د. أحمد كمال أبو المجد يكتب في رسالة للشيخ القرضاوي حول فتنة الشيعة والسنة
توقيت تصريحاتك مثير للقلق لأن الحملة على الإسلام في ذروتها
فضيلة العالم الجليل الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوى..
تحية طيبة واسأل الله تعالى أن يتم نعمته عليكم صحة موفورة وعافية تامة وصدراً منشرحاً وبالاً مستريحاً، وأموراً ميسرة موفقة بعبادته ورعايته.. وهي كما تعلمون فضيلتكم "نعم" كبرى لا أعرف ولا يعرف أحد بعدها مطلبا لسائل، وبعد.
فقد آلمني وعزّ عليَّ كثيراً، كما آلم الكثيرين وعزّ عليهم ما كان من تداعيات ما أدليتم به من حديث يتعلق بتجاوز بعض الأخوة الشيعة لما سميتموه "الخطوط الحمراء" التي ينبغي وقوف الجميع عند حدودها في ممارستهم النشاط الدعوي والاجتهاد الفقهي حفاظا على وحدة الأمة وإبقاء على روح المودة التي يتعذر في غيابها التعاون على مواجهة الأخطار الجسام التي يتعرض لها المسلمون أفراداً وشعوباً وجماعات، في سياق "التدافع" والصراع الذي يشهده ها العصر المحير.
ولقد آلمنا بوجه خاص ما تعرضتم له فضيلتكم من جانب بعض الأقلام والألسنة من تجريح لا يغتفر ولا يعذر أصحابه ولا يليق بمكانة العلم والعلماء وكثيرة من أصحاب هذه الأقلام وتلك الألسنة لا يخفى عليهم ما يوجبه أدب الحوار على أطرافة والمشاركين فيه من عفة القلم واللسان مهما كانت بواعث الخروج على تلك العفة واخشى أن أكون مصيبا تمام في اعتقادي أن هناك من يحرص الحرص كله على تعميق هذا الخلاف وتوظيفه توظيفاً ماكراً خبيثاً يصدر عن رغبة ملحة في "تفكيك" كيان الأمة وتبديد طاقتها وإيقاع علمائها ومجتهديها بعضهم ببعض وصرفها بذلك كله عن مواجهة التحديثات التي تواجهها داخل حدودها ومن وراء تلك الحدود.
وأنا لا ألتفت إلى الذين يشرعون أقلامهم وألسنتهم لمهاجمة كل من يتحدث عن "المؤامرة" كتفسير جزئي على الأقل لكثير مما يواجهه أمتنا من تحديات وما تتعرض له من حملات والمسألة في حقيقتها عندي أن البعض يعرفون الكثير عن تخطيط وإعداد الذين يحرصون على تصفية كيان أمتنا وإقصائها عن ساحة المنافسة والسباق، وأن البعض الآخر لا يعرفون شيئاً عن هذا التخطيط وقديماً قيل بحق أن من لم يرَ ليس حجة على من رأى.
أستاذنا الجليل.. إن ما وقع، لا يعدو في حقيقته أن يكون خلافاً في الرأي والتقدير بين فضيلتكم وبين آخرين من إخوانكم وأبنائكم ممن يحملون الرسالة التي تحملونها، وتؤرقهم الهموم العامة التي تؤرق فضيلتكم وهم يحملون لكم محبة خالصة ووداً يتمنون ألا يخدشه خلاف عارض وتقديراً واحتراماً شخصياً وموضوعياً لم يتخلوا عنه ولكن يبقى أن التشاور فضيلة وفريضة، وأن اتساع الصدر للخلاف الذي يدار بروح طيبة وعبارات لائقة واجب تعلمنا منكم أنه أدب من آداب الإسلام، ومكارم من مكارم الأخلاق.. ولن نغفر لأنفسنا أبداً أن نشارك بالصمت والسلبية في تحوّل الخدش الذي وقع إلى جرح غائر يحتاج التامة إلى زمن طويل.
إن الذين أقلقتهم بعض ما أدليتم به على الملأ من رأى، قد تساءلوا. محققين في ذلك عن أمرين أستأذن في أن أضعهما أمام فضيلتكم:
أولهما: إننا على إطار ما نتعرض له جميعاً ويتعرض له الإسلام من حملة تشويه ورغبة في الإزاحة والإزالة، نحتاج إلى خط دفاع مترابط متماسك وإلى أن تظل جبهتنا كالبنيان المرصوص وقد كان ممكناً طوال الوقت أن تثار قضية "الخطوط الحمراء" في اجتماع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وفيه من فيه الإخوة الشيعة الحكماء والعقلاء، أما إثارة القضية الشائكة الدقيقة التي عرضتم لها فضيلتكم على الملأ. فقد كان محتماً أن تستدعي ردود أفعال: بعضها هادئ وعاقل ومسئول، وبعضها دون ذلك وهذا ما وقع فعلاً ولا تزال حلقاته تتداعى وتتواصل في بعض الصحف وفي كثير من الفضائيات ومواقع الإنترنت.
ثانياً: أن توقيت هذه التصريحات جاء مثيراً للقلق والإشفاق من عواقبها.. فالحملة على الإسلام والمسلمين لا تزال في ذروتها وأسلحة المهاجمين فيها أمضى من أسلحة المسلمين مجتمعين فكيف إذا تفرقوا، وأنفقوا ما بقي لديهم من طاقة وجهد في ملاسنة وحروب كلامية تجنح فيها العبارات وتطيش بعض الكلمات فتفسد على العقول والضمائر أمرهما حتى يصير فرطا. لقد كان جهد فضيلتكم وجهادكم سعياً لتوحيد الأمة في إطار القاعدة الذكية الحصيفة من أننا "نتعاون فيهما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه".. كان هذا المبدأ جديراً بإرجاء فتح باب الحوار حتى يمهد له في أجواء أخوية صافية بمصارحة ومكاشفة وشيء من عتاب أخوي رقيق.
إنني يا فضيلة أستاذنا الجليل أشارك القلقين قلقهم وإشفاقهم الشخصي والموضوعي من غضبكم الحاد عليهم وأدعوكم باسم الله تعالى، جامع الناس جمعاء، ونحن منهم، ليوم لا ريب فيه وباسم الإسلام الذي نرى فيه، بعين اليقين، منبع المنابع والمنهل الفياض بالعدل والحق والخير والرحمة والسلام، وكل ما يتطلع إليه الحكماء والعقلاء من إصلاح إنساني شامل يملأ الدنيا نوراً ويملأ حياة الناس بهجة وسروراً.
وباسم علمكم الذي زاد وربا بعد أن أضفتم إلى نشاطكم الدعوي الذي وصلت أصداؤه إلى جميع الناس، اجتهاداً فقهياً رصيناً يجمع بين المعرفة الدقيقة بالأحكام والنصوص الدالة عليها، وبين مقاصد تلك النصوص وحكمتها الكبرى، ومن اجتماع حكمة الداعي إلى الحق ببصيرة المجتهد العارف لواقع الحق وأحوال الناس تنزل الرحمة التي بعثت بها الأنبياء والمرسلون وهي رحمة علم الله تسع أهل الدنيا جميعا مسلمين وغير مسلمين.
واسأل الله تعالى مع محبيكم والمنتفعين بعلمكم وجهادكم. أن يمد في عمركم حتى نجني ثمرة هذه الوسطية التي تميزتم بها والتي ستظل بإذن الله، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
إن لي عندكم دعوة ورجاء أن تسارعوا، دون انتظار دعوة من أحد، إلى غلق هذا الملف بغير إبطاء وكأنه ما فتح وأن تستأنفوا اجتهادكم وجهادكم بنفس راضية، تعمرها السماحة والود.
وإن ضاق صدركم عن هذا وهو ما أسال الله تعالى ألا يكون، فإن الأمر كل الأمر، لله تعالى وحده من قبل ومن بعد.
واستأذن في ختام هذه الرسالة أن أتجاوز موضوعها العارض لأتوجه بكلمة إلى كل من نحبهم من أهل القبلة الواحدة والدين الواحد..
إننا جميعاً، سنة وشيعة، لم نعد معذورين بين يدي الله عن مواصلة الانقسام التاريخي الذي بدأ بعد معركة كربلاء، فالهموم التاريخية كلها قد مضى عليها زمان طويل وهموم الحاضر لها لون خاص ومذاق على مرارته جديد نعم إن تذويب الرواسب التاريخية أمر بالغ العسر، ومن الحكمة التسليم بأنه يحتاج إلي جهود سنوات لمحو آثار ما صنعته القرون، ولكن ذلك وحده هو الطريق ولم يعد أمامنا نحن المسلمين، إلا أن يرتفع علماؤنا من السنة والشيعة إلى الأفق العالي الرفيع الذي تدعوهم إليه مسئوليتهم أمام الله، وهم عند أهل السنة والشيعة على السواء ورثة الأنبياء فيتوجهون إلى معالجة أمور الحاضر والمستقبل في إطار من "مصالح المسلمين" وكل المسلمين متوقفون عند اجترار الماضي وإغراق العامة في مآسيه وإلا فنحن وإياهم؛ في انتظار مأساة هائلة تحلّ بنا جميعاً.. وتهون إلى جوارها فاجعة كربلاء سوف يكون الشهيد فيها هذه المرة الأمة كلها وليس الإمام والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصدر: إسلام أون لاين، 30/9/2008
- مفكر إسلامي بارز، وزير الإعلام والشباب المصري سابقاً.
- عضو المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالمملكة الأردنية الهاشمية.
- عضو أكاديمية المملكة المغربيّة، الرباط.
- رئيس المحكمة الإدارية للبنك الدوليّ بواشنطن ( 1980 - 2002 ).
- مفوض شؤون حوار الحضارات بالجامعة العربيّة.
- عضو مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف.
- نائب رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان - مصر (حالياً ).
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |