الشيعة والدولة : العلاقة الملتبسة بين الواقع والمأمول
( الجزء الأول )
إيمان شمس الدين *
- مدخل
- مقدمة
- من هو الفرد الشيعي
- أهم العوامل المؤثرة في تشكيل عقل الفرد الشيعي
- السياسة والدين
- الشيعة والوطن والمواطنة
- ما هي المواطنة؟
- أهم الإشكاليات حول مفهوم المواطنة
- رؤية مقترحة حول المواطنة
- ما هو الانتماء؟
- تطوير مفهوم الدولة
- السيادة مفهوم ملتبس
- سؤال ختامي
مدخل:
- مقدمة
- من هو الفرد الشيعي
- أهم العوامل المؤثرة في تشكيل عقل الفرد الشيعي
- السياسة والدين
- الشيعة والوطن والمواطنة
- ما هي المواطنة؟
- أهم الإشكاليات حول مفهوم المواطنة
- رؤية مقترحة حول المواطنة
- ما هو الانتماء؟
- تطوير مفهوم الدولة
- السيادة مفهوم ملتبس
- سؤال ختامي
مدخل:
بعد ثورات الربيع العربي ظهرت على سطح المعرفة والتفكير الكثير من التساؤلات المتعلقة إلى حد كبير بالإنسان العربي المسلم بشكل عام والشيعة بشكل خاص،وأهم هذه التساؤلات بعد سقوط أنظمة استبدادية واستبدالها بأنظمة تتبنى الديمقراطية كمشروع سياسي للحكم كما هو في تونس ، وما تحمله معها الديموقراطية من مفاهيم كثيرة أهمها التعددية السياسية والفكرية والدينية والمذهبية ومفاهيم التعايش والتسامح والمواطنة والحقوق والواجبات والمساواة والعدالة والحريات بما يشكل في مجمله مشروع دولة حديثة تتكون من مؤسسات تحدها أطر القانون والدستور،بات واضحا لدى الفرد الشيعي وما يشكله بمجموعه من فئة قد تكون أقلية في دولة أو أكثرية في أخرى،ضرورة بناء نظرية المواطنة في منظومته الفكرية والدينية واستغلال هذا التغيير في صالح الاندماج في مشروع الدولة بل والمشاركة كشريك مؤثر في الفعل السياسي.
حتى في الدول السلطوية والشبه سلطوية طرحت تساؤلات كثيرة حول رؤية الشيعة للدولة وحدود وظيفتهم فيها، ودورهم في محاولات الاندماج والنهوض بأوطانهم، وهل المسؤولية تقع خاصة فقط عليهم في تفاعلهم مع أوطانهم، أو أن لكثير من الأنظمة دورا سلبيا في الانكفاء على الذات، وابتعادهم عن المشاركات السياسية أو إبعادهم قصريا عن ذلك؟
مقدمة:
يمكن من خلال استقراء التاريخ معرفة تطور الفكر الشيعي حول الدولة وعلاقة الفرد الشيعي بها، وهو ما يعكس المراحل التي مر فيها الفرد الشيعي والمؤثرات البيئية والثقافية والفكرية والسياسية التي رسمت معالم شخصيته وبالتالي وجهت سلوكه العام والخاص.وهو ما يتطلب إطلالة على أبرز هذه المؤثرات .
من هو الفرد الشيعي؟
إن الإنسان بشكل عام تشكل شخصيته أبعاد كثيرة أهمها:
١. البيئة وهي تشمل الطبيعة المحيطة به وبيئته الثقافية والفكرية والسياسية.
٢. التربية والتعليم سواء في الداخل الأسري أو الاجتماعي.
٣. الدين وتشكلاته وصيرورتها العقدية والاجتماعية كفهم تغلب عليه البشرية.
٤. نظام الحكم والدولة وموقع الفرد الشيعي فيها.
ويمكن أن نميز بين شخصية الفرد الشيعي قبل عصر الغيبة الكبرى وفي ظل وجود الإمام المعصوم وشخصيته بعد عصر الغيبة وتولي الفقيه للمسيرة من خلال فهمه للنصوص واستقرائه لها وتحولات الفكر الشيعي السياسي خلال حقب متتالية خاصة فيما يتعلق بعلاقة الفرد الشيعي بالمجتمع والدولة ونظرة الفقيه للدولة.
إضافة إلى ضرورة ملاحظة تشكلات الفرد الشيعي المتأثرة بالمجتمع العربي أو ما يطلق عليه العقل العربي والبيئة التي تحكمت في تشكلاته ورؤاه وأثرت أيضا على تكوينه و صيرورته، هذا التمييز يفيد من جهة اجتماعية من جهة وسياسية من جهة أخرى لمحاولة فهم بعض الإشكاليات وإدراك آليات حلها.
تؤثر كثير من العوامل في بناء شخصية الفرد الشيعي، خاصة في جانبه العقدي الذي يرسم معظم أفكاره حول الدين والحياة وعلاقة كل منهما في الآخر. وذكر أهم العوامل التي أثرت في تشكيل شخصيته هو استعراض لها سواء كانت لا تزال مؤثرة، أو غاب تأثيرها نتيجة التطورات الفكرية والمعرفية عبر الزمن، لكنها كانت مؤثرة ومازالت عالقة في بعض المناخات الشيعية كرواسب، خاصة إذا كان النظر في البئية الشيعية الخليجية بالذات.
أهم العوامل المؤثرة في تشكيل عقل الفرد الشيعي:
١.ثقافة الانتظار السلبي:
حيث تم بناء لبنات الانقسام عن المحيط من خلال
القراءة المبتورة للنص عن واقع النص الزماني والمكاني وقراءته في عمقه الفردي لا الاجتماعي رغم أن التشريع الإسلامي حينما نزل راعى المجتمع رغم أنه لم يهمل الفرد إلا أن غالبية التشخيصات كان لها امتداداتها الاجتماعية في الحكم والتشريع.
قراءة نصوص الانتظار بطريقة تعطيلية توقف حراك الفرد الشيعي واندماجه في المحيط و تناميه الحركي والفكري والثقافي إلى حين ظهور الإمام الغائب الثاني عشر في المنظور الشيعي.
وهذه الثقافة التراكمية أحدثت خللا واضحا جدا في العقل الشيعي وراكمت لديه ثقافة الانعزال .والرضا بالظلم الواقع عليه من قبل الدولة وعدم سعيه للدفاع عن كيانه ووجوده كفرد في هذا الوطن له حقوق وعليه واجبات، لانه اصلا لم يكن لديه قناعة بانتمائه لهذا الوطن بل يعيش فيه بقناعة كونه عابر سبيل ينتظر دولة الظهور ليأت الحجة ويرفع عنه الظلم ويقيم العدالة.وهذه الثقافة انعكست على رؤية الفقيه للدولة والمواطنة والانتماء وهو ما انعكس على الفرد الشيعي لما للفتوى من أثر كبير في حياة الفرد وسلوكه على كافة المستويات. بدأت تتلاشى هذه الفكرة السلبية تدريجيا وقد تكاد تكون انعدمت خاصة بعد الثورة في إيران وتصدي رجال دين شيعة الحكم وانقلاب الصورة تماما حول فاعلية الشيعة في الفكر السياسي المعاصر.
٢.الفتاوى الخاصة بالدولة :
بالرجوع لكثير من الفتاوى أو الاستفتاءات حول علاقة الفرد الشيعي بالدولة التي ينتمي إليها والمجتمع الذي يعيش فيه نجد أن الفقيه كان يركز خاصة في أجوبة الاستفتاءات المتعلقة بعلاقة الفرد مع الدولة على القراءة الفردية للحكم ولم يأخذ في حسبانه العمق الاجتماعي في ذلك ، وكانت كثير من الفتاوى تكرس ثقافة الانعزال باعتبارها أن الحكومات القائمة حكومات مغتصبة وغير شرعية بل كان هناك فتاوى تبيح التصرف ببعض أموال وممتلكات الدولة تحت عنوان مجهول المالك، وهو ما راكم لدى الفرد الشيعي قناعة عدم الانتماء للمحيط وكرس لديه ثقافة الانتماء للمذهب.فوقعنا أسرى الغلو في فهم التعاون مع السلطة فكما وقع السنة في فخ تفسير طاعة ولي الأمر والغلبة وعدم جواز الخروج على الحاكم، وقع أغلب الشيعة في فخ العداء مع السلطة وحرمة التعامل مع الحكومات باعتبارها حكومات مغتصبة وغير شرعية. وهذا لا يعني عدم تطور الرؤية الشيعية في الوقت الراهن، لكن تطور قد يكون تطور الضرورة تحت ضغط الظروف السياسية وتطورات أحداث المنطقة، ولكنه تطور جزئي ناظر لجزيئات حكمية حول القانون وأتباعه وعدم جواز شيوع الفوضى، لكن لم يرق إلى الآن إلى رؤية متكاملة لمشروع الدولة وكيف يمكن النظر إليها كرؤية إسلامية متكاملة، وقد يتجلى هذا الخلل في قضايا الأحوال الشخصية التي تمس حياة الفرد الشيعي، والتي مازالت عالقة دون وجود رؤية تعالج هذه المعضلة طمن إطار الدولة التي يتواجد فيها الشيعة.
ولا يخفى على القارئ الكريم اختلاف المدارس الفقهية الشيعية في موضوع الدين والسياسة و علاقة الفرد بالدولة وحدود هذه العلاقة، فالفكرة مازالت تعاني من التباس في بعض المدارس، و نضوج في أخرى، وهو ما يجعل أغلب الشيعة في الخليج في حالة مراوحة، ليس فقط على مستوى العلاقة مع الدولة، وإنما على مستوى طبيعة الدور في الدولة وآليات الإصلاح فيها.
٣.المظلومية:
عاش الفرد الشيعي هاجس المظلومية الذي كان واقعا عليه في فترة زمنية لها ظروفها السياسية والتاريخية والاجتماعية الخاصة.
فرغم أننا لا ننكر كم الظلم الذي وقع على الشيعة في التاريخ ، إلا أنها فترات كان لها خصوصيتها السياسية المتعلقة بهاجس الحكم والصراع التاريخي على أحقية من يتسلم زمام السلطة، والذي كان ينعكس على سياسات الحكومات القائمة في تضييق الحصار بكافة مستوياته على الشيعة إلى حد يصل للتضييق العقدي .
إضافة إلى قراءة تلك الحقب التاريخية من قبل كثير من الفقهاء والمنابر الحسينية قراءة سلبية تشيع روح الانهزام والانزواء وتنمي شعور المظلومية الذي زاد من عزلة الفرد الشيعي وزاد لديه الإحساس بالتمييز عن الشريك في الوطن مما نمى لديه شعور الوحدة لا التعدد والرفض لا التعايش والاندماج. رغم أن تلك الفترة تقريبا انتهت بزوال بنو العباس وبدأ تدريجيا يتنامى الوجود الشيعي فينشط فترة ويخبو فترة وفقا للظروف السياسية التي غالبا ما كان الصراع فيها على الحكم يلعب على التمايزات المذهبية في المجتمع ويستخدم سلاح الفوبيا من الشريك في الوطن وكان غالبا الشيعة الحلقة الأضعف لظروفها التاريخية التي كانت تسهل لدى الحاكم استخدامهم كأداة سهلة في ذلك. ولا يخفى أيضا حالة الرفض الاجتماعي التي عاشها الفرد الشيعي في فترات متفاوتة نتيجة تشدد السلطة وتوجيه الإعلام في شيطنة الشيعة بشتى الوسائل، مما حدا بتكريس ثقافة الانعزال، والتقوقع المذهبي لفترات طويلة.
هذه القراءة عمقت لدى الفرد الشيعي قناعة الانعزال وعدم التفاعل والمشاركة في الوطن وتحوله دوما إلى صفوف المعارضة، إضافة لممارسة أنظمة الحكم ممارسات تعسفية ضد الشيعة تلجأ لها كخيار سياسي حينما يتعرض سلطانها للزوال أو محاولة المصادرة.
ولا يخفى علينا أدوار بارزة لعبها فقهاء بعض الشيعة في المنطقة في مواجهة تعسف السلطات واستئثارهم بالثروة، أو استسلامها للمحتل بطريقة تضر بمستوى الفرد المعيشي، المجدد الشيرازي،
وثورة العشرين في العراق، وثورة الإمام الخميني في إيران، وكلها وإن اختلفت في حيثياتها تدلل على تطور في فهم الفقيه لعلاقة الدين بالسياسة، إلا أن اختلاف المدارس في هذه الجزئية تطورا في فترات الخلاف كما حدث مع الشيخ النائيني حول كتابه تنبيه الأمة وتنزيه الملة.
٤.القراءة المذهبية للنصوص:
تم التركيز في قراءة النصوص الحديثية والتاريخية على القراءة المذهبية التي كانت تعمق الخلاف المذهبي وتحويل التاريخ من مصدر ملهم للمستقبل إلى مصدر لتكريس هوة الخلاف بين المسلمين على قضايا تاريخية و نصوص حديثية تعامل أصحابها أنفسهم معها بروح عالية من المسؤولية وتجاوزها لأجل غايات ومقاصد أسمى رسخت حياتهم نموذجا للتعايش والاندماج في المحيط .
إلا أن هيمنة هذا النمط على العقل الشيعي كرست لديه قناعة الانعزال ونمت لديه روح العداء للآخر حتى لو كان شريكا في الوطن، إلا أن العلاقة التي تحكم بينهما هي الفوبيا والهاجس من الآخر وهو ما يكرس حالة العداء وما لهذه الحالة من انعكاس سلبي على التعايش والاستقرار الاجتماعي،
٥. الانغلاق الفكري والمذهبي :
أي محاولات فكرية كانت تنهض لقراءة النص التاريخي والمذهبي بطريقة خارجة عن المألوف الشيعي كانت تواجه بالقمع المتسلح بالفتوى، وهو ما رسخ حالة التبعية وشل من الحراك العقلي الفكري الحر الذي يتيح للفرد أن ينطلق في فضاءات حرة للبحث عن الفكرة في جو الزمان والمكان والعصر لا في حدود النص الخاصة بظروف مضت مما جمد العقل لحساب النص، وخلق لدى الفرد الشيعي حالة التقليد والاتباع السلبي أو ما يسمى بتقليد المقلدة، هذا إضافة لحديث الفئة الناجية الذي كرس من حالة التعالي على الآخر، من خلال تجيير الأدلة وتأويلها بطريقة تؤكد وترسخ فكرة أن الفئة الناجية هم أتباع مدرسة أهل البيت ع وما لهذا الفهم سواء من السنة أو الشيعة من آثار إقصائية سواء داخل حدود الوطن الجغرافي أو داخل معالم الجسد.
٦. طرح مشاريع إصلاحية لم تأخذ بالحسبان تهيئة القابليات بل اصطدمت بما تحمله من مفاهيم مغايرة لقناعات العقل الشيعي المتراكمة زمانيا مما عرضها للرفض جملة وتفصيلا وقتل بذلك المشروع وما يحمله من أفكار إصلاحية وأدخلها في دائرة الرفض المطلق في وعي العقل الشيعي وأقصاها حتى عن ساحات التفكير والتثوير الفكري.
هذه أهم العوامل التي شكلت بيئة عقل الفرد الشيعي والتي كرست من عزلته عن المجتمع المحيط وعدم الاندماج في مكونات الدولة والتواجد في مراكز متقدمة فيها يكون له من خلالها دورا فاعلا في البناء ومنع الفساد.
إذا نحن أمام إشكاليات متداخلة :
١- رؤية الفقيه عن علاقة الدين في السياسة، وبالتالي وظيفة الفرد الشيعي فيها وعلاقته بها.
٢- الفرد الشيعي كمواطن وعلاقته بمجتمعه ووطنه.
٣- الدولة وعلاقتها بالشعب.
السياسة والدين :
في موضوع السياسة والدين لدينا مدارس فقهية شيعية متعددة، لا تتفق في حدود العلاقة و يذهب بعضها إلى الفصل التام بينهما، وكل مدرسة تقدم في ذلك أدلتها.
١- مدرسة تفصل الدين عن السياسة تماما، وتجد أن الأصل في وظيفة الفقيه هو التعليم والتدريس ونظم شؤون الناس لتكون وفق الأحكام الفقهية، فيكون مجال اهتمامها في الإطار الحوزوي.
٢- مدرسة ترى أن الفقيه يمارس فقط دور النصيحة للحاكم، ويشارك في الشأن العام ويكون له ولاية جزئية تتعلق بالأمور الحسبية والأحوال الشخصية.
٣- مدرسة لا ترى أي فصل بين الدين والسياسة، وتجد أن على الفقيه التصدي لقيادة الدولة، و تنظيم دستورها على ضوء الشريعة الإسلامية.
وكون وظيفة الفرد الشيعي العادي التقليد، وعدم الفصل بين تقليد الفقيه في الأحكام الشرعية و تقليده في آرائه وأفكاره العامة، فذلك أيضا أوجد فِرٓق داخل الشيعة تختلف في رؤيتها حول الدين والسياسة، بالتالي تختلف حول حدود وظيفتها في الوطن، وعلاقتها بالسلطة.
الشيعة والوطن والمواطنة:
الأسئلة التي دائما ما تطرح نفسها في هذا المضمار هي :
١. ما هو الوطن ؟ هل هو للجغرافيا "قطرية"؟
٢. كيف نوائم مفهوم الوطن مع مفهوم الأمة ليكون لدينا تأسيسات خاصة مقبولة اجتماعيا والمتناسبة مع هويتنا و تأسيساتنا الشرعية؟
أهم الإشكاليات حول مفهوم المواطنة:
- محمولات المصطلح المتعلقة وبيئته التي انطلق منها الوعاء المعرفي الذي تشكل فيه، فتطور هذا المفهوم يعود للثورة الفرنسية العلمانية عام 1789 م وما تلاها، وقد ارتبط مفهوم المواطنة بالتطور السياسي في المجتمع الغربي حيث انتقل النظام من السلطة المطلقة الممنوحة للحكام بغير ضوابط إلى فكرة العقد الاجتماعي الذي قضى على سلطان الكنيسة، والذي انبنت عليه الدولة الحديثة في ثوبها العلماني القومي، وخاصة بعد تهميش الدين في نفوسهم وتحويله إلى مجرد شكليات و طقوس تؤدى في زمن محدد ومكان معين، ثم لا يكون لها خارج الوجدان الذاتي أدنى تأثير، والتي انتهت بكثير منهم إلى الإلحاد، وقد كان ابتداع فكرة المواطنة بمثابة حل للصراع القائم بين أصحاب التعددية العقدية والتعددية العرقية في المجتمع الغربي.
فالمفهوم عادة يتشكل من وعاء بيئته ومحيطه الثقافي، وانتزاعه من هذه البيئة وزرعه في بيئة مغايرة، يخلق نوع من الفوضى المعرفية في بنية العقل وخلل مفاهيمي يتبعه خلل في التطبيق،
ولكن ما هي المواطنة:
المواطنة لغة:
لفظ المواطنة لغة مأخوذ من مادة "و ط ن"
لكن ليس على المعنى المصطلح عليه، وفي لسان العرب: "الوطن المنزل تقيم به وهو موطن الإنسان ومحله والجمع أوطان،
المواطنة اصطلاحا:
ورغم أن مصطلح المواطنة لم يوجد على هذه الصورة أول أمره بل أخذ يتطور وينتقل من مفهوم إلى مفهوم، بحيث لا يمكن الوقوف على تعريف جامع له، إلا أنه ينظر للمواطنة بوجه عام في التعريف السياسي الحديث لها على أنها علاقة قانونية بين الفرد (المواطن)وبين الوطن الذي تمثله الدولة بسلطاتها الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، حيث تنظم القوانين السائدة هذه العلاقة، والتي تقوم على أساس الانتماء لوطن واحد خاضع لنظام سياسي واحد.
المواطنة في الموسوعات:
وقد نصت كثير من الموسوعات كدائرة المعارف البريطانية والموسوعة السياسية لعبد الوهاب الكيالي، وقاموس علم الاجتماع لمحمد عاطف غيث على أن المواطنة علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من حقوق يتمتع بها وواجبات يلتزم بها، انطلاقا من انتمائه إلى الوطن الذي يفرض عليه ذلك، ومن هنا يتبين أن المواطنة أضحت فكرة وتصورا تنبثق منها الحقوق والواجبات وتتحدد على أساسها الالتزامات، وتحولت بذلك إلى أيديولوجيا يلتف حولها الأفراد في الوطن الواحد على اختلاف لغاتهم ومللهم ونحلهم.
وانطلاقا من مبدأ المواطنة يصير جميع الأفراد (المواطنين) في مركز قانوني واحد، فما يجوز لفرد يجوز لجميع الأفراد، وما يمنع منه فرد يمنع منه جميع الأفراد.
يقول د/يحيى الجمل: "بوضوح وبإيجاز شديد، يعني مبدأ المواطنة أن كل مواطن يتساوى مع كل مواطن آخر في الحقوق والواجبات، ما داموا في مراكز قانونية واحدة... إذا صدرت قاعدة قانونية تقول إنه لا يجوز للمصري غير المسلم أن يتولى منصبًا معينًا أو ألا يباشر حقًا سياسيا معينًا فإن هذه القاعدة تكون غير دستورية لمخالفتها مبدأ المواطنة... إن حق المواطن بصفته مواطنًا أن يدخل أي حزب شاء، أو أن يلي أي منصب عام تنطبق عليه شروطه لا يرتبط بكونه منتميا إلي دين معين، أو أنه بغير دين أصلاً. فمن حق المواطن أن يكون مواطنًا حتى ولو لم يكن صاحب دين سماوي من الأديان الثلاثة المعروفة"
ويعدد علي خليفة الكواري مقومات الحكم الديمقراطي فيقول : "ثانيتها: مبدأ المواطنة الكاملة المتساوية الفاعلة, واعتبار المواطنة -ولا شيء غيرها- مصدر الحقوق ومناط الواجبات دون تمييز، وأبرز مظاهر المواطنة الكاملة هي تساوي الفرص من حيث المنافسة على تولي السلطة وتفويض من يتولاها، وكذلك الحق المتساوي في الثروة العامة التي لا يجوز لأي أحد أن يدعي فيها حقا خاصا.
أما د/ منى مكرم عبيد، فبعد أن نقلت عدة تعريفات للمواطنة عقبت على ذلك برأيها في معنى هذه الكلمة وما يترتب على الأخذ بها فقالت: "وبوجه عام يمكن القول أن المواطنة تعني "العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع بما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وهو ما يعني أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية بدون أدنى تمييز قائم على أي معايير تحكمية مثل الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي أو الموقف الفكري"
إذا من الممكن القول أن أهم عناصر المواطنة وفق التعريفات الغربية والعربية لها كالتالي:
١. علاقة قانونية بين فرد ودولة
٢. أساسها الاشتراك في وطن واحد
٣. وجود حقوق وواجبات متبادلة بين الفرد والدولة
٤. الوطن مصدر الحقوق والواجبات ولا شيء غيره
٥. المساواة بين الأفراد (المواطنين) جميعهم على قاعدة الاشتراك في الوطن.
٦. خضوع الفرد والمجتمع للدولة بمؤسساتها الدستورية والقانونية والالتزام بها
٧. استبعاد الدين من هذه العلاقة القانونية استبعادا مقصودا.
من أهم الإشكاليات التي تطرح على مفهوم المواطنة:
- اعتبار المرجعية الأساس في صياغة الحقوق والواجبات والقوانين لتحقيق المواطنة مرجعية العقل البشري، وهو ما يعرض هذه المنظومة أصلا للأهواء والاستمزاجات الشخصية بما لا يحقق العدالة ولا يتناسب مع ما تبنته الشريعة الإسلامية. وكون تشريع القوانين مصدره الدولة بالتالي تصلح ملزمة للمواطن، حتى لو خالفت ما يعتقده من تشريعات دينية.
- المساواة التامة بين جميع المواطنين بما فيهم أصحاب الديانات الأخرى ، والذين وفق الرؤية الإسلامية لهم أحكام خاصة، ووفق مفهوم المواطنة الحداثي تذوب هذه الأحكام وكأنها شيئا لم يكن.
- التركيز في مفهوم المواطنة على الحدود الجغرافية بمعنى أن الهوية أو ما يسمى الجنسية هي التي تحدد مواطنة هذا الشخص فيصبح له حقوق وعليه واجبات حتى لو كان قادما جديدا على هذه الدولة ، بينما من لا يملك هذه الهوية ولو كان له عشرات السنين مقيما في هذه الدولة فليس له الحقوق التي تحق لحامل تلك الهوية. وهو خلاف العدالة والإحياء.
- تقليص الانتماء في مفهوم المواطنة الحداثي إلى حدود جغرافية تشكل حدود الوطن ، بحيث يتحول هم الفرد من دائرة الأمة إلى دائرة الوطن، وهو ما يقلص اهتمامات الفرد والدولة لتصبح اهتمامات محلية لا شأن لها بما يحدث في قطر آخر مجاور بما يتيح للدول القوية الهيمنة والسيطرة والتدخل تحت هذه الشعارات وضمن هذه القوانين التي أقرتها المواطنة.
حيث يقول .... "المواطنة انطلاقا من تقيدها بالوطن وانحصارها في الأفراد الذين يسكنونه فإن معانيها ودلالاتها تختلف من بلد لآخر، وتنحصر في الحدود الجغرافية لكل وطن، فليس لها صفة العموم والشيوع، فالإنسان لا يعامل معاملة (المواطن) ولا يتمتع بحقوق المواطنة إلا داخل حدود دولة يحمل جنسيتها حتى لو عاش أغلب حياته خارج حدود الوطن، بينما الإنسان الذي لا يحمل جنسية دولة ما لا يتمتع بحقوق المواطنة فيها وإن جلس عشرات السنين، أو قضى عمره كله فيها يعطيها من فكره و عقله وجهده.
وأصحاب الفكر الديمقراطي لا يرون معنى حقيقيا للمواطنة إلا في دولة ديمقراطية ليبرالية، كما أن أصحاب الفكر الاشتراكي لا يرون معنى حقيقيا للمواطنة إلا في دولة ديمقراطية اشتراكية.
والمواطنة بالنسبة للمسلمين تمثل دعوى للتفريق و التشتت والتقوقع، فيكون هناك ولاء من الفرد (المواطن) لوطنه يلتزم بقوانينها ويدافع عنه، ولا يتعدى ذلك إلى محيطها الأوسع وأمته المترامية الأطراف، لأن المواطنة مرتبطة بأبعاد جغرافية محدودة لتحقيق منافع دنيوية.
وبتبني المواطنة والدعوة إليها تزداد عوامل الانعزال بين أوطان الأمة الواحدة، وانطلاقا من هذه المواطنة المحشورة في الوطن أفتى بعض المنسوبين للعلم، المسلمين في الجيش الأمريكي-عندما اعتدت أمريكا على أفغانستان-بجواز الاشتراك في مقاتلة المسلمين في أفغانستان، ومن قبل ذلك بعقود في بداية القرن العشرين الميلادي قامت في مصر دعوات مناهضة لاشتراك المصريين في مساعدة إخوانهم الليبيين ضد الاحتلال الإيطالي، فالمواطنة تفرق بين أبناء الأمة الواحدة وتجعل للمشاركين في الوطن المسلم-من أهل الديانات المباينة له-حقوقا ليست للمسلم من وطن آخر، مما يمثل إعلاء لرابطة المواطنة (الوطن) على رابطة الدين (الأمة)، وفي هذا مخالفة صريحة للنصوص الشرعية التي تعلي رابطة الإيمان وتجعلها فوق الروابط جميعها، فهناك روابط كثيرة تربط بين الأفراد كرابطة الأبوة والبنوة والأخوة والزوجية، والعشيرة والمال والتجارة والمساكن والأوطان، لكن لا ينبغي أن تقدم رابطة من تلك الروابط على رابطة .
فالوطن ليس بقعة جغرافية يحدد من خلالها الانتماء والولاء، بل هناك دوائر للمواطنة وفق منظورنا الإسلامي والعروبي، ووفق ما يتناسب مع إرثنا الثقافي:
١. المنطقة المحيطة والممتدة كـإقليم تجمع أفراده كثير من الثقافات والهموم والمصائر المشتركة بما يشكل بمجموعه مفهوم الأمة.
٢. الانتماء السياسي: وهي الحدود الجغرافية القطرية التي يحمل الفرد جنسيتها وتتمثل له وفقها مجموعة من الحقوق والواجبات وتشكل له وأجداده بعدا تاريخيا وجوديا.
٣. البلد أو القرية التي ولد فيها وترعرع فيها وانتمى إليها بأصوله وشكل فيها علاقاته وأحلامه.
لذلك لا يمكننا اجتزاء مفهوم غربي للمواطنة من جسد الفكر الغربي لاختلاف جذري في الهوية والقاعدة الفكرية التي ننطلق منها نحن وهم.
وهو ما يحتاج تنضيج رؤى حول المواطنة تأخذ في الحسبان تشكيلنا الثقافي وعمقنا التاريخي وهويتنا العقدية.
رؤية مقترحة حول المواطنة :
إن الحق كل الحق مع من يعترض على محمولات ومعطيات مفهوم المواطنة ، خاصة أن المنشأ الفلسفي المادي يجعلها قاصرة عن تحقيق العدالة التي ينشدها الإنسان، وتحقيق مبدأ المواطنة بمفهومه الحداثي الغربي هو باختصار تهيئة الظروف كاملة للدول المهيمنة على السيطرة علينا وعلى ثرواتنا دون اعتراض أحد ، لأن قبولنا بمبدأ المواطنة الحداثي يعني باختصار تفرقنا إلى فرق.
ولكن هل هذه المخاوف والتي نراها في محلها لا تعني إلغاء الاستفادة من هذه التجربة البشرية وعدم الأخذ بالمصطلح كمفهوم.
من وجهة نظري وكما يقال لا مماشحة في الألفاظ و هو ما يتطلب القيام بعدة خطوات مهمة لتشكيل رؤية حول مشروع مواطني يحمي المسلمات الشرعية من جهة ويخاطب العصر من جهة أخرى أي يحفظ عنصري الإسلام الأصالة والخلود. ويستطيع الدفع الإيجابي لدمج الشيعة بأوطانهم ورسم معالم العلاقة بين الشيعة والدولة من جهة، والشيعة والمرجعيات الدينية من جهة أخرى.
وهذه الخطوات هي:
- أخذ المصطلح إلى التاريخ وقراءة التاريخ قراءة موضوعية ناظرة لحراك المعصوم داخل المجتمعات من الزاوية السياسية وانتزاع السلوك والمنهج الذي يعطي الأبعاد الأساسية لمفهوم المواطنة ولكن مرجعيتها في ذلك الوحي وأداتها في فهمه العقل.
واعتبار تشخيص المفهوم من مصاديق منطقة الفراغ التي يجب على الفقيه والعقلاء ملؤها ناظرين للأصول، آخذين في الحسبان مقتضيات الزمان والمكان، وعاملين على مقاصد الشريعة، فمثلا الهدف من الملك والحكم والحكومة هو إقامة العدالة الاجتماعية، فكل وسيلة حكم صالحة لتحقيق العدالة يمكن دراستها ومحاولة الاستفادة من مفرداتها في تشكيل الرؤية الأقرب للواقع.
- صناعة مشروع مواطني يأخذ في الحسبان مفهوم العدالة كمقصد يراد تحقيقه تندرج تحته المساواة ، والعدالة أشمل وأعم.
- صناعة مشروع مواطني يأخذ في الحسبان مفهوم الأمة وليس فقط القطر ، بمعنى أن المواطنة التي نريد لا تعني تقديم هموم القطر والوطن على هموم الأمة في سلم الأولويات، بل تجعل من معيار العدل والظلم مرجعية في تقديم أيهما أولى.
فالمواطنة تكون وفق لغة الجبر الرياضي في علاقة الشعب في الدولة مع الأمة كعلاقة الاتحاد دائرة صغيرة في قلب الدائرة الكبيرة ، له همومه الخاصة به لكنها لا تتقدم على هموم الأمة في حال التعارض بل هموم الأمة لها أولوية وفق معيار العدالة والظلم.
إضافة إلى عمل صياغة تناسب الدول الإسلامية بما يحفظ حق الإنسان كإنسان بغض النظر عن هويته او جنسيته، بمعنى أن الحقوق والواجبات وفق مفهومنا للمواطنة هي حقوق وواجبات عابرة للحدود الجغرافية وقارة في حدود الأمة تنتقل مع الإنسان بانتقاله من قطر إلى قطر.
فمرجعية الحقوق والواجبات مرجعية ناظرة لحفظ كرامة الإنسان لا لحفظ مصالح الدول.
وبذلك يكون التأسيس في ما نريده من المواطنة قائم على قاعدة الأمة لا القطر، ولكن مع الحفاظ على خصوصية الأقطار ومصالحها التي تمس مصالح شعوبها.
إبراز دور المواطنة في ترسيخ الوجود الشيعي الامن في جسد الأمة والدولة وحفظ حقوقهم في حرية الاعتقاد، وحقهم في بناء المدارس والمساجد والمراكز الخاصة بهم وفق قانون عام لا يتعارض فيه هذا مع الاستقرار الاجتماعي بالمعنى السياسي كون الاعتقاد مسألة شخصية اختيارية يترك فيها الخيار للفرد وفق الدلائل التي توصل لها عقله وأقر بها قلبه فاعتنقها كعقيدة.
إن الهوية العقدية الخاصة لا تتعارض أبدا مع الهوية الوطنية ، و ترتيب الأهم على المهم ووفق تشخيص المصلحة والمفسدة يتم تشخيص آليات الاندماج في الوطن بطريقة تدل على التسامح العقدي لا التساهل العقدي، واحترام الخصوصية العقدية لكل شريحة اجتماعية و مكون اجتماعي داخل حدود الوطن، من خلال احترام التشريعات الدينية خاصة فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، والمعاملات الاقتصادية، يكرس حالة الانتماء للوطن والولاء له ويدعم عوامل الاستقرار الاجتماعي، والتعايش وقبول الآخر كون الدولة بذاتها قبلت بالتعدد من خلال تشريعاتها وقوانينها التي احترمت التعدديات العقدية المكونة للمجتمع.
فحفظ الأمن الاجتماعي والاستقرار مقدم على المسألة المذهبية بما لا يمس العقيدة.
- تشخيص حدود دور المرجعية لتشخيص الانتماء والهوية :
فالتقليد له صفة عقدية خاصة وحدود فقهية محدودة خاصة بالعبادات والمعاملات وتشخيص الموضوع يقع في يد المكلف لا المرجع .
فتحديد وظيفة ومهام المرجعية في ذهنية العوام والنهوض بوعيهم عامل مهم في تحديد حدود الهوية والانتماء بما يقلل من الولاءات القائمة على أساس فهم ديني خاطئ ويرسخ من ثقافة الولاء للوطن المنتمي للأمة.
ومن الممكن أن يكون للمرجعية دور إيجابي في تنمية مفهوم المواطنة من خلال فقه المواطنة ليشكل مرجعية فتوائية تساعد على التأسيس السليم لمفهوم المواطنة من رحم الشريعة ، وأيضا لما للفتوى من دور كبير في توجيه السلوك الإنساني وفق أسس قيمية ومبدئية تعيد صياغة بناء وطن لا تستولي عليه الدول العظمى .
فما يلاحق الشيعة اليوم في أوطانهم خاصة في الخليج هما مسألتان مهمتان:
الانتماء والولاء، خاصة بعد ثورة الإمام الخميني، زادت وتيرة اتهام الشيعة في الخليج بولائهم وانتمائهم لأوطانهم، بل بلغ الأمر عند بعض الدول سحب جنسية البعض من الشيعة في الخليج، وترحيلهم عن أوطانهم بحجة الولاء والانتماء.
وهذا يعود إلى عدة أطراف :
- تعسف السلطة في كثير من الأحيان نتيجة خلل في بنية الدولة ومفهوم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وآليتها.
- بعض الشيعة و ارتباطاتهم خارج الدولة وانتمائهم لخطوط راديكالية خارج الوطن تؤمن بالعمل الثوري في التغيير.
- بعض المرجعيات الدينية المؤثرة والتي لم تقدم حلولا عملية لعقدة العلاقة بين الشيعة وأوطانهم، بل بعضها عمقت الهوة بين الشيعة والقائمين على الحكم.
ولكن هل الانتماء هو حق تحدده السلطة وتحدد على ضوئه استمرارية مواطنة مواطن من عدمه ؟
حتى في الدول السلطوية والشبه سلطوية طرحت تساؤلات كثيرة حول رؤية الشيعة للدولة وحدود وظيفتهم فيها، ودورهم في محاولات الاندماج والنهوض بأوطانهم، وهل المسؤولية تقع خاصة فقط عليهم في تفاعلهم مع أوطانهم، أو أن لكثير من الأنظمة دورا سلبيا في الانكفاء على الذات، وابتعادهم عن المشاركات السياسية أو إبعادهم قصريا عن ذلك؟
مقدمة:
يمكن من خلال استقراء التاريخ معرفة تطور الفكر الشيعي حول الدولة وعلاقة الفرد الشيعي بها، وهو ما يعكس المراحل التي مر فيها الفرد الشيعي والمؤثرات البيئية والثقافية والفكرية والسياسية التي رسمت معالم شخصيته وبالتالي وجهت سلوكه العام والخاص.وهو ما يتطلب إطلالة على أبرز هذه المؤثرات .
من هو الفرد الشيعي؟
إن الإنسان بشكل عام تشكل شخصيته أبعاد كثيرة أهمها:
١. البيئة وهي تشمل الطبيعة المحيطة به وبيئته الثقافية والفكرية والسياسية.
٢. التربية والتعليم سواء في الداخل الأسري أو الاجتماعي.
٣. الدين وتشكلاته وصيرورتها العقدية والاجتماعية كفهم تغلب عليه البشرية.
٤. نظام الحكم والدولة وموقع الفرد الشيعي فيها.
ويمكن أن نميز بين شخصية الفرد الشيعي قبل عصر الغيبة الكبرى وفي ظل وجود الإمام المعصوم وشخصيته بعد عصر الغيبة وتولي الفقيه للمسيرة من خلال فهمه للنصوص واستقرائه لها وتحولات الفكر الشيعي السياسي خلال حقب متتالية خاصة فيما يتعلق بعلاقة الفرد الشيعي بالمجتمع والدولة ونظرة الفقيه للدولة.
إضافة إلى ضرورة ملاحظة تشكلات الفرد الشيعي المتأثرة بالمجتمع العربي أو ما يطلق عليه العقل العربي والبيئة التي تحكمت في تشكلاته ورؤاه وأثرت أيضا على تكوينه و صيرورته، هذا التمييز يفيد من جهة اجتماعية من جهة وسياسية من جهة أخرى لمحاولة فهم بعض الإشكاليات وإدراك آليات حلها.
تؤثر كثير من العوامل في بناء شخصية الفرد الشيعي، خاصة في جانبه العقدي الذي يرسم معظم أفكاره حول الدين والحياة وعلاقة كل منهما في الآخر. وذكر أهم العوامل التي أثرت في تشكيل شخصيته هو استعراض لها سواء كانت لا تزال مؤثرة، أو غاب تأثيرها نتيجة التطورات الفكرية والمعرفية عبر الزمن، لكنها كانت مؤثرة ومازالت عالقة في بعض المناخات الشيعية كرواسب، خاصة إذا كان النظر في البئية الشيعية الخليجية بالذات.
أهم العوامل المؤثرة في تشكيل عقل الفرد الشيعي:
١.ثقافة الانتظار السلبي:
حيث تم بناء لبنات الانقسام عن المحيط من خلال
القراءة المبتورة للنص عن واقع النص الزماني والمكاني وقراءته في عمقه الفردي لا الاجتماعي رغم أن التشريع الإسلامي حينما نزل راعى المجتمع رغم أنه لم يهمل الفرد إلا أن غالبية التشخيصات كان لها امتداداتها الاجتماعية في الحكم والتشريع.
قراءة نصوص الانتظار بطريقة تعطيلية توقف حراك الفرد الشيعي واندماجه في المحيط و تناميه الحركي والفكري والثقافي إلى حين ظهور الإمام الغائب الثاني عشر في المنظور الشيعي.
وهذه الثقافة التراكمية أحدثت خللا واضحا جدا في العقل الشيعي وراكمت لديه ثقافة الانعزال .والرضا بالظلم الواقع عليه من قبل الدولة وعدم سعيه للدفاع عن كيانه ووجوده كفرد في هذا الوطن له حقوق وعليه واجبات، لانه اصلا لم يكن لديه قناعة بانتمائه لهذا الوطن بل يعيش فيه بقناعة كونه عابر سبيل ينتظر دولة الظهور ليأت الحجة ويرفع عنه الظلم ويقيم العدالة.وهذه الثقافة انعكست على رؤية الفقيه للدولة والمواطنة والانتماء وهو ما انعكس على الفرد الشيعي لما للفتوى من أثر كبير في حياة الفرد وسلوكه على كافة المستويات. بدأت تتلاشى هذه الفكرة السلبية تدريجيا وقد تكاد تكون انعدمت خاصة بعد الثورة في إيران وتصدي رجال دين شيعة الحكم وانقلاب الصورة تماما حول فاعلية الشيعة في الفكر السياسي المعاصر.
٢.الفتاوى الخاصة بالدولة :
بالرجوع لكثير من الفتاوى أو الاستفتاءات حول علاقة الفرد الشيعي بالدولة التي ينتمي إليها والمجتمع الذي يعيش فيه نجد أن الفقيه كان يركز خاصة في أجوبة الاستفتاءات المتعلقة بعلاقة الفرد مع الدولة على القراءة الفردية للحكم ولم يأخذ في حسبانه العمق الاجتماعي في ذلك ، وكانت كثير من الفتاوى تكرس ثقافة الانعزال باعتبارها أن الحكومات القائمة حكومات مغتصبة وغير شرعية بل كان هناك فتاوى تبيح التصرف ببعض أموال وممتلكات الدولة تحت عنوان مجهول المالك، وهو ما راكم لدى الفرد الشيعي قناعة عدم الانتماء للمحيط وكرس لديه ثقافة الانتماء للمذهب.فوقعنا أسرى الغلو في فهم التعاون مع السلطة فكما وقع السنة في فخ تفسير طاعة ولي الأمر والغلبة وعدم جواز الخروج على الحاكم، وقع أغلب الشيعة في فخ العداء مع السلطة وحرمة التعامل مع الحكومات باعتبارها حكومات مغتصبة وغير شرعية. وهذا لا يعني عدم تطور الرؤية الشيعية في الوقت الراهن، لكن تطور قد يكون تطور الضرورة تحت ضغط الظروف السياسية وتطورات أحداث المنطقة، ولكنه تطور جزئي ناظر لجزيئات حكمية حول القانون وأتباعه وعدم جواز شيوع الفوضى، لكن لم يرق إلى الآن إلى رؤية متكاملة لمشروع الدولة وكيف يمكن النظر إليها كرؤية إسلامية متكاملة، وقد يتجلى هذا الخلل في قضايا الأحوال الشخصية التي تمس حياة الفرد الشيعي، والتي مازالت عالقة دون وجود رؤية تعالج هذه المعضلة طمن إطار الدولة التي يتواجد فيها الشيعة.
ولا يخفى على القارئ الكريم اختلاف المدارس الفقهية الشيعية في موضوع الدين والسياسة و علاقة الفرد بالدولة وحدود هذه العلاقة، فالفكرة مازالت تعاني من التباس في بعض المدارس، و نضوج في أخرى، وهو ما يجعل أغلب الشيعة في الخليج في حالة مراوحة، ليس فقط على مستوى العلاقة مع الدولة، وإنما على مستوى طبيعة الدور في الدولة وآليات الإصلاح فيها.
٣.المظلومية:
عاش الفرد الشيعي هاجس المظلومية الذي كان واقعا عليه في فترة زمنية لها ظروفها السياسية والتاريخية والاجتماعية الخاصة.
فرغم أننا لا ننكر كم الظلم الذي وقع على الشيعة في التاريخ ، إلا أنها فترات كان لها خصوصيتها السياسية المتعلقة بهاجس الحكم والصراع التاريخي على أحقية من يتسلم زمام السلطة، والذي كان ينعكس على سياسات الحكومات القائمة في تضييق الحصار بكافة مستوياته على الشيعة إلى حد يصل للتضييق العقدي .
إضافة إلى قراءة تلك الحقب التاريخية من قبل كثير من الفقهاء والمنابر الحسينية قراءة سلبية تشيع روح الانهزام والانزواء وتنمي شعور المظلومية الذي زاد من عزلة الفرد الشيعي وزاد لديه الإحساس بالتمييز عن الشريك في الوطن مما نمى لديه شعور الوحدة لا التعدد والرفض لا التعايش والاندماج. رغم أن تلك الفترة تقريبا انتهت بزوال بنو العباس وبدأ تدريجيا يتنامى الوجود الشيعي فينشط فترة ويخبو فترة وفقا للظروف السياسية التي غالبا ما كان الصراع فيها على الحكم يلعب على التمايزات المذهبية في المجتمع ويستخدم سلاح الفوبيا من الشريك في الوطن وكان غالبا الشيعة الحلقة الأضعف لظروفها التاريخية التي كانت تسهل لدى الحاكم استخدامهم كأداة سهلة في ذلك. ولا يخفى أيضا حالة الرفض الاجتماعي التي عاشها الفرد الشيعي في فترات متفاوتة نتيجة تشدد السلطة وتوجيه الإعلام في شيطنة الشيعة بشتى الوسائل، مما حدا بتكريس ثقافة الانعزال، والتقوقع المذهبي لفترات طويلة.
هذه القراءة عمقت لدى الفرد الشيعي قناعة الانعزال وعدم التفاعل والمشاركة في الوطن وتحوله دوما إلى صفوف المعارضة، إضافة لممارسة أنظمة الحكم ممارسات تعسفية ضد الشيعة تلجأ لها كخيار سياسي حينما يتعرض سلطانها للزوال أو محاولة المصادرة.
ولا يخفى علينا أدوار بارزة لعبها فقهاء بعض الشيعة في المنطقة في مواجهة تعسف السلطات واستئثارهم بالثروة، أو استسلامها للمحتل بطريقة تضر بمستوى الفرد المعيشي، المجدد الشيرازي،
وثورة العشرين في العراق، وثورة الإمام الخميني في إيران، وكلها وإن اختلفت في حيثياتها تدلل على تطور في فهم الفقيه لعلاقة الدين بالسياسة، إلا أن اختلاف المدارس في هذه الجزئية تطورا في فترات الخلاف كما حدث مع الشيخ النائيني حول كتابه تنبيه الأمة وتنزيه الملة.
٤.القراءة المذهبية للنصوص:
تم التركيز في قراءة النصوص الحديثية والتاريخية على القراءة المذهبية التي كانت تعمق الخلاف المذهبي وتحويل التاريخ من مصدر ملهم للمستقبل إلى مصدر لتكريس هوة الخلاف بين المسلمين على قضايا تاريخية و نصوص حديثية تعامل أصحابها أنفسهم معها بروح عالية من المسؤولية وتجاوزها لأجل غايات ومقاصد أسمى رسخت حياتهم نموذجا للتعايش والاندماج في المحيط .
إلا أن هيمنة هذا النمط على العقل الشيعي كرست لديه قناعة الانعزال ونمت لديه روح العداء للآخر حتى لو كان شريكا في الوطن، إلا أن العلاقة التي تحكم بينهما هي الفوبيا والهاجس من الآخر وهو ما يكرس حالة العداء وما لهذه الحالة من انعكاس سلبي على التعايش والاستقرار الاجتماعي،
٥. الانغلاق الفكري والمذهبي :
أي محاولات فكرية كانت تنهض لقراءة النص التاريخي والمذهبي بطريقة خارجة عن المألوف الشيعي كانت تواجه بالقمع المتسلح بالفتوى، وهو ما رسخ حالة التبعية وشل من الحراك العقلي الفكري الحر الذي يتيح للفرد أن ينطلق في فضاءات حرة للبحث عن الفكرة في جو الزمان والمكان والعصر لا في حدود النص الخاصة بظروف مضت مما جمد العقل لحساب النص، وخلق لدى الفرد الشيعي حالة التقليد والاتباع السلبي أو ما يسمى بتقليد المقلدة، هذا إضافة لحديث الفئة الناجية الذي كرس من حالة التعالي على الآخر، من خلال تجيير الأدلة وتأويلها بطريقة تؤكد وترسخ فكرة أن الفئة الناجية هم أتباع مدرسة أهل البيت ع وما لهذا الفهم سواء من السنة أو الشيعة من آثار إقصائية سواء داخل حدود الوطن الجغرافي أو داخل معالم الجسد.
٦. طرح مشاريع إصلاحية لم تأخذ بالحسبان تهيئة القابليات بل اصطدمت بما تحمله من مفاهيم مغايرة لقناعات العقل الشيعي المتراكمة زمانيا مما عرضها للرفض جملة وتفصيلا وقتل بذلك المشروع وما يحمله من أفكار إصلاحية وأدخلها في دائرة الرفض المطلق في وعي العقل الشيعي وأقصاها حتى عن ساحات التفكير والتثوير الفكري.
هذه أهم العوامل التي شكلت بيئة عقل الفرد الشيعي والتي كرست من عزلته عن المجتمع المحيط وعدم الاندماج في مكونات الدولة والتواجد في مراكز متقدمة فيها يكون له من خلالها دورا فاعلا في البناء ومنع الفساد.
إذا نحن أمام إشكاليات متداخلة :
١- رؤية الفقيه عن علاقة الدين في السياسة، وبالتالي وظيفة الفرد الشيعي فيها وعلاقته بها.
٢- الفرد الشيعي كمواطن وعلاقته بمجتمعه ووطنه.
٣- الدولة وعلاقتها بالشعب.
السياسة والدين :
في موضوع السياسة والدين لدينا مدارس فقهية شيعية متعددة، لا تتفق في حدود العلاقة و يذهب بعضها إلى الفصل التام بينهما، وكل مدرسة تقدم في ذلك أدلتها.
١- مدرسة تفصل الدين عن السياسة تماما، وتجد أن الأصل في وظيفة الفقيه هو التعليم والتدريس ونظم شؤون الناس لتكون وفق الأحكام الفقهية، فيكون مجال اهتمامها في الإطار الحوزوي.
٢- مدرسة ترى أن الفقيه يمارس فقط دور النصيحة للحاكم، ويشارك في الشأن العام ويكون له ولاية جزئية تتعلق بالأمور الحسبية والأحوال الشخصية.
٣- مدرسة لا ترى أي فصل بين الدين والسياسة، وتجد أن على الفقيه التصدي لقيادة الدولة، و تنظيم دستورها على ضوء الشريعة الإسلامية.
وكون وظيفة الفرد الشيعي العادي التقليد، وعدم الفصل بين تقليد الفقيه في الأحكام الشرعية و تقليده في آرائه وأفكاره العامة، فذلك أيضا أوجد فِرٓق داخل الشيعة تختلف في رؤيتها حول الدين والسياسة، بالتالي تختلف حول حدود وظيفتها في الوطن، وعلاقتها بالسلطة.
الشيعة والوطن والمواطنة:
الأسئلة التي دائما ما تطرح نفسها في هذا المضمار هي :
١. ما هو الوطن ؟ هل هو للجغرافيا "قطرية"؟
٢. كيف نوائم مفهوم الوطن مع مفهوم الأمة ليكون لدينا تأسيسات خاصة مقبولة اجتماعيا والمتناسبة مع هويتنا و تأسيساتنا الشرعية؟
أهم الإشكاليات حول مفهوم المواطنة:
- محمولات المصطلح المتعلقة وبيئته التي انطلق منها الوعاء المعرفي الذي تشكل فيه، فتطور هذا المفهوم يعود للثورة الفرنسية العلمانية عام 1789 م وما تلاها، وقد ارتبط مفهوم المواطنة بالتطور السياسي في المجتمع الغربي حيث انتقل النظام من السلطة المطلقة الممنوحة للحكام بغير ضوابط إلى فكرة العقد الاجتماعي الذي قضى على سلطان الكنيسة، والذي انبنت عليه الدولة الحديثة في ثوبها العلماني القومي، وخاصة بعد تهميش الدين في نفوسهم وتحويله إلى مجرد شكليات و طقوس تؤدى في زمن محدد ومكان معين، ثم لا يكون لها خارج الوجدان الذاتي أدنى تأثير، والتي انتهت بكثير منهم إلى الإلحاد، وقد كان ابتداع فكرة المواطنة بمثابة حل للصراع القائم بين أصحاب التعددية العقدية والتعددية العرقية في المجتمع الغربي.
فالمفهوم عادة يتشكل من وعاء بيئته ومحيطه الثقافي، وانتزاعه من هذه البيئة وزرعه في بيئة مغايرة، يخلق نوع من الفوضى المعرفية في بنية العقل وخلل مفاهيمي يتبعه خلل في التطبيق،
ولكن ما هي المواطنة:
المواطنة لغة:
لفظ المواطنة لغة مأخوذ من مادة "و ط ن"
لكن ليس على المعنى المصطلح عليه، وفي لسان العرب: "الوطن المنزل تقيم به وهو موطن الإنسان ومحله والجمع أوطان،
المواطنة اصطلاحا:
ورغم أن مصطلح المواطنة لم يوجد على هذه الصورة أول أمره بل أخذ يتطور وينتقل من مفهوم إلى مفهوم، بحيث لا يمكن الوقوف على تعريف جامع له، إلا أنه ينظر للمواطنة بوجه عام في التعريف السياسي الحديث لها على أنها علاقة قانونية بين الفرد (المواطن)وبين الوطن الذي تمثله الدولة بسلطاتها الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، حيث تنظم القوانين السائدة هذه العلاقة، والتي تقوم على أساس الانتماء لوطن واحد خاضع لنظام سياسي واحد.
المواطنة في الموسوعات:
وقد نصت كثير من الموسوعات كدائرة المعارف البريطانية والموسوعة السياسية لعبد الوهاب الكيالي، وقاموس علم الاجتماع لمحمد عاطف غيث على أن المواطنة علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من حقوق يتمتع بها وواجبات يلتزم بها، انطلاقا من انتمائه إلى الوطن الذي يفرض عليه ذلك، ومن هنا يتبين أن المواطنة أضحت فكرة وتصورا تنبثق منها الحقوق والواجبات وتتحدد على أساسها الالتزامات، وتحولت بذلك إلى أيديولوجيا يلتف حولها الأفراد في الوطن الواحد على اختلاف لغاتهم ومللهم ونحلهم.
وانطلاقا من مبدأ المواطنة يصير جميع الأفراد (المواطنين) في مركز قانوني واحد، فما يجوز لفرد يجوز لجميع الأفراد، وما يمنع منه فرد يمنع منه جميع الأفراد.
يقول د/يحيى الجمل: "بوضوح وبإيجاز شديد، يعني مبدأ المواطنة أن كل مواطن يتساوى مع كل مواطن آخر في الحقوق والواجبات، ما داموا في مراكز قانونية واحدة... إذا صدرت قاعدة قانونية تقول إنه لا يجوز للمصري غير المسلم أن يتولى منصبًا معينًا أو ألا يباشر حقًا سياسيا معينًا فإن هذه القاعدة تكون غير دستورية لمخالفتها مبدأ المواطنة... إن حق المواطن بصفته مواطنًا أن يدخل أي حزب شاء، أو أن يلي أي منصب عام تنطبق عليه شروطه لا يرتبط بكونه منتميا إلي دين معين، أو أنه بغير دين أصلاً. فمن حق المواطن أن يكون مواطنًا حتى ولو لم يكن صاحب دين سماوي من الأديان الثلاثة المعروفة"
ويعدد علي خليفة الكواري مقومات الحكم الديمقراطي فيقول : "ثانيتها: مبدأ المواطنة الكاملة المتساوية الفاعلة, واعتبار المواطنة -ولا شيء غيرها- مصدر الحقوق ومناط الواجبات دون تمييز، وأبرز مظاهر المواطنة الكاملة هي تساوي الفرص من حيث المنافسة على تولي السلطة وتفويض من يتولاها، وكذلك الحق المتساوي في الثروة العامة التي لا يجوز لأي أحد أن يدعي فيها حقا خاصا.
أما د/ منى مكرم عبيد، فبعد أن نقلت عدة تعريفات للمواطنة عقبت على ذلك برأيها في معنى هذه الكلمة وما يترتب على الأخذ بها فقالت: "وبوجه عام يمكن القول أن المواطنة تعني "العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع بما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وهو ما يعني أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية بدون أدنى تمييز قائم على أي معايير تحكمية مثل الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي أو الموقف الفكري"
إذا من الممكن القول أن أهم عناصر المواطنة وفق التعريفات الغربية والعربية لها كالتالي:
١. علاقة قانونية بين فرد ودولة
٢. أساسها الاشتراك في وطن واحد
٣. وجود حقوق وواجبات متبادلة بين الفرد والدولة
٤. الوطن مصدر الحقوق والواجبات ولا شيء غيره
٥. المساواة بين الأفراد (المواطنين) جميعهم على قاعدة الاشتراك في الوطن.
٦. خضوع الفرد والمجتمع للدولة بمؤسساتها الدستورية والقانونية والالتزام بها
٧. استبعاد الدين من هذه العلاقة القانونية استبعادا مقصودا.
من أهم الإشكاليات التي تطرح على مفهوم المواطنة:
- اعتبار المرجعية الأساس في صياغة الحقوق والواجبات والقوانين لتحقيق المواطنة مرجعية العقل البشري، وهو ما يعرض هذه المنظومة أصلا للأهواء والاستمزاجات الشخصية بما لا يحقق العدالة ولا يتناسب مع ما تبنته الشريعة الإسلامية. وكون تشريع القوانين مصدره الدولة بالتالي تصلح ملزمة للمواطن، حتى لو خالفت ما يعتقده من تشريعات دينية.
- المساواة التامة بين جميع المواطنين بما فيهم أصحاب الديانات الأخرى ، والذين وفق الرؤية الإسلامية لهم أحكام خاصة، ووفق مفهوم المواطنة الحداثي تذوب هذه الأحكام وكأنها شيئا لم يكن.
- التركيز في مفهوم المواطنة على الحدود الجغرافية بمعنى أن الهوية أو ما يسمى الجنسية هي التي تحدد مواطنة هذا الشخص فيصبح له حقوق وعليه واجبات حتى لو كان قادما جديدا على هذه الدولة ، بينما من لا يملك هذه الهوية ولو كان له عشرات السنين مقيما في هذه الدولة فليس له الحقوق التي تحق لحامل تلك الهوية. وهو خلاف العدالة والإحياء.
- تقليص الانتماء في مفهوم المواطنة الحداثي إلى حدود جغرافية تشكل حدود الوطن ، بحيث يتحول هم الفرد من دائرة الأمة إلى دائرة الوطن، وهو ما يقلص اهتمامات الفرد والدولة لتصبح اهتمامات محلية لا شأن لها بما يحدث في قطر آخر مجاور بما يتيح للدول القوية الهيمنة والسيطرة والتدخل تحت هذه الشعارات وضمن هذه القوانين التي أقرتها المواطنة.
حيث يقول .... "المواطنة انطلاقا من تقيدها بالوطن وانحصارها في الأفراد الذين يسكنونه فإن معانيها ودلالاتها تختلف من بلد لآخر، وتنحصر في الحدود الجغرافية لكل وطن، فليس لها صفة العموم والشيوع، فالإنسان لا يعامل معاملة (المواطن) ولا يتمتع بحقوق المواطنة إلا داخل حدود دولة يحمل جنسيتها حتى لو عاش أغلب حياته خارج حدود الوطن، بينما الإنسان الذي لا يحمل جنسية دولة ما لا يتمتع بحقوق المواطنة فيها وإن جلس عشرات السنين، أو قضى عمره كله فيها يعطيها من فكره و عقله وجهده.
وأصحاب الفكر الديمقراطي لا يرون معنى حقيقيا للمواطنة إلا في دولة ديمقراطية ليبرالية، كما أن أصحاب الفكر الاشتراكي لا يرون معنى حقيقيا للمواطنة إلا في دولة ديمقراطية اشتراكية.
والمواطنة بالنسبة للمسلمين تمثل دعوى للتفريق و التشتت والتقوقع، فيكون هناك ولاء من الفرد (المواطن) لوطنه يلتزم بقوانينها ويدافع عنه، ولا يتعدى ذلك إلى محيطها الأوسع وأمته المترامية الأطراف، لأن المواطنة مرتبطة بأبعاد جغرافية محدودة لتحقيق منافع دنيوية.
وبتبني المواطنة والدعوة إليها تزداد عوامل الانعزال بين أوطان الأمة الواحدة، وانطلاقا من هذه المواطنة المحشورة في الوطن أفتى بعض المنسوبين للعلم، المسلمين في الجيش الأمريكي-عندما اعتدت أمريكا على أفغانستان-بجواز الاشتراك في مقاتلة المسلمين في أفغانستان، ومن قبل ذلك بعقود في بداية القرن العشرين الميلادي قامت في مصر دعوات مناهضة لاشتراك المصريين في مساعدة إخوانهم الليبيين ضد الاحتلال الإيطالي، فالمواطنة تفرق بين أبناء الأمة الواحدة وتجعل للمشاركين في الوطن المسلم-من أهل الديانات المباينة له-حقوقا ليست للمسلم من وطن آخر، مما يمثل إعلاء لرابطة المواطنة (الوطن) على رابطة الدين (الأمة)، وفي هذا مخالفة صريحة للنصوص الشرعية التي تعلي رابطة الإيمان وتجعلها فوق الروابط جميعها، فهناك روابط كثيرة تربط بين الأفراد كرابطة الأبوة والبنوة والأخوة والزوجية، والعشيرة والمال والتجارة والمساكن والأوطان، لكن لا ينبغي أن تقدم رابطة من تلك الروابط على رابطة .
فالوطن ليس بقعة جغرافية يحدد من خلالها الانتماء والولاء، بل هناك دوائر للمواطنة وفق منظورنا الإسلامي والعروبي، ووفق ما يتناسب مع إرثنا الثقافي:
١. المنطقة المحيطة والممتدة كـإقليم تجمع أفراده كثير من الثقافات والهموم والمصائر المشتركة بما يشكل بمجموعه مفهوم الأمة.
٢. الانتماء السياسي: وهي الحدود الجغرافية القطرية التي يحمل الفرد جنسيتها وتتمثل له وفقها مجموعة من الحقوق والواجبات وتشكل له وأجداده بعدا تاريخيا وجوديا.
٣. البلد أو القرية التي ولد فيها وترعرع فيها وانتمى إليها بأصوله وشكل فيها علاقاته وأحلامه.
لذلك لا يمكننا اجتزاء مفهوم غربي للمواطنة من جسد الفكر الغربي لاختلاف جذري في الهوية والقاعدة الفكرية التي ننطلق منها نحن وهم.
وهو ما يحتاج تنضيج رؤى حول المواطنة تأخذ في الحسبان تشكيلنا الثقافي وعمقنا التاريخي وهويتنا العقدية.
رؤية مقترحة حول المواطنة :
إن الحق كل الحق مع من يعترض على محمولات ومعطيات مفهوم المواطنة ، خاصة أن المنشأ الفلسفي المادي يجعلها قاصرة عن تحقيق العدالة التي ينشدها الإنسان، وتحقيق مبدأ المواطنة بمفهومه الحداثي الغربي هو باختصار تهيئة الظروف كاملة للدول المهيمنة على السيطرة علينا وعلى ثرواتنا دون اعتراض أحد ، لأن قبولنا بمبدأ المواطنة الحداثي يعني باختصار تفرقنا إلى فرق.
ولكن هل هذه المخاوف والتي نراها في محلها لا تعني إلغاء الاستفادة من هذه التجربة البشرية وعدم الأخذ بالمصطلح كمفهوم.
من وجهة نظري وكما يقال لا مماشحة في الألفاظ و هو ما يتطلب القيام بعدة خطوات مهمة لتشكيل رؤية حول مشروع مواطني يحمي المسلمات الشرعية من جهة ويخاطب العصر من جهة أخرى أي يحفظ عنصري الإسلام الأصالة والخلود. ويستطيع الدفع الإيجابي لدمج الشيعة بأوطانهم ورسم معالم العلاقة بين الشيعة والدولة من جهة، والشيعة والمرجعيات الدينية من جهة أخرى.
وهذه الخطوات هي:
- أخذ المصطلح إلى التاريخ وقراءة التاريخ قراءة موضوعية ناظرة لحراك المعصوم داخل المجتمعات من الزاوية السياسية وانتزاع السلوك والمنهج الذي يعطي الأبعاد الأساسية لمفهوم المواطنة ولكن مرجعيتها في ذلك الوحي وأداتها في فهمه العقل.
واعتبار تشخيص المفهوم من مصاديق منطقة الفراغ التي يجب على الفقيه والعقلاء ملؤها ناظرين للأصول، آخذين في الحسبان مقتضيات الزمان والمكان، وعاملين على مقاصد الشريعة، فمثلا الهدف من الملك والحكم والحكومة هو إقامة العدالة الاجتماعية، فكل وسيلة حكم صالحة لتحقيق العدالة يمكن دراستها ومحاولة الاستفادة من مفرداتها في تشكيل الرؤية الأقرب للواقع.
- صناعة مشروع مواطني يأخذ في الحسبان مفهوم العدالة كمقصد يراد تحقيقه تندرج تحته المساواة ، والعدالة أشمل وأعم.
- صناعة مشروع مواطني يأخذ في الحسبان مفهوم الأمة وليس فقط القطر ، بمعنى أن المواطنة التي نريد لا تعني تقديم هموم القطر والوطن على هموم الأمة في سلم الأولويات، بل تجعل من معيار العدل والظلم مرجعية في تقديم أيهما أولى.
فالمواطنة تكون وفق لغة الجبر الرياضي في علاقة الشعب في الدولة مع الأمة كعلاقة الاتحاد دائرة صغيرة في قلب الدائرة الكبيرة ، له همومه الخاصة به لكنها لا تتقدم على هموم الأمة في حال التعارض بل هموم الأمة لها أولوية وفق معيار العدالة والظلم.
إضافة إلى عمل صياغة تناسب الدول الإسلامية بما يحفظ حق الإنسان كإنسان بغض النظر عن هويته او جنسيته، بمعنى أن الحقوق والواجبات وفق مفهومنا للمواطنة هي حقوق وواجبات عابرة للحدود الجغرافية وقارة في حدود الأمة تنتقل مع الإنسان بانتقاله من قطر إلى قطر.
فمرجعية الحقوق والواجبات مرجعية ناظرة لحفظ كرامة الإنسان لا لحفظ مصالح الدول.
وبذلك يكون التأسيس في ما نريده من المواطنة قائم على قاعدة الأمة لا القطر، ولكن مع الحفاظ على خصوصية الأقطار ومصالحها التي تمس مصالح شعوبها.
إبراز دور المواطنة في ترسيخ الوجود الشيعي الامن في جسد الأمة والدولة وحفظ حقوقهم في حرية الاعتقاد، وحقهم في بناء المدارس والمساجد والمراكز الخاصة بهم وفق قانون عام لا يتعارض فيه هذا مع الاستقرار الاجتماعي بالمعنى السياسي كون الاعتقاد مسألة شخصية اختيارية يترك فيها الخيار للفرد وفق الدلائل التي توصل لها عقله وأقر بها قلبه فاعتنقها كعقيدة.
إن الهوية العقدية الخاصة لا تتعارض أبدا مع الهوية الوطنية ، و ترتيب الأهم على المهم ووفق تشخيص المصلحة والمفسدة يتم تشخيص آليات الاندماج في الوطن بطريقة تدل على التسامح العقدي لا التساهل العقدي، واحترام الخصوصية العقدية لكل شريحة اجتماعية و مكون اجتماعي داخل حدود الوطن، من خلال احترام التشريعات الدينية خاصة فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، والمعاملات الاقتصادية، يكرس حالة الانتماء للوطن والولاء له ويدعم عوامل الاستقرار الاجتماعي، والتعايش وقبول الآخر كون الدولة بذاتها قبلت بالتعدد من خلال تشريعاتها وقوانينها التي احترمت التعدديات العقدية المكونة للمجتمع.
فحفظ الأمن الاجتماعي والاستقرار مقدم على المسألة المذهبية بما لا يمس العقيدة.
- تشخيص حدود دور المرجعية لتشخيص الانتماء والهوية :
فالتقليد له صفة عقدية خاصة وحدود فقهية محدودة خاصة بالعبادات والمعاملات وتشخيص الموضوع يقع في يد المكلف لا المرجع .
فتحديد وظيفة ومهام المرجعية في ذهنية العوام والنهوض بوعيهم عامل مهم في تحديد حدود الهوية والانتماء بما يقلل من الولاءات القائمة على أساس فهم ديني خاطئ ويرسخ من ثقافة الولاء للوطن المنتمي للأمة.
ومن الممكن أن يكون للمرجعية دور إيجابي في تنمية مفهوم المواطنة من خلال فقه المواطنة ليشكل مرجعية فتوائية تساعد على التأسيس السليم لمفهوم المواطنة من رحم الشريعة ، وأيضا لما للفتوى من دور كبير في توجيه السلوك الإنساني وفق أسس قيمية ومبدئية تعيد صياغة بناء وطن لا تستولي عليه الدول العظمى .
فما يلاحق الشيعة اليوم في أوطانهم خاصة في الخليج هما مسألتان مهمتان:
الانتماء والولاء، خاصة بعد ثورة الإمام الخميني، زادت وتيرة اتهام الشيعة في الخليج بولائهم وانتمائهم لأوطانهم، بل بلغ الأمر عند بعض الدول سحب جنسية البعض من الشيعة في الخليج، وترحيلهم عن أوطانهم بحجة الولاء والانتماء.
وهذا يعود إلى عدة أطراف :
- تعسف السلطة في كثير من الأحيان نتيجة خلل في بنية الدولة ومفهوم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وآليتها.
- بعض الشيعة و ارتباطاتهم خارج الدولة وانتمائهم لخطوط راديكالية خارج الوطن تؤمن بالعمل الثوري في التغيير.
- بعض المرجعيات الدينية المؤثرة والتي لم تقدم حلولا عملية لعقدة العلاقة بين الشيعة وأوطانهم، بل بعضها عمقت الهوة بين الشيعة والقائمين على الحكم.
ولكن هل الانتماء هو حق تحدده السلطة وتحدد على ضوئه استمرارية مواطنة مواطن من عدمه ؟