعاطى مع كل مقومات الإنسان وجوانبه الروحية والعقلية والجسدية .
فالقوة المطلقة غير المقيدة لا يمكن تحقيقها بهذا الاطلاق واللاقيد إلا لله تعالى . ولكي تتنزل هذه السيادة السماوية للأرض فلا بد من وجود أوعية قابلة لهكذا نمط سيادي مطلق وغير مقيد، يكون مستخلفا واعيا ومدركا لكل حيثيات الاستخلاف الصحيح وفق إرادة الخالق لتكون هذه السيادة الأرضية في طول سيادته وليس في عرضها وتأتي بعد ذلك سيادة الخلق في الأرض من السماء وفق مراتب تتصل بمراتب الوجود.
النموذج الذي يسود هو القدوة التي تشكل مرجعية فكرية ودينية وسلوكية عبر الزمن ، والقرآن يجعل موقع القدوة بموقع الربوبية بمعنى التربية ، وهنا بالسيادة تتحقق الربوبية المتصلة بالتربية والربط بالنموذج الأكمل ، وكان صراع الانبياء مع المستكبرين عبر التاريخ في جزء منه هو صراع حول الربوبية المتصلة بإدارة الشأن والتنظيم والتربية .وكان المعصوم يرى الله ربا بمعنى انه المرجعية المعصومة في التربية .
عن النبي الأكرم : " أدبني ربي فأحسن تأديبي"
وأعاد الراغب الأصفهاني الربوبية والتربية لنفس الجذر اللغوي ، فقال في تعريفه ل ( الرب ) : " الرب في الأصل التربية ، وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام ".
ووظيفة النموذج الأكمل من أكبر الوظائف وهي الربط بين الأمة والله ، ووظيفة المثل المتبع لهذا النموذج هو الربط بين الأمة والنموذج ، أي أدوار تقع في طول بعضها البعض ويوكل لها وظيفة التربية التي هي لب الدعوة إلى الله كونها تربية في طول تربية الله وإرادته.
ومن أهم هذه الشخصيات هي شخصية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، والتي بالرغم من كونها شخصية جامعة لاتفاق أغلبي حولها إلا أنها تكتنز في داخل هذا الاتفاق اختلاف مذهبي حَجَّم من حَجْم هذه الشخصية العالمية الحراك والنهج والفكر ، وبقيت كشخصية محل قلق فكري وعلمي لغزارة ما تحمله من علم من جهة ، وللخلاف الذي دار حولها من جهة أخرى كان إطاره غالبا مذهبيا وليس فكريا وسياسيا وليس عقديا ومعرفيا للأسف.
التعصب والحق ومفارقات الاتباع:
كان من ضمن خطة العمل النبوية في بناء مجتمع عالمي قائم على أساس الحق والعُصْبَة هو التأسيس الرافض لكل أنواع التعصب والعصبيات التي تقوم على أساس ولاءات انفعالية ترتبط بمن تواليه ارتباط حراري وليس ارتباطا واعيا، وعل نظرة واستقراء لروايات نبذ العصبية تعطي انطباعا واضحا في الاهداف التي كان يريد النبي ص تحقيقها من خلال نبذ العصبية ، والتي أهمها بناء شخصية واعية ترتبط بالحق لا بالرجال.
فقد ورد في الكافي :
- عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، ودرست ابن أبي منصور ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله ) : من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربق الايمان من عنقه) .
- علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله ) : من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية) .
- علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، وعلي بن محمد القاساني ، عن القاسم بن محمد ، عن المنقري ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري قال : سئل علي بن الحسين عليهما السلام عن العصبية ، فقال : (العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم) .
فالتعصب يجعل الوعي منحسرا عن إدراكات النفس وقدرة العقل على استيعاب الحق والحقيقة ، فالمحرك يكون العصبيات بكافة اشكالها ، وبالتالي تكون النفوس محملة بقبليات تعمل على توجيهها بما هي محملة به من عصبيات .
فالمذهبية والقبلية والعائلية كلها عصبيات تلعب دورا في مليء عقول الجماهير بقبليات توجههم باتجاه العصبية المثارة ، فيصبح الحدث سواء كان سياسي أو اجتماعي- مسبقا بحكم في وعي الجماهير ومصبوغا به، فحتى لو كان الحدث حدثا حقيقيا وحقا فإنه سيتحول إلى باطل وسيتم القضاء عليه ومحاربته من قبل الجماهير بسبب المحمولات المسبقة والقبليات التي تم من خلالها توجيه عقول الجماهير نحوها .
العصبية تعمل عمل الحاجب بين العقل واستخدامه ، بمعنى أنها تعطل حركة العقل المعرفية والبحثية المصبوغة بهوس السؤال ، وتنمطه في إطار عصبوي مغلق في إطار خاص جدا موجه باتجاه واحد فقط ، يعيش في بئر لا يرى إلا مصدرا واحدا للماء والنور ، بعكس من يعيش تحت السماء بل فوق الأرض يرى من كافة الاتجاهات وفي كافة الاتجاهات ويضرب الرأي بالرأي ليصل بتجرد للحقيقة .
هذا فضلا عن كون العصبيات تكتنز في داخلها بذور الفتنة التي ما إن بذرت في مجتمع حتى انحدرت به بعيدا عن مصاف الدول المتقدمة ، وحالت بينه وبين حضارته بل وأسقطتها.
فعادة اللجوء للعصبيات يكون من قبل الرموز أو الدول الاستعمارية أو الأنظمة المستبدة غير المنتخبة من شعوبها والرعوية ، لتحقيق أهداف خاصة على حساب الاهداف العالمية، وإن حملت نداءاتهم شعارات الحق والحقيقة.
علي (ع) بين العسكرة والوعي:
موقف الإمام علي (ع) لا يخرج عن المنهج الذي أسسه نبي الرحمة محمد ص ، ولا عن الثقل الأكبر المتمثل بالقرآن الكريم .
كان عليا (ع) واضحا في صناعة وعي الجمهور ، فحينما أتاه رجلا من المسلمين في حرب الجمل في حيرة من أمره يسأله أي جبهة هي على حق : جبهة علي أم عائشة ؟
فبالرغم من أن الأمير عليه السلام هو الحق بإقرار النبي ص الذي قال الحق مع علي يدور أينما دار ، إلا أن عليا ع لعلمه بابتعاد المسلمين عن عصر التشريع ، وتراكم الانحراف في الوعي العام تراكما كميا وكيفيا ، أجابه إجابة تأسيسية - بالرغم من ان الظرف كان ظرف حرب وعسكر ويحتاج فيها كل عنصر وفرد وعادة في الحروب يكون التوجيه عسكري يغلب عليه التحيز والتعصب، لكسب عديي للجنود، ولصناعة وعي خاص يصب في صالح صاحب المعركة وحزبه وتوجهاته، ويتم صناعة تحيزات وتعصبات ترجح كفة جبهته بل في لحظات الحرب يتم توجيه الوعي توجيها عصبويا تحيزيا، لكن كانت إجابة علي ع تدلل واقعا على المنهج الاصلاحي وآليات صناعة الوعي في عقول الجمهوربعيدا عن العسكرة والتحيزات والعصبيات، للأخذ بهم إلى جادة الحق وتحقيق الهدف الرسالي، فقال له : اعرف الحق تعرف أهله ، حيث نستشف منهجا في كيفية تعاطي القيادة مع المحيط :
- استنهاض العقول في البحث عن الحق لا عن الاشخاص، وتظهير وعي المحيط بتطوير قدراته العقلية والبحثية.
- محاولة التخلص من القبليات العصبية كافة كي يتجه العقل بشكل موضوعي باحثا عن الحق لا عن القبيلة والمذهب.
- الحاجة للاتباع الواعي لا الارتباط الحراري، فقوله اعرف ولم يقل اعلم يدلل على أن المطلوب هو معرفة للحق واعية ، أي ليس فقط العلم به بل سلوك طريقه ومنهجه والالتزام بجادته على طول الخط الرسالي.
فكثر في محيط النبي ص ومنهم الخليفة الثاني كانوا يعلمون أن عليا أحق بالخلافة لكنها مجرد معلومات لم تدفعهم للتطبيق والاقرار السلوكي والعملي.
- رغم أن الظرف الذي طرح به السؤال هو ظرف حرب، إلا أن الأمير ع قدم نموذجا للقيادة المنضبطة بجادة الحق والقيادة الموضوعية غير الشخصانية القادرة على تأسيس استراتيجيات للفعل ومناهج للتفكير وليس انفعالات آنية غير مدروسة تحت ضغط الظروف المحيطة.
علي كحاكم وميزان القداسة:
العلاقة التبادلية بين الحاكم والمحكوم تشكل مسار العدالة وترسم معالمها. ويقع الثقل الأكبر في ذلك على وعي الشعب ومدى قدرته على رسم سلوك متزن في التعاطي مع الحاكم، بحيث يمنع هذا السلوك الاستبداد والفرعونية، لكنه في ذات الوقت لا يكون سببا للفوضى والفتنة.
وإحراز هكذا سلوك متزن يتطلب إرشاد مولوي، وتوجيه عملي من قبل شخصية لها ثقلها السماوي ودورها القيادي في الأرض.
ولأن الإمام علي عليه السلام كان له دور بارز في ترشيد الحكم، والتأسيس لعلاقة تبادلية ووظيفية قوامها العدل بين الحاكم والمحكوم القائمة على نظام الاستخلاف الإلهي الرُّتبي فكل من موقعه ووفق رتبته خليفة، فيأتي تسليط الضوء على بعض توجيهاته ومواقفه العملانية في هذا الصدد، لنستقريء من خلالها معالم الحكم الرشيد ومعايير تلك العلاقة وحدودها.
خاصة أننا نعيش في حقبة زمنية انتقالية بطيئة، يسير فيها الحاضر نحو تبدلات محورية في أنظمة الحكم أو في منهجها، وجل هذه التبدلات يتم رسمها وتخطيطها بإرادات وقوى تدفع باتجاه التفافات على رغبات الشعوب في التحرر وتحديد مصيرها داخليا وذاتيا دون تدخلات خارجية.
• الإمام علي (ع) و ملابسات العلاقة:
إن قراءة التاريخ لها أهمية كبيرة في استكشاف المنهج ورسم خارطة طريق للسنن وللاعتبار من تجارب الآخرين، والاستفادة منها كخبرة يتم مراكمتها على خبرات كثيرة، ترتقي بوعي الإنسان وتختصر عليه كثير من الظلامات والعذابات، من خلال عدم تكراره لأخطاء الماضين ومحاولته النهوض بحاضره بعقل متخلص من الوهنات والسقطات ومعبئ بكل ما هو جديد غير مكرور.
وتذكر لنا كتب الحديث موقفا للإمام علي ع تبين من خلاله شخصية الصلبة والفذة.
فعند وصول الإمام (عليه السلام) إلى أرض الأنبار- إحدى مدن العراق الحدودية- خرّ جمع من الدهّاقين ساجدين أمامه، بحسب التقاليد التي اعتادوا عليها، فغضب الإمام من فعلتهم هذه وصرخ فيهم: "ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا: خُلُقٌ منّا نعظّم به أمراءنا.
فقال: والله ما ينتفع بهذا أُمراؤكم، وأنّكم لتشقّون على أنفسكم في دنياكم وتشقّون به في آخرتكم، وما أخسر المشقّة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من النار".
وهذا النص :
. وقال(عليه السلام) وقد لقيه عند مسيره إلى الشام دهاقين الانبار، فترجّلوا له واشتدّوا بين يديه ( نزلوا عن خيولهم مشاة واسرعوا إليه )
مَا هذَا الَّذِي صَنَعْتُمُوه
فقالوا: خُلُقٌ مِنَّا نُعَظِّمُ بِهِ أُمَرَاءَنَا.
فقال(عليه السلام): وَاللهِ مَا يَنْتَفِعُ بِهذَا أُمَرَاؤُكُمْ! وَإِنَّكُمْ لَتَشُقُّونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِكْمْ [فِي دُنْيَاكُمْ،] وَتَشْقَوْنَ ، بِهِ فِي آخِرَتِكُمْ، وَمَا أخْسرَ الْمَشَقَّةَ وَرَاءَهَا الْعِقَابُ، وَأَرْبَحَ الدَّعَةَ مَعَهَا الاَْمَانُ مِنَ النَّارِ!
هنا تأسيس مهم من قبل شخصية كانت بموقع متقدم من الأمة والجمهور، بل هي في قمة الهرم، إلا أنه كأمير وكخليفة رفض أن يتم التعاطي معه بنفس طريقة التعاطي مع الجبابرة ولا كإله.
والمشقة التي ذكرها الامام علي ع كأحد ثمرات هذا السلوك في الدنيا، هي من وجهة نظري تكريس تمكين الحاكم من رقابهم واستحكامه في قيدهم كعبيد، بالتالي تحويله لفرعون عليهم لا يستطيعون نتيجة تعظيمهم له وتضخيمهم لذاته أن يقوّموا اعوجاجه أو يصوبوه إذا سلك باطلا أو هضم حقا أو سلب مالا.
هذا فضلا عن تربية النفس الإنسانية وتهيأة قابلية الإستبداد بها، بحيث تستقر في أعماق ولاوعي العقل القابلية للاستعباد والاستبداد، فتنكفيء فطرة التوحيد والعبودية لله وحده.
هذا السلوك الاجتماعي سيتحول لعادة ثم فرض واجب، ثم يصبح تدريجيا دينا يدين به الناس . وتتحول قابلية الاستبداد والاستعباد بهكذا أنماط سلوكية إلى تراث يرثه الأجيال ويرث به الحكام استبدادهم واستعلائهم على الناس.
بالتالي الناس من سيكون الخاسر الأكبر ، كونهم يؤسسون بذلك للظلم لا للعدل وسيشملهم هذا الظلم، بل سيقودهم سلوكهم ليكونوا أول ضحايا هذا الحاكم . هذا فضلا عن هدر كرامتهم والتضييق عليهم في عيشهم وانقيادهم كعبيد للحاكم لا لله.
ومن موجبات هدر الكرامة وامتهان الإنسان لإنسانيته أن تتحول وظيفته التي خلقها الله لأجله وهي الخلافة التي تكتنز الشراكة والرقابة والتقويم، إلى عبودية تكتنز الاتباع الأعمى وتكريس ثقافة القطيع والنعاج.
بل اعتبر هذا التعظيم أمرا لا ينتفع به الحاكم في شؤون الحكم، فوجود بطانة وظيفتها التطبيل للحاكم والتعظيم والتفخيم، أو ما يقوم به بعض المحيطين بالحكام من تدليس وتزيين للباطل والظلم هو مظهر من مظاهر السجود، كون حركة السجود في ذلك الزمان لها دلالات التعظيم والتفخيم والتسليم بعبودية للحاكم، وأي سلوك يحقق نفس الغايات هو سلوك مشمول في توصيف الإمام علي عليه السلام، وهنا الأمراء قد لا تخص فقط الحاكم، بل كل من له موقعية قيادية ونفوذ وسلطة يمكنه من خلالها التسلط والتحكم فإن التعاطي معه بنفس الطريقة سيكون مشمولا بتوصيف الإمام.
فتغير لغة الجسد لمجرد حضور أصحاب النفوذ والسلطة من أي جهة كانت سواء سياسية أو دينية أو اجتماعية، هذا التبدل الذي يوحي بدلالات القداسة والرهبة والخضوع وقابلية الاستعباد، هو ما يرفضه الإمام ويعتبره مشقة في الدنيا وشقاء في الآخرة وينهى عنه رغم أنه الإمام والخليفة .
وأما في الآخرة فسيكون حسابهم مضاعف رغم مشقتهم ومعاناتهم من الحاكم في الدنيا، كونهم من مكنوه على رقابهم وعبدوه دون الله، وأسسوا بسلوكهم أساس الظلم وصنعوا بذلك فراعنة وآله تعبد دون الله. وفي يوم القيامة يتبرأ هؤلاء المستبدين من كل من اتبعهم وأقرهم على سلوكهم.
والدّعة التي عناها هي عكس المشقة التي صنعوها بسلوكهم هذا، بالتالي تكون سلوك معاكس للسجود للامراء وتذليل النفس لهم، فيكون السجود لله والعبودية له وحده، والتعاطي مع الحاكم من موقع المسؤولية المشتركة التي يراقب فيها الناس الحاكم ومدى انتظامه في طريق الحق، وتأديته لحقوق الشعب وعدم ظلمه.
ورغم أن الرواية الثانية لا تذكر السجود لكنها تذكر سلوكا شبيها يحقق نفس ما يحققه السجود، وهو إظهار التذلل والانكسار أمام الحاكم . إلا أنها كلها سلوكيات تغير الهدف الوظيفي من الخلقة.
هذا فضلا عن مناصحته و اعتباره في موقع تكليف لا تشريف.
وهذا السلوك يحفظ قيمة الإنسان وكرامته، وحقه في العيش الكريم وضمن حدود العدالة الاجتماعية.
إن تصدي الحاكم لهذا السلوك بحقه وإرشاد الرعية لما فيه صالح دنياهم وآخرتهم، وحفظ قيمتهم الإنسانية وكرامتهم هو سلوك حكام العدل لا حكام الجور. وهو تأسيس لمنهج عام لعلاقة الحاكم والمحكوم، وعلاقة القاعدة والقيادة، وعلاقة العشيرة وزعيمها، وعلاقة كل مسؤول في موقع مسؤولية مع محيطه الذي يديره .
ولكن كيف أسس الإمام علي عليه السلام لعلاقة صحية متزنة بين الحاكم والرعية ؟
• خريطة طريق علائقية بين موقع القيادة والأتباع:
يقول في أحد خطبه للناس حيث يرسم فيها علاقة الحاكم والمحكوم :
لاَ تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاء، لاِِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللهِ وَ إِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ فِي حُقُوق لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا، وَفَرَائِضَ لاَ بُدَّ مِنْ إِمْضائِهَا، فَلاَ تُكَلِّمُونِي بَمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلاَ تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ، وَلاَ تُخَالِطُونِي بالْمُصَانَعَةِ، وَلاَ تَظُنّوا بِيَ اسْتِثْقَالاً فِي حَقّ قِيلَ لِي، وَلاَ الِْتمَاسَ إِعْظَام لِنَفْسِي، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوْ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ.
فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَال بِحَقّ، أَوْ مَشُورَة بِعَدْل، فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِىءَ، وَلاَ آمَنُ ذلِكَ مِنْ فِعْلِي، إِلاَّ أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي، فَإنَّمَا أَنَا أَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لاَ رَبَّ غَيْرُهُ، يَمْلِكُ مِنَّا مَا لاَ نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ، فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلاَلَةِ بِالْهُدَى، وَأَعْطَانَا الْبصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى.
وهذه الدعة التي أرادها الأمير عليه السلام، وهذه العلاقة التي رسمها بين كل قائد وكل من هو في موقع مسؤولية وبين القواعد والرعية او من هم في موقع انقياد، هي شراكة ورقابة ترتقي بوعي الناس حتى تصبح العدالة سلوك بديهي عام، فتترشح العدالة من القيادة للقاعدة وتنتظم القاعدة بوعي يقوّم اعوجاج القائد إذا خرج عن منهج العدل والعدالة، وبتحقق العدالة تتحقق كرامة الإنسان التي ترتقي بمعاييره وقيمه في بعديها المادي والمعنوي والجسدي والروحي وتصبح واقية له من الدناءة وكل ما يرتبط بها من سلوك وقيم.
فرفض الإمام من موقع الحاكم والقائد التالي :
١. الثناء على الحاكم لمجرد أدائه واجبه وحق الناس عليه.
٢. الخوف من قول الحق للحاكم في حال انحرافه أو خطئه أو مواجهته ومناصحته.
٣. مخاطبة الحاكم بطريقة مخاطبة الجبارين التي يطغى عليها التدليس والكذب والمجاملات وتضخيم الذات والمدح المذموم.
٤. المصانعة في مخالطة الحاكم والتحفظ منه كما يتحفظ عند أهل البادرة.
وطلب منهم كمنهج تأسيسي بين فيه أي حال يجب أن تكون عليه الرعية :
١. قول بحق.
٢. مشورة بعدل.
٣، عبوديتهم لله وحده فقط وملكه هو لهم.
وبذلك يكون منع تشكيل أي حالة نفسية وقابلية للاستعباد والاستبداد، ورشد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأظهر حقيقة موقع القيادة بكل مصاديقها وموقع المُقاد.
علي واقتفاء الأثر وتمظهرات الولاية:
إن الحب قرينه الاتباع والخضوع واقتفاء الأثر والإحياء هو بث الروح مجددا في الشخصية التي نعيش مناسبتها وإعادة قراءتها وفق مقتضيات زماننا ومكاننا، ومع تراكم العقل المعرفي الذي يستطيع استلهام المزيد من هذه الشخصيات التاريخية بما يعود بالفائدة على حياتنا فيحييها بهم واقعا وعملا .
إذا نحن بحاجة لإعادة تقييم وسائل الإحياء وأدواته ومحتواه ليحقق غاية الهدف من الإحياء بما يليق بهذه الشخصية العظيمة.
فالله تعالى يقول " تلك الأيام نداولها بين الناس " وحيث أن هناك سنن قرآنية وتاريخية تسير وفقها المجتمعات ، فإن قراءة تاريخ تلك الحقبة يجعلنا نقف على آليات استعمال تلك السنن وأثرها في كتابة التاريخ وصناعة تاريخ الأمم ، والانحرافات التي أدت إلى تشويه وانحراف مسيرة الأمة عن المنهج القرآني.
وقد قال الله تعالى :
" ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون"
ويقول الشهيد محمد باقر الصدر في رسالتنا بخصوص هذه الآية:
" بهذا يعلن الاسلام عن ضرورة ازدواج الفكر والعاطفة واجتماع العقيدة وما تتطلبه من ألوان الانفعال والاحساس حتى تدب الحياة في العقيدة وتصبح مصدر حركة وقوة دفع وليست مجرد فكرة عقلية لا يخفق ولا يستجيب لها الحس ولا تتدفقً بالحياة.
...
ثم يضيف قائلا : إن العواطف التي يرتضيها الاسلام للمسلم هي العواطف الفكرية أي العواطف التي ترتكز على مفاهيم فكرية معينة... أما العواطف السطحية المائعة التي لا تستند إلى مفهوم والتي يثيرها الاحساس أكثر مما يثيرها الفكر فليس من الصحيح للدعوة أن ترتكز على هذه العواطف لأن انتشار هذه العواطف المنخفضة الذي يؤدي إلى سيطرتها في المجتمع يشكل خطرا على الدعوات الفكرية التي تحاول الارتفاع بذهنية الأمة إلى المستوى الفكري والتسامي بها عن المشاعر المرتجلة والأحاسيس الساذجة""
فتمظهر الولاية والاتباع للشخصيات الإلهية يتحقق بالاتباع الواعي المدرك للحق والمتعلق بالحق لا بالأشخاص، فعلي مع الحق والحق مع علي تتطلب منا معرفة الحق حتى ندرك عليا عليه السلام وندرك رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله، وليس فقط اتباع عاطفي مذهبي عصبوي انفعالي قد يوقع صاحبه في الظلم، بل يوقعه في الخروج من ولاية علي ع .
العدالة في عهد علي (ع):
العدالة هدف استراتيجي للأنبياء والأوصياء والمصلحين، كونها مخ مسألة التوحيد، وعماد الاستقرار السياسي والاجتماعي والنفسي على مستوى الفرد.
وهي نواة إعمار الأرض واستخراج كل مواهب وقدرات وإبداع البشر في سبيل تحقيق التكامل والسير الوجودي في تطوير القابليات والقدرات البشرية.
وهي قيمة لها بعد إلهي من جهة وبعد إنساني من جهة أخرى، إلا أنها في بعدها الإلهي معصومة على مستوى النظرية والتطبيق، وتبقى في بعدها الإنساني عرضة للخلل التطبيقي وإن عصمت على مستوى التنظير.
وعصمتها على مستوى التنظير تكمن في وجود مرجعيات معرفية نصية لها معصومة ، سواء من القرآن أو ما هو موثوق و صحيح على مستوى السند والمتن.
ومن النصوص الحديثية التي تألقت في التنظير لقيمة العدالة على المستوى السياسي الدولتي هو عهد الإمام علي ع إلى مالك الأشتر حينما عينه واليه على مصر.
السند:
العديد من العلماء يصححونه سندا، لكنه ليس صحيحا على جميع النظريات الرجالية والحديثية، وبعضهم يرى أن السند يعاني من أكثر من مشكلة أهمها عدم إمكان توثيق الحسين بن علوان الكلبي، ووفقا لهذا الرأي أن السند الذي يذكر للعهد لا يوجد ما يؤكد أنه ينقل لنا نص العهد الذي في نهج البلاغة، لأن السند لم يذكر نص العهد بينما جاء نص العهد في النهج بدون سند، وبهذا يصعب التأكد من أن تمام فقرات العهد في النهج قد نقلت بالسند الموجود خارج النهج."انتهى إلى هنا هذا الرأي".
إن تركيزنا على العدالة وفقا لتعدد الآراء حول السند سيكون عاما حول نهج الإمام علي عليه السلام ، ومجملا بما فيه نص العهد بناء على تصحيح البعض له، وبناء على عدم تنافي أكثر نصوصه مع منهج الإمام ع في العدالة وفق ما نقل من توثيقات تاريخية حول عهد خلافته.
و يأتي الحديث عن العدالة في سياق حقبة زمنية انتقالية بطيئة، يسير فيها الحاضر نحو تبدلات محورية في أنظمة الحكم أو في منهجها، وجل هذه التبدلات يتم رسمها وتخطيطها بإرادات وقوى تدفع باتجاه التفافات على رغبات الشعوب في التحرر وتحديد مصيرها داخليا وذاتيا دون تدخلات خارجية.
هذا فضلا عن التمييز الذي تتصاعد وتيرته تدريجيا وببطئ في الداخل وعلى أساس مذهبي، والذي ستكون مآلاته ومخرجاته كارثية إذا لم يتم معالجتها بشكل جذري وسليم.
لماذا العدالة؟
تعتبر العدالة من المقومات الأساسية بل هي عمود ومحور تحقيق التوحيد الذي بعث الأنبياء والرسل لأجل تحقيقه على الأرض، وكانت أهم وسيلة لتحقيقه هو قيام العدل، والتوحيد ليس مجرد إيمان نظري بوحدانية الخالق، بل هو التزام نفسي وعقلي وسلوكي ومنهجي بالتوحيد سواء على المستوى الآني أو الاستراتيجي، كون نفي الشريك و الإقرار بالواحدية الأحدية الوحدانية لله تعالى، نظريا وعمليا له آثاره الدنيوية بل هو محور النظم في الدنيا وبوابته، فهو يحرر الإنسان نفسيا وعقليا من كل أنواع الهيمنة والسلطة والقيد التي تخرج عن دائرة الله وعدالته، وتجعل المثل الأعلى الذي هو الله المرجعية المعيارية في التقييم والنقد والتقويم، بما يصد كل أنواع النزعات السلطوية والاستبدادية وكل محاولات استعباد الإنسان لأخيه الإنسان.
فالتوحيد نظرية حكوماتية إلهية تؤسس لنظام غير استبدادي، يقوم محوره على العدالة، و قلبه ينبض بالرحمة، وأداوته القانونية تطبق بالتساوي على الجميع، وتؤمن بقيمة الإنسان وكرامته.
لذلك حوربت فكرة التوحيد سواء برفضها أو بتشويهها أو بحرفها عن مسارها الدنيوية وتطبيقاتها العملية.