كفوا ألسنتكم عن محمود درويش *
بقلم: د.هبة رؤوف عزت
مؤلم لي أن أجلس لأكتب في معنى الإنصاف والقسط وأدب التعامل مع الاختلاف، والتمييز بين الخطابات والنصوص.
مؤلم ألا نملك سوى الدفاع عن الحرية بدلا من ممارستها بعنفوان باتجاه النهضة، والتحرر الفعلي، وهل صار لزاما أن نأمر إخواننا في كل يوم بالرحمة وننهي عن قسوة القلوب، أبسط معاني الإسلام؟ ونطلب منهم عدم الاجتراء على الله بالتفتيش في الأفئدة بدلا من الرهان على الفطرة، والتسليم بأن الله وحده هو الذي يعلم ما تخفي الصدور، وهو وحده الذي يحكم بين عباده يوم القيامة.
للإنصاف فقط
عاتبني إخوة كرام على ما كتبت في رثاء محمود درويش، وأحالني بعضهم لصفحات "... تفضح كفره وإلحاده"، ولست في مقام المدافع عن عقيدة محمود درويش، ولا عن عقيدة غيره، ولا الحكم على مقره الأخير في الآخرة، فهذا ليس من شأني، ولا من سلطاتي.
لكن كان لزاما علي التذكير بمعنى الإنصاف، وعدم التطفيف كما أمرني الله، فلا بأس من وقفة سريعة وإطلالة، وتنبيه لما غاب عمن اقتبسوا مقاطع، وأهملوا أخرى عمدا، وتجاهلوا مبدئيا أن الشعر خيال، ومجاز، وصور، فانتقوا وتداولوا أبياتا رأوا فيها الكفر البواح، ولم أر أحدا ساق ما كتبه نفس الشاعر، ونفس القلم من آيات تفيض بالإيمان، ولو وضعوا الاثنين في كفتي الميزان لاحتاروا، وتلك الحيرة سبب كاف للقول بـ"الله أعلم"، وهو خيار أكرم لهم وله من القطع بالكفر على رجل أفضى إلى ما قدم، وصار بين يدي رب رحيم.
سآخذ على سبيل المثال مقاطع من قصيدته: "جدارية"، ففيها جمل عديدة تستحق التأمل، فلنقرأ محمود درويش حين غرد:
((..... أرض قصيدتي خضراء عالية
كلام الله عند الفجر أرض قصيدتي
وأنا البعيد
أنا البعيد))
......
ومحمود درويش كان يعلم أنه شاعر.. فحسب، لم يزعم قداسة ولا ادعى اجتهادا، ولا سلطة دينية.. وليس مطلوبا من الشاعر أن يكون فقيها ولا واعظا، أو أن يهجر شعره ليدافع عن إيمانه، أمام قرائه المتشككين.. فيقول محمود درويش ببساطة وتواضع:
((.. غنيت كي أزن المدى المهدور
في وجع الحمامة
لا لأشرح ما يقول الله للإنسان
لست أنا النبي لأدعي وحيا
وأعلن أن هاويتي صعود
... وأنا الغريب
تعبت من درب الحليب
إلى الحبيب..
تعبت من صفتي
يضيق الشكل
يتسع الكلام
........
حقا.. يضيق الشكل يتسع الكلام.. ويعلو المقام على جناح الحمام.
والشاعر يدرك أن الكلمة ترسانة عزم وأن الحرف مسئولية المناضل.. بالأبجدية، وما أصعبها من مهمة، ولو كان الشعر بلا قيمة مجتمعية ولا مهمة سياسية لما خلع رسول الله بردته وأهداها لـ "شاعر"، فليس مطلوبا من الكل أن يحمل السلاح.. بل رسالة البعض امتشاق الكلام.. ونصرة القضايا بالفكر والقلم والإبداع.
يقول محمود درويش ببلاغة مدهشة، أثر "اقرأ" فيها جلي واضح:
((..أنا لست مني إن أتيت ولم أصِل
أنا لست مني إن نطقت ولم أقل
أنا من تقول له الحروف الغامضات
اكتب تكن!
واقرأ تجد!
وإذا أردت القول فافعل، يتحد
ضداك في المعنى...
وباطنك الشفيف هو القصيد))
......
ولا يخوض درويش في ترهات خاض فيها غيره، ولا هاجم العقيدة بحثا عن شهرة لم تكن تنقصه، وما اقتبسه من كفروه من أبياته فله تأويل؛ لأنه رمزي.. فلماذا لم يقرءوا ما يقول بلسان المؤمن العاشق:
((..لم أولد لأعرف أني سأموت
بل لأحب محتويات ظل الله
يأخذني الجمال إلى الجميل
وأحب حبكَ هكذا..
متحررا من ذاته وصفاته))
......
ويستخدم لفظ "الإشراق" بما له من مركزية في الشعر الصوفي:
((يا موتنا
خذنا إليك على طريقتنا
فقد نتعلم الإشراق))
........
ومن أجمل ما كتب وأرق ما قرأت:
((...سأقول صبوني بحرف النون
حيث تَعُبُّ روحي.. سورة الرحمن في القرآن
وامشوا صامتين معي على خطوات أجدادي
ووقع الناي في أزلي
ولا تضعوا على قبري البنفسج
فهو زهر المحبطين
يذكر الموتى بموت الحب قبل أوانه
وضعوا على التابوت سبع سنابل خضراء
إن وجدت
وبعض شقائق النعمان
إن وجدت))
.......
ورغم كثرة ترديده لكلمة العدم خاصة في قصيدته الأخيرة (لاعب النرد)، لكنه كان قد قال بوضوح وعمق في الجدارية:
((... لم يمت أحد تماما
تلك أرواح تغير شكلها.. ومقامها))
.......
وكان يرى الموت محض انتقال للأبدية، فيقول مخاطبا الموت:
..((.. أنا وأنت على طريق الله
صوفيان محكومان بالرؤيا ولا يريان
عد يا موت وحدك سالما
فأنا طليق هاهنا في لا هنا
أو لا هناك
وعد إلى منفاك
وحدك))
......
وفي ديوان "كزهر اللوز أو أبعد" يخاطب ذاته التي طالما تحدث إليها حديث النفس في أشعاره قائلا:
(("فبأي آلاء ربكما تكذبان"
وغائبان أنا وأنت، وحاضران أنا وأنت
وغائبان
"فبأي آلاء ربكما تكذبان"))
..
ويتحدث في كتاباته الأخيرة عن: ((افتتان الشعر.. بنثر القرآن..))
...
وكان آخر ما كتبه نص "أنت منذ الآن غيرك" وهو ما أغاظ الكثيرين من نقاده حين تحدث بمرارة عن الدم الفلسطيني الذي سقط في قتال بين الإخوة:
((.. لولا أن محمدا هو خاتم الأنبياء لصار لكل عصابة نبي، ولكل صحابي ميليشيا!))
فقد كان ضد سفك الدم الفلسطيني على يد الأشقاء، لكن بدلا من الوعي بقيمة ما يقول، وبدلا من افتراض المقولة كإعلان للإيمان إذا بمن يقرأ يرى في خلافه السياسي مع حماس دليلا على الكفر.. ببساطة.
شعر.. وكفى
تلك مقتطفات، والقائمة طويلة لمن أراد أن يفتش في كلمات محمود درويش عن الإيمان، وهي أطول لمن أراد بالطبع أن يفتش عن الكفر في خيال شاعر له لغة تستعصي على الترويض.. حرة فياضة.. تتسم بالجموح والتجريب في التراكيب.. وكأنني ومن كفروه كمثل الملائكة حين تنازعوا على جثة التائب، فعد ملائكة النار المسافة بينه وبين أرض الذنوب، وعد ملائكة الجنة خطواته لأرض التوبة.. والله رحيم يرسل ريح الغفران لمن يشاء.. ليقترب.. وله الحكم، وإليه يرجع الأمر كله.
فلنتذكر أخيرا أن الشعر ليس نص عقيدة، ولا بيانا سياسيا مباشرا، الشعر شعر.. وكفى، أو شعر.. وزيادة في زمن النضالات التحررية.. ولنتذكر أن الشعراء يقولون ما لا يفعلون.
أما خلط المواقف السياسية بالمسائل العقيدية، والولع بتكفير الخصوم فمحزن، لكن تاريخنا عريق في هذا المضمار، وها نحن قد وصلنا لما وصلنا إليه.. بفضل تلك الهواية المؤسفة.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.. العلي العظيم.
* المصدر: إسلام أون لاين – 25/8/2008م.
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |