في الصميم ..
محمد صالح صرخوه *
في الصميم ..
تضارب ما بين النقطة و الخطّ ، انه تضارب فيما لا تضارب فيه ! تضارب غريب .. هناك حيث لا تستقيم البداية مع النهاية ..
التصوّر يحلو له الظهور مع الشمس في ثوبها الزاهي ، فكيف جاء التصديق موجاً لجّياً من ليلٍ لا متناهي ؟!
هذا ما يقف عليه الناظر إلى تشتت الألوان حول البؤرة في لوحة الفكر الإسلامي ، هناك بين كتلتها الأمّ ، و خطّها التاريخي ، و فراغها الحاضر !
الكتلة :
اقرأ ، هي أول ما نزل من القرآن الكريم ، الذي جاءت جل آياته حثاً على التفكّر و التّدبر و إعمال العقل ، و للمتصفح في أوراق الكتاب الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه سراج دليلٍ ، و درب بيّنة ..
أما تراث النبي و أهل بيته الكرام فحدث و لا حرج ، أما نحن فنكتفي بعرض نصٍ جاء في كتاب (تحف العقول) لمفخرة الشيعة و علاّمتهم .. الحرّاني رضوان الله عليه في فصل كلام الإمام علي عليه السلام عن العلم ، و جاء النص كالتالي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام :
قرنت الهيبة بالخيبة ، و الحياء بالحرمان ، و الحكمة ضالة المؤمن فليطلبها و لو في أيدي أهل الشر .
الخطّ :
كانت الكتلة مشعة على أبهى و أصفى صورها ، و منها انطلق خطّ الفكر الإسلامي الكلاسيكي ، من خلال ما قام به فلاسفة بل عباقرة الحضارة الإسلامية أمثال الكندي (و هو بالمناسبة أول فيلسوف مسلم ، و أحد تلامذة الإمام العسكري عليه السلام) ، (و كأنما أراد الإمام العسكري ادخار زيت الفلسفة في سراج العقل المسلم لليلٍ طويلٍ نطلق عليه زمن الغيبة الكبرى) ! ، و الغزالي ، و السهروردي ، و ابن سينا و ملاّ صدرا ، بحثاً و احتواءً و هضماً فتخريجاً جديداً للمشكلات و الموضوعات الفكرية و الفلسفية قديمها (ما جاء من اليونان) ، و حديثها (وفقا لعصر الحضارة الإسلامية) ، فجاء مزاج ثمرة العصف الذهني لدى المسلمين ، أن يتم استيراد ما يقارب ثلاثمائة مسألة فلسفية من اليونان ، و تصدير ما يقارب سبعمائة و خمسين مسألة فلسفية للغرب ! أي أن النتاج الفلسفي الإسلامي قد زاد على سابقه اليوناني بما يقارب أربعمائة و خمسين مسألة فلسفية ! لنبقى نحن المسلمون إلى يومنا هذا ، نباهي تراث الأمم الأخرى بتراثنا المجيد ، لكن و للأسف .. يبقى تراثاً ..! فلماذا ؟!
الفراغ :
في القرن الواحد و العشرين ، أي في عصر ازدهار الفلسفة الغربية ، ألتبس علينا الشرق بالغرب ، فبقينا أسرى في زنازين التصنيفات غير المجدية ، فذاك شرقي و ذاك غربي ، و ذاك مسيحي و ذاك إسلامي ، لتضيع الحقيقة ، و ننام على طريق الرقي ، و نحن نشيح بوجوهنا عن المستقبل ، متوجهين في نومنا إلى الماضي ، الذي أمسى بدوره صنماً لا حياة فيه ، بعدما كان بشراً من لحمٍ و دم مفعماً بالحياة ..!
و بعدما كان ما كان من نصوص البدء ، بدء مسيرة الحضارة الإسلامية المجيدة ، تلك النصوص التي أشرنا إليها تحت عنوان الكتلة ، و بعد ما كان من مسيرة منيرة كريمة انطلق نورها من بلاد المسلمين إلى أقصى أقاصي الأرض ، ليصحو الإنسان الأوروبي فجأة على ريحٍ نتنةٍ ، ليتذكر أنه نسي الاستحمام لما يقارب الألف سنة ! جاء عصر الفراغ ، لنكمل مسيرة النوم عن بقية الذين صحو للتو ! فأين معالم كل هذا ؟
و لم العجلة ؟! و لم الاستغراب ؟! أليست ثمة فتاوى حديثة تحرّم قراءة الكتب الفلسفية الغربية ؟ّ! بحجة أنها غربيّة فقط ؟! أليست ثمة فتاوى حديثة تشترط على المهم بقراءة الفلسفة ، قراءة ما يقارب المائة و خمسين ألف رواية عن النبي و أهل بيته ؟! إلى جانب دعوات لعدم الخوض العميق بالفكر ، بلعبة خفّة تهوى تبديل الألفاظ ، فتستبدل لفظ (العميق) بلفظ (المفرط) ، و كأنها فهمت الفكر على طريقة الطهاة ، فمن أكثر التفكير أصيب بالتخمة !
إننا نعيش عصر حضارة الغرب ، هذه حقيقة لا تخفى عن ناظر ، إلا إن كان ممن يتّبعون مذهب النعام ! و هو على كل حال ليس المذهب الأمثل لمن يريد الانتصار ، بل هو مذهبٌ مناسب لمن يبتغي اختصار نصره بحبّة منوّم ! و يا له من نصرٍ للسّراب !
و لست أدري ، أين المشكلة في إطلاعنا على الفلسفة الغربية ، و تعاطيها ، و الخوض في كافة معتركاتها ؟ ألسنا نعيش عصرها ؟ أليس من الطبيعي بمكان على كل من أراد التفاهم و التحاور مع قوم أن يتعلم لغتهم أولاً ؟! و أن يلم بكافة تفاصيل الموضوعات التي يتحدث بها أولئك القوم ؟ فأين المشكلة ؟ و هل جاء رواد الحضارة الإسلامية الأولى بالفكر من جيوبهم ؟ أم إنهم استوردوه من اليونان و من ثم قاموا بتطويره و الإضافة عليه فإثراءه ؟
أمّا إذا كان أصل المشكلة في اختلاف الموضوعات الكلاسيكية عن المعاصرة ، فلعلنا نرجئ سبب تلك الفتاوى الغريبة بشروطها العجيبة إلى كلاسيكية عقول أصحابها ، في عصرٍ أصبحت فيه الكلاسيكية تراثاً يحكيه الأجداد لأحفادهم أمام مواقد الليالي الشتوية الباردة ..
النقلة الفاصلة :
لقد تناول أجدادنا المسائل الفلسفية في عصرهم بدافع قرآني و منهج علمي رصين ، أما الآن و في عصر ضاعت فيه هويّة الإنسان مع ما يحيط به من تقنيّة أفقدت البعض عقولهم لينكروا أمام نور شاشة الكمبيوتر نورَ الله ! انتقلت الفلسفة إلى دائرة أخرى لمجالٍ فكريٍّ آخر و هو الذي أطلقت عليه أدبيات الفلاسفة الحديثين و المعاصرين اسم (الذات) ، لتصبح بذلك أدبيات أفلاطون و أرسطو مضمونة في دائرة الكلاسيكيات ، و تمسي آراء ديكارت و كانط (الحديثة) و هوسرل (المعاصرة) شعلةً جديدة نحو طريق جديد .. و تغدو الذات الإنسانية كلاً من الشعلة و الطريق ..
و لذلك الذي وزن الفكر بالأرقام و المكاييل ، نورد ثلاثة نصوص من أشخاص مختلفين ، فنصين من الفلسفة الحديثة ، و نصٌ من تراث الإمام علي عليه السلام ! ليرى الباحث عن وميض الحقيقة وسط عجاج التخلّف و الدهماء ، أن الفلسفة المعاصرة كلها ، بمحورها الذي أشرنا إليه بعبارة (الذات الإنسانية) ، إن هي إلا دائرة في فلك أقوال الإمام علي عليه السلام ، و النص الأول هو للفيسلوف المثالي الألماني ايمانويل كانط ، يقول كانط :
شيئان يملآن الوجدان بإعجاب و إجلال ، يتجددان و يزدادان على الدوام كلما أمعن الفكر التأمل فيهما : السماء ذات النجوم من فوقي و القانون الأخلاقي في داخلي . إنني لست بحاجة إلى أن أبحث عنهما و أفترض (وجودهما) مجرد افتراض كما لو أنهما مستتران في الظلمات أو في غلواء الحماس خارج أفقي . إنني أراهما أمامي ، و أنا أربطهما مباشرة بالوعي بوجودي . يبدأ الأول من المكان الذي أشغله في عالم الحواس الخارجي و يوسع الارتباط الذي أنا فيه إلى امتداد لا يسبر ، فيه عوالم فوق عوالم و منظومات فوق منظومات ، فضلا عن (امتداد) إلى أزمنة لا حد لها ، لحركتها الدورية ، لبدايتها و استمرارها . و يبدأ الثاني من الأنا الذاتية غير المرئية من شخصيتي ، و يعتبرني في عالم يملك لا محدودية حقيقة ، و لكن ليس إلا للفهم وحده القدرة على تلمسها ، و إنني أعرف به (و بالتالي أيضا و في الوقت نفسه بتلك العوالم غير المرئية كلها) أن ارتباطي ليس ، كما في الحالة الأولى ، ارتباطا عرضيا ، بل هو ارتباط شامل و ضروري . تبدو النظرة الأولى إلى كثرة العوالم التي لا تحصى و كأنها تبيد أهميتي كمخلوق حيواني عليه أن يرجع إلى الكوكب (إلى مجرد نقطة في الكون) المادة التي صنع منها ، بعد أن أمد بها (لا أحد يعرف كيف) لفترة قصيرة بقوة حيوية . في المقابل ، ترفع (الحالة) الثانية من قيمتي من دون حدود ، بصفتي عقلا ، بواسطة شخصيتي التي يُظهِر لي القانون الأخلاقي فيها حياة مستقلة عن الحيوانية ، بل عن العالم المحسوس بكامله ، على الأقل بقدر ما يمكن أن يُستدل عليه من التعيين الغائي لوجودي بهذا القانون ، (حياة) لا تقتصر على شرط و حدود هذه الحياة ، و إنما تمتد إلى ما لا نهاية له .
و يقول الفيلسوف الظاهراتي ادموند هوسرل :
انطلاقا من خلفية الكفاح الذي يخترق العصر الحديث بأكمله من أجل الفهم الذاتي للإنسان في صورة الفلسفة المتعالية و السيكولوجيا تم رسم فكرة الفنومينولوجيا . إن الفلسفة الفنومينولوجية ، إذ تجعل من عمق الحياة المتعالية للذاتية التي يتم فيها بناء كل وجود موضوعي بوصفه معنى للوجود ، تيمة لتأويل قصدي تحليلي ، توضح أيضا في الوقت نفسه كيف يحصل تعالياً الوجود الموضوعي للذات في العالم ، وجودها نفسا بشرية . و بذلك تدرك طبيعة الإنسان الثنائية المتسمة باللغز : من جهة حياة ذاتية – منجزة لكل ما هو موضوعي ، و من جهة أخرى موضوعاً بين الموضوعات .
و يقول الإمام علي عليه السلام :
دواءك فيك و مـا تـشـعـرُ
و داءك مـنـك فلا تــبـصرُ
أتـزعـم أنـك جـرمٌ صغير
و فيك انطوى العالم الأكبرُ ؟
و أنت الكتاب المبين الذي
بـأحـرفـه يـظـهـر المضمرُ
فأين التضارب ؟! و أين التخالف ؟! و أين الداعي لمائةٍ و خمسين ألف رواية و حديث ؟! إن تلك إلا قسمة ضيزى !!
أربعة قرونٍ تفصل بين كانط و هوسرل ، و كلٌ من نصيهما مشمولٌ في أبيات الإمام علي عليه السلام ، أربعة قرون و الغرب يدرس الفكر المتوهج من ثلاثة أبيات فقط للإمام علي عليه السلام الذي عاش في الشرق قبل ما يقارب ألفاً و أربعمائة سنة ! أربعة قرون ، ماذا كان يفعل بها فقيهنا الرقمي و أمثاله من نزلاء المؤسسة التعليمية الدينية الكبرى ؟! أربعة قرون ، في حين أنهم لم يتكبّدوا عناء دراسة هذه الأبيات و لا حتى لدقيقة واحدة ! و بعد هذا كله ، يريدون إقناعنا بنبذ ما قاله الغرب و قد تأكد في كلام الإمام علي ! و السير على طريقة فقه المائة و خمسين ألف رواية في طلب العلم (أشك في أنهم أنفسهم قرءوا هذا العدد من الروايات) ! و على أي أساس تم تحديد هذا العدد ؟! و أي من الروايات نقرأ تحديداً ؟ هل ننتقي بأنفسنا ، أم أنها مجرد عقبة أوجدها فقيهنا بعلمه الغزير على درب المعرفة ؟! و في نهاية الأمر ، الجنّة و النعيم و السلام مضمنة لنا نحن الأتباع الذين ما عرفوا إمامهم ! و الجحيم و السعير و الحميم لؤلئك الذين قضوا أربعة قرون في معرفته هو الذي سبقهم بألف عام على أقل تقدير ! مالكم كيف تحكمون !
* محمد صالح صرخوه : شاعر وأديب كويتي
صدر له عن دار الأمير للثقافة والعلوم ديوان " هنا الهاوية " وديوان " في حضرة السهروردي "
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |