عام على رحيل المرجع فضل الله
المرجع فضل الله.. مشروع إنسان
عبد الله المقرب
حياة سماحة المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله كانت حافلةً بالعطاء والعمل الدَّؤوب، ولا يمكن اختزالها بمقالة أو ندوة، فالحديث عنها يحتاج إلى العديد من المجلّدات والندوات التي يمكن أنْ تغطّي كلَّ زاوية من زوايا حياته وحركته بشتّى جوانبها ومستوياتها، نتيجة ما خلَّفته هذه الشخصية من ثروة إنسانية حضارية عظيمة، فهي لم تقف عند جغرافية الفقه والدين فحسب، بل تعدَّت إلى أبعد من ذلك.
ولم تقتصر حركته على الظرفيَّة المكانيَّة والزمانيَّة، بل امتدَّت إلى آفاق واسعة من هذه الحياة؛ حيث ارتكز مشروعه الإصلاحيّ على ثقافة النقد والتجديد، والترابط الحيّ والتفاعل المؤثر مع الأحداث والمتغيرات في مراحل حسّاسة ودقيقة، معبِّرةً عن روح قيم الإسلام وأصالته في نشر المعرفة الإسلاميَّة الأصيلة، وقد كلّفه ذلك ثمناً باهظاً عند تصدّيه لكلّ المفاهيم الموروثة ثقافيّاً واجتماعيّاً، ومقاومته لكلِّ أشكال التَّطرف والتَّشدُّد.
لقد ساهم مشروعه الإنساني الذي تميّز بالعمق والأصالة والملاءمة والتكييف بين النظرية والتطبيق، ببلورة وعيٍ إنسانيٍّ جديد - إذا صحّ القول - عبر تجسيده مفردات الإسلام وقيمه الأصيلة في حركته الإنسانيّة، فكان المرتكز الأساس في بناء مشروعه، هو إيمانه العميق بالانفتاح على الإنسان كلّه والفكر كلّه، وعلى الكون كلّه دون قيدٍ أو فرض، وهو ينطلق من معنى متجذّر في النفس البشرية، وهو أنّ الإنسان في هذه الحياة حر، ومن واقع حرّيّته يتحمل مسؤوليته، فلا ينبغي تقييد حرية الإنسان وفكره، وكبح حركته نحو الحياة والتفاعل معها.
من هنا، ركّز(رض) في مشروعه على بناء الإنسان روحيّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً؛ لأنَّه كان يؤمن بأنَّ الإنسان يشكّل منطلقاً أساسيّاً لحركة الحياة وديمومتها، وكان يقول: "هذا عالم لا بدّ لنا أن نصنعه، لأنّ كلّ جيل يصنع عالمه؛ أنْ نصنع الإنسان الذي يمكن أنْ يضيء ويتوهج وينفتح ويسمو ويبدع، حتى نشعر بأنّ إنسانيّتنا تنتج، تتحرك، تتغيّر، تغيّر الواقع نحو الأفضل.. هذا عالم لا بدّ من أنْ نصنع فيه معنى القيمة، وأنْ نعيش رحابته... أنْ يكون فكرنا فكراً يعيش رحابة الحياة، ويخطّط لرحابة المستقبل".
وقد عمل على تغذية هذا الحراك باتجاه مأسسة مشاريع نهضوية وتنموية، تكون قادرةً على مواءمة التحديات والمتغيرات، ومواكبتها لمتطلبات المرحلة وضروراتها، حتى أصبح(رض) مدرسةً في العمل المؤسساتي الفاعل، وما "جمعية المبرات الخيرية" بكلّ فروعها ووظائفها، إلا علامة مضيئة في صياغة الإنسان علماً وفكراً وعملاً.
لقد حاول سماحته أن يؤسّس طريقاً للمحبة من خلال مدّ جسور التقارب والوحدة والحوار والتسامح، فكان منطقه أن الإسلام رسالة للحياة والكون والإنسان.
كان إيمانه بهذه المسألة نابعاً من عمق وعيه لما ستتركه من انعكاسات إيجابية على استقرار حركة المجتمعات وأمنها.
ولم يكن ذلك الخيار من منظومته الفكريّة خاوياً أو مقتصراً على المكوّنات الإسلاميّة، بل إنَّه دعا إلى أن يتَّسع هذا الخيار ليشمل جميع المكوّنات غير الإسلاميَّة، بالانفتاح الواعي على غير المسلمين؛ لأنّه يؤمن بأنّ الوحدة ليست "وحدةً عدوانيّةً منغلقةً تتعقّد من وجود غير المسلمين في السّاحة الّتي تتحرّك فيها".
وشدَّد(رض) على أن لا تكون مسألة الوحدة "مسألة خطابٍ للانفعال أو الحماس أو للمجاملة أو للاستهلاك الشّعبيّ"؛ حيث كان يرى أنّ المدخل الأساس لهذا الخيار هو المحبّة: "إنَّ الحياة لا تتحمّل الحقد، فالحقد موت، والمحبّة حياة". لذلك كنّا نراه مسكوناً بالوحدة، الوحدة الّتي تجمع الإنسان بالإنسان.
خلاصة القول: إنّ السيّد الرّاحل(قده) يعتبر من الأعلام الإصلاحيّين التّنويريين الّذين جعلوا الإنسان أساس حركتهم، ورائداً لمشروع لإنسانيّ تحكمه منظومة من القيم، كالتّسامح والحوار واحترام الآخر والمساواة، وكلّ ما يؤكّد التّعايش ونبذ العصبيّة والتطرّف، وإنَّ رحيله لخسارة إنسانيّة.
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |