الآسيويون يعيدون اختراع آسيا
* بقلم: وانغ هوي Wang HUI.
يتسع النقاش في كل من آسيا وأوروبا حول بناء كيانات إقليمية قادرة على خلق توازن مع القوة الأميركية. فالعولمة الليبرالية و"الإمبراطورية الجديدة" ـ وهما مفهومان مختلفان في الظاهر ـ باتا يشكلان اللحمة التي تبرم حولها المعاهدات العسكرية والتجمعات الإقليمية والهيئات السياسية الدولية. والظاهرتان مجتمعتان تشكلان نظاما شاملا يتضمن الدوائر السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية لنظام يمكن تسميته "الإمبراطورية" أو "الامبريالية النيوليبرالية".
فالمجتمعات الأوروبية تسعى لحماية نفسها عن طريق شكل من الأشكال الإقليمية. فيقترح يورغان هابرماس مثلا في مقالة بعنوان "لماذا تحتاج أوروبا إلى دستور؟" [1] بناء ديمقراطية ما بعد قومية وفق محاور ثلاثة: تشكيل مجتمع مدني أوروبي، إقامة دائرة سياسية عامة على مستوى أوروبا وخلق ثقافة سياسية يمكن لكل مواطني الاتحاد الأوروبي تقاسمها.
من جهتها تطلعت الصين قبل سنوات للانتساب إلى رابطة دول جنوب شرق آسيا وفق صيغة عشرة زائد واحد [2] فلحقت بها اليابان مقترحة صيغة 10 + 3 (الصين، اليابان وكوريا الجنوبية) وفي العام 2002 أكدت إحدى وكالات الأنباء اليابانية انه "إذا كان تسارع توحيد آسيا (...) فان الشعور بوجود مسافة بين اليابان والصين قد يضمحل بصورة طبيعية خلال التوحيد الإقليمي، وان مؤتمرا يضم زعماء الرابطة الآسيوية إضافة إلى الصين واليابان وكوريا الجنوبية ينتهز فرصة التفاوض الإقليمي بعيدا عن الولايات المتحدة قد يصل في النهاية إلى صيغة آسيوية للمصالحة بين فرنسا وألمانيا [3]" . يوم دخلت عشرة بلدان من أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي في أول أيار/مايو 2004، اقترح دبلوماسي ياباني وباحث هندي في العلوم السياسية أن تصبح الصين واليابان والهند أعمدة الصيغة الأسيوية لحلف الأطلسي.
يبقى أن نعرف ما يعنيه الأسيويون عندما يتحدثون عن آسيا. وهذا ما يثير إشكالات ثلاثة. أولها إن مختلف أوجه السياسة الأسيوية ارتبطت منذ القرن التاسع عشر ارتباطا وثيقا بمختلف أشكال القومية. ثانيا إن فكرة آسيا تشمل مفهومين متعارضين: المفهوم الاستعماري الياباني القائم على "دائرة الازدهار المشترك الأسيوية الكبرى" والمفهوم الاشتراكي لآسيا المرتكز على الحركة الاشتراكية وحركة التحرر الوطني. فما العمل بالميراث الاشتراكي في ظروف انهيار الحركة الاشتراكية وإعادة بناء التصورات حول آسيا؟ ثالثا وإذا سعينا إلى تجاوز الدولة القومية فان إعادة اختراع آسيا تفترض استبدال تصور الدولة الما فوق قومية بدولة القرن التاسع عشر.
في الواقع، إن فكرة آسيا ليست مفهوما آسيويا بل أوروبي. في القرنين الثامن والتاسع عشر تطورت العلوم الاجتماعية (الألسنية والتاريخ والجغرافيا الحديثة وفلسفة القانون ونظريات الدولة والأعراق والحوليات والاقتصاد السياسي) بسرعة في أوروبا بالتزامن مع العلوم الطبيعية. وقد رسمت معا خريطة جديدة للعالم وقد اندمجت تصورات أوروبا وآسيا ضمن مفهوم "التاريخ العالمي".
قام مونتسكيو وآدم سميث وهيغل وماركس ببناء فكرة آسيا بالتعارض مع فكرة أوروبا ودمجوها في رؤية غائية للتاريخ [4] . يمكن إيجازها على الشكل التالي: تعارض بين الإمبراطوريات الأسيوية المتعددة الاثنيات والدولة الملكية ذات السيادة في أوروبا، بين الاستبداد السياسي الأسيوي والأنظمة السياسية والقانونية الأوروبية، بين نمط الإنتاج الأسيوي البدوي والزراعي والمدنية والتجارة الأوروبيتين.
إذا اعتبرت الدولة القومية الأوروبية وانتشار نظام السوق الرأسمالي مرحلة متقدمة من التاريخ العالمي فان آسيا تكون في حال متخلفة من التقدم. وفي نظر الأوروبيين لم تكن مجرد حيز جغرافي بل أيضا حضارة تتمتع بشكل سياسي مناقض للدولة القومية الأوروبية ونظام اجتماعي معارض للرأسمالية الأوروبية ومرحلة انتقالية بين حقبة لاتاريخية وأخرى تاريخية. وقد شكل هذا الخطاب بالنسبة إلى المثقفين الأوروبيين كما للثوريين والإصلاحيين الآسيويين إطارا لتصوّر التاريخ العالمي والمجتمعات الآسيوية وتحديد سياسة ثورية أو إصلاحية ووسيلة لتفسير الماضي والمستقبل الآسيويين. في القرنين التاسع عشر والعشرين كانت فكرة آسيا جزءا من خطب حول الحداثة الأوروبية إلى مفهوم كوني ووفّر إطارا سرديا استخدمه الاستعماريون كما الثوريون.
مثّل الخطاب الأوروبي آسيا كنقطة انطلاق لتاريخ العالم، فكتب جورج وليهلم فريديريك هيغل مثلا: "يسافر تاريخ العالم من الشرق إلى الغرب لان أوروبا هي نهاية مطلقة للتاريخ وآسيا بدايته (...) كان الشرق يعرف في الماضي ويعرف اليوم إن الواحد حرّ، وكان العالمان اليوناني والروماني يعرفان إن البعض أحرار والعالم الألماني إن الجميع أحرار. إن أول أشكال السياسة التي نلاحظها هي الاستبداد وثانيها الديمقراطية والارستقراطية وثالثها الملكية" . [5]
يمثل هذا المفهوم الزبدة الفلسفية للخطاب الأوروبي حول المسألة. ففي كتابه "ثروة الأمم"، يشرح آدم سميث العلاقة بين الزراعة والريّ في الصين وأقطار آسيوية أخرى مشددا على التناقض مع الدول الأوروبية الغربية المتميزة بالمصانع والتجارة. ويتوافق تعريفه للمراحل التاريخية الأربع ـ الصيد، البداوة، الزراعة والتجارة ـ مع الحقب التي تمرّ بها المناطق والبلدان. وهو يشير على وجه الخصوص إلى "القبائل الأصلية في أميركا الشمالية" كمثل على "أمم الصيد أي الحالة الاجتماعية الأدنى والأكثر بدائية"، والى التتر والعرب باعتبارهم "أمم رعاة أي حالا أكثر تقدما" والى اليونان والرومان الأقدمين كأمم مزارعين وهي "حال مجتمع أكثر تقدما " [6]. وفي منظور هيغل، تندرج هذه المسائل في دائرة السياسة وتشكيل الدولة. فالأعراق التي تمارس الصيد هي في أسفل السلم لان الجماعات التي تعيش من الصيد والقطاف هي بحجم صغير لا يسمح بوجود العمل المتخصص الذي تتطلبه الدولة. في وصفه لتاريخ العالم، يلغي هيغل صراحة أميركا الشمالية (وميزتها الصيد والقطاف) ليجعل الشرق بداية للتاريخ. وبينما يعمد سميث إلى التقسيم وفق الأنماط الاقتصادية، يقسمها هيغل وفق المناطق والحضارة وبنية الدولة. ويربط الاثنان الأنظمة السياسية وأنماط الإنتاج ببقاع محددة كآسيا وأميركا وأفريقيا أو أوروبا فيضعانها في إطار من التحقيب التاريخي.
عند عرضه لتطور الأنظمة الاقتصادية الاجتماعية، يحدد ماركس مراحل أربعا، الآسيوي والبدائي والإقطاعي والرأسمالي. وجاء مفهومه الفريد لنمط الإنتاج الآسيوي ثمرة تأليف بين المفهوم الهيغلي للتاريخ ومفهوم آدم سميث. وبحسب بيري اندرسون [7]، يبني ماركس مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي بالنهل من سلسلة من التعميمات حول آسيا في التاريخ الفكري الأوروبي منذ القرن الخامس عشر: الملكية العامة للأرض أو ملكية الدولة (هارنغتون، فرنسوا برنيه، مونتسكيو)، غياب الأدوات القسرية الشرعية (جن بودان، مونتسكيو، برنيه)، غياب الارستقراطية الوراثية (ماكيافيل، باكون، مونتسكيو)، هيمنة الزراعة على الصناعة (ستيوارت ميل، برنيه)، مراوحة التاريخ (مونتسكيو، هيغل، ستيوارت ميل) الخ ... كل صفات آسيا المفترضة تلك تعتبر من صلب الاستبداد الشرقي.
في نظر الآسيويين، تبقى القومية الحديثة حاسمة في تحديد فكرة آسيا. بالرغم من تعارضها في التاريخ قامت مختلف الخطب القومية ـ من "ترك آسيا للالتحاق بأوروبا" الخاص باليابانيين إلى "الاستقلال الوطني" للثوريين الروس وصولا إلى النزعة القومية الآسيوية كما طرحها الثوار الصينيون ـ على التعارض بين الدولة القومية والإمبراطورية. يرجع أصل الشعار القومي الياباني إلى مقالة قصيرة لفوكوزاوا يوكيشي (1835- 1901) نشرت في العام 1885. تعبر فكرة "مغادرة آسيا" عن الإصرار على الانتهاء من عالم متمحور حول الصين وسياستها وأيديولوجيتها الكونفوشيوسية. و"الالتحاق بأوروبا" يعني تحويل اليابان إلى دولة قومية على الطراز الأوروبي. ويمكن اختصار التوجه بالقول إن آسيا تعتبر هنا متجانسة ثقافيا ضمن حيز كونفوشيوسي وأن اليابان تسعى إلى القطيعة مع الكونفوشيوسية بالتحول إلى دولة قومية.
بكلام آخر، تدرك اليابان كونها دولة قومية من خلال انفصالها عن آسيا وإعادة إنتاج ثنائية المتحضر/البربري والغربي/الشرقي داخل المنطقة نفسها. يؤكد فوكوزاوا انه ليس على اليابان القطيعة مع هويتها الماضية فقط بل تشكيل محور جديد في مجمل آسيا. في الحقيقة، لا تعني المسيرة نحو الدولة القومية بالنسبة إلى اليابان "مغادرة آسيا للالتحاق بأوروبا" بل "الدخول في آسيا لمواجهة أوروبا". وعبارة "دائرة الازدهار المشترك الكبرى في شرق آسيا" كشعار استعماري في مطلع القرن كانت تمثل تشريعا للغزو الياباني لآسيا. إن هذا الإطار الاستعماري يفسر تردد غالبية المثقفين الصينيين عن تطوير هذا المفهوم وحتى عن اعتناقه.
اخترعت حركات التحرر الوطني مفهوما جديدا لآسيا في رجع صدى للفكرة الاشتراكية التي حملتها الثورة الروسية. وبصفتها حركة اشتراكية مناهضة للرأسمالية وللدولة القومية البورجوازية، فان الحركة الاشتراكية توجهت من البداية نحو الأممية ومحاربة الامبريالية. بيد إن مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها كما النظرية اليابانية لمغادرة آسيا تندرج في إطار الثنائية بين الدولة القومية والإمبراطورية.
بعد 27 عاما على صدور مقالة فوكوزاوا يوكيشي وبعد وقت قصير على الثورة الجمهورية وقيام الحكومة المؤقتة للجمهورية الصينية (كانون الأول/ديسمبر ـ شباط/فبراير 1912)، نشر لينين سلسلة مقالات حول آسيا [8] . كتب فيها إن "الصين اليوم بلد يعج بالنشاط السياسي ويشهد حركة اجتماعية قوية وتمردا ديمقراطيا " [9] ثم يدين قيام أوروبا المتحضرة والمتقدمة "بصناعاتها الآلية البالغة التطور وثرائها الثقافي المتنوع ودساتيرها" وتحت رعاية البورجوازية بدعم "كل ما هو متأخر ويعود إلى القرون الوسطى" [10]. ترتكز أفكار لينين وفوكوزاوا المتعارضة على فكرة مشتركة تقول بان الحداثة الآسيوية تنبع من الحداثة الأوروبية وان أهميتها لا تظهر إلا في العلاقات مع الغرب بعيدا عن أحوال آسيا ومصائرها.
لا يوجد في عرف التواصل التاريخي للمعرفة من فارق جوهري بين رأي لينين الثوري وآراء كل من هيغل أو سميث. فهم جميعا ينظرون إلى تاريخ الرأسمالية كمسار تطور من الشرق القديم أو آسيا إلى أوروبا الحديثة، من الصيد والبداوة والزراعة إلى التجارة أو الصناعة. إن المفهوم الهيغلي لتاريخ العالم ووصفه آسيا بالقرون وسطية وبالبربرية واللاتاريخية هو في أساس فكرة لينين عن آسيا. تتطابق هذه الفكرة ـ هيغل زائد الثورة ـ مع مخطط التطور التاريخي الثلاثي المراحل أي القديم والقرون الوسطى والحداثة (الإقطاعية، الرأسمالية والثورة البروليتارية أو الاشتراكية). وهي توفر للعصر الرأسمالي إطارا مترافقا مع تتابع زمني وتحقيب يسهل فهم تاريخ سائر مناطق العالم.
ترسم حجج لينين خصوصا حول الرابط العضوي بين القومية والرأسمالية خطا متصلا من أجل فهم العلاقة بين القومية الصينية الحديثة وفكرة آسيا. يميز صن يات صين [11] في خطابه الشهير حول "الآسيانية الكبرى" [12] خلال زيارته إلى كوبيه عام 1924 بين آسيتين: واحدة في أساس الحضارة الأكثر عراقة والتي لا تعد أي دولة مستقلة وأخرى تستعد للانبعاث من جديد. وفي نظره إن اليابان هي نقطة انطلاق هذا التجدد لأنها ألغت عددا من المعاهدات غير المتكافئة التي فرضتها أوروبا وباتت أول دولة مستقلة في آسيا. ويهنئ صن يات صين نفسه على الانتصار الياباني في الحرب الروسية اليابانية: "إن الانتصار الياباني على الروس هو أول نصر تحققه الأمم الآسيوية على الأمم الأوروبية منذ مئات السنوات (...) الأمم الآسيوية متحمسة وبدأ يدب فيها الأمل الكبير (...) لقد ولد أمل الاستقلال الوطني في آسيا" . [13]
لم يعد المقصود أسيا الشرقية فقط الواقعة ضمن الدائرة الثقافية الكونفوشيوسية بل آسيا المتنوعة الثقافات والتي تقوم وحدتها على استقلال دولها وسيادتها.
"جميع الأمم الآسيوية"، هذا ما تطمح إليه حركات التحرر الوطني وليس إلى تقليد خاطئ للدول القومية الأوروبية، وصن يات صين مقتنع بان آسيا تملك ثقافتها ومبادئها الخاصة وهو ما يسميه "ثقافة الطريق الملكي" مقابل "ثقافة طريق الهيمنة" الخاصة بالدول القومية الأوروبية. وفي مفهومه إن وحدة آسيا الطبيعية ليست في الكونفوشيوسية ولا في أي ثقافة متجانسة أخرى بل في ثقافة سياسية تندمج فيها الأديان والمعتقدات والأمم والمجتمعات المختلفة. ففكرته عن "الآسيانية الكبرى" أو "الآسيوية الشاملة" هي معارضة بالتالي لـ"الآسيانية الشرقية الكبرى" الخاصة بالقومية اليابانية الحديثة. وهي تشتمل على دينامية اشتراكية تواجه بين الرأسمالية والامبريالية وتقود بالتالي إلى نوع جديد من الأممية.
إن الرابط بين القيم الاشتراكية والتقاليد الصينية قد دفع بالباحثين المعاصرين إلى إعادة بناء فكرة آسيا. فيؤكد ميزوغوشي يوزو إن أصناف مثل "المبادئ السماوية" (تيانلي) و"الخاص/العام" (غونغ/سي) كانت موجودة في التاريخ الفكري والاجتماعي الصيني منذ سلالة سونغ (960-1279) حتى سلالة كنغ (1911) لتشكل استمرارية بين بعض أفكار الثورة الصينية الحديثة وتلك المتعلقة بالتنظيم الزراعي. وتعبر هذه المحاولة لتحديد ثقافة آسيوية بواسطة هذه القيم عن رغبة في المقاومة والنقد تجاه الرأسمالية الحديثة والكولونيالية [14]. أي بمعنى آخر، هناك تعارض واضح بين الفكرة الاشتراكية حول آسيا والفكرة الاستعمارية.
منذ العام 1940 سعى ايشيسادا ميازاكي، المؤرخ الكبير في مدرسة طوكيو الإمبراطورية، إلى دراسة "بداية الرأسمالية في عهد السونغ" من خلال الانكباب على دراسة تاريخ المواصلات البعيدة بين مختلف المناطق. وفي نظره أن "من اعتبروا عهد السونغ أول انطلاقة للحداثة توصلوا إلى دراسة التاريخ الغربي الحديث على ضوء تطورات التاريخ الحديث في شرق آسيا" [15] . تتقاطع نظريته المتبصرة حول الحداثة الشرق آسيوية مع الفكرة اليابانية حول "دائرة آسيا الشرقية الكبرى". وإذ يعتمد ميازاكي إطارا تاريخيا عالميا فانه يلاحظ أن بناء القناة الكبيرة وازدهار المدن وبعض البضائع كالبهارات والشاي حققت الربط بين الشبكات التجارية الأوروبية والآسيوية. كما أن توسع الإمبراطورية المغولية الذي شجع المبادلات الفنية والثقافية بين أوروبا وآسيا لم يغير فقط من طبيعة العلاقات داخل المجتمع الصيني والآسيوي بل ربط أيضا أوروبا وآسيا بطرق برية وبحرية. [16]
إذا كانت المميزات السياسية والاقتصادية والثقافية لـ"الحداثة الآسيوية" قد ظهرت منذ القرن العاشر أو الحادي عشر أي قبل ثلاثة أو أربعة قرون على ظهور خواص مشابهة في أوروبا، فهل أن التطور التاريخي لهذين العالمين حصل بصورة متوازية أو متشاركة؟ يعتبر ميازاكي إن آسيا الشرقية وخصوصا الصين لم توفر فقط للثورة الصناعية الأسواق والوسائل الضرورية بل غذّت أيضا تقدم النزعة الإنسانية الذي برز في الثورة الفرنسية. فيوضح قائلا: "لم تكن الثورة الصناعية الأوروبية حدثا تاريخيا يعني أوروبا وحدها لان الأمر لم يقتصر على استخدام الآلات بل على تحول في مجمل البنية الاجتماعية. وكان يلزم للثورة كي تحدث الازدهار البورجوازي إضافة إلى تراكم الرأسمال بفضل التجارة الضرورية مع آسيا الشرقية. من اجل تسيير الآلات كان المطلوب إضافة القطن كمادة أولية إلى الطاقة، وبالفعل فان آسيا الشرقية تؤمن المواد الأولية والسوق. لولا وجود طرق المواصلات مع آسيا الشرقية لما ولدت الثورة الصناعية" . [17]
تتمثل حركة العالم في الآلية التي تعتمدها عوالم مختلفة كي تتواصل وتتصارع وتتداخل أو تتبادل أنماط التشكّل. هكذا فعندما حدد المؤرخون موقع آسيا في العلاقات الدولية أدركوا أن الحداثة لا تعرف نسبة لهذا المجتمع أو ذاك بل نتيجة تفاعل متبادل بين مختلف المناطق والحضارات. بهذا المعنى، تفقد آسيا مشروعيتها لأنها لا تعود كيانا مستقلا ولا مجموعة من العلاقات. إن إعادة اختراع آسيا باعتبارها ليست بداية لتاريخ متتابع ولا نهاية له ولا موضوعا قائما بذاته أو قضية مرتهنة لغيرها، من شأن ذلك توفير الفرصة لإعادة بناء تاريخ العالم. كما يدفعنا إلى إعادة تفحص فكرة أوروبا لأنه لم يعد بإمكاننا مقاربة آسيا من وجهة النظر التي تمتلكها أوروبا عن نفسها.
تعكس تصورات آسيا المشار إليها الغموض والتناقض المحيطين بفكرة آسيا نفسها. فهي في الوقت نفسه استعمارية ومناهضة للاستعمار، محافظة وثورية، قومية وأممية، تعود أصولها إلى أوروبا وتساعد أوروبا في تفسير نفسها كما أنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بمسألة الدولة القومية وتتقاطع مع الرؤية الإمبراطورية. انه مفهوم للحضارة المتعارضة مع حضارة أوروبا وتصنيف جغرافي داخل في العلاقات الجيو سياسية. عندما ندرس الاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي لآسيا الراهنة علينا الأخذ في الاعتبار جديا كيف أن فكرة آسيا ظهرت على شكل انزلاق أو غموض أو تناقض. لا يمكننا وضع يدنا على المفاتيح المؤدية لتجاوز الانزلاق أو التناقض إلا بإدراك العلاقات التاريخية الخاصة التي ولدتها.
لا يفترض بنقد المركزية الأوروبية تأكيد مركزية آسيوية بل إلغاء المنطق الأناني الاحتكاري والتوسعي الخاص بالهيمنة. سيكون من المستحيل علينا إدراك أهمية الحداثة الآسيوية إذا تناسينا الشروط والحركات المشار إليها سابقا. لذا فان على التصورات الجديدة لآسيا أن تتخطى الأهداف والمشاريع الخاصة بالحركات الاشتراكية وحركات التحرر الوطني في القرن العشرين. فالمطلوب في الظروف الراهنة التفكير في المشاريع التي لم تحققها هذه الحركات والهدف ليس السعي إلى حرب باردة جديدة بل القضاء على القديمة ومشتقاتها كما انه ليس المقصود إعادة إرساء العلاقة الاستعمارية بل إزالة مخلفاتها ومنع بروز أشكال جديدة من الاستعمار.
فمسألة آسيا لا تخص آسيا الجغرافية فقط بل "التاريخ العالمي" بحيث أن إعادة النظر في "التاريخ الآسيوي" تتطلب إعادة بناء لـ"التاريخ العالمي" وتجاوز نظام "الإمبراطورية الجديدة" في القرن التاسع عشر ومنطقها.
* الكاتب: اختصاصي في تاريخ الأفكار، رئيس تحرير مجلة "دوشو" في بكين. والمقال المنشور هنا مقتطف من احد مؤلفاته التي ستنشر هذا العام بعنوان Imagining Asia. A Genealogical.
الهوامش:
[1] J?Habermas, “ Why Europe Needs a Constitution ”, New Left Review, Londres, n?11, 2001, pp. 5-26.
[2] بدأت الرابطة عام 1967 بخمس أعضاء هم اندونيسيا وماليزيا والفيليبين وسنغافورة وتايلاند وتضم اليوم خمس دول أخرى: كامبوديا واللاوس وفيتنام وبروناي وميانمار.
[3] Bunsho Nishikyo, “ Les relations entre le Japon, les Etats-Unis, la Chine et la Russie vues sous l’angle de la strat駩e chinoise du XXIe si裬e ”, Seikai shupo, Tokyo,12 f鶲ier 2002
[4] نظرية تقول بان العالم يتشكل من نظام للعلاقات بين الغاية والوسيلة. ويعتبر ماركس في مقدمة كتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" تاريخ أوروبا الغربية "مرحلة تقدم في التطور الاقتصادي للمجتمع". لم يعاد طبع هذه المقدمة في حياة ماركس. وفي العام 1877 أشار إلى انه "لا يجب تحويل ترسيمته التاريخية لتطور الرأسمالية في أوروبا الغربية إلى نظرية تاريخية فلسفية للتطور الكوني وفق مصير محتوم لجميع الأمم مهما كانت ظروفها التاريخية" انظر Saul K. Pandover, The Letters of Karl Marx, Englewoodcliffs, Prentice-Hall, New Jersey, 1979, p. 321.
[5] Georg Wilhelm Friedrich Hegel, La Philosophie de l’histoire, traduction Jsibree, Colonial Press, 1899, pp.103-104.
[6] Adam Smith, Enqu괥 sur la nature et les causes de la richesse des nations, dans The Glasgow Edition of the Works and Correspondence of Adam Smith, Oxford University, Londres, 1976.
[7] Perry Anderson, Lineages of the Absolute State, Verso, Londres, 1979, p. 472.
[8] " D魯cratie et narodisme (du terme russe signifiant populisme) en Chine ” (1912), “ Le r鶥il de l’Asie ” (1913), et “ Europe arri鲩e et Asie avanc饠” (1913).
[9] Vladimir Illich L鮩ne, “ Le r鶥il de l’Asie ”, dans Collected Works, vol. 19, 餮 Robert Daglish, Moscou,1963, p. 85.
[10] Vladimir I. L鮩ne, “ Europe arri鲩e et Asie ”, dans Collected Works, vol. 19, p. 99
[11] سون يات سين (1866 - 1925) هو رئيس أول جمهورية صينية.
[12] Sun Yat-sen, “ Dui Shenhu Shangye Huiysuo Deng Tuanti De Yanshuo ”, dans Sun Zhongshan Quanji (?uvres compl败s de Sun Zhongshan), Zhonghua shuju, P髩n, 1986, p. 401࠴09.
[14] Yuzo Mizoguchi, Chugoku No Shiso (Pens饠chinoise), Hoso daigaku kyoiku shikokai, Tokyo, 1991, Yuzo Mizoguchi, Chugoku Zen Kindai Shiso No Kussetsu to Tenkai (Les Tournants et bouleversements dans la pens饠chinoise pr魯derne), Tokyo daigaku shuppankai, Tokyo, 1980.
[15] Ichisada Miyazaki, Toyo Teki Kinsei (L’Age moderne de l’Asie de l’Est), EDITEUR, LIEU DE PUBLICATION ANNɅ p. 240.
[17] المرجع نفسه. اقرأ أيضا Philip S. Golub, “ Retour de l’Asie sur la sc讥 mondiale ”, Le Monde diplomatique, octobre 2004.
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |