الثورة المصرية في معترك المجهول
* د.الطيب بيتي العلوي
عالمنا المعاصر هو عالم اللاستقرار...، واللايقين أصبح بُعداً جديداً لفهم رهانات الأوضاع السياسية الراهنة في العالم ...، ولذا فان اللايقين: هو ذلك المبدأ المطلق الذي يحكم سير العالم –مستقبلا- منذ الآن فصاعدا". المفكر الاستراتيجي:..إيناسيور رامونيRamonet Ignacio
مقاربة (أنثروبو- سوسيولوجية):
كتب المحلل الكندي الكبيرميشيل شوسودوفسكي قائلاً:
في مواجهة حركة الإحتجاج الشعبي المصري، فلا يمكن لمبارك – عاجلاً أو آجلاً – إلا أن ينهار،... ولكن ما هي آفاق مصر والعالم العربي لما بعد مبارك؟
لقد أسفر خطاب مبارك عن القصور والخلل والثغرات الإستراتيجية والتاكتية للمعارضة والأحزاب المصرية من ذات اليمين وذات الشمال، التي سقطت في النمطية التكرارية لخطابات الأدلجة المتقادمة والعاطفانية السياسية اللتان هما الصدأ الذي يأكل الحديد،ومعاول الهدم للثورات الحية، وبقي النظام - وأقصد بذلك تلك الأنظومة التي نظر لها " هنري كيسينغر " وشرعنها الخطاب الساداتي فتعملقت على مدار السنين - يشد خيوط اللعبة ويقلب الأمور حسب نبض الشارع، وتصريحات السياسيين والإعلاميين مستعيناً بكل أباليس الأرض من متخصصي سيكولوجية الجماهير والتجمعات والمظاهرات، ثم يخطب مبارك –بخطاب مسجل - ويحشرالجميع داخل حمام سويدي ثلجي بارد ويقلب الأوراق، وذهب حيث ذهب، وترك الشعب المسكين المتظاهر لأيام يلعق الحسرة والأسى، وترك مبارك المنظرين والمتحزبين يحملقون ويتباكون ويولولون.. ونتساءل: هل سيعيدون ترتيب أوراقهم واضعين في حسبانهم أنه من أبسط قواعد اللعبة السياسية: ألا يُغيًب الخصم إطلاقاً وأنه يخطط بالليل والنهار، كما تخططون وأن أجدى الحلول وأذكاها هو افتراض أسوأ الأحتمالات، ومن هنا فقد كشف الأمريكيون عن أوراقهم بأنهم باقون - عبر الجيش - فماذا أنتم فاعلون؟
بينما انكب المحللون الغربيون الجادون - منذ بداية الثورة - بتذكيرنا بعدم إغفال أسوء السيناريوهات يستفزوننا، ويثيرون حفيظتنا لكي لانسقط في "العاطفانية" والدخول في الحلقة المفرغة ويتساؤلون :
لماذا يهتم المنظرون العرب بالتفريعات والتخلي عن الأصل؟ بحيث يتم التركيزعلى "الدمية" مبارك في المظاهرات، ويتم الصمت عن صانعي الدمى ومربيهم وأولياء نعمتهم من الأمريكيين والإسرائليين؟
- لماذا تسيطر على المشهد شعارات مثل: يسقط مبارك ويسقط النظام ولا ترفع شعارات واضحة ضد التوليفة (الأنغلوساكسونية) المسببة لكل رزايا العرب والمسلمين في كل من فلسطين والعراق ولبنان والسودان وصولاً إلى أفغانستان وباكستان، والتي هي الأصل في إستنباث كل الأنظمة العربية القمعية، سواء أكانت جمهورية علمانية أم ملوكية بخورية ؟
- لماذا يتم الحديث عن "عقلنة" "حيادية" الجيش المصري وموقفه "الحكيم" الذي لم يستفيد منه حتى هذه الساعة سوى النظام لربح الوقت ولم شعثه وإعادة ترتيب أوراقه التي بعثرتها مفاجأة الثورة، وإعطاء الفرصة للإدارة الأمريكية للتشاورات الضيقة مع مبارك ومع حلفائها الإسرائليين والأوربيين وأعراب المنطقة الباقين، حيث تم التخطيط لإجلاء مبارك عن المسرح السياسي - بالطرق الناعمة - مقابل الإبقاء على حياته وحمايته وحماية مكتسباته – المادية - مقابل خدماته الجلى للغرب، بتحديد التوقيت الزمني على "كيف " و"متى" يتنحى، الذي فضحه خطاب اوباما بشكل سافر.
- كما تنبأ هؤلاء المحللون والمراقبون بترصد الجيش للإنقضاض على السلطة، إما بإنقلاب "أبيض مخملي لطيف ظريف" أو بالحديد والنارعلى هدى "واجعلوا آخر دوائكم الكي" ثم إدخال الشعب المصري من جديد في غياهيب الإستدراجات، ومهازل المناورات لإحتواء الثورة أو إمتصاصها أو القضاء عليها بتذويبها، وقد تتعد الأسباب والهدف أمريكي واحد، وسواء إنتقلت السلطة "سلميا" بالطرق "الأوبامية الناعمة الذكية" أو بالطرق "البوشية العسكرية" فكل الطرق تؤدي إلى واشنطن.
- ما هي أبعاد الثورة على مستقبل الصراع ( العربي- الإسرائيلي) وكيف سيتم إعادة ترشيده على ضوء ما بعد مبارك، وكيفية التعامل مع الوجود الأمريكي في المنطقة؟
- لماذا يحاول البعض تحجيم الثورة إلى مجرد شعارات "بيولوجية" مَعدية تستهدف فقط ملىء البطون والحلم بـ "الحريات القزحية" وعلى الدنيا العفاء؟
- هل سقطت رموز المعارضة و"الحكماء" ذات العيارالثقيل مثل الإخوان المسلمين والناصريين والوفديين والشيوعيين في فخ ذلك "البراديغم" المشبوه - الذي بدأ الترويج له منذ الزيارات المشبوهة للسفارء الأمريكيين القدامي من أصدقاء مبارك أو الزيارة الخاطفة لوزيرة الخارجية "هيلاري كلنتون" ثم أخيراً تلك الزيارة "الإنقضاضية" لـ "جون بايدن" - المسمى بـ "المرحلة الإنتقالية" التي تعني- بالمفهوم الإستراتيجي- التخدير المرحلي "للثوار" وتنويم الشعب المصري وهدهدتم بمشاريع دونكيشوطية تعيد نفس كابوس الدونكشوطيات الساداتية التي "حششت معظم " المصريين في أوانها فجرفت الشعب المصري المقهور والتعبان من الحروب، في غياهيب الفانتازمات، ورغد الأمركة، والرفاه العولمي الوردي، وعبادات وحدانية السوق وألوهية المال والمستقبل المزهر للمصريين، وفصلها عن محيطها الإقليمي وريادتها للعالم العربي، بالتقوقع داخل أمجاد الأهرامات والسجود لأبي الهول والتفقه في "الهيرغلوفيات" مع شقرالسائحين والسائحات.
وإنتظاراً لردود مؤطري المتظاهرين فإن هؤلاء المراقبين الأجانب يذكرون اولئك المحللين والسياسين المصريين والعرب بهذه البديهيات :
إن الديكتاتوريين العرب لا يقررون لأنفسهم، بل يملى عليهم، فيطيعون وينفذون (1). وبموجب هذه المسلمة فإن:
- قرار مبارك بعدم التنحي عن السلطة هو قرار إتخذ بتشاورات مكثفة مع إدارة واشنطن.
- وأنه سيتنحى عندما يؤمر بذلك.
- وأن مصر ستبقى – بالمنظور الأمريكي – حسب خطاب أوباما قبيل خطاب مبارك هي الخلفية الأمنية للمشروع الأمريكي في المنطقة، تفسرها جملة أوباما المتغطرسة " إن القرن الأمريكي كان قرناً أمريكياً بإمتياز، وسيظل القرن الواحد والعشرين كذلك".
- وأن الإستخبارات الأمريكية بدورها، قد درست وعجمت عيدانها، ورسمت كل السيناريوهات المحتملة لما بعد مبارك، وتوصلت إلى أن الإدارة الأمريكية لا تملك أية خيارات أخرى سوى من هو على شاكلة مبارك بقناع جديد، فإن لم يكن – كما يقول الفقهاء - "فإن الأخذ بالأحوط أحوط"، وهو القيام بإنقلاب عسكري (2) (بحكم ولاء معظم الجنرالات والضباط العسكريين للبينتاغون من الجيل الذي أفرزه الخطاب الساداتي وقراره بإعادة هيكلة الجيش عبر نظرية "آخر الحروب مع إسرائيل" التي قرر بموجبها توكيل مهمة خلق نوعية جديدة من الجيوش مؤهلين "سيكولوجيا" ولوجيستياً بالعقلية الأمريكية إلى المخابرات المركزية الأمريكية، كما وضح ذلك خبراء( جيو- إستراتيجيين) مثل Gilbert Achcar و Manilo Dinucciالمعروفين.
- قراربقاء النظام الحالي – مع فرضية تنحية مبارك - موكول إلى الإدارة الأمريكية مما سيخدم المصالح الأمريكية والإسرائلية ومصالح الأوليغارشية المالية بنيويورك.
- عزم- المخابرات الأمريكية على أن يبقى النظام المصري كما كان بإحلال ديكتاتور خفي قادم، وتبين أن في حوزة المخابرات الامريكية قائمة كبيرة لعينات الرؤساء المحتملين القادمين بعد سيطرة الجيش وبعد انتهاء مهزلة "المرحلة الإنتقالية" وهم شلة من المتسربلين بكل الأطياف "الفولكورية" التي ترضي اعرب الجدد وتستجيب للطموحات الأمريكية، رشحتها منظمات أمريكية يترأسها أو يعمل بها مصريون مثل معهد "ديل كارنيغي" ومراكز " أبحاث السلام بالشرق الأوسط " بكل أشكالها وتنوع أسماء فروعها من أجل الإستمرار في السيطرة على النظام المصري بالنهج "الديموقراطي الأوبامي" بعد فشل النهج المباركي القمعي -، فإن لم يكن، فبإغراق مصر في فتنة داخلية – على غرار ما تم في العراق والمحاولة الفاشلة في لبنان - حيث يشتغل عليها الآن ليل نهار صناديق التفكير بمنظور "الثلاجة المغلقة" لإيجاد صيغة تناسب مشروع الفتنة في مصر.
وأنجاح كل هذا أو إفشاله موكول إلى الدرس الذي لقنه مبارك للمعارضة بمعية المخابرات الأمريكية ووصايا أحبار تل أبيب بماركة الأنظمة العربية الأخرى المهددة، ولذا فأن التجربة المصرية الحالية هي درس للجميع، وأن الأمور لبخواتيمها – كما ورد في الأثر الشريف -.
(1) انظر التفاصل في :
The Protest Movement in Egypt: "Dictators" do not Dictate, They Obey Orders
by Michel Chossudovsky
(2) انظر التفاصيل في:Whither Egypt? The Military is Backing Mubarak
Gilbert Achcar interviewed by Farooq Sulehria
* د. الطيب بيتي العلوي / باحث أنثروبولوجي/ فرنسا
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |