السفر نحو جوهر الإنسان
* محمد بن زيان
ـ 1 ـ
* محمد بن زيان / كاتب وأكاديمي جزائري
الشعر لغة اللغة، لغة التكثيف الذي يجنح بالعبارة ليقول الإشارة، إشارة لا تستقر، بل تظل حبلى بالإشارات والعلامات.. واللغة هي بيت الكائن ومسكن الوجود بتعبير هايدغر وفي لغة مبدع جبار كطاغور نثقف الذي يبقى نابضا بالحياة، نثقفه في شعر يمتص الحياة وينقدح رحيقا يظل يعبق كلما مر الزمن.
وما يمكن أن يلخص الحديث عن طاغور هو أنه صوت الإنسان، الإنسان بكل ما تعنيه العبارة، الإنسان كصيرورة بتعبير علي شريعتي، صيرورة التحقق المستمر بمكابدة صوفية تحب الإنسان، وتتعالى على كل الفروق والتمايزات وذلك هو ما يحضر في أثار طاغور التي يجد فيه الإنسان نفسه.
طاغور تربى في أسرة لها الوجاهة والمركز دينيا وثقافيا واجتماعيا فنشأ في مناخ يعبق بالثقافة والفن، نشأة كانت المنطلق لصياغة شخصية فذة ومتفردة.
عرف الغرب وتجول في الكثير من بلدان الشرق فانفتح على المتعدد وحاور المختلف والإبداع العظيم كما ذكر مرة أدونيس في حوار أدلى به للمرحوم بختي بن عودة “وليد التهجين”، وطاغور دخل في تثاقف وتحاور وإنصات فصار مشعا بروح جعلته مفعما بأمل في خضم الوضع الذي زامنه، وضع أثار الحيرة والقلق وأثار الاستفهامات، فطاغور رحل عن عالمنا أثناء الحرب العالمية الثانية وقبل استقلال بلده، وفي ذلك السياق قال: “مهما يكن من شيء فإني لن أرتكب الخطيئة الخطيرة: خطيئة فقدان الإيمان بالإنسان، والرضوخ للهزيمة التي حاقت بنا في الوقت الحاضر على اعتبارها نهائية وحاسمة. بل سأظل أتطلع بأمل إلى تحول في مجرى التاريخ، وبعد أن تنجاب هذه الغمة الجاثمة وتصفر السماء ثانية وتهدأ. وربما بزغ الفجر الجديد من أفقنا هذا، أفق الشرق، حيث تشرق الشمس.
وعندئذ تهب روح الإنسان التي لم تهزم لتقوده من جديد إلى طريقه، طريق التقدم رغم كل العوائق، ليسترد تراثه الضائع”.
ـ 2 ـ
في شعر طاغور حضور المطلق بارتباط مع النسبي، حضورا عرفانيا محققا لمعادلة أنطولوجية لن تستوعب إلا بربطها بالمؤثرات التي صاغت شخصية طاغور، وكان كما يقول الأستاذ خليفة محمد التليسي: “شاعرا عظيما اتسع قلبه لكل القيم الإنسانية الرفيعة، فكان منه هذا الرمز الذي يعانقه المسيحي فيشعر له بقرابة المسيحية ويقرأه المسلم فيشعر له بقرابة الإسلام، ويعانقه أي مؤمن بأي دين أو عقيدة تعلي من شأن الإنسان. ويبدو من سيرته وشعره أنه كان التحقيق العملي لما طمح إليه والده في يوم من الأيام من توحيد الأديان الكبرى وصهرها في دين واحد”.
في قصيدة بعنوان “الدين الزائف” يقول طاغور:
«أولئك الذين يعانقون الوهم باسم الدين
يقتلون ـ بفتح الياء ـ ويقتلون ـ بضم الياء ـ
حتى الملحد يحصل على بركة الله
فلا تفخر بدينك”
ويخاطب الخالق:
«يا إلهي
دمر الدين الزائف
وأنقذ الأعمى
ولتهشم، ولتهشم
المعبد الملطخ بالدماء
ودع هزيم الرعد ينفذ إلى سجن الدين الزائف
واحمل إلى هذه الأرض التعيسة
نور المعرفة”.
وذلك ما يحيلنا إلى المرجعية الصوفية وإلى الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي عندما يقول في ترجمان الأشواق:
«لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه، فالحب ديني وإيماني”
وامتدادا له يكتب الأمير عبد القادر في “المواقف”:
«فطورا تراني مسلما أي مسلم
زهودا نسوكا خاضعا طالبا مدا
وطورا تراني للكنائس مسرعا
وفي وسطي الزنار أحكمته شدا
وطورا بمدارس اليهود مدرسا
أقرر توراة وأبدي لهم رشدا”.
الدخول إلى عالم طاغور هو سياحة في عوالم عشق الإنسان وعوالم عرفان وتعالى يحايث وينغمس في الحياة.. عوالم حياة تظل بظة نابضة بالأمل والرهان على الإنسان المرتفع عن المحدود العابر، الإنسان الذي يحقق الالتحام الناسوتي بالمطلق، التحاما يحقق معنى الوجود.
تنقلنا أشعار طاغور إلى الحكمة العميقة، حكمة نداء الأعماق وتجليات الأفاق.. نقرأ فنجد ذلك الجوهر الذي نثقفه في نصوص العرفانيين، في نصوص لن يكتبها إلا أمثال طاغور الذي يستحضر الإلهي في مخاطبات ترتفع بروح الإنسان للخلاص والانعتاق مما عبر عنه ابن عربي برق الأوقات، واستحضار الإلهي هو استحضار لجدلية الحياة التي لخصها البسطامي بقوله: “الخلق يعرجون إلى الحق والحق ينزل إلى الخلق”.
نصوص تنطلق من الحياة لتنسج ما تحجبه الحجب وتخفيه الأقنعة.
ـ 3 ـ
طاغور ليس مجرد شاعر عادي، إنه استثناء من الاستثناءات التي يتشكل بها وعبرها التاريخ.. إنه مشروع متكامل تبلور شعرا ونثرا، تبلور رسما وموسيقى، تبلور فكرا ومشروعا تربويا.. كان طاغور متعددا وفي تعدده كان كما عبر:
«والفكرة تبحث عن هيأتها في الصورة
والصورة تبحث عن حريتها في الفكرة
واللانهائي يبحث عن لمسة النهائي
والنهائي يبحث عن انعتاقه في اللانهائي”
ولبلورة مشروعه بادر ببعث مدرسة تطورت إلى جامعة تعرف بالجامعة العالمية وتحمل اسم “فيسفا بهاراتي” وهو اسم اقتبسه من الشعر السانسكريتي ويعني مكان تلاقي وانصهار العالم، مولها مما حصل عليه بجائزة نوبل تحرك من أجل دعمها عبر بلدان مختلفة.
وفي ذلك ما يدل على عمق ارتباط طاغور بأصوله، ارتباطا هو مرتكز عروجه نحو اللامتناهي، نحو الأفق الإنساني المخترق لكل التصنيفات والتجنيسات.
لم ينفصل طاغور عن محيطه وواقعه وهو يعرج، بل مزج مزيجا تبلور رؤية اختزلت بتكثيف جمالي وأنطولوجي ارث بلده الكبير وحصيلة رحلاته وثقافته الممتدة بانفتاح على مختلف الثقافات.. ارتبط بمعاناة شعبه ورد لبريطانيا لقب “سير” الممنوح له، احتجاجا منه على بطشها بشعبه. طاغور لم ينعزل في برج عاجي، بل انخرط في واقعه لينزل بالمجرد إلى المجسد وليرتفع بالمجسد إلى المجرد.
ـ 4 ـ
الحديث عن طاغور هو حديث عن الهند بكل ما تمثله من تكثيف للبشرية كلها في تنوعها، وقارئ طاغور يزور وهو يقرأه الهند، يقول الصحفي حسنين هيكل:
«لا أظن أن زائرا للهند، مهما بلغت درجة موضوعيته، يستطيع أن يتخذ لنفسه موقفا محايدا إزاءها بحيث ينظر إليها بالعقل المجرد وحده، أو يقيس أمورها بحساب الواقع المرئي ولا شيء غيره، أو يقدر حقائقها أو مصائرها بآلية كفتى الميزان دون زيادة أو نقصان، لا أظن.. ذلك لأن الهند كتلة إنسانية غير عادية تشحنها طاقة نفسية غير عادية أيضا. ومبعث الغرابة أن الكتلة الإنسانية في الهند ليست متجانسة بل متنافرة وهي برغم ذلك متماسكة. ثم إن الطاقة النفسية لهذه الكتلة الإنسانية أشد غرابة، إذ أن فيها من قوة الجذب بقدر ما فيها من قوة الطرد”.
ـ 5 ـ
طاغور يمتد، امتدادا عبّر عنه في قصيدته التي توقف فيها عند الموت فخاطبها وأعلن:
«أنا أكبر من الموت
وسأعلن ذلك عندما أغادر هذه الأرض”
وهذا عين ما عناه محمود درويش في الجدارية:
«هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد
الرافدين. مسلة المصري، مقبرة الفراعنة،
النقوش على حجارة معبدي هزمتك
وانتصرت، وأفلت من كمائنك
الخلود”.
طاغور في الخلاصة هو كما عبر:
«الفكرة تبحث عن هيأتها في الصورة
والصورة تبحث عن حريتها في الفكرة”.
هو امتداد وسفر نحو جوهر الإنسان.
طاغور تربى في أسرة لها الوجاهة والمركز دينيا وثقافيا واجتماعيا فنشأ في مناخ يعبق بالثقافة والفن، نشأة كانت المنطلق لصياغة شخصية فذة ومتفردة.
عرف الغرب وتجول في الكثير من بلدان الشرق فانفتح على المتعدد وحاور المختلف والإبداع العظيم كما ذكر مرة أدونيس في حوار أدلى به للمرحوم بختي بن عودة “وليد التهجين”، وطاغور دخل في تثاقف وتحاور وإنصات فصار مشعا بروح جعلته مفعما بأمل في خضم الوضع الذي زامنه، وضع أثار الحيرة والقلق وأثار الاستفهامات، فطاغور رحل عن عالمنا أثناء الحرب العالمية الثانية وقبل استقلال بلده، وفي ذلك السياق قال: “مهما يكن من شيء فإني لن أرتكب الخطيئة الخطيرة: خطيئة فقدان الإيمان بالإنسان، والرضوخ للهزيمة التي حاقت بنا في الوقت الحاضر على اعتبارها نهائية وحاسمة. بل سأظل أتطلع بأمل إلى تحول في مجرى التاريخ، وبعد أن تنجاب هذه الغمة الجاثمة وتصفر السماء ثانية وتهدأ. وربما بزغ الفجر الجديد من أفقنا هذا، أفق الشرق، حيث تشرق الشمس.
وعندئذ تهب روح الإنسان التي لم تهزم لتقوده من جديد إلى طريقه، طريق التقدم رغم كل العوائق، ليسترد تراثه الضائع”.
ـ 2 ـ
في شعر طاغور حضور المطلق بارتباط مع النسبي، حضورا عرفانيا محققا لمعادلة أنطولوجية لن تستوعب إلا بربطها بالمؤثرات التي صاغت شخصية طاغور، وكان كما يقول الأستاذ خليفة محمد التليسي: “شاعرا عظيما اتسع قلبه لكل القيم الإنسانية الرفيعة، فكان منه هذا الرمز الذي يعانقه المسيحي فيشعر له بقرابة المسيحية ويقرأه المسلم فيشعر له بقرابة الإسلام، ويعانقه أي مؤمن بأي دين أو عقيدة تعلي من شأن الإنسان. ويبدو من سيرته وشعره أنه كان التحقيق العملي لما طمح إليه والده في يوم من الأيام من توحيد الأديان الكبرى وصهرها في دين واحد”.
في قصيدة بعنوان “الدين الزائف” يقول طاغور:
«أولئك الذين يعانقون الوهم باسم الدين
يقتلون ـ بفتح الياء ـ ويقتلون ـ بضم الياء ـ
حتى الملحد يحصل على بركة الله
فلا تفخر بدينك”
ويخاطب الخالق:
«يا إلهي
دمر الدين الزائف
وأنقذ الأعمى
ولتهشم، ولتهشم
المعبد الملطخ بالدماء
ودع هزيم الرعد ينفذ إلى سجن الدين الزائف
واحمل إلى هذه الأرض التعيسة
نور المعرفة”.
وذلك ما يحيلنا إلى المرجعية الصوفية وإلى الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي عندما يقول في ترجمان الأشواق:
«لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه، فالحب ديني وإيماني”
وامتدادا له يكتب الأمير عبد القادر في “المواقف”:
«فطورا تراني مسلما أي مسلم
زهودا نسوكا خاضعا طالبا مدا
وطورا تراني للكنائس مسرعا
وفي وسطي الزنار أحكمته شدا
وطورا بمدارس اليهود مدرسا
أقرر توراة وأبدي لهم رشدا”.
الدخول إلى عالم طاغور هو سياحة في عوالم عشق الإنسان وعوالم عرفان وتعالى يحايث وينغمس في الحياة.. عوالم حياة تظل بظة نابضة بالأمل والرهان على الإنسان المرتفع عن المحدود العابر، الإنسان الذي يحقق الالتحام الناسوتي بالمطلق، التحاما يحقق معنى الوجود.
تنقلنا أشعار طاغور إلى الحكمة العميقة، حكمة نداء الأعماق وتجليات الأفاق.. نقرأ فنجد ذلك الجوهر الذي نثقفه في نصوص العرفانيين، في نصوص لن يكتبها إلا أمثال طاغور الذي يستحضر الإلهي في مخاطبات ترتفع بروح الإنسان للخلاص والانعتاق مما عبر عنه ابن عربي برق الأوقات، واستحضار الإلهي هو استحضار لجدلية الحياة التي لخصها البسطامي بقوله: “الخلق يعرجون إلى الحق والحق ينزل إلى الخلق”.
نصوص تنطلق من الحياة لتنسج ما تحجبه الحجب وتخفيه الأقنعة.
ـ 3 ـ
طاغور ليس مجرد شاعر عادي، إنه استثناء من الاستثناءات التي يتشكل بها وعبرها التاريخ.. إنه مشروع متكامل تبلور شعرا ونثرا، تبلور رسما وموسيقى، تبلور فكرا ومشروعا تربويا.. كان طاغور متعددا وفي تعدده كان كما عبر:
«والفكرة تبحث عن هيأتها في الصورة
والصورة تبحث عن حريتها في الفكرة
واللانهائي يبحث عن لمسة النهائي
والنهائي يبحث عن انعتاقه في اللانهائي”
ولبلورة مشروعه بادر ببعث مدرسة تطورت إلى جامعة تعرف بالجامعة العالمية وتحمل اسم “فيسفا بهاراتي” وهو اسم اقتبسه من الشعر السانسكريتي ويعني مكان تلاقي وانصهار العالم، مولها مما حصل عليه بجائزة نوبل تحرك من أجل دعمها عبر بلدان مختلفة.
وفي ذلك ما يدل على عمق ارتباط طاغور بأصوله، ارتباطا هو مرتكز عروجه نحو اللامتناهي، نحو الأفق الإنساني المخترق لكل التصنيفات والتجنيسات.
لم ينفصل طاغور عن محيطه وواقعه وهو يعرج، بل مزج مزيجا تبلور رؤية اختزلت بتكثيف جمالي وأنطولوجي ارث بلده الكبير وحصيلة رحلاته وثقافته الممتدة بانفتاح على مختلف الثقافات.. ارتبط بمعاناة شعبه ورد لبريطانيا لقب “سير” الممنوح له، احتجاجا منه على بطشها بشعبه. طاغور لم ينعزل في برج عاجي، بل انخرط في واقعه لينزل بالمجرد إلى المجسد وليرتفع بالمجسد إلى المجرد.
ـ 4 ـ
الحديث عن طاغور هو حديث عن الهند بكل ما تمثله من تكثيف للبشرية كلها في تنوعها، وقارئ طاغور يزور وهو يقرأه الهند، يقول الصحفي حسنين هيكل:
«لا أظن أن زائرا للهند، مهما بلغت درجة موضوعيته، يستطيع أن يتخذ لنفسه موقفا محايدا إزاءها بحيث ينظر إليها بالعقل المجرد وحده، أو يقيس أمورها بحساب الواقع المرئي ولا شيء غيره، أو يقدر حقائقها أو مصائرها بآلية كفتى الميزان دون زيادة أو نقصان، لا أظن.. ذلك لأن الهند كتلة إنسانية غير عادية تشحنها طاقة نفسية غير عادية أيضا. ومبعث الغرابة أن الكتلة الإنسانية في الهند ليست متجانسة بل متنافرة وهي برغم ذلك متماسكة. ثم إن الطاقة النفسية لهذه الكتلة الإنسانية أشد غرابة، إذ أن فيها من قوة الجذب بقدر ما فيها من قوة الطرد”.
ـ 5 ـ
طاغور يمتد، امتدادا عبّر عنه في قصيدته التي توقف فيها عند الموت فخاطبها وأعلن:
«أنا أكبر من الموت
وسأعلن ذلك عندما أغادر هذه الأرض”
وهذا عين ما عناه محمود درويش في الجدارية:
«هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد
الرافدين. مسلة المصري، مقبرة الفراعنة،
النقوش على حجارة معبدي هزمتك
وانتصرت، وأفلت من كمائنك
الخلود”.
طاغور في الخلاصة هو كما عبر:
«الفكرة تبحث عن هيأتها في الصورة
والصورة تبحث عن حريتها في الفكرة”.
هو امتداد وسفر نحو جوهر الإنسان.
* محمد بن زيان / كاتب وأكاديمي جزائري
المصدر: موقع الجزائر نيوز الإلكتروني
http://www.djazairnews.info/trace/37-trace/42921-2012-08-20-16-25-26.html
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |