دفاعاً عن مظلومية المثقف العراقي
نصير الدين الحسيني
كانت الثقافة في العراق حتى مطلع القرن العشرين ، مقتصرة على فئة محدودة من الناس ، غالبيتهم من كبار موظفي الدولة العثمانية وابناء الطبقات العليا من المجتمع، اضافة الى رجال الدين الشيعة والسنة وطلاب المدارس الدينية، وذلك إن الثقافة كانت وما زالت مرتبطة بقراءة الكتب والتي كانت قليلة العدد وغالية الثمن.
عندما تكونت الدولة العراقية وانشأت المدارس، تخرجت منها اجيال من الفتية والشباب المتطلعين للثقافة والمعرفة، وازداد عدد القراء بدرجة كبيرة في مدن العراق واريافه ، بحيث اصبحت الكتب المطبوعة في القاهرة وبيروت تجد لها سوقاً كبيرة ورائجة في العراق، وشكل بعض موظفي الدولة العراقية وابناء الطبقات الوسطى والعليا مكتبات صغيرة في منازلهم. كما راجت عملية تبادل الكتب بين الطلبة والموظفين، وهذا مما سمح لبعض الطلبة الفقراء من الحصول على كتب قيمة من زملائهم على سبيل الاعارة. كما كان الطالب المثقف يستطيع استعارة الكتب من المكتبات المدرسية والتي انشأت في الكثير من المدارس المتوسطة والاعدادية منذ العهد الملكي، ويسمح نظام الاعارة للطالب بأخذ الكتاب الى منزله لمدة ثلاثة او اربعة ايام قبل اعادته للمكتبة ؛ ولقد كان أساتذتنا في المتوسطة والاعدادية من القراء متنوعي الثقافة ، وكثيراً ما كانوا يستشهدون بابيات شعر أو مقاطع ادبية أو تاريخية من خارج المنهج المدرسي، وكانوا يشجعوننا على مطالعة الكتب الثقافية بأنواعها.
عندما تكونت الدولة العراقية وانشأت المدارس، تخرجت منها اجيال من الفتية والشباب المتطلعين للثقافة والمعرفة، وازداد عدد القراء بدرجة كبيرة في مدن العراق واريافه ، بحيث اصبحت الكتب المطبوعة في القاهرة وبيروت تجد لها سوقاً كبيرة ورائجة في العراق، وشكل بعض موظفي الدولة العراقية وابناء الطبقات الوسطى والعليا مكتبات صغيرة في منازلهم. كما راجت عملية تبادل الكتب بين الطلبة والموظفين، وهذا مما سمح لبعض الطلبة الفقراء من الحصول على كتب قيمة من زملائهم على سبيل الاعارة. كما كان الطالب المثقف يستطيع استعارة الكتب من المكتبات المدرسية والتي انشأت في الكثير من المدارس المتوسطة والاعدادية منذ العهد الملكي، ويسمح نظام الاعارة للطالب بأخذ الكتاب الى منزله لمدة ثلاثة او اربعة ايام قبل اعادته للمكتبة ؛ ولقد كان أساتذتنا في المتوسطة والاعدادية من القراء متنوعي الثقافة ، وكثيراً ما كانوا يستشهدون بابيات شعر أو مقاطع ادبية أو تاريخية من خارج المنهج المدرسي، وكانوا يشجعوننا على مطالعة الكتب الثقافية بأنواعها.
استمر النمو الثقافي في العراق قرابة خمس واربعون عام، ما بين اوائل الثلاثينيات ومنتصف سبعينيات القرن المنصرم، حتى استطاع نظام البعث من احتواء المثقف وافراغه من أي مضمون فكري أو سياسي، وذلك بأغراء الكثير من الادباء والشعراء الشباب بنشر نتاجاتهم أو التوظف في المجلات الثقافية التابعة للدولة، وعملت هذه المجلات على تلميع صورة الادباء الشباب واعطائهم حجماً اكبر من حقيقتهم، ومنحتهم عطايا ورواتب كبيرة مما دفعهم للزهو والغرور (وهو ماتريده السلطة)، مع العلم إن الكثيرين منهم كانوا طارئين على الشعر والادب وقصائدهم اشبه بالالغاز والطلاسم الخالية من أي وزن أو قافية أو مضمون. لقد ادت هذه المجلات التابعة لوزارة الاعلام دوراً خبيثاً مستتراً، وعملت على تعليب المثقف وابعاده عن مجتمعه وواقعه الحياتي، وحفرت هوة عميقة بين المثقف والعامة ، فصار اشبه بالدمية الجميلة التي يحركها النظام ويستخدمها في المهرجانات الادبية والثقافية وفي تدبيج القصائد ومقالات المديح، وهذا ما انتج لنا جيلاً من المثقفين الهلاميين فارغي المحتوى.
إن جميع الدول ذات الانظمة الشمولية الاستبدادية تكره المثقف وتتمنى استأصاله من المجتمع، فالحاكم الفرد خاصة يريد قطيعاً من الغنم، والتسلط على شعب من الجهلة والاميين اسهل بكثير من التسلط على شعب فيه بعض المثقفين الذين يفتّحون أعين الناس على الحقائق المستترة، ولذا فقد قال صدام في احدى خطبه (عندما جئنا للحكم كانت اصعب مدينتين علينا النجف والموصل) والصفات المشتركة بين المدينتين المختلفتين من حيث النشأة والتاريخ هي كون كل منهما مدينة تجارية عريقة، يقل فيهما الفقر والعوز المتفشي في جنوب العراق خاصة، والمدينتان يغلب عليهما الطابع الاسلامي، ولأبنائهما باع طويل في الثقافة والمعرفة، وبالتالي فهي ليست مدن حديثة النشاة أو فقيرة لتخضع بسهولة وتطأطأ رأسها للسلطة الحاكمة.
احد الكتاب كتب قبل ايام على موقع كتابات مقالاً مخصصاً لشتم الثقافة والمثقفين، وطالب بالغاء وزارة الثقافة على اساس إنها بلا فاعلية أو دور تؤديه، وانهال بكيل التهم على المثقفين فلم يستثني منهم احداً، في حين إن المثقف العراقي مضطهد ومظلوم في مختلف العهود، وهو مكروه من العامة لأنه لا يساير المجتمع في كل ارائه وافكاره، وهذا هو الطبيعي، فمعرفة المثقف ووعيه يجعله متقدماً على سواه من الناس لينير لهم الطريق ، اما إن اصبح المثقف جزءاً من العامة لايرشدهم ولايهديهم، صارت معرفته لنفسه وسقطت عنه صفة الثقافة.
لا يمكننا التعميم في اي صفة من الصفات فنطلقها على طائفة أو جماعة من الناس بشكل اعتباطي، نعم استطاع نظام البعث من احتواء عدد كبير من الكتاب والشعراء كما قال الكاتب في مقالته، ولكن من انضم اليه من الجهلة وانصاف المتعلمين اضعاف اضعاف من انضم اليه من المثقفين. لقد وصل البعثيون الى السلطة وبيديهم ذهب معاوية وسيف الحجاج وكانت اغراءاتهم كبيرة وطاغية، والناس تبحث عن الطعام الدسم واللباس الانيق ، لذا فقد سار في ركاب السلطة بعض ابناء الطبقات العليا والدنيا من المجتمع سواء خوفاً أو طمعاً ، كما سايرهم الكثير من ابناء المدن والارياف من عرب واكراد وتركمان وشروك ومعدان، وكما يقول المثل ( ماكو زور يخلى من واوية )، بل وانضم اليهم بعض من قراء المواكب والمجالس الحسينية، فهم جزء من نسيج المجتمع العراقي. عندما ضايق النظام السابق قراء المجالس الحسينية قبل منعها، التزم بعض القراء الصمت وانسحبوا ، واستمر البعض منهم في القراءة على الحسين (ع) واقامة المجالس الحسينية سراً، اما البعض الآخر فكانوا اصلاً بلا ولاء بل يبحثون عن مورد للارتزاق، فاغراهم البعث بوظائف وهدايا، فتحولوا الى قراءة قصائد المديح للحزب والقائد، وقد ظهر الكثير من هؤلاء وهم يلقون القصائد الشعبية الحماسية من على شاشات التلفزيون ايام حرب الثمان سنوات مع ايران، ولكن هل نستطيع اتهام الكل بذنب البعض؟؟.
الثقافة ليست مهنة او حرفة، والادب والشعر كما يقال ما يوكل خبز ، لذا نجد إن الكثير من مثقفي االعراق القدامى كانوا من الاطباء او المهندسين أو اساتذة جامعات او اصحاب مكتبات، ومن الخطأ منح الكاتب او الاديب رواتب عالية وجعله موظفاً في مجلة حكومية فذلك مما يعزله عن مجتمعه ومحيطه، لنأخذ مثلاً كاتباً معروفاً مثل نجيب محفوظ والذي نال جائزة نوبل في الاداب، لقد ظل الرجل موظفاً حكومياً يتقاضى راتبه على اداء وظيفته الحكومية، وكتب اول رواياته عندما كان يعمل في ارشيف وزارة الاوقاف، وبعد عام 1954 انتقل الى وزارة الارشاد ثم الى وزارة الثقافة وعين كمدير للرقابة على المصنفات الفنية وليس كأديب.
في كثير من بلاد الله يحترم الناس الشاعر او الاديب إلا في العراق، حيث ينظرون اليه كعاطل ومتحذلق يستخدم مفردات طنانة غير مفهومة، وذلك بسبب بعض الطارئين الذين اساءوا للثقافة والمثقفين. السلطة تطلب من المثقف أن يصبح احد ابواقها الدعائية، والناس تريد منه ان يتحول الى شاعر أو كاتب القبيلة والمدافع عن عاداتها وتقاليدها ومفاخرها ، وبين حانه ومانه ضاعت لحانا.
البعض يتسائل عن الدور الذي يمكن للمثقف أن يؤديه، وقد اخترت ثلاث نماذج لمثقفين اسلاميين كرد قاطع على الكاتب الذي يقول (المفروغ منه ان المثقف شخص كذاب) ، اولهم السيد محمد باقر الصدر والذي قام بكتابة منهج فكري سياسي اسلامي معاصر من خلال كتابيه فلسفتنا واقتصادنا، وذلك ليوضح للشباب المتأثرين بالفكر الغربي بشقيه الماركسي والليبرالي بأن للأسلام كذلك جوانب سياسية واقتصادية، وقد استطاع الصدر ( من خلال كتبه ومحاضراته ) من اجتذاب نخبة مثقفة نحو تبني الخطاب السياسي الاسلامي، ومع ذلك فأن بعض فقهاء الشيعة رفضوا الحداثة والمعاصرة التي اراد الشهيد الصدر ادخالها على المذهب، ولم يكونوا راضين عن توجهاته الفكرية.
لقد استطاع الصدر من تحقيق خطوة مهمة لجسر الهوة الفاصلة بين المثقف والدين، وانزعجت السلطات منه اذ استطاع دفع الشباب نحو النهج الاسلامي بدلاً من النهج اللاديني الذي كان المتبنى من قبل نظام البعث، واحست السلطة بخطورته حينما انتقلت افكاره ليتبناها انصاف المثقفين الشيعة وبعض الاسلاميين السنة، لذا فقد اضطهدته ثم اعدمته لتمنع من انتشار افكاره بين العامة.
ازاء الشهيد الصدر كان لدينا مفكر آخر، لكنه حاول جسر الهوة بين المثقف الاسلامي ورجل الشارع العامي، الا وهو الدكتور احمد الوائلي. فلقد ادرك تعلق العامة بالمجالس والقرايات الحسينية، فحاول من خلالها نشر الوعي والثقافة بين الناس، وخاصة بعد أن تدنت ثقافة قراء المنبر الحسيني، وجاء بعض المرتزقة لأعتلائه على طريقة (مو عل الحسين على الهريسة دكنا ). وقد دفعت محاضرات الوائلي قراء المنبر الحسيني المخلصين لتطوير ثقافتهم واثرائها بالمزيد من القراءة، ودفعت العامة للتعرف على الثقافة الاسلامية والنهل من مناهلها، ومع إن الوائلي لم يحرض الناس على الثورة ، فلقد انزعج النظام الاستبدادي الشمولي من توجهاته الفكرية ، فلقد حرض الناس على فتح اعينهم ومشاهدة التاريخ الاسلامي بعين الحاضر.
اما المثقف الثالث فلم يكن عراقياً، فهو الدكتور علي شريعتي الحاصل على شهادة الدكتوراة في علم الاجتماع من جامعة السوربون في فرنسا. عندما عاد الى ايران تم تعيينه في جامعة مشهد، وبدلاً من أن يترجم كتب سارتر مثلاً ترجم عن الفرنسية كتاب (سلمان الفارسي) للوي ماسينيون، وبدلاً من تمجيد حضارتي الفرثيين والساسانيين كما يريد النظام، كان يلقي على طلابه ومريديه دروساً في الثقافة الاسلامية خارج اسوار الجامعة، ويشرح لهم كيف إن الاسلام هو من جلب الحضارة الحقيقية لإيران. غضبت سلطات الشاه منه وارادت ايقافه عند حده وخاصة بعد أن تزايد عدد طلابه ومريديه في مشهد، فأبعد عن الجامعة وتم تعيينه كمعلم ابتدائية في احدى القرى البعيدة كمحاولة لمنعه من نشر افكاره بين الناس، ولكن استمر طلابه بالتوافد عليه في تلك القرية النائية والاستماع لمحاضراته. اخيراً رضخ نظام الشاه فاعيد كأستاذ في جامعة طهران وذلك لأبعاده عن ابناء مشهد، فما كان منه الا أن اسس حسينية (ارشاد) شمال طهران عام 1969، وبدأ يلقي محاضراته الاسلامية فيها.
عندما كان الدكتور شريعتي يلقي محاضرة ما، كان عدد الحضور مابين ثلاثة الى اربعة الاف مستمع، والكثير منهم يسجل محاضرات الدكتور على شرائط الكاسيت، وكان من الطبيعي حضور عدد من موظفي ووكلاء الامن الايراني (السافاك) معهم. في شهر محرم عام 1973 بدأ الدكتور شريعتي بالقاء سلسلة محاضرات عن الطبيعة السياسية والاقتصادية للدولة الاموية التي ثار ضدها الامام الحسين (ع)، وبصفته استاذاً في علم الاجتماع فقد حلل نظام الطبقات المساندة للسلطة الأموية. لم يتنبه موظفو السافاك لما يقوله الدكتور شريعتي اول الامر، بل انتبهوا لتزايد عدد الحضور في كل محاضرة عن سابقتها، وانتبهوا لقدوم شباب محسوبين على التيارات اليسارية أو الماركسية الى محاضرات الدكتور شريعتي، عندها اعاد ضباط السافاك سماع تسجيلات المحاضرات واحسوا بما احس به الجمهور، فالطبقات الاجتماعية التي ساندت الدولة الاموية في الماضي، هي نفس الطبقات التي يرتكز نظام الشاه عليها، أي إن الدكتور شريعتي قد اسقط الهالة الوهمية المحيطة بنظام الشاه واسقطه في اعين الناس بدون ان يذكره في محاضراته، لذا فقد تم اعتقال الدكتور شريعتي ووالده لمدة عام ونصف في سجون السافاك، واغلقت حسينية الارشاد.
اثار اعتقال الدكتور شريعتي تساؤلاً بين عامة الناس، فصار الشباب المثقف يستنسخ محاضراته المسجلة على الكاسيتات ويوزعها بين المثقفين والعامة، وصار الالوف من العامة والمثقفين يتعرفون على افكار الدكتور شريعتي وينصتون لمحاضراته بعد اعتقاله.
عندما كان الدكتور شريعتي طالباً في جامعة السوربون بباريس لم يكن شاباً خاملاً أو بعيداً عن النشاط السياسي، بل كان يشارك الجزائريين بمظاهراتهم الباريسية المطالبة بإستقلال الجزائر، ويتعرض للضرب معهم على ايد الشرطة الفرنسية، كما تم اعتقاله عام 1961 لمدة ثلاثة ايام مع عدد من الافارقة واليساريين الفرنسيين، بعد أن خرجوا بمظاهرة احتجاجية على مقتل رئيس الكونغو باتريس لومومبا.
في هذين الموقفين يمثل الدكتور شريعتي تجسيداً للمثقف الانساني المتنور، يساند الجزائريين بدون أن يهتم لأختلافهم عنه في القومية والمذهب، ويخرج في مظاهرة احتجاجية مع اناس مختلفين عنه في العرق والدين، ثم يأتينا آخر الزمان من يزعم إن الثقافة مصطلح عنصري ومعادي للدين، في حين إن الثقافة مثل الثوب يرتديه المؤمن والفاسق، ومثل القنوات الفضائية تشاهد عليها الطبيعة وتستمع منها لآيات القران أو المحاضرات الدينية، كما تشاهد عليها مباريات كرة القدم والكارتون، وليست كل القنوات الفضائية تعرض افلام ماجنة ورقصات مثلما يظن البعض، ولايوجد شئ اسمه ثقافة عنصرية، وإنما هنالك بعض العنصريين الذين يلوون عنق الحقيقة ويوظفون الثقافة لتوجيه الناس بأتجاهات عنصرية فجة.
أن تكون مثقفاً يعني أن تكون مهذباً تتجنب توجيه الاتهامات والشتائم لغيرك، وأن تحترم الآخر ووجهة نظره ومستوى فهمه وادراكه للأمور، وليس للفقراء أي ذنب في عدم نيل المعرفة والثقافة، ولكن الذنب ذنب المجتمع والدولة التي لاتحترم انسانية الفقير وتتركه بدون اعانته ورفع مستواه المعيشي، وكم من ابناء الفقراء كافحوا وتخرجوا من الجامعات، وعندما تحسنت ظروفهم المعيشية صاروا مثقفين لأنهم استطاعوا شراء الكتب أو الوصول الى المكتبات العامة، كلنا بشر وأن تكون مثقفاً يعني أن تحترم انسانية غيرك فلا تهينه لأنه ادنى مستوىً منك.
في آذار عام 1975 عقد مؤتمر القمة الاول لمنظمة اوبك في الجزائر وحضره شاه ايران بنفسه، فترجاه الاخوة الجزائريين اطلاق سراح الدكتور علي شريعتي، فوجئ الشاه بمعرفتهم اياه وخاصة عندما ابلغوه إنه كان رفيقاً لهم في المظاهرات المطالبة بالاستقلال، وتحمل معهم هراوات الشرطة الفرنسية. وقد تم اطلاق سراح الدكتور شريعتي بعد عودة الشاه الى ايران ولكن منع من السفر، ثم سمح له في ايار عام 1977 بمغادرة ايران، فسافر الى لندن ولكنه وجد ميتاً في شقته بعد اقل من شهر على وصوله، فاستشاط الشارع الايراني غضباً واتهم السافاك بتسميمه، وتأكد الامر حينما منعت سلطات الشاه السماح بدفنه داخل ايران، فاضطر المرافقون للجنازة للتوجه بها الى دمشق ودفنه في مقبرة السيدة زينب (ع)، واقام صلاة الجنازة عليه الإمام موسى الصدر، ثم اقام له حفلاً تأبينياً في بيروت مما ادى الى غضب السلطات الايرانية عليه.
في عام 1978 انفجر الشارع الايراني بالمظاهرات، والتف اليساريون والحركة الوطنية والاسلاميون في تكتل واحد ثم ساندهم بعد ذلك تجار البازار، وكانت الجماهير بحاجة الى قائد يتحمل عبء المهمة الصعبة، فحمل الامام الخميني لواء الثورة وقرر مقارعة الطغيان، وواجهت الثوار عقبة وهي كيفية ايصال خطابات الخميني وتوجيهاته والذي كان مقيماً في النجف الى داخل ايران، والحل كان استعمال شرائط الكاسيت المستنسخة، وكما استنسخت محاضرات الدكتور شريعتي من الممكن ادخال شريط كاسيت واحد واستنساخ مئات الشرائط عنه، واجهزة الكاسيت منتشرة ولا تستطيع السلطات مصادرتها، وهكذا قاد الدكتور شريعتي الثورة على الشاه من قبره في دمشق، وانتصر الدم على السيف. واليوم إن سألت أي مثقف ايراني عن ابي الثورة الايرانية لقال لك الدكتور علي شريعتي، فلقد مهد الطريق للجماهير وجعلها تفتح اعينها على حقيقة الشاه ونظامه، واعطائها الاسلحة الفكرية والشجاعة النفسية التي تجابه بها اجهزة الجبروت والاستبداد المعادية للثقافة والمثقفين.
احد الكتاب كتب قبل ايام على موقع كتابات مقالاً مخصصاً لشتم الثقافة والمثقفين، وطالب بالغاء وزارة الثقافة على اساس إنها بلا فاعلية أو دور تؤديه، وانهال بكيل التهم على المثقفين فلم يستثني منهم احداً، في حين إن المثقف العراقي مضطهد ومظلوم في مختلف العهود، وهو مكروه من العامة لأنه لا يساير المجتمع في كل ارائه وافكاره، وهذا هو الطبيعي، فمعرفة المثقف ووعيه يجعله متقدماً على سواه من الناس لينير لهم الطريق ، اما إن اصبح المثقف جزءاً من العامة لايرشدهم ولايهديهم، صارت معرفته لنفسه وسقطت عنه صفة الثقافة.
لا يمكننا التعميم في اي صفة من الصفات فنطلقها على طائفة أو جماعة من الناس بشكل اعتباطي، نعم استطاع نظام البعث من احتواء عدد كبير من الكتاب والشعراء كما قال الكاتب في مقالته، ولكن من انضم اليه من الجهلة وانصاف المتعلمين اضعاف اضعاف من انضم اليه من المثقفين. لقد وصل البعثيون الى السلطة وبيديهم ذهب معاوية وسيف الحجاج وكانت اغراءاتهم كبيرة وطاغية، والناس تبحث عن الطعام الدسم واللباس الانيق ، لذا فقد سار في ركاب السلطة بعض ابناء الطبقات العليا والدنيا من المجتمع سواء خوفاً أو طمعاً ، كما سايرهم الكثير من ابناء المدن والارياف من عرب واكراد وتركمان وشروك ومعدان، وكما يقول المثل ( ماكو زور يخلى من واوية )، بل وانضم اليهم بعض من قراء المواكب والمجالس الحسينية، فهم جزء من نسيج المجتمع العراقي. عندما ضايق النظام السابق قراء المجالس الحسينية قبل منعها، التزم بعض القراء الصمت وانسحبوا ، واستمر البعض منهم في القراءة على الحسين (ع) واقامة المجالس الحسينية سراً، اما البعض الآخر فكانوا اصلاً بلا ولاء بل يبحثون عن مورد للارتزاق، فاغراهم البعث بوظائف وهدايا، فتحولوا الى قراءة قصائد المديح للحزب والقائد، وقد ظهر الكثير من هؤلاء وهم يلقون القصائد الشعبية الحماسية من على شاشات التلفزيون ايام حرب الثمان سنوات مع ايران، ولكن هل نستطيع اتهام الكل بذنب البعض؟؟.
الثقافة ليست مهنة او حرفة، والادب والشعر كما يقال ما يوكل خبز ، لذا نجد إن الكثير من مثقفي االعراق القدامى كانوا من الاطباء او المهندسين أو اساتذة جامعات او اصحاب مكتبات، ومن الخطأ منح الكاتب او الاديب رواتب عالية وجعله موظفاً في مجلة حكومية فذلك مما يعزله عن مجتمعه ومحيطه، لنأخذ مثلاً كاتباً معروفاً مثل نجيب محفوظ والذي نال جائزة نوبل في الاداب، لقد ظل الرجل موظفاً حكومياً يتقاضى راتبه على اداء وظيفته الحكومية، وكتب اول رواياته عندما كان يعمل في ارشيف وزارة الاوقاف، وبعد عام 1954 انتقل الى وزارة الارشاد ثم الى وزارة الثقافة وعين كمدير للرقابة على المصنفات الفنية وليس كأديب.
في كثير من بلاد الله يحترم الناس الشاعر او الاديب إلا في العراق، حيث ينظرون اليه كعاطل ومتحذلق يستخدم مفردات طنانة غير مفهومة، وذلك بسبب بعض الطارئين الذين اساءوا للثقافة والمثقفين. السلطة تطلب من المثقف أن يصبح احد ابواقها الدعائية، والناس تريد منه ان يتحول الى شاعر أو كاتب القبيلة والمدافع عن عاداتها وتقاليدها ومفاخرها ، وبين حانه ومانه ضاعت لحانا.
البعض يتسائل عن الدور الذي يمكن للمثقف أن يؤديه، وقد اخترت ثلاث نماذج لمثقفين اسلاميين كرد قاطع على الكاتب الذي يقول (المفروغ منه ان المثقف شخص كذاب) ، اولهم السيد محمد باقر الصدر والذي قام بكتابة منهج فكري سياسي اسلامي معاصر من خلال كتابيه فلسفتنا واقتصادنا، وذلك ليوضح للشباب المتأثرين بالفكر الغربي بشقيه الماركسي والليبرالي بأن للأسلام كذلك جوانب سياسية واقتصادية، وقد استطاع الصدر ( من خلال كتبه ومحاضراته ) من اجتذاب نخبة مثقفة نحو تبني الخطاب السياسي الاسلامي، ومع ذلك فأن بعض فقهاء الشيعة رفضوا الحداثة والمعاصرة التي اراد الشهيد الصدر ادخالها على المذهب، ولم يكونوا راضين عن توجهاته الفكرية.
لقد استطاع الصدر من تحقيق خطوة مهمة لجسر الهوة الفاصلة بين المثقف والدين، وانزعجت السلطات منه اذ استطاع دفع الشباب نحو النهج الاسلامي بدلاً من النهج اللاديني الذي كان المتبنى من قبل نظام البعث، واحست السلطة بخطورته حينما انتقلت افكاره ليتبناها انصاف المثقفين الشيعة وبعض الاسلاميين السنة، لذا فقد اضطهدته ثم اعدمته لتمنع من انتشار افكاره بين العامة.
ازاء الشهيد الصدر كان لدينا مفكر آخر، لكنه حاول جسر الهوة بين المثقف الاسلامي ورجل الشارع العامي، الا وهو الدكتور احمد الوائلي. فلقد ادرك تعلق العامة بالمجالس والقرايات الحسينية، فحاول من خلالها نشر الوعي والثقافة بين الناس، وخاصة بعد أن تدنت ثقافة قراء المنبر الحسيني، وجاء بعض المرتزقة لأعتلائه على طريقة (مو عل الحسين على الهريسة دكنا ). وقد دفعت محاضرات الوائلي قراء المنبر الحسيني المخلصين لتطوير ثقافتهم واثرائها بالمزيد من القراءة، ودفعت العامة للتعرف على الثقافة الاسلامية والنهل من مناهلها، ومع إن الوائلي لم يحرض الناس على الثورة ، فلقد انزعج النظام الاستبدادي الشمولي من توجهاته الفكرية ، فلقد حرض الناس على فتح اعينهم ومشاهدة التاريخ الاسلامي بعين الحاضر.
اما المثقف الثالث فلم يكن عراقياً، فهو الدكتور علي شريعتي الحاصل على شهادة الدكتوراة في علم الاجتماع من جامعة السوربون في فرنسا. عندما عاد الى ايران تم تعيينه في جامعة مشهد، وبدلاً من أن يترجم كتب سارتر مثلاً ترجم عن الفرنسية كتاب (سلمان الفارسي) للوي ماسينيون، وبدلاً من تمجيد حضارتي الفرثيين والساسانيين كما يريد النظام، كان يلقي على طلابه ومريديه دروساً في الثقافة الاسلامية خارج اسوار الجامعة، ويشرح لهم كيف إن الاسلام هو من جلب الحضارة الحقيقية لإيران. غضبت سلطات الشاه منه وارادت ايقافه عند حده وخاصة بعد أن تزايد عدد طلابه ومريديه في مشهد، فأبعد عن الجامعة وتم تعيينه كمعلم ابتدائية في احدى القرى البعيدة كمحاولة لمنعه من نشر افكاره بين الناس، ولكن استمر طلابه بالتوافد عليه في تلك القرية النائية والاستماع لمحاضراته. اخيراً رضخ نظام الشاه فاعيد كأستاذ في جامعة طهران وذلك لأبعاده عن ابناء مشهد، فما كان منه الا أن اسس حسينية (ارشاد) شمال طهران عام 1969، وبدأ يلقي محاضراته الاسلامية فيها.
عندما كان الدكتور شريعتي يلقي محاضرة ما، كان عدد الحضور مابين ثلاثة الى اربعة الاف مستمع، والكثير منهم يسجل محاضرات الدكتور على شرائط الكاسيت، وكان من الطبيعي حضور عدد من موظفي ووكلاء الامن الايراني (السافاك) معهم. في شهر محرم عام 1973 بدأ الدكتور شريعتي بالقاء سلسلة محاضرات عن الطبيعة السياسية والاقتصادية للدولة الاموية التي ثار ضدها الامام الحسين (ع)، وبصفته استاذاً في علم الاجتماع فقد حلل نظام الطبقات المساندة للسلطة الأموية. لم يتنبه موظفو السافاك لما يقوله الدكتور شريعتي اول الامر، بل انتبهوا لتزايد عدد الحضور في كل محاضرة عن سابقتها، وانتبهوا لقدوم شباب محسوبين على التيارات اليسارية أو الماركسية الى محاضرات الدكتور شريعتي، عندها اعاد ضباط السافاك سماع تسجيلات المحاضرات واحسوا بما احس به الجمهور، فالطبقات الاجتماعية التي ساندت الدولة الاموية في الماضي، هي نفس الطبقات التي يرتكز نظام الشاه عليها، أي إن الدكتور شريعتي قد اسقط الهالة الوهمية المحيطة بنظام الشاه واسقطه في اعين الناس بدون ان يذكره في محاضراته، لذا فقد تم اعتقال الدكتور شريعتي ووالده لمدة عام ونصف في سجون السافاك، واغلقت حسينية الارشاد.
اثار اعتقال الدكتور شريعتي تساؤلاً بين عامة الناس، فصار الشباب المثقف يستنسخ محاضراته المسجلة على الكاسيتات ويوزعها بين المثقفين والعامة، وصار الالوف من العامة والمثقفين يتعرفون على افكار الدكتور شريعتي وينصتون لمحاضراته بعد اعتقاله.
عندما كان الدكتور شريعتي طالباً في جامعة السوربون بباريس لم يكن شاباً خاملاً أو بعيداً عن النشاط السياسي، بل كان يشارك الجزائريين بمظاهراتهم الباريسية المطالبة بإستقلال الجزائر، ويتعرض للضرب معهم على ايد الشرطة الفرنسية، كما تم اعتقاله عام 1961 لمدة ثلاثة ايام مع عدد من الافارقة واليساريين الفرنسيين، بعد أن خرجوا بمظاهرة احتجاجية على مقتل رئيس الكونغو باتريس لومومبا.
في هذين الموقفين يمثل الدكتور شريعتي تجسيداً للمثقف الانساني المتنور، يساند الجزائريين بدون أن يهتم لأختلافهم عنه في القومية والمذهب، ويخرج في مظاهرة احتجاجية مع اناس مختلفين عنه في العرق والدين، ثم يأتينا آخر الزمان من يزعم إن الثقافة مصطلح عنصري ومعادي للدين، في حين إن الثقافة مثل الثوب يرتديه المؤمن والفاسق، ومثل القنوات الفضائية تشاهد عليها الطبيعة وتستمع منها لآيات القران أو المحاضرات الدينية، كما تشاهد عليها مباريات كرة القدم والكارتون، وليست كل القنوات الفضائية تعرض افلام ماجنة ورقصات مثلما يظن البعض، ولايوجد شئ اسمه ثقافة عنصرية، وإنما هنالك بعض العنصريين الذين يلوون عنق الحقيقة ويوظفون الثقافة لتوجيه الناس بأتجاهات عنصرية فجة.
أن تكون مثقفاً يعني أن تكون مهذباً تتجنب توجيه الاتهامات والشتائم لغيرك، وأن تحترم الآخر ووجهة نظره ومستوى فهمه وادراكه للأمور، وليس للفقراء أي ذنب في عدم نيل المعرفة والثقافة، ولكن الذنب ذنب المجتمع والدولة التي لاتحترم انسانية الفقير وتتركه بدون اعانته ورفع مستواه المعيشي، وكم من ابناء الفقراء كافحوا وتخرجوا من الجامعات، وعندما تحسنت ظروفهم المعيشية صاروا مثقفين لأنهم استطاعوا شراء الكتب أو الوصول الى المكتبات العامة، كلنا بشر وأن تكون مثقفاً يعني أن تحترم انسانية غيرك فلا تهينه لأنه ادنى مستوىً منك.
في آذار عام 1975 عقد مؤتمر القمة الاول لمنظمة اوبك في الجزائر وحضره شاه ايران بنفسه، فترجاه الاخوة الجزائريين اطلاق سراح الدكتور علي شريعتي، فوجئ الشاه بمعرفتهم اياه وخاصة عندما ابلغوه إنه كان رفيقاً لهم في المظاهرات المطالبة بالاستقلال، وتحمل معهم هراوات الشرطة الفرنسية. وقد تم اطلاق سراح الدكتور شريعتي بعد عودة الشاه الى ايران ولكن منع من السفر، ثم سمح له في ايار عام 1977 بمغادرة ايران، فسافر الى لندن ولكنه وجد ميتاً في شقته بعد اقل من شهر على وصوله، فاستشاط الشارع الايراني غضباً واتهم السافاك بتسميمه، وتأكد الامر حينما منعت سلطات الشاه السماح بدفنه داخل ايران، فاضطر المرافقون للجنازة للتوجه بها الى دمشق ودفنه في مقبرة السيدة زينب (ع)، واقام صلاة الجنازة عليه الإمام موسى الصدر، ثم اقام له حفلاً تأبينياً في بيروت مما ادى الى غضب السلطات الايرانية عليه.
في عام 1978 انفجر الشارع الايراني بالمظاهرات، والتف اليساريون والحركة الوطنية والاسلاميون في تكتل واحد ثم ساندهم بعد ذلك تجار البازار، وكانت الجماهير بحاجة الى قائد يتحمل عبء المهمة الصعبة، فحمل الامام الخميني لواء الثورة وقرر مقارعة الطغيان، وواجهت الثوار عقبة وهي كيفية ايصال خطابات الخميني وتوجيهاته والذي كان مقيماً في النجف الى داخل ايران، والحل كان استعمال شرائط الكاسيت المستنسخة، وكما استنسخت محاضرات الدكتور شريعتي من الممكن ادخال شريط كاسيت واحد واستنساخ مئات الشرائط عنه، واجهزة الكاسيت منتشرة ولا تستطيع السلطات مصادرتها، وهكذا قاد الدكتور شريعتي الثورة على الشاه من قبره في دمشق، وانتصر الدم على السيف. واليوم إن سألت أي مثقف ايراني عن ابي الثورة الايرانية لقال لك الدكتور علي شريعتي، فلقد مهد الطريق للجماهير وجعلها تفتح اعينها على حقيقة الشاه ونظامه، واعطائها الاسلحة الفكرية والشجاعة النفسية التي تجابه بها اجهزة الجبروت والاستبداد المعادية للثقافة والمثقفين.
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |