الخلاف مع الشيعة واستمرار المعارك الوهمية
بقلم: صلاح الجورشي
انتهيت هذه الأيام من مطالعة كتاب سلس القراءة، غزير المعلومات، لكن محتواه أثار في نفسي الكثير من المخاوف والتساؤلات. عنوان الكتاب «صحوة الشيعة» مرفقا بعنوان فرعي «الصراعات داخل الإسلام وكيف سترسم مستقبل الشرق الأوسط». مؤلفه باحث أميركي من أصل إيراني هو الدكتور «ولي نصر»، أستاذ سياسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا في دائرة الدراسات العليا التابعة للأكاديمية البحرية الأميركية، وقد ترجمه بنجاح وبأسلوب سلس «سامي الكعكي». ومن بين الذين امتدحوا الكتاب الأكاديمي الأميركي المعروف بنزاهته وعلمه «جون أسبوزيتو» أستاذ مادتي الديانة والشؤون الدولية بجامعة جورج تاون، وصاحب كتاب «الحرب غير المقدسة: الإرهاب باسم الإسلام».
أراد مؤلف كتاب «صحوة الشيعة» أن يؤكد فكرتين رئيستين خلال 280 صفحة. تقول الأولى إن الشيعة الذين خضعوا لاضطهاد الأغلبية السنية لا يشكلون خطرا على الولايات المتحدة الأميركية مقارنة بالسلفيين السنة الذين أنتجوا ولا يزالون جماعات العنف في كل مكان. أما المصادرة الثانية فهي تتمثل في اعتقاد الكاتب أن مستقبل الشرق الأوسط بمفهومه الأميركي الموسع، والذي يشمل باكستان ودول المغرب العربي، سيحدده مآل الصراع السني-الشيعي.
يمكن القول إن هذه قراءة مغلوطة للواقع العربي والإسلامي الراهن، وتندرج ضمن محاولات تغيير أولويات ونضالات النخب والشعوب في هذه المنطقة الحساسة من العالم. لكن نظرة متفحصة لما يجري هنا وهناك، من شأنها أن تدفعنا إلى التريث قليلا قبل القفز على الواقع الراهن. فالصراع الدائر في العراق منذ سنوات، رغم صبغته السياسية، فإن طابعه الطائفي لم يعد خافيا على أحد. والخلاف مع حزب الله في لبنان حول دوره وأسلحته، يحاول البعض داخل لبنان وخارجها أن يحوله إلى صراع مفتوح بين الشيعة والسنة. وجاءت أخيرا تصريحات فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي التي تضمنت قدحا في عقائد الشيعة، مما دفع بعدد من مراجع الشيعة، بمن في ذلك المعتدلون منهم، إلى الرد، كما علقت وكالة الأنباء الإيرانية على ذلك بأسلوب لم يكن مناسبا على الإطلاق، لم تراع فيه مكانة الرجل العلمية أو زعامته في أوساط السنة. وبعد ذلك توالت الردود من هنا وهناك، وركبت الموجة الجماعات السلفية التي تعتبر هذه المعركة من مجالاتها المفضلة، إذ سبق لها أن استعملت وسائل مختلفة، بما في ذلك التحريض والقتل، على استهداف الشيعة عقائديا وسياسيا وجسديا.
هذه التطورات المختلفة تكشف إلى حد كبير أن ما افترضه مؤلف كتاب «صحوة الشيعة» ليس بعيدا عما يعتمل في النفوس وتخفيه تضاريس الواقع. فالمنطقة تبدو وكأنها تتدحرج تدريجيا نحو صراع طائفي مكبوت وموروث، قابل للتصدير والرواج على نطاق واسع. وهو أمر إن تواصل وتطور نحو الأسوأ ستكون له نتائج خطيرة على أكثر من صعيد:
- تهديد أمن واستقرار بلدان عربية كثيرة تقوم مجتمعاتها على التنوع المذهبي، وفي مقدمتها دول الخليج، إلى جانب العراق ولبنان وسوريا. ولا شك في أن أنظمة الحكم في معظم هذه الدول لن تقبل أن يتفاقم هذا التراشق السني-الشيعي، نظرا لانعكاساته المباشرة على السلم الأهلي والأمن القومي.
- تعميق الفجوة بين معظم الأنظمة العربية وقطاع واسع من الجمهور العربي من جهة، وبين إيران من جهة أخرى. وهذه مسألة يفترض أن يأخذها الساسة الإيرانيون بعين الاعتبار نظرا لتداعياتها السلبية على مصالحهم الحيوية في المنطقة. لكن الأهم من ذلك هو التورط بوعي أو بغير وعي في المساعدة على عزل إيران، وتمهيد الأجواء لتبرير ضربة عسكرية محتملة تستعد لها إدارة الرئيس جورج بوش بتحريض علني من إسرائيل. ورغم ضرورة الإقرار بوجود خلافات استراتيجية بين إيران وجزء حيوي من محيطها العربي الذي لا يخفي تخوفاته من الدور الإقليمي المتزايد لطهران، لكن هذا الأمر يجب ألا يوقع أصحابه في مطبات خطيرة، فتنقلب الأولويات عندهم، ويخلطون بين التناقض الرئيس والتناقضات الفرعية، أو يتوهمون بأن العدو الأساسي قد يكون أقرب وأقل خطورة ممن يختلفون معه داخل دوائر الأمة.
- الانحدار بالفكر الإسلامي إلى مستوى متدن يعود به إلى مراحل سابقة تمتد جذورها إلى أجواء الفتنة الكبرى، وما توالى بعدها من أحداث وصراعات حول السلطة والعقائد. بمعنى آخر، سيؤدي الجدل العقيم حول المسائل التاريخية الخلافية بين السنة والشيعة إلى الانتكاسة بالفكر الإسلامي الذي بدل أن يتجه نحو إعادة النظر في أولياته، ويرفع سقف الاجتهاد إلى أقصى درجاته، وينطلق نحو مراجعات عميقة للثقافة السياسية والاجتماعية والعقدية السائدة في ضوء قضايا وتحديات الواقع المعاصر، سيبقيه هذا الصراع المذهبي والطائفي سجين مقولات استهلكت عبر القرون، وفقدت الكثير من أهميتها أو صلتها بهموم المسلم في مطلع الألفية الثالثة. إذ رغم أن الانتقال من مذهب إلى آخر يعتبر حقا مضمونا من حقوق الفرد المسلم، ما دام الإسلام هو الجامع لكل المذاهب والفرق، إلى جانب كونها ظاهرة ثقافية مرشحة لمزيد البروز خلال المرحلة القادمة بحكم عوامل عديدة، إلا أن المتأمل في مضامين الجدل الدائر في بلدان عديدة بين المجموعات الشيعية الصغيرة والناشئة وبين محيطها المحلي الرافض لها باعتبارها كائنا يبدو غريبا ومرفوضا، خاصة في بعض المجتمعات التي اطمأنت تاريخيا على انسجامها المذهبي مثل دول المغرب العربي، يلاحظ بأنه جدل منفصل عن تحديات الواقع، لا تربطه بمصالح الشعوب والأمة أي صلة، إلى جانب كونه غارقا في الجزئيات التاريخية والدينية التي من شأنها أن تعمق التشرذم ولا تجعل من الخلاف عامل قوة وإثراء.
الخلاصة أن المسلمين، للأسف، لم يكتسبوا حتى الآن القدرة والآليات لإدارة خلافاتهم وتنوعهم داخل دائرة الإسلام الذي أعلمهم منذ البداية بأنهم سيختلفون بالضرورة. كما أنهم، بما في ذلك علماؤهم وحركاتهم السياسية، لا يزالون يتمتعون بقدرات عجيبة على خوض حروب وهمية، تجعلهم يتحركون خارج دائرة الفعل الحقيقية، فيبقون نتيجة ذلك يدورون في حلقات مفرغة ضمن الوقت الضائع.
جريدة العرب - عدد 7421 .
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |