مقابلة مع بول ريكور
اعداد: زهير ياسر – المغرب.
ترجمة : زهير الخويلدي.
-سؤال ايفانكا :
هل قمت بترك الهرمينوطيقا التيولوجية ومشاكل الإيمان كليا أي \"المعنى غير المرئي\" للتاريخ وللحياة الإنسانية؟
- جواب ريكور:
كلا أبدا. ولكن كثيرا ما أتمسك بفصل الفلسفة من حيث هي خطاب عقلاني مشترك عن يقينياتي الخاصة الدينية البروتستانتينية والتي كنت قد لمحت إليها. راهنا في الولايات المتحدة الأمريكية أنا بصدد نشر عملا قمت به بمعية مجموعة من المفسرين وسيظهر في السنة المقبلة. أنا لست بمفسر من حيث المهنة وأستعين كثيرا بالمفسرين لمعرفة من كتب نص ما وفي أية حقبة ومن أجل أي مستمع. إن ما أنجزه هو في الواقع تفكيرا فلسفيا في النصوص التوراتية, على سبيل المثال الخطيئة الأصلية أو النص الشهير لأكسود: \" أنا أكون من يكون\" أو\" إلهي لماذا تخليت عني\" أو حول قوانين سيناء ومنها \"لا تقتل\" أين أطرح سؤال بأي معنى هو قانون السماء لما كان هو أيضا قانونا إنسانيا. لكني أميز كل هذه المشاكل عن عملي الفلسفي لأن النصوص التي أقرؤها هي مختلفة.
- سؤال ايفانكا :
هل هذا يعني أن نصوصك التي توجد في \" التاريخ والحقيقة\" هي نصوص ليست فلسفية بما أنه ثمة كثيرا من التأويلات حول التواريخ التوراتية ونصوص آباء الكنيسة؟
-جواب ريكور:
طبعا.. بالفعل.. ( تردد لبرهة- ايفانكا) سأكون شيزوفرينيا لو انقسمت تماما إلى شطرين. أنا أجتهد لكي أميز بين نشاطي الديني ومحاجتي الفلسفية. لا يوجد في مؤلفاتي الفلسفية أي استشهاد بالنصوص التوراتية ولا أية إحالة إلى التيولوجيا, فالفلسفة تحيى مع نصوصها الخاصة. ثمة نصوص توحيدية مثل تلك التي تتعلق بالتراجيديا الإغريقية وثمة أيضا أوجه نظرية في النصوص التوراتية وفي كل هذا التقليد للحكمة. أرى أنه توجد طبيعيا العديد من التقاطعات بين حكمة الشرق الأوسط المعبر عنها في التوراة,على سبيل المثال كتاب يعقوب وسفر الجامعة ومضرب الأمثال وربما وصية القديس جون- وهي حكمة ليست قصصية بل تحوز على كثير من الجوانب التأملية- وبين اهتماماتي الفلسفية. أنا أشتغل في هذه اللحظة تحديدا على نقاط التقاطع. في المخطوط الذي سيصدر خلال أسابيع قليلة- قراءاتIII- توجد نصوص متودولوجية مرتبطة بنقاط التقاطع هذه والتي أحاول أن أفسرها.
بكل تأكيد لكي تكون ثمة نقاط التقاطع لابد أن تكون ثمة طريقان.
- سؤال ايفانكا:
حاليا وخاصة في هذا الملتقى نؤكد كثيرا على أهمية مشكل الآخر. إذ كان تصورك للعلاقة القائمة بين البعيد والقريب في الخطاب والنقاشات الكبيرة حول الآخر هو فريدا تماما لأنه يمنح بشكل جديد كليا إمكانية إدراك القطيعة التواصلية وسبب فوات التواصل الأصيل( ياسبرس) والبيذاتية ( مارسال).
ألا يوجد أيضا مكان في أعمالك الراهنة لمشروع الآخر من حيث هو قريب؟
- جواب ريكور:
أرى أنه يجب التمييز بين مفهومين للآخر. الآخر الذي يمتلك وجها يمكنه أن يصير صديقا. وهذا هو مشكل العلاقات البيذاتية. أعتقد أن ليفناس هو مفكر هذه العلاقة مع الوجه. لكن يجب علينا دائما أن نحافظ على علاقة مع آخر بالنسبة إلينا لا يملك وجها. بالنسبة إلي الصينيون هناك في بعض الأنحاء لا يصيرون أبدا أصدقاء. لكني أقمت علاقات معهم عن طريق المؤسسات. ما نحصل عليه هنا هو المرور من الصداقة إلى العدالة. لقد استطعت أن تلاحظي أن كتابي الأخير \"الأنا على شاكلة الآخر\" وضع على نفس الأرضية العلاقتين مع الآخر- الصداقة والعدالة. من جهة أخرى أعرف العلاقة الايتيقية الأولى بالكلمات التالية: \" اسعى إلى الحياة السعيدة مع ومن أجل الآخرين في مؤسسات عادلة \".
تبعا لذلك تتعلق فكرة العدالة بعلاقتي مع الآخر الذي ليس له وجه والذي يمكن أن يظل نهائيا دون وجه. إنها المؤسسة التي تكون العلاقة وليست البيذاتية. لهذا السبب انتفضت ضد الشخصانية الضيقة والتي تختزل الكل في علاقة\" أنا- أنت\". هناك \"الأنا\" ولكن هناك أيضا \"الواحد بعينه\".
- سؤال ايفانكا : هل هو \"المرء\"؟
- جواب ريكور : لا, \"المرء\" مجهول بينما \"الواحد بعينه\" متفرق. أعتقد أنه مهم جدا لأننا قلنا دائما: بعد \"الأنت\" هناك \"الهم\". لا ليس هناك \"الهم\" بل هناك \"الواحد بعينه\". وعلاقة العدالة هي:
\" لكل واحد بعينه حقه الخاص به\". أعتقد أنها مقولة كثيرا ما أهملت إهمالا شديدا في الفلسفة وخاصة في الفلسفة الروحانية المهتمة بعلاقات الصداقة والمحبة و ليس العدالة. لكن من الآن يستطيع السياسي أن يتصل اتصالا وثيقا بالايتيقا. بما أن السياسي له ما يقوم به في المؤسسات التي تنظم الأفراد الذين لا يصيرون أصدقاء. ثلة يصيرون أصدقاء لكنهم يكونون مترابطين في حركتهم داخل إطار المؤسسة.
ومهما تعلق الأمر سواء بالجامعة أو بالمشروع أو بالمواطنة أو بالمؤسسات الدولية أو بمجتمع الفلاسفة فأني أكون داخل علاقات مع أناس هم أنفسهم علاقات مؤسساتية أو مؤسسية.
- سؤال ايفانكا:
هذا يعني داخل علاقات بعيدة.
- جواب ريكور: نعم علاقات بعيدة.إن تحليل القريب والبعيد هنا يكون له أهمية بالغة.
- سؤال ايفانكا :
كيف تقيم إذن جهود تلميذك القديم انريك دوزال في ما يتعلق بالوعي بالوضع الإنساني وبالتحديد في هذا الطابع الخاص بالآخرية- العدالة؟ وألا ترى أن فهم الذات لا يتم كما ينبغي \"أمام النص\" بل وبالخصوص أمام الآخر لأنه قبل \"الأنا موجود\" و\"الأنا أفكر\" تكون الذات أمام \"الآخر\"؟
- جواب ريكور:
( صمت قليل) أنا لا أرى وجود تناقض. أنا أنخرط انخراطا كليا في مشاكل دوزال وبالتحديد مفهومه حول \"الوعينة \" . صحيح أنه ثمة نوع من الهروب أمام مشاكل اللاعدالة تجاه العالم الثالث أو تجاه هذا العالم الثالث الذي عندنا. لأن العالم الثالث صار الآن عندنا- الأمريكيون السود والاسبانيون والعرب في فرنسا الخ. العالم الثالث لا يوجد في الخارج بل هو صارفي الداخل.
وهنا طرح مشكل \"تخليف الضحية\" . أنا متفق اتفاقا تاما مع دوزال ولا أريد أن أضخم مشكل اللغة.
انه ليس صدفة أن أسمي واحد من مؤلفاتي الأخيرة \" من النص إلى الفعل\". في البداية لقد قلت إنها عودة إلى مشاكل الشباب- وهذا حق لكن من خلال ما كنت قد تعلمته عن التناص. بيد أن التأكيد على العدالة والبعد السياسي في العلاقات الدولية يبقي على منزلة معتبرة أكثر أهمية مما نعيشه في عالم منفجر كليا ومخيف لخطورته.
- سؤال ايفانكا:
ماهو السبب الذي أدى إلى ذلك أو إذا أردت ماهو الشر الأساسي للمجتمع المعاصر؟
- جواب ريكور:
أقول إن الشر الأساسي للمجتمع المعاصر يتمثل في أن زوال الشيوعية في الشرق ترك منتصرا واحدا لكن هذا المنتصر هو نفسه مريضا. الآن يمكننا أن نقوم بنقد داخلي للنظام الرأسمالي دون أن نتهم بأننا قريبين من الشيوعية. إن الأشياء تظهر على النحو التالي: اقتصاد السوق هو بالتأكيد الاقتصاد الوحيد المنتج والذي يخلق ثروات وفي نفس الوقت انه اقتصاد السوق الذي يخلق عددا كبيرا من أشكال اللامساواة واللاعدالة.
نتيجة لذلك نحن جميعا مطالبين بالبحث عن توليف بين اقتصاد السوق وتدخل الدولة أو المجتمع من أجل إصلاح أشكال اللامساواة. أقول إننا دخلنا مرحلة تجريبية أين شرعنا في التوحيد بين الماء والنار لأن حرية السوق تفترض عدم وجود تدخل بينما العدالة تقتضي التدخل. أنا لا أعتقد أنه توجد طريق واحدة. أنا أشك في كون العام الثالث يدخل في طريق النموذج الأمريكي مثلا بينما أوروبا ليست أبدا كذلك.
أعتقد أنه سيوجد في المستقبل نوع من النمط الاجتماعي الديمقراطي مع توليفات حقيقية بين حرية السوق وتدخلية الدولة. لكن نحن لا نعرف الحل.
سنذهب بأكبر قدر من الحرية التي كنا قد بحثنا عنها لأن ماهو مخيف في الشيوعية لم يعد له من مخرج. بهذا المعني صرنا أكثر حرية في القيام بمحاولات وفي فعل تنوعات تخيلية, إذا استعملنا عبارة هوسرل, وفي التوليف بين البحث عن العدالة الاجتماعية والخوصصة . وبصراحة انه تناقض صارخ جدا. ومرة أخرى أعتقد في تعددية الحلول.
- سؤال ايفانكا:
في \"نزاع التأويلات\" تؤكد على وضع \"الأنا موجود\" موضع تساؤل من طرف \"من أكون أنا؟\"
هو سؤال ثمين بالنسبة لمونتاني ومارسال. لكن بالرغم من أنك في \"التاريخ والحقيقة\" كنت قد قدمت في السابق جوابا عن\" من أكون أنا؟\", بهذا المعنى الذي يكشف به دياليكتيك التاريخ عن القصد المشترك نحو المفارقة ويشهد على أن الإنسان هو صورة الله. هل ستدافع دائما على هذا الموقع أو هل ستقبل على الأصح بتعددية في الخطاب حول\"الأنا موجود\" و\"من أكون أنا؟\" أي بنسبوية معينة؟
- جواب ريكور:
من اليقيني كليا أنه مضى قرابة ثلاثون سنة منذ الحقبة التي كنت قد كتبت فيها \"التاريخ والحقيقة\". انه ليس فقط أنا الذي كنت قد تغيرت بل المشهد الفلسفي كان قد تغير. انه لم يعد هناك لا أقول مكرها نفس الخصوم بل نفس نقاط المرجعية. لقد اختفت من أفقنا الفلسفي الوجودية والشخصانية والماركسية على الأقل في الصور التي كنا قد عرفناها عنها. أنا نفسي توصلت إلى تكوين نظرة معقدة تعقيدا كبيرا عن هذا المشكل الخاص بالأنا موجود؛ لا أقول نظرة أكثر نسبوية بل أكثر استفهامية.
إن نمط الخطاب الفلسفي الذي أتناوله الآن يركز أكثر على المضيقات و المضيقي. إن القسم الثالث من \"الزمان والسرد\" ينتهي بالمشاكل التي ليس لها حل بواسطة القص- الطابع غير المسجل من الزمن والطابع غير المهيمن للهوية الشخصية. انه صحيح أنني أذهب ربما من فلسفة تأكيدية متيقنة جدا من نفسها نحو فلسفة أكثر استفهامية . يمكن أن تسمي هذا نسبوية لكن أنا لا أحب البتة لفظ نسبوية لأن...
- سؤال ايفانكا:
أنا لا أؤكده, انه ليس سوى سؤال.
- جواب ريكور:
كلا بل إن لفظ نسبوية هو على النقيض من دغمائية ... كما لو أنه ليس ثمة سوى وجهة نظر واحدة وعندما تقول انه ثمة العديد من وجهات النظر تكون نسبويا. أنا أدخلت بالأحرى لفظ التناهي.
أنأ أعرف أن لي منظورية محدودة حول المشاكل وأن آخرين لهم منظورية أخرى. أنا أنتمي إلى جماعة متفلسفة أين أقبل أن يرى الآخرون أشياء لا أراها. هذا صحيح يمكنك أن تسمي هذا نسبوية لكن هذا أيضا صنيع ثقة في قدرة الآخرين على إدراك و فهم الأشياء التي لا أفهمها. وأقول هذا الأمر نفسه في التقليد الديني الخاص إذا أردت . ثمة قسم من المسيحية برمته كان قد عبر عن نفسه بواسطة مصطلحات من الأفلاطونية المحدثة والذي صار أكثر في متناولنا الآن بدرجة كبيرة.
أستطيع إذن أن أقبل بوجود أناس كانوا قد فهموا أشياء لم أفهمها البتة. أنتمي رغم ذلك إلى جماعة كبيرة أين يفهم الناس أو سيفهمون أشياء لن أفهمها البتة. عندئذ هذا الأمر يجعل نسبويتي محددة بنسبوية الآخرين.
( انه يبتسم, أنا أبتسم – ايفانكا )
- سؤال ايفانكا:
لنتحدث عن الأفلاطونيين المحدثين... أنت تعرف بكل تأكيد الأسطورة الأورفية عن ديونوزوس- زغروس التي نقلها أفلاطون أين وقع التحدث عن الطبيعة المزدوجة للإنسان. تبعا لذلك فإن الإنسان بقدر ماهو صورة الله( ولو مشوهة) هو أيضا أحد الجبابرة وبالتعاقب هو أحد القوي التي تسمي شيطانية.
هذا يجعلني أفكر في تحليلك البارع للشر. كيف تطرح اليوم بعد أربعين أو ثلاثون سنة مشكل الشر؟
جواب ريكور:
نعم عندما أعود إلى تربيتي الأولى – الباولية والأغسطينية واللوثرية - أراها الآن كافية بشكل محدودا.
هنا كان مشكل الشر قد اختزل اختزالا شديدا في الشعور بالذنب من الداخل. أنا أكثر انتباها الآن بشيئين. بادئ ذو بدء العنف- طابع الألم المحدث للآخرين. إذ يسعى الشعور بالذنب بالأحرى إلى تقريض نفسه بنفسه بتوبيخ الضمير. عندئذ تتضخم إمبراطورية العنف. العنف في العالم ليس فقط فيزيائي- القتل, الإجرام- ثمة أيضا عنف في اللغة وفي الطريقة التي يكتب بها التاريخ. ثمة أيضا ذاك الجانب الجبار الذي كنت قد لمحت إليه بمعنى تمجيد الذات . الطابع التكميلي هو عنف المعاناة. من المؤكد أنه في أعمالي الأولى لم يكن هناك مكان للتفكير في المعاناة بل فقط في العنف المرتكب. بينما ثمة أيضا العنف الحاصل والذي هو تحديدا قفا العنف. لهذا السبب- أنا لا أعرف إن كنت قد لاحظت ذلك- منذ \"الزمان والسرد\" قلت دائما أن\" الإنسان فاعل ومعذب\". السرد هو إعادة تشكيل للإنسان الفاعل والمعذب. نرى هذا خاصة في التراجيديا الإغريقية أين يتعلق الأمر بالعظمة والسقوط.
أعتقد أن النمط التراجيدي هو مهم جدا.كما أن تاريخ الجبابرة كان مرتبطا بالطابع القديم للتراجيديا. نرى هذا في برومثيوس المكبل لأخيل أكثر مما نراه عند سوفوكل.عند سوفوكل انه يفضل تراجيديا الانفعالات الإنسانية بينما مع أخيل فإنك تحوز على الشكل الأسطوري المرعب للآخرين.
- سؤال ايفانكا:
إن ما يحمل إلينا اليوم من الشرور والمآسي ليس الحكايات والأساطير بل التاريخ وحياتنا نفسها. مع أن الحرب الباردة قد انتهت والجميع يتحدث عن دمقرطة دول أوروبا الشرقية فإننا لنزال نحيا في عالم تمزقه النزاعات أين يبدو لنا أننا نقترب من الساعة 25من التاريخ. هل أبقيت على بعض من تفاؤلك الحماسي القديم ومن الإيمان بتقديس التاريخ تقديسا تاما؟
- جواب ريكور:
أقول أني رفضت دائما فكرة فلسفة التاريخ... ( انه يفكر قليلا- ايفانكا) . أنا لا أعرف البتة أين يمضي التاريخ. أصير كانطيا أكثر منه هيجليا حول هذا السؤال أي ماذا ينبغي علي أن أفعل الآن؟( في النزعات الخ.) لكن إلى أي وجهة نحن سائرون,أنا لا أعرف مطلقا أي شيء. ما يمكن قوله هو أنني ليست محتاجا أبدا لامتلاك فلسفة تاريخ حتى أكون مسؤولا. نحن لدينا نظرة ضيقة جدة عن حالة النزاعات, هي نظرة بالغة الضيق لأننا نحن أنفسنا في حالة نزاع وليس لنا هذه النظرة المحلقة, هذه النظرة من الأعلى. كنت قد قلت بين قوسين أن التاريخ الحاضر هو معتم. إنها فكرة هيجل بالنسبة إلي التي أصلحها في هذه النقطة بالذات لأن هيجل كان قد قال أنه لا يمكن أن نفهم حقبة ما إلا إذا كانت قد أكملت مسارها. عندئذ الآن قد نفهم حقبة 1917-1989 منذ اندلاع الثورة البلشفية إلى خاتمتها.
بالرغم من أني لا أعرف في أي زمن نعيش الآن. نحن صرنا في قلب النزاعات وأرى أنه ينبغي أن نحصل على نظرة ايتيقية أكثر منه نظرية عن ما ينبغي فعله الآن.
كنت قد سجلت ثلاث ملاحظات على الفور.
أولا, ينبغي أن نغير الطريقة التي نحكي بها تاريخنا الخاص لكي نأخذ بعين الاعتبار المعاناة التي كنا قد سببناها للآخر- نفكر أولا في المعاناة التي سببناها قبل المعاناة التي تعرضنا إليها. انه سلفا أمر ما؛ هذا يمس الطريقة التي نعيد بها كتابة التاريخ.
ثانيا, يوجد هناك سؤال كيف نجمع بين عالم اقتصاد السوق وواجب العدالة تجاه الأكثر فقرا. نحن لا نعرف أبدا الحل و لكن إنها محاولة.
ثالثا,تفادي حرب نووية والتي هي دائما ممكنة. أنا لا أعرف إن كانت فنطازيا ولكن ما أخشاه الآن هو الحروب النووية في العالم الثالث. إنها لم ترفع أبدا, إنها إمكانية أن تجري في يوم ما دولة من إفريقيا أو آسيا تجربة نووية على دولة أخرى. عندئذ ماذا سيكون واجب المجموعة الدولية. نحن لدينا دائما واجب إعطاء المجموعة الدولية وسائل التدخل ولكن هو دائما مضمون من طرف شرعية بالغة القوة.
إن بناء حق عالمي مالك لوسائل القوة والتدخل هو بكل تأكيد محاولة. نحن بصدد التعلم مع العراق والصومال والبوسنة ونحن نرى جيدا أننا بدأنا أولا بالأخطاء.
نحن أصبحنا في حقبة من التعلم أو ليست حقبة الصراع بين معسكرين بل تعدد المراكز والتي ينبغي أن تنبثق منها إرادة عامة للمجموعة الدولية وأن تعطى في الآن نفسه آليات الحقوق و آليات التدخل.
سؤال ايفانكا:
هل هذا يعني أنه يجب أن نكون حكومة دولية و التي تكون قادرة على المساعدة في حل الكثير من المشاكل؟
جواب ريكور:
كلا أنا لا أرى ذلك. مشكلتنا لا سابق لها لأنه ليس لنا من موضوعات حق وقوة سوى دول قومية.
محاولتنا لا تنصب حول إنشاء كيان دولي يسمى الدولة-الوطن لقوة معينة.
راهنا لدينا حقيقة جديدة تماما والتي تريد أن تنشئ أمرا ما يشبه اتفاق بين الأوطان.
سؤال ايفانكا:
هذا ما كنت أريد أن أقوله وأنا أفكر في الفدرالية التي تبصر بها كامو.
جواب ريكور:
أنا أرى أن كانط هو الذي نظر إلى الأشياء بأكثر وضوح في مشروعه من أجل السلام الأبدي
بوصفه نتيجة للحقوق الإنسانية. أرى أنه من المفروض أن نسير في هذا الاتجاه لأن الوصول إلى اتفاق بين الأوطان هو أكثر صعوبة من سلطة وطن ما. الآن صرنا محاطين بالأخطار سواء بتفتت الأوطان أو بتفوق قوة واحدة, بمعنى محاطين بالفوضى العالمية والمنوقراطية الأمريكية.
بالأحرى الأمريكيون أنفسهم اعترضتهم عدة صعوبات لأن الدول الأخرى تجبرهم على أن يلعبوا دور شرطي العالم حتى وان كان ذلك ضد إراداتهم الخاصة.
سؤال ايفانكا:
هل هذا يعني أن ليوتارد له حق عندما نص على أنه لا يوجد حل بالنسبة للنزاعات الراهنة لأن كل حل يجعل واحد من العناصر المتخاصمة يفرض لغته على الآخر؟
جواب ريكور:
كلا أرى أن هذه وجهة نظر متطرفة جدا. ما أريد قوله هو أننا نطرح التجربة التاريخية حول التسوية والمفاوضات. نصطدم في النشاطات الشعبية في كل الأوقات بالمفاوضات بين الرؤساء والمجالس الإدارية الخ. إن الديمقراطيات التي تشتغل اليوم هي على الأرجح متبلورة من تسويات بوصفها حقوق الأقليات والمراقبة الدستورية من طرف الأغلبية الحاكمة الخ.هذه التجربة التاريخية للتسوية هي بالتحديد ما ينبغي توسيعه. أن نشيد بالمختلف هو أن ننظر إلى الحقيقة كما هي لكن هذا لا يعني البتة أنه ثمة وجود اضطراري, إنها مجرد واقعة. أن نقول أننا نمتلك القول الفصل, هذا سيصبح استنتاج. في الواقع إن المختلف ليس سوى جزء من المشكل.
سؤال ايفانكا:
هل ترى أن الفلسفة خاصة فلسفة السياسة وإيتيقا النقاش التي قدمها لنا كارل أتو آبل مثلا تطرح
جواب ريكور:
ما يقترحه آبل ليس سياسة بل تفكير في شروط إجماع يسمح بتأمل الاختلافات بطريقة حسنة. لأنه ماذا يعني المختلف غير الطابع غير قابل للحل لنزاع ما بالمقارنة مع إجماع نموذجي؟ لكن إذا لم تبحث عن إجماع مثالي تكون إذن غير مكترث تماما تجاه المختلف. المحاولة (المطلوبة) هي أن ننجز وجودنا بوصفه إمكانية. هنا أيضا أنا كانطيا. كانط يعلن في الفقرة الخاصة بفلسفة الحق من ميتافيزيقا الأخلاق مشروعه للمصالحة بين السياسة وحرية الاختيار. انه ينطلق من نظرة تشاؤمية تاريخية معينة و التي تأتي من ما يسميه \"لاإجتماعية الاجتماعي\". هذه هي إذن الوضعية لكن المحاولة بالتحديد هي تحقيق المصالحة بين التناقضات.
سؤال ايفانكا:
حسنا, لكن كيف تستطيع الفلسفة السياسية تحقيق المصالحة بينها بينما هي ليس لها أي قدرة عل السياسة الواقعية؟
جواب ريكور:
هذا ما أتيت لقوله- إن الفلسفة السياسية ليست سياسة. السياسة هي متصلة بالقوة والسلطة وبالعلاقات التي تربط بين السلطة والحق. هذا يقودنا إلى مشكل الإبداعية و الرأي العام. نصل في نهاية المطاف إلى مفهوم القرن 18عن \" الفضاء العمومي \". انه في هذا المستوى تحل كل مشاكل الفلسفة.
في هذه اللحظة نسهم أنا وأنت في الرأي العام وفي المقابلة و في النقاش.
سؤال ايفانكا:
وهل ترى أن هذا سيغير شيئا ما؟
كان سياسي ألماني قد عبر منذ مدة عن رأي كلبي بعض الشيء لكنه بكل أسف واقع-\"السياسة لا تصنع في الشارع\" بمعنى في \" الفضاء العمومي\" أو في الخطابات الفلسفية.
جواب ريكور:
بالأحرى أنا مقتنع بخطاب رورتي المتواضع الذي يثبت قدرتنا أن نكون وسطاء حقيقيين بين تراثيات مختلفة بصهرها الواحدة بالأخرى. أعتقد أننا صرنا نافعين في هذا المستوى- إننا نطلب من خصومنا حجج قوية. إن ما يقوله هنا آبل هو شيئا ما قويا جدا- ثمة إيتيقا للنقاش. إذا لم يكن ثمة هذه الإيتيقا سنكون بكل بساطة داخل علاقات قوى. بكل تأكيد النقاش وحده لا يستطيع أن يحل علاقات القوة بل يفرض على القوة أن تخضع إلى حقل الخطاب.
سؤال ايفانكا:
أنت ترى إذن أن الفلسفة تستطيع أن تسهم في تغيير العالم؟
جواب ريكور:
( بصوت صريح) أنا لا أعرف! لكن أعرف ماذا علي أن أفعله.
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |